حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

ذكريات سينمائية من لندن 3/3

عن دور سينما الفن بين الماضي والحاضر..

أمير العمري

عودة إلى دور الفن في لندن، هناك دار سينما "فينيكس" التي تقع في حي إيست فنشلي في شمال لندن والتي أصبحت الآن تقدم مزيجا من عروض الفن والعروض التجارية،  فهي تعرض وقت كتابة هذه السطور، فيلم "جول وجيم" لفرنسوا تريفو من عام 1961 جنبا إلى جنب مع "فيلم "ميلك" Milk الأميركي الجديد بطولة الممثل الشهير شون بن. وهي دار تتنوع عروض أفلامها خلال اليوم الواحد رغم أنها لاتزال تحافظ على وجودها كدار عرض واحدة كبيرة.

أما دار رينوار (قسمت إلى قاعتين) فقد نشأت أولا كدار للأفلام الفنية ثم تحولت لعرض الأفلام الأمريكية فقط حاليا. وقد شاهدت فيها في منتصف التسعينيات فيلمي "نظرة عوليس" ثم "يوم واحد وأبدية" للمخرج اليوناني العبقري أنجلوبولوس.

ولا يجب أن أنسى قاعة مركز الفن المعاصر ICA التي تكون جزءا من المركز الذي يضم أيضا قاعات للفن التشكيلي ومكتبة، وهي دار سينمائية تهتم كثيرا بأفلام العالم الثالث، وقد عرضت أفلاما من الجزائر وتونس ومصر ولبنان وفلسطين، لكن يعيبها أنها صغيرة المساحة وعدد مقاعدها محدود للغاية.

وقد شاهدت فيها أيضا "المملكة" لارس فون ترايير من الدنمارك، ووقت للموت" لهتسياو هتسين من  تايوان. وشاهد جمهور لندن من المهتمين بالثقافات غير الأوروبية فيلم "صمت القصور" التونسي لمفيدة التلاتلي، و"القلعة" لمحمد شويخ من الجزائر، و"عمارة يعقوبيان" لمروان حامد من مصر، و"عرس الجليل" لميشيل خليفي من فلسطين.

كانت هناك أخيرا دار حديثة نسبيا للسينما افتتحت في لندن في الثمانينيات هي دار "لوميير" التي كانت تقع في وسط لندن قرب بيكاديللي وليستر سكوير، وكانت تعرض الأفلام الأجنبية في معظم الأوقات. ولا أنسى أبدا أنني شاهدت فيها على مدار أربعة أيام متعاقبة فيلما واحدا عرض على أربعة أجزاء هو "هايمت" Heimat الألماني لادجار رايتز، وهو عمل ملحمي كبير صور في أكثر من 16 ساعة، وكان العرض الواحد يستغرق أربع ساعات تفصل بينها استراحة.

هذه الدار كانت قد أصبحت ملكا لشركة متخصصة في توزيع أفلام الفن في بريطانيا هي Artificial Eye وكان يملكها رجل مغرم بالسينما هو أندي إنجل Andi Engel، وكان مهووسا بكل ما هو غريب من الأفلام خاصة تلك القادمة من جنوب شرق آسيا. ولا أظن أنه كان رجلا طبيعيا أو متزنا، فقد كنت أراه كثيرا أثناء مهرجان لندن السينمائي، وقد أطلق شعر رأسه على طريقة الهيبيز، وأطلق كذلك شاربه كثا، وأخذ يدخن بشراهة ويحتسي الشراب أيضا بغزارة. وذات مرة اجتمعنا على مائدة واحدة في نادي الصحفيين في مهرجان لندن، ودار بيننا حوار حول السينما وما يفضله من أفلام، وأظن أن هذا كان في 1986 أو 1987، وكان هو مهتما كثيرا باستيراد الأفلام الروسية خاصة ما كان منها ممنوعا وأفرج عنه مثل "القوميسار" وغيره. وفجأة سألني: هل لديكم في مصر سينمائيون لهم قيمة بعد شادي عبد السلام؟ وفوجئت بالسؤال بل وغضبت منه كثيرا، وقلت له ما معناه أنه كموزع متخصص في الأفلام غير الأوروبية يجب أن يعلم أن هناك بالتأكيد الكثير من السينمائيين الذين لهم بصماتهم الخاصة، وكان في ذهني طبعا أسماء مثل علي بدرخان وعاطف الطيب ورأفت الميهي ومحمد خان وخيري بشارة وغيرهم. ولكنه لم يبد مرتاحا لجوابي وكان متوقفا تماما عند فيلم "المومياء"، وأظن أن كثيرا من النقاد البريطانيين التقليديين مثل ديفيد روبنسون مثلا، مازالوا أيضا متوقفين عند "المومياء". وأتذكر أن روبنسون عندما كتب عن فيلم رضوان الكاشف الأول "ليه يابنفسج" لم يزد ما كتبه عن سطرين، انتقل بعدهما مباشرة إلى الفيلم الصيني الفائز بالجائزة الكبرى في مهرجان القاهرة السينمائي الذي رأس روبنسون لجنة تحكيمه في ذلك الوقت من أوائل التسعينيات.

