حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

ملف

 "النهار" صحبة سينمائي مستقل لا يعترف بالحدود ولا بالتحك

جيم جارموش: خيالك هو ضميرك الأوحد، إنه لك، إنه أنت!

هوفيك حبشيان/ مراكش...

سينمائي أميركي متمرد على السائد ومستقل عن هوليوود يعمل في تصميم وتأنٍّ منذ أكثر من ثلاثة عقود. كلما أتى بجديد تكون الرؤية مناهضة لكل ما تنتجه المصانع الهوليوودية، وهو في كل حال يرى في "عاصمة الأنترتنمنت" مدينة سلطة ومال ومافيات لا مدينة فنّ وتجريب. هكذا كان جيم جارموش منذ فيلمه الأول ("عطلة دائمة" - 1980)، مخرباً اريستوقراطياً، وهكذا من المرجح ان يبقى بعد لفترة من الزمن اذا صدّقنا اجتهادات فيلمه الجديد "حدود التحكم" (2009)، المنفلت من كل تحكم وسيطرة!

سينمائي جليل لا نظير له في السينما الاميركية، نجح عبر اناقة اخراجه وقوته في جعل نصوصه حساسة، جميلة، لينة، متحركة، وتكاد تكون تجريدية في أحايين كثيرة. فجارموش، هذا الهاوي الأبدي للموسيقى، وللكتب، وللسينما الأوروبية واليابانية (من غودار الى ميزوغوشي)، هو من الذين لا يبطل اسلوبهم، لأنه لا ينتمي الى زمن واحد وبقعة محددة. معه تستعيد عبارة "سينمائي مؤلف" معناها الاصلي، ألقها، وقيمتها.   

رأيناه أكثر من مرة يتسلى بتصوير ايقونات سينمائية مرة اخيرة قبل اختفائها أو سقوطها، مسنوداً بالموسيقى التي تكوّن حالة مطلقة عنده، وهي شكل مثالي ينزع اليه باستمرار اسلوبه في الاخراج، ويتيح تعرية الحداثة والتجريب، دفاعاً عن العودة الى الاصول.

أفلامه تأتيك لقطةً لقطة: دائماً هناك انتظار طويل قبل بلوغ الذروة. فالافتتاح لا يستمد اهميته ودلالاته الا بما نراه في نصف الفيلم، وهذا النصف ايضاً لا تسوّغ وجوده الا التتمة المنتظرة. هذه هي البنية الدرامية التي يعتمدها جارموش: يهندس فيلمه كما لو كان يشيّد كاتدرائية، قطعةً قطعة، الى ان تلتقي اجزاء التحفة في صورتها النهائية المبهرة.

دعونا لا ننسى أن رياح الشؤم تهبّ على مجمل أعماله التي ترسم بورتريهاً لأميركا في دهاليزها ومتاهاتها وعوالمها المتضاربة. قلائل هم، مثل جارموش، يتحسسون دفء الناس، ويلتقطون - ايحاء -  صوراً تختزل وجودهم وارباكهم حيال ما يخفي لهم المستقبل. قد تجري تلك اللحظات في غابة غلّفتها رطوبة صباح ماطر، او في طائرة او على الطريق، او في غرفة فندق نشتمّ منها رائحة الوحدة الشبيهة برائحة المقابر. لا احد مثله، يجرؤ على اخذنا من مدينة الى مدينة، مبرهناً ان ثمة رحلات لا تغيّر المرء انما تضعه قبالة شريط الحياة والذكريات واحتمالات السعادة المتأخرة.

