حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

جاك أوديار في «نبي» و «اقرأ شفتي»  

«العرَاب» الفرنسي من أصول عربية

زياد عبدالله –دبي

هل يمكنكم قراءة الشفاه ومعرفة ما الذي يتكلم به من لا تسمعونه؟ هل للسجن أن يمنح مساحة لتأسيس إنسان ومنحه ولادة جديدة؟ أسئلة نبدأ بها ونحن نقارب عوالم جاك أوديار بوصفه واحداً من أهم المخرجين الموجودين في السينما الفرنسية، ولعل الإجابة عن هذين السؤالين ستكون بفيلمين من إخراجه وكتابته يشكلان معبراً إلى سينما مشوّقة ومسكونة بالكثير قدمها ويقدمها هذا المخرج.

لكن قبل المضي معه، تجدر الإشارة إلى بناء هذين الفيلمين وقدرتهما على منح تشويق مغاير للأفلام الهوليوودية، وعلى إيقاع تصاعدي يمكن لمن شاهدهما أن يلحظ مدى انشغالهما بتقديم ما يؤسس للأحداث والشخصيات، وما يمضي معها لتكون مشدودة ومتواترة ومحمّلة بكل عناصر الجذب، لا بل إن أوديار وفي لقاء معه في صحيفة «لوس أنجلوس تايمز» يؤكد أنه مأخوذ تماماً ببناء الشخصية وتشكيلها مع تتابع أحداث الفيلم، وعليه فإن مالك في فيلمه الأخير «نبي» 2009 يشكل حالة مخبرية لما يقوله، ونحن نتكلم هنا عن الفيلم الفائز بلجنة التحكيم الخاصة في دورة مهرجان «كان» الأخيرة.

لفيلم «نبي» أن يستوقفنا من نواح عدة، أولها وقوعنا على مالك (طاهر رحيم) كصفحة بيضاء سرعان ما تمتلئ بشتى أنواع الخربشات، وصولاً إلى انقلاب حياته رأساً على عقب، واستثماره كل ما يكون ضده لمصلحته، ولنكون في النهاية أمام «العراب» ليس لأن أسلوب بناء الفيلم قريب من رائعة فرانسيس كوبولا، بل لإننا نتحدث هنا عن مجتمع المهاجرين، والتأسيس لزعامة تهيمن على عوالم باريس السفلية بالاعتماد على العرق والدين، وتسخيرهما لخدمة التأسيس لموطئ قدم للمهمشين أو للعرب ونحن نسمع زعيم السجن الكورسيكي سيزار (نيل أروستراب) وهو يقول لمالك طوال الوقت «عربي قذر».

قصة الفيلم تتلخص بدخول مالك السجن لتمضية عقوبة تصل إلى السنوات الست، هو الشاب الصغير ضئيل الحجم الذي لا يستطيع رد من يسرقون منه حذاءه، وليتلقفه في الحال سيزار المهيمن على كل شيء في السجن، والذي يقول له إنه سيقتله ما لم يقتل رياب (هشام يعقوبي)، وعليه لا يجد مالك نفسه إلا وهو يقدم على قتله بنحره بشفرة في مشهد فائق القسوة والدموية.

سيصبح مالك خادم الكورسيكيين، سيتلقى الإهانات بصمت، ولتمضي أيام سجنه وهو يتقرب أكثر من سيزار، بحيث يصبح كل شيء متاحاً له في السجن، ومع تنفيذه مهام له خارج السجن عبر تأمين سيزار له إجازات تمتد يوماً، فإنه يصبح على اتصال مع عصابات وزعامات متعددة الجنسيات، إلى أن يبدأ بالبناء لأعماله الخاصة وعصابته عبر صديقه رياض (عادل بن شريف).