سينما لوميير كانت تقع تحت الأرض في مبنى حديث نسبيا (افتتحت عام 1967) في شارع شهير في الويست إند هو سانت مارت لاين. وقد نجحت في عرض الأفلام الفنية لكن الحال تدهور بالشركة التي أسسها آندي أنجل الذي أخرج أيضا فيلما يعكس تماما مزاجه الفني بعنوان "مناخوليا" Melancholia أو "جنون" عام 1989. ومات إنجل عام 2006 بعد أن قدم لعشاق السينما في بريطانيا عددا كبيرا من الأفلام الفنية من إيران وفرنسا وايطاليا والدنمارك والصين واليابان والبرازيل على شرائط فيديو ثم على الاسطوانات الرقمية.

وقد انتهى الأمر بإغلاق السينما عام 1997، وتحول المبنى كله إلى فندق كبير أعيد تصمصم واجهته، وانتهى الأمر بأن أصبحت السينما ناديا للألعاب الرياضية وتقوية العضلات.. وهو مصير لم تكن نستحقه دار السينما العظيمة التي حملت اسم مخترع السينما، أي لوميير العظيم!

بقى أن أشير إلى أن دار سينما "سكالا" كانت تخصص أياما كاملة كل عام، لعرض مجموعة من الأفلام، كانت عادة من أفلام الرعب الثقيلة. وفي عام 1984 خصصت الدار يوما لعرض 10 من هذه الأفلام، أي أفلام الرعب، قالت إن بعضها كان قد واجه اعتراضات في البرلمان البريطاني أدت إلى تشديد لوائح الرقابة في بريطانيا وقتذاك. وكان من بين هذه الأفلام فيلم "موت الشر" Evil Dead

وقد قررت في ذلك الوقت، وكان حماسي شديدا ورغبتي أيضا شديدة في خوض التجربة، أن أثبت لنفسي أنني قادر على تحمل مشاهدة وجبة ثقيلة من أفلام الرعب، وان أرى كيف يتفاعل معها الجمهور من الشباب في دار العرض. وكانت تذكرة اليوم بثلاثة جنيهات تشمل حضور كل الأفلام العشرة، من الثالثة بعد الظهر إلى السابعة صباح اليوم التالي حينما غادرت بالفعل دار العرض وأنا أترنح من الإرهاق.

كانت التجربة هائلة، وكان الجمهور يتفاعل مع الأفلام ويقاطعها بالصراخ والتصفيق عقب رؤية مشاهد معينة تتصاعد فيها درجة الإحساس بالرعب، أو يتفجر فيها طوفان من الدماء. وكان البعض قد أحضر معه بعض المأكولات والمشروبات، إن كانت هناك فترات استراحة بين كل فيلمين يمكن للمرء التوجه خلالها إلى الكافتيريا الملحقة بالسينما لتناول الطعام أو القهوة التي كنا أحوج ما نكون إليها، نستعين بها للصمود طيلة الليل دون ترنح أمام موجات الرعب والقتل المتتالية.

أي جمهور هذا، وما الذي تفعله هذه الأفلام فيه. كان هذا سؤال كبير حاولت الإجابة عنه عندما كتبت ونشرت عن تلك التجربة في إحدى المجلات العربية التي كانت تصدر في لندن في ذلك الوقت، وإن كنت لا أعرف ما إذا كنت قد نجحت في الوصول إلى الإجابة.

أما الآن فقد ولى زمن "سكالا" وأفلام الرعب الثقيل المحظورة بعد أن أصبح كل شيء مباحا عبر شبكة الانترنت للمشاهدة والتخزين والتبادل.

كان زمنا آخر، حين كان الناس غير الناس، والدنيا غير الدنيا، والسينما أيضا غير السينما!

الجزيرة الوثائقية في

31/12/2009

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)