واذا كان جارموش رمزاً للفنان الهامشي، فإن القدر كان قاسياً على شخصياته ايضاً، فنالت نصيبها من الاستبعاد والاقصاء عن خيرات الدنيا ونعمها. من "رجل ميت" (1995) الى "غوست دوغ" (1999) مروراً بـ"قطار غامض" (1989)، شقّت مسألة البحث عن الهوية طريقها في سينما هذا الخلاّق المنهمك بتفكيك خفايا الطبيعة الآدمية. فشل التواصل، هو ما تتفق عليه شخوصه، على رغم اختلافها الظاهري وتنوع حوافزها. حتى بعضها يخاطب بعضها الآخر، كلٌّ بلغته، ومع ذلك يصل الطرفان الى تفاهم مشترك. الإنسان، بالنسبة الى جارموش، غير قابل للاصلاح، ومع ذلك، لا يغسل منه يديه. "أجمل شيء عندي هو ان تصاب بالملل وانت في صحبة الشخص الذي تحبه"، قال لي خلال حديثنا هذا المبدع الطويل القامة وذو الاخلاق الحسنة، قبل أن "تسحبه" منا ملحقته الاعلامية المستعجلة، ألكسيس دولاج تورييل، والتي، مع ذلك نشكرها.

عودتنا التكرار الجميل في أفلامك والذي يجيء كلازمة في السيرورة الدرامية. لكن هنا، تذهب ابعد في هذا التجريب، إذ يتحول التكرار جزءاً لا يتجزأ من العمل.

ـــ اعتقد انه تنويعة أكثر منه تكراراً. هذا تكرار طاغ وجميل في مجال عمل التشكيليين والمهندسين المعماريين والموسيقيين. فكرة التنويعة تستهويني كثيراً، لذا سعيت الى تشييد الفيلم على قاعدة شكلية موسيقية أكثر منها أدبية أو سينمائية. أحب الأشياء التي تتكرر والتي يحصل فيها تبديل مع كل تكرار جديد. بالنسبة الى الفيلم هذا، كانت المواقف والأمكنة تتغير تدريجاً. الفيلم برمته يأتي بهذا المزاج.

منذ زمن بعيد وكانت تطيب لي فكرة اقتباس قصص "السلسلة السوداء" التي ألّفها دونالد ويستلايك وشكلت مصدر وحي لكلٍّ من جون بورمان وجان - لوك غودار. ويستلايك كتب أيضاً مغامرات باركر، نصاب بارد الاعصاب لا تغويه الفتيات ولا الحشيشة. "حدود التحكم" صوّر في اسبانيا. أفدت من اقامتي هناك لأستقل القطار ذهاباً واياباً من مدريد الى أشبيلية، لكن لم أرد أن اتعمق أكثر في انغماسي في الواقع الاسباني. اردت أن ابقى هذا الدخيل الذي كنته ولا أزال في بلادي أميركا. هذا التفاوت الخلاق بيني وبين الآخرين يطلق العنان لمخيلتي. لطالما كررت مقولة: "من الصعب أن تتيه عندما لا تعرف اين تذهب".

·     بالنسبة الى دور الرجل الغامض الذي يضطلع به ايساك دو بانكوليه، في رأيك هل نستطيع التكلم عن شخصية ما بعد حداثية، أكثر من اعتبارها بطلاً مضاداً؟

ـــ يصعب عليّ التحليل. عديدون سبقوني الى هذا الطرح، اي الى مقاربة غير تقليدية للشخصية الرئيسية. سواء أكان ذلك في افلام ملفيل أم تاركوفسكي أم أنطونيوني. لا املك جواباً محدداً وواضحاً عن هذا السؤال، لكوني لا أعرف التحليل كما سبق أن قلت. لكني كنت مأخوذاً بتقديم نموذج جديد ومبتكر لشخصية رئيسية، اي الرجل الهادئ الذي تصعب محادثته والذي أجاد تجسيده بتفوق ايساك، مستخدماً القليل فقط.