عدا تبلور شخصية مالك وتعلمه القراءة والكتابة، فإننا سنشهد انقلاباً عربياً، إن صح الوصف يقوده مالك، على سيزار وعصابته، لا بل إنه سيمسي بمساعدة أبناء جلدته ـ الذين يتواصل معهم من خلال إمام الجامع ـ زعيماً أوحد بلا منازع، وكل ذلك سيكون عبر تخطيط محكم، وذكاء فطري، و«نبؤة» يبدو أن أوديار مصرّ على استجلابها من خلال رياب المقتول الذي يبقى بعد قتله موجوداً مع مالك في زنزانته طيلة الوقت، وهو يردد آيات قرآنية.

في الفيلم استحضار لكل مكونات مالك القومية والدينية، وتتبع لكل ما يقوم به بإيقاع مشوق على تناغم مع ربطنا كمشاهدين مع ما يجول في أعماقه، بدءاً من الشفرة التي يضعها في أسنانه ومحاولاته الفاشلة بداية، وصولاً إلا إقدامه على قتل حراس من يكلفه سيزار بقتله، وهو يفعل ذلك داخل السيارة المصفّحة وليخرج منها وبرفقته ذاك المكلف بقتله الذي يخرجه من بين كوم جثث حراسه ويقـول له إن سيزار أرسـله لقتله، بحـيث تكون ردة فعله كفيلة بتدمير سيزار وهـذا ما يحصل.

فيلم «نبي» الذي يسمرنا أمام الشاشة يتطلب لدى الابتعاد عنه استعادته بوصفه «نبؤة» ما، له أن يجسدها مالك بذكائه الفطري، بقدرته على توظيف كل شيء لخدمته، والخروج عن الهامش إلى المتن، فهذا «العربي القذر» سرعان ما يمسي مطمحاً بالنسبة لسيزار، الذي يصبح بعد انتصارات مالك «صفراً على الشمال».

بالعودة بالزمن إلى عام 2001 يطالعنا فيلم أوديار «اقرأ شفتي»، الذي يلتقي مع «نبي» أيضاً بالانقلاب «الدراماتيكي» الذي يطال كارلا (إيمانويل ديفو)، حيث نقع عليها سكرتيرية لا يعيرها أحد أدى انتباه مع أنها تعمل بجنون وتفان، ولتكون طاولتها مكاناً توضع عليه فناجين القهوة كما نرى، بينما تكون وحيدة في بيتها، ليس لديها من أصدقاء إلا جارتها التي لا تلتقيها إلا حين تضـع الأخـيرة عندها ابنتها الصغيرة.

التغير سابق الذكر سيأتي من جهة بول (فينست كاسيل) حين تقدم على توظيفه مساعداً لها على الرغم من أنه خارج من السجن للتو، ولتندرج العلاقة المتشابكة بينهما تحت يافطة «الحب يصنع المعجزات» وليتبادلا مواهبهما ويستخدم كل واحد منهما موهبته في خدمة الآخر.

قبل كل شيء علينا أن نعرف أن كارلا صمّاء بالكاد تسمع، لكنها تستعمل سماعة لأذنيها تمكنها من سمع كل شيء بشكل مضاعف، وبالتالي فهي تمتلك موهبة قراءة الشفاه ومعرفة ما يتحدث به كل من حولها، هذه الموهبة سرعان ما يستثمرها بول في معرفة مخططات من يجبر على العمل لديه في حانة، كما أن كارلا تستثمر قدرات بول في ابتزار المدراء المحيطين بيها.

كارلا تتوق لحب بول، لكنها لا تقبل أن يمارس الحب معها بعشوائية، تحبه ذلك الحب الذي تريده أن يبقى، وليكون ثلث الفيلم الأخير مساحة لالتقائهما على سرقة أموال صاحب الحانة، كما أن كارلا تكشف عن مواهب إجرامية مدهشة على الرغم من كل الوداعة والرقة التي تحيط بها.

الفيلم مصنوع ليأخذنا إلى عوالمه من دون محاكمات، مبني لنكون أمام تشكل شخصية أخرى أمامنا، وانعطافها الذي لا نشعر بحدته كونها تأتي بتسلسل لافت، متجاور مع خصوصية علاقة كارلا مع بول، وتبادلهما العوالم تحت ظل الحب الذي يسود في النهاية

الإمارات اليوم في

30/12/2009

 

السينما العربية 2009: فلسطين والباشاوات

زياد عبدالله – دبي 

النظر إلى الخلف قبل المضي قدماً في عام جديد، له أن يفتح الأبواب على مصاريعها أمام أفلام لا عد ولا حصر لها، والوقوع ربما في فخ الذاكرة التي تمارس ما تمارس من انتقائية، لكن في البحث عن ملامح إنتاجات السينما العربية لعام 2009 ستنحصر النظرة إلى الوراء بمزايا وخصائص لأفلام بعينها، لها أن تجتمع عليها أو تفترق عنها.

سؤال أولي يطرح نفسه يتمثل أولاً بمدى حضور السينما العربية عالمياً في عام 2009 ،ولعل الإجابة عن هكذا سؤال ستجعلنا أمام حقيقة مفادها وبالاعتماد على المهرجانات العالمية، أنها شهدت هذا العام حضوراً لافتاً بالمقارنة بالسنوات الأخيرة، دون أن يقودنا ذلك إلى التخلي عن حقيقة أن ذلك من البديهيات التي سقطت عنا أمام وطأة رداءة تهيمن على كل شيء، بمعنى أن تقسيم السينما إلى عربية وأخرى عالمية خطأ نمارسه لحفظ ماء الوجه على الأقل، فكل سينما هي بالضرورة عالمية شرط وفائها للفن السابع.

المنطلق الأساس الذي يمليه علينا ما شاهدناه من أفلام عربية في هذا العام، يقودنا إلى اعتبار أنها سنة فلسطينية بامتياز، وإلى جانب تلك الحقيقة فيمكن الحديث عن صحوة لافتة في السينما المصرية في اتجاه الخروج من نفق التخبط الذي تشهده «هوليوود العرب» أمام سطوة التجاري واصطدامه بحائط شباك التذاكر الذي يحجب أي أفق للتجريب أو المغايرة، أو تقديم مقترحات جمالية تدعو إلى تعددية ما أمام المشاهد، ولنكون أمام انتاجات لافتة هذا العام سعت إلى اختراق هذا الحاجز وتقديم ما له أن يكون معبراً مبشراً إن هو استمر ومضى بإنتاجات جديدة في عام 2010.

تأكيد أن السنة السينمائية العربية فلسطينية سيكون على شيء من الكم والنوع، ومعهما الحضور الذي تشكله هذه السينما عالمياً، بحيث يتحول فعل الكاميرا إلى أمل ما في توثيق حيوات يراد لها أن تغيب، ولتكون الشاشة الكبيرة مساحة مترامية لتقديم رواية موازية لرواية القتل والحصار التي تتسيد الرواية الرسمية أو نشرات الأخبار، في انحياز تام للإنسان الفلسطيني بوصفه من لحم ودم وليس مجرد رقم يندرج في إحصاءات القتلى والجرحى من جراء الغارات الاسرائيلية أو بيت سرعان ما تطاله الجرافات.

يمكننا الحديث مباشرة عن جديد ايليا سليمان الذي شارك في مسابقة مهرجان «كان» الرسمية، ونحن نتعقب معه سيرة ذاتية هي بالنهاية سيرة سرقة الوطن والانسان، بينما القفز في العصا يكون من فوق الجدار العازل، والمعتقل الفلسطيني المقيدة يده بيد جندي اسرائيلي يدفع إلى كون الأول يقود الثاني وليس العكس، مرارة سليمان وسخريته السوداء حيث «الوطن بشيكل وكل العرب ببلاش»، ستكون أشد سودواية مع عودة ميشيل خليفي بعد انقطاع طويل بفيلمه «زنديق»، الذي حصل على الجائزة الكبرى في مسابقة المهر العربي في مهرجان دبي، وقدم من خلاله «رائد السينما الفلسطينية الجديدة» جردة حساب لا تخلو من القسوة للماضي والحاضر، مع تطلع خجل إلى مستقبل فلسطيني محاصر بشتى أنواع الاحتلالات الوطنية والاسرائيلية.