ما هو جميل في الفن، انه يحاول أن يأتيك بشيء لم تفكر فيه من قبل. هذه حال أفلام كيارستمي أو لوحات فرنسيس بيكون. أكبر هدية بالنسبة اليَّ هي التي تهزّك في الصميم. لا أحب أن يعامل المشاهد كغبي على قاعدة "تفضل، اليك ما تريد!". هذا ما يثير سخطي. لم اعد اتذكر في اي فيلم لغودار، تقول البطلة: Jeudi l’après midi, une jeune fille, Place Clichy. [خميس بعد الظهر، فتاة شابة، ساحة كليشي]. والفيلم يبدأ هكذا. ربما كان ذلك في "المرأة هي المرأة"، ولست متأكداً اصلاً اذا كانت هذه العبارة الصحيحة لتلك الافتتاحية. شيء ساحر أن تفتتح فيلماً على هذا النحو، بلقطة لساحة كليشي، ثم فتاة. هذا شيء حقاً مؤثر.

أحب عندما يقول عني الناس إنني مصمم على انجاز الأشياء التي تحلو لي والمضي فيها قدماً. هذا يشعرني بالفخر. طوال حياتي سعيت الى أن ابقى كما أنا ولا أنجرّ خلف الاغراءات.

·     ثمة صراع في فيلمك بين نهجين في التعاطي، النهج الاستهلاكي الحديث من جانب والانساني العريق من جانب آخر، وترينا كذلك الى اي مستوى وصلت اليه حال الثقافة في عالمنا الحالي، وهذا كله على طريقتك الهادئة.

ـــ لم أرد أن أقدم جردة حساب لانحطاط الثقافة بقدر ما كنت اريد أن اري كيف ان الناس يسيرون كقطيع من الغنم خلف ما يعتقدون انه الحقيقة. خيالك هو ضميرك، وضميرك الاوحد، انه لك، انه موهبتك الربانية، انه انت. لا اعرف ماذا يريد الفيلم أن يقول، ولا اريد أن اعرف. هذا فيلم احتمالاته واسعة وهو مفتوح وتفسيراته متعددة. الفيلم يحكي عن حرية الفكر، الى درجة انه يتيح لك تفسير حتى هذا الفيلم. لا يوجد أحد سيخرج من هذا الفيلم قائلاً: أنا أعرف ماذا يعني هذا الفيلم. اريد أن يخرج من هذا الفيلم خمسة أشخاص، ولكل واحد منهم رأي مختلف عن رأي الآخر.

·         في نهاية الفيلم تصور الشخصية التي يلعبها بيل موراي وكأنه الشيطان...

ـــ شئنا أو أبينا، سواء في أميركا أو في باقي أنحاء العالم، فالديانة الحقيقية التي تحكم العالم هي المال والاستغلال المادي. أما أنا فديانتي هي الخيال والادراك. واحد من مثلي العليا، الشاعر الانكليزي وليم بلايك قال ان تقدير اي شيء بالمال يجب أن يعتبر خطيئة. هذا بالنسبة اليَّ هو الشيطان. كل شيء يقوَّم بلغة المال. هذا الشيء الأكثر تراجيدياً في زمننا الحاضر. بكم تثّمن مثلاً كل هذه الطيور التي نسمعها حولنا الآن، في هذه اللحظة؟ ومن يستطيع أن يقول لي كم ثمن اشعة الشمس؟ وبكم تقدّر لحظة حوار مع عزيز وأنت تحتسي معه كوباً من الشاي؟

·         كمخرج خلفيته الثقافية معروفة، هل تتوحد مع شخصية ايساك دو بانكوليه؟

ـــ نعم، لأنه اختار وعيه الخاص. هو وحده يختار ماذا يريد أن ينظر، وماذا يعني أن يجلس المرء ويتأمل. ولا يقول لأي شخص آخر ما الذي يجب أن يفعله أو كيف عليه أن يفكر. يستمع اليهم ويقدّر أفكارهم ولكن له أفكاره الخاصة. ما أطرحه هنا في هذا الفيلم مخالف لتعاليم الديانات السموية التي تقوم على املاء نظريات على الآخر عبر القول للآخرين "يجب أن تؤمن بهذا". بالنسبة اليَّ هذه جريمة. يجب أن تشجع الانسان على أن يؤمن بما يراه مناسباً له. أحترم معتقدات الآخرين وأحترم خياراتهم. لكن من الغباء أن اقول لهم "يجب أن تؤمنوا بما أؤمن به". هذه طريقتي في التفكير. للمناسبة، هناك ناقد سينمائي أميركي اسمه ريكس ريد، وهو واسع الانتشار عندنا، وهو بالنسبة اليَّ الأفضل والاسوأ في آن واحد. لطالما قرأته، واذا لفتني انه اعجب كثيراً بفيلم ما، فإنني اتفادى مشاهدته. أما عندما يقول عن الفيلم الفلاني انه سيئ جداً فأسارع الى مشاهدته. انه مرجع نوعاً ما. وهو نقيضي.

·         دائماً تتعامل مع شخصيات تعاني الوحدة والعزلة الاجتماعية.

ـــ كلٌّ منا وحيد. الوحدة شيء يسمح لك بالانتباه الى أنك وحيد. حتى مع وجود أشخاص من حولك يهتمون بك ويهتمون بمصيرك، فأنت كائن منعزل ولك وجهة نظرك الخاصة في الحياة والوجود. لا أجد أن الوحدة شيء سلبي تماماً. قد تكون العزلة أحياناً مرادفة للكآبة لكن هذه سنّة الحياة اذ اننا نولد وحيدين ونموت كذلك. وكلما ادركت وحدتك، قدّرت قيمة أن تكون محاطاً بأناس تعزّهم. احبّ المفارقات. منذ صغري وأنا في عداد الخارجين على مجتمعاتهم. كان هذا اساس صراعي مع والدي لسنوات خلت. هو كان يريدني تاجراً وأنا لم أكن أفهم كيف يمكن المرء أن يبني حياته حول النجاح الاقتصادي. على رغم ذلك، فهمت بعد حين انني ورثت منه بعض القيم، لأنه كان تاجراً نزيهاً، وهذا مما يندر وجوده في عالم التجارة في أميركا حيث الغش والكذب هما السائدان. ما ان ندخل في ما يسمى الـ"مينستريم" الأميركي حتى يصيبني الاحباط (ضحك). 

·         سينماك قريبة جداً من سينما المؤلف الأوروبية. لكن في الحين نفسه تبدي ميلاً واضحاً الى السينما الأميركية المستقلة.

ـــ يجب أولاً تحديد ما هي السينما الأوروبية وما هي السينما الأميركية وأين تختلف الواحدة عن الأخرى. ما أؤمن به هو ان الفيلم يستمد هويته من الناس الذين صنعوه. لا اريد من يعطيني المال أن يقول لي كيف انجز فيلماً. لا اقول لهم كيف يجنون المال، لذا انتظر منهم في المقابل أن يعاملوني بالمثل. القاعدة الاولى في السينما المستقلة هي أن يختار المخرج كل العناصر التي سيتشكل منها العمل. ليس على أطراف آخرين أن يتدخلوا ويقولوا لي "افعل هكذا، فسيكون أكثر افادة". أنا الذي يجب أن أختار المعاونين الذين سيشاركونني في هذه الرحلة، علماً ان السفينة لن تبحر الا بجهود فريق كامل متكامل (...).

أيا يكن، لست متأكداً من أن مهنة السينمائي كانت خياري. اعتقد ان السينما هي التي اختارتني. لكن، رغبتي في انجاز الأفلام متأتية من حبي للشعر. اذ كنت أنظم قصائد نثر احوّلها قصصاً صغيرة، ومعظمها مستقى من قصائد لرامبو وبليز سندرارز وماكس جاكوب. لطالما شكّل الشعر دليلي الى الوجود، ولا سيما وليم بوروز.