من خليفي وسليمان يمكن العبور إلى ولادة مخرجة فلسطينية مميزة هي شيرين دعيبس وفيلمها «أمريكا»، الذي حقق ما حقق من نجاحات، حيث حصل في «كان» على جائزة النقاد الدوليين، وجائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان القاهرة السينمائي مروراً بـ«سنداس» وغيرها من مهرجانات، وصولاً إلى عرضه في صالات الولايات المتحدة، وهو يقدم فلسطين المحمولة مع مهاجرة وابنها إلى أميركا، حيث أرض الأحلام التي سرعان ما تمسي أرض كوابيس من اللحظة التي تطأ فيها المطار، هي التي لا وطن لها، والخارجة من حواجز الاحتلال الاسرائيلي إلى حواجز النظرة النمطية إلى العربي بوصفه إرهابياً وابنها الذي سرعان ما يصبح اسمه في المدرسة «أسامة» في إحالة إلى أسامة بن لادن.

الأفلام الروائية الثلاثة سابقة الذكر تقابلها أفلام فلسطينية وثائقية كثيرة، قدم من خلالها رشيد مشهراوي فيلمه «الأجنحة الصغيرة»، التي وجدها ترفرف به إلى بغداد في مقاربة لأطفالها المتماثلة مصائرهم مع أطفال غزة، كما شكلت عودة محمد بكري إلى خلف الكاميرا وهو الدائم الحضور أمامها نقلة فارقة في فيلم حمل عنوان «زهرة»، ولتتواصل المآسي الشخصية بوصفها حاملاً شرعياً لمآسي شعب من خلال فيلم رائد أنضوني «صداع» بينما مضى سمير عبدالله في «غزة مباشر» خلف الصحافيين الذين غطوا أحداث غزة ومعها صور تعرض للمرة الأولى تضاف إلى خزان صور محتشدة بالألم والوحشية الاسرائيلية.

الاستعراض السريع لتلك الأفلام سيضعنا مباشرة أمام حقيقة أن السينما الفلسطينية في تطور لا يستدعي الانتباه، بل المتابعة واللحاق بما تحققه منذ زمن بوصفها أداة بقاء واستمرارية، ومبحثاً جمالياً يزداد رسوخاً في كل عام، وتحديداً مع أفلام تأتي من داخل فلسطين التاريخية متسلحة بمكتسبات جمالية على تناغم مع حجم ما تقوله، مع تأكيد تفوقها الروائي وعلى صُعد عدة.

بالانتقال إلى السينما المصرية تظهر انتاجات كثيرة تستحق الثناء، سواء كونها مشغولة بهموم بصرية تعيد لهذه السينما بهاءها على الصعيد الفني، أو كونها تجتمع على الحنين إلى ما قبل ثورة يوليو، أي إلى زمن الباشاوات، وعلى شيء يستدعي التوقف مطولاً أمام واقع ترصده أفلام هذا العام تستدعي هذه العودة، بوصفه يحمل التشويه والتخريب، بحيث يأتي الماضي بمثابة فسحة أمل تتسع لصرخة تقول: مصر لم تكن كذلك، لقد تغير كل شيء، ونحو الأسوأ الذي يزداد تفاقماً.

ثلاثة أفلام مصرية مميزة حملت هذه المقولة، في «المسافر» لأحمد ماهر، الماضي وردي مليء بالرقص والموسيقى بينما يمسي الحاضر مساحة للتزمت الديني، فيلم له أن يمضي خلف ثلاث مراحل تمت مواجهتها بحملة نقدية شعواء، لم تغفر له جمالياته ولا المقترح الجمالي الذي قدمه لدرجة تم فيها تحميله - على سبيل المثال - وزر فوز الفيلم الاسرائيلي «لبنان» بالأسد الذهبي في دورة مهرجان البندقية الأخيرة، كون «المسافر» كان من الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية ولم يستطع سرقته منه! وغير ذلك من هجمات تعرض لها افتقرت في أحيان كثيرة المنطق الذي سيتردد كثيراً إن تم تحكيمه أمام جمال هذا الفيلم الذي استقبل بظلم مسبق.