·         عندما شاهدت "حدود التحكم"، قلت لنفسي "لا شك ان هذا فيلم لمخرج يصعب عليه ايجاد تمويل"، هل أصبت؟

ـــ ايجاد المال لفيلم يزداد صعوبة. حتى بالنسبة اليَّ الأمر بات مختلفاً. حالفني الحظ بأن تموّل فيلمي هذا شركة أميركية اسمها "فوكوس فيتشرز"، لكنهم تركوني وشأني ولم يزوروا موقع التصوير ولا غرفة المونتاج. كل ما قالوه لي "سنعطيك المال، واصنع لنا الفيلم الذي تريده". هذا شيء غير مألوف، وخصوصاً اذا كان المال أميركيّاً. أكرر انني كنت محظوظاً، وقد لا يتجدد هذا الحظ في فيلم آخر، بيد أنني استطيع دائماً ان اعتمد على كاميرا رقمية، فهذا كله ليس الا أدوات التعبير.

(...) انجاز فيلم أمر في غاية الصعوبة. هناك كثير من المحتالين في السينما الأميركية. معظمهم لا يفي الوعد الذي يقطعه عليك. في ايطاليا، في بعض الأوساط السينمائية مثلاً، عليك اشهار المسدس لقبض مستحقاتك المالية. لذلك، أفضل العمل في فرنسا حيث للكلمة قيمتها. كل ما هو مغاير ويخرج من منظومة الفكر الأوحد لا يجد صدى في قلوب المنتجين. هؤلاء تجننهم فكرة أن يخسروا المال. المخرجة كلير دوني هددت منتجها الذي كان يريد تحريف فيلمها عن مساره، بالتخلي عن العمل. قالوا لها: "سيسجنك اذا لم تتعاوني". فردّت: "هيا، ليأت، يسرني الذهاب الى السجن". لكل هذه الأسباب مجتمعة أردت أن أكتب في نهاية "حدود التحكم"، وبالخط العريض: لا حدود، لا تحكم. فأنا لا أؤمن بالحتمية.

 (hauvick.habechian@annahar.com.lb)

 

"أصوّر نقيض الجمال" قال في درسه السينماتوغرافي المراكشي

التقاط المَشاهد عنده ممارسة جنس والمونتاج مرحلة حمل!

في الدورة الفائتة لمهرجان مراكش السينمائي (4 – 12 كانون الأول)، ارادت الادارة تكريم المخرج الأميركي البالغ من العمر 56 عاماً، واحدى أهم محطات هذا الحدث كان "درس سينماتوغرافي" (تقليد كرسه مهرجان كانّ وبدأ يسود كثيراً من المهرجانات الدولية) ألقاه في قاعة محتشدة بجمهور من شتى الأعمار والخلفيات وفي حضور اعضاء لجنة التحكيم التي ضمّت كيارستمي وسليمان وآخرين. هنا أهم ما جاء في هذا اللقاء الذي اداره الفرنسي جان - بيار لافوانيا.

1 ـــ  الأنا

لا أملك قدرة تحليلية حيال ما أنجزه. لست استاذاً بل تلميذ. أحاول أن أتعلم. تغمرني السعادة لكوني أفعل ما أفعله، لكن لا أجرؤ على الطلب من الآخرين أن يفعلوا مثلي، هذا مخالف لفلسفتي وفهمي للأشياء. بلى، فكرة السفر مهمة في عملي. منذ هوميروس ودانتي، أفضل طريقة للسرد هي رواية الطريق (في السينما "رود موفي"). أمير كوستوريتسا يقول: هناك نوعان من السينمائيين، الفريق الأول يمارس هذه المهنة لأنه مندهش بالسينما والفريق الثاني يمارسها لأنه يريد التمرد عليها. أنا من الفريق الأول. شغلي أشبه بالصحن اللاقط وأنا الوعاء. ألملم من هنا وهناك، وشيئاً فشيئاً، يولد خط العمل ومحركه. عملية الولادة شيء على قدر كبير من الغرابة. على رغم التقدم، لا نزال نجهل اسرار لحظة الخلق. انه شيء غريب الى حدّ انني لا استطيع تحليله. تماماً كطفل يرسم. يبدأ الولد برسم شيء لا يعرف ما هو، وسرعان ما يأخذ ملامح فيل.

2 ـــ السينيفيلية

في عمر العشرين ذهبت الى باريس، قاصداً تلك المدينة بغية الالتحاق بجامعة، لكن سرعان ما وجدت نفسي أتنقل من مكتبة سينمائية الى أخرى بغية المشاهدة والاطلاع. وهذا ما فتح أمامي احتمالات شتى. ما هي الأفلام التي تركت فيّ أثراً عميقاً؟ دائماً يُطرح عليّ هذا السؤال. في الحقيقة، لا أعرف. هناك ما لا يقل عن 300 سينمائي. في باريس اكتشفت أفلاماً لم أكن أعلم حتى انها موجودة.

3 ـــ التصوير

ثمة ما هو مشترك بين الحياة والسينما. الاثنتان يصعب الامساك بهما والتحكم في تفاصيلهما. يجب أن نتعلم كيف نسيطر على ما يصعب السيطرة عليه. أهتم كثيراً بوضعية الكاميرا. لا احب التخطيط المسبق. قد اخطط في الحياة، لكن لا اخطط خلال التصوير. لا أحب الـ"ستوري بورد". أزور موقع التصوير مع مدير الصورة، لكن حين ابدأ بالشغل أرمي كل المخطوطات. كل مرة نشغّل فيها الكاميرا، يجب أن نتذكر أننا نصور شيئاً يستحيل تكراره وتصويره مرة أخرى. الحياة سلسلة لحظات لا تتكرر. تصوير فيلم ممارسة جنس وعملية المونتاج مرحلة حمل. صناعة اي فيلم شيء في منتهى الصعوبة. دنيس هوبر يقول: انجاز فيلم هو ركلة على القفا، سواء أكان الفيلم جيداً أم سيئاً. السينمائي يشبه الدرّاج الذي لا يأبه لأحد. وأحياناً نحن السينمائيين نبدو مضحكين وغير واقعيين. أحياناً كنت أقول لنفسي: هيّا جيمي، انه مجرد فيلم. فيما كان جانب آخر من شخصيتي يكرر باستمرار: عليك أن تنجز هذا الفيلم، عليك أن تنجز هذا الفيلم… هناك ألف قرار وقرار يجب اتخاذه على البلاتو. الامر اشبه بأن تكون على أرض معركة. لكن أحب التشبه بقبطان سفينة! أنا القبطان، لكن من دون البحارة لن نصل الى اي مكان.

4 ـــ الممثلون

عندما أؤلف شخصية يكون في بالي دائماً ممثل. هذه التقنية ليست دائماً مستحبة لأن الممثل الذي نكتب من أجله قد يكون أحياناً مرتبطاً بفيلم آخر. بعض الممثلين لا يحبون مناقشة أدوارهم مع المخرج. أن تمثل جيداً يعني أن تكون تلقائياً (A good acting is reacting). فوريست ويتيكر لم يجسد شخصية غوست دوغ بل لبسها ودخل جلدها. كنا في نيويورك نبحث عن مكان نأكل فيه الهوت دوغ، فرأيته يتحول فجأة من فوريست الى غوست دوغ. معه، لا أحبّ أن اعيد اللقطة، لأنني مهتم بردّ فعله التلقائي. الارتجال عندي يتوقف على الممثل. آمل دائماً أن يكون الممثل الذي يعمل معي منفتحاً على الارتجال، لأن ذلك يرفع من شأن حواراتي. عندما عملت مع بيل موراي، قلت له "أريدك أن ترتجل"، لكنه امتنع عن ذلك. كنت مكتئباً لأن ذلك كان من شأنه أن يحسن من مستوى الفيلم. في المرة الاولى قابلت فيها شارون ستون، قالت لي: سأعطيك ما تريده اذا جعلتني أمثل في فيلمك (ضحك). كانت انذاك في منعطف جديد من مسارها. أحب شارون في "كازينو" [سكورسيزي، 1995). فرحت أفكر فيها وأنا أكتب نصّ "أزهار متكسرة". كانت خلاقة وجاءت بأفكار كثيرة الى النصّ الاصلي.