الماضي أيضاً سيشكل ملاذاً وردياً مع تجربة أحمد العبدالله اللافتة في «هليوبوليس»، والتي وعدا كونها عرفتنا بمخرج مميز وفيلم جميل، فإنها تزيد من تعزيز السينما المصرية المستقلة وعلى شيء من الرهان عليها الذي يلتف حوله عدد من المخرجين المصريين الشباب، ولتحضر «مصر الجديدة» حاملة الحنين أمام فداحة الحاضر، ومعلماً مسكوناً بجماليات مفتقدة سرعان ما تمنع العودة إليها، طالما أن الضابط يقف حائلاً بين تصوير مبانيها القديمة.

هذا أيضاً سيحضر بقوة مع الفيلم الوثائقي لتهاني راشد «جيران» لكن هذه المرة من «غاردن سيتي» وما آل إليه هذا الحي الشهير في العاصمة المصرية، كما لو أن راشد تسرد تاريخ مصر ومتغيراته انطلاقاً من هذا الحي وضيفه ثقيل الظل المتمثل بالسفارة الأميركية.

باشاوات تلك الأفلام سينصتون جيدا لشخصية عبدالرحيم التي قدمها مجدي أحمد علي في جديده «عصافير النيل» المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه للروائي الشهير إبراهيم أصلان، حيث جماليات عيش الفقراء والفلاحين على ضفاف النيل، وعبدالرحيم الذي يصطاد من النيل عصفوراً بدل السمكة، دون أن ننسى فيلم كاملة أبوذكري «واحد صفر»، وهو يضع في المرمى حيوات ومصائر يجري تسديده بإصابات محققة وغير محققة.

نستكمل في الغد رصد انتاجات سينمائية عربية لها أن تستكمل خارطتها، بحيث نتابع مع انتاجات إماراتية وسورية ولبنانية وعراقية، مع التركيز أيضاً على السينما المغاربية التي سنجد في انتاجاتها فيلماً يمكن وصفه بالأهم هذا العام.

الإمارات اليوم في

27/12/2009

 

قصيدة بصرية للإيراني روسولوف  

«السهول البيضاء».. كمّ من الدموع لصناعة فيلم 

زياد عبدالله دبي 

هناك أفلام تجبرك على كتابة قصيدة بدل المقال، دون أن يتطلب منك الأمر سوى وصف ما تراه أمامك على الشاشة، ولعل التحلي بالدقة سيضعك أمام نص شعري مأخوذ من شعرية بصرية، وعلى هدي تحويل الصور إلى كلمات.

تقديم كهذا يستدعيه فيلم الإيراني محمد روسولوف «السهول البيضاء» الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مسابقة المهر الآسيوي الإفريقي، وجائزة أفضل ممثل لحسن بورشيرازي عن دوره فيه، والذي كان من ضمن أفلام تلك المسابقة التي حملتها الدورة السادسة من مهرجان دبي السينمائي.

إننا أمام بحر أبيض، وجسد مغمور بالملح، السواد الذي تتشح به النساء يمضي كنقيض للبياض، بينما يمضي رحمة (حسن بورشيرازي) في قاربه وهو يجمع الدموع في قارورة، يمضي من مكان إلى آخر والدموع تتزايد وهو يصبها في قارورة أكبر تتمازج فيها دموع عشرات العيون الحزينة، ومصائر من زرفها معلقة بالبعيد، بأيام مغمورة بالملح، تعيش داخل كابوس طويل لا ينتهي، في نفق تنيره الشمس فيزداد عتمة، وكل ما في الفيلم ينطق بالكثير، يقودنا كما لو أننا نمشي في الشرايين، التي سرعان ما نكتشف أنها مقطوعة وثمة نزيف حاصل له أن يجرفنا، شرايين لا يدور فيها الدم بل الدمع.