5 ـــ الاضاءة

لا اشاهد أفلامي أبداً. مشاهدتها بالنسبة اليَّ مضيعة وقت. بول فاليري يقول: القصيدة لا تنتهي بل تُهمَل. عملت كثيراً مع روبي موللر (مدير تصوير، 1940، المفضل لدى فيم فاندرز، تعاون أيضاً مع فون ترير وانطونيوني وفايدا) نتكلم كثيراً معاً قبل مباشرة العمل. نلملم أشياء من هنا وهناك: مشاهد من فيلم، لوحة، مخطوطة، الخ. هكذا نبني الوحي. لدينا تقنية واضحة وهي ادارة الظهر لكل ما يثير دهشتنا. بمعنى آخر، في كل مرة نرى فيها شيئاً جميلاً، نقدم على تصوير الشيء المقابل لهذا الشيء الجميل، يعني اننا نصور نقيضه. اذا كان ما يدهشنا هو شجرة عملاقة، فنحاول أن نجد شجرة صغيرة لنصورها. جون فورد ما كان ليفعل ذلك. روبي كان عليه الا يولد في هذا القرن. لو ولد في زمن آخر لكان صار فان غوغ ثانياً. انه سيد الضوء. لديه حس مختلف للاضاءة. في جديدي عملت مع كريستوفر دويل (مدير تصوير، 1952، تعاون مع وانغ كار واي في "في مزاج الحبّ")،  وما أحب فيه هو اعتماده على غريزته. في كل مرة أسأله ما هو مشهدك المفضل يقول: المشهد التالي.

6 ـــ الموسيقى

أفلامي تتبع شكلاً موسيقياً عزفياً وليس أدبياً سردياً. أحب الأشياء التي تنهض على شكل ما. تستهويني القوانين لكن ما يعجبني أكثر من ذلك هو أن نحطم هذه القوانين. "حدود التحكم" يستند على التنويعات الميوزيكالية، تماماً مثلما هي الحال عند باخ ووارهول. أميل كثيراً الى الجاز. انه عشقي الأول. الموسيقى عندي مصدر الوحي الأول. لو لم أكن سينمائياً لكنت أردت خوض مجال موسيقي. أكره الموسيقى التي تملي عليك في اي حال يجب أن تكون وما الذي يجب أن تشعر به. لا تعجبني اطلاقاً الموسيقى المرافقة للأفلام الهوليوودية التي تقول لك فجأة "في هذه اللحظة يجب أن تحزن". اذا كان المشهد لا يستطيع ان ينقل ذلك الحزن، فلا حاجة الى أن يكون

 

عن ثلاثة من أهم أفلامه

بطله "نصف ميت" يجوب بين الأحياء!

• "أزهار متكسّرة" (2005).

زير نساء (بيل موراي) منزوٍ في هدوئه الجميل، وذلك ناتج ربما من انكسارات عاطفية ومعنوية عميقة، يتلقى ذات صباح رسالة تخبره بأنه اب لشاب في التاسعة عشرة من العمر. فيقرر ان يذهب في رحلة هدفها العثور على الابن، وفي حوزته خرائط وعناوين واسماء عشيقات لم يشاهدهنّ منذ عقدين. سيكون مشواره حافلاً بالمشقات، لكن عند عودته سنلتقي رجلاً رجع من الحرب مطأطئ الرأس: من النساء الخمس اللواتي زارهنّ، المرأة الراحلة وحدها ستملأ قلبه حناناً ودفئاً. مرة جديدة، يصوّر جارموش شخصاً نصف ميت. نكتشف ذلك من عدم رغبته في الاخذ والرد مع الآخرين، وخصوصاً النساء، وإذ ببائعة أزهار تضمد جروحه بعد حادثة تعرّض لها، فلا يجد امراً يحدثها عنه، الا سؤالها