لا يمهلنا فيلم روسولوف، فيضعنا أمام طقوس الأسى، نمشي مع رحمة في قاربه فإذا به في حضرة امرأة متوفاة تكون مغمورة بالملح، وهو بدوره يبدأ بجمع دموع الندب والحزن عليها، ومن ثم يأخذ جثتها في قاربه، وهو يقاوم طيلة الوقت الكشف عنها، ونحن لا نرى إلا قدميها وحذاءها الأحمر.

رحمة لن يقاوم كثيراً، سرعان ما ينزع ما يغطي الجثة فإذا به صبي على قيد الحياة، لا يطمح إلا للهرب من قريته والبحث عن والده، وقد احتال على الأمر وحل مكان الجثة، وأمام تهديد هذا الصبي لرحمة بأنه سيفضح ما كان سيفعله بالجثة، يقبل أن يرافقه هذا الصبي بشرط ألا يتكلم، بحيث يمسي صبياً أبكم وأخرس.

السرد السابق هو لبدايات الفيلم الذي سيجعلنا نلاحق رحمة متنقلاً بين أقوام غريبة تعيش عزلة قاحلة، وإلى جانب بحر ميت من شدة الملوحة، التي ستكون ـ أي الملوحة ـ قادرة على قتل من يسبح في مياه ذلك البحر.

سيكون علينا الاستمتاع بحكايا سرعان ما يكون رحمة شاهداً عليها، وهو يجمع الدموع التي تترتب على أحداثها، سنعثر على امرأة جميلة يجمع دموعها قبل أن تتم مراسم زفافها من البحر، ترسل وحيدة في قارب على أن يبتلعها البحر فتكون قربانه، ومن ثم يتم إلقاء القبض على الصبي الذي يلحق بها، محاولاً إنقاذها فيتعرض للرجم من قبل سكان قريتها، يحاول رحمة إنقاذه في اللحظة الأخيرة، مستعيناً بمعجزة أن يتكلم كونه يقدمه على أنه أبكم، لكن ذلك لن ينفع سيحتضر الصبي، ومن ثم يموت ويدفن في البحر بطريقة عجيبة، حيث يرمى به وقد ربط بحجر يبقيه في القاع وقد وضعت على صدره قطعة خشب ما أن تطفو حتى يدركوا أنه استقر في القاع، ولتكون قطع خشب طافية كثيرة دلالة على أننا في مقبرة بحرية.

هناك مجازات كثيرة يقدمها الفيلم، اكتشافات تقول الكثير، كأن نكتشف أن الفتاة الجميلة ـ التي يفترض أن تكون قرباناً للبحر ـ أصبحت زوجة رجل عجوز مقعد، بينما يقوم رحمة بغسل قدميه بالدموع التي جمعها، وإلى جانب ذلك يحضر ذلك الذي يتم تعذيبه لأنه يقول «إن البحر ليس أزرق»، ولكم في ذلك أمثلة لها أن تقودنا إلى هباء كل شيء ما دامت تلك الدموع العزيزة والمقدسة لن تجد مصيرا أسمى من غسل قدمي رجل مقعد له أن يرمز للكثير، وإلى جانب ذلك يحضر العقاب الذي يطال من يملك نظرة فردية تخرج عن نطاق نظرة القطيع والكثير ما يتسبب فيه فيلم مدجج بكل أنواع الجماليات والرموز والمجازات.

فيلم «السهول البيضاء» قصيدة بصرية مع تناغم كامل بين بلاغة المشاهد واللقطات ومجاورتها للمقولات المجازية التي تحشد كل شيء لتوصله إلى قدر كبير من الشعرية الفذة، وكل ذلك تحت ظل حكاية مرهفة.

الإمارات اليوم في

21/12/2009

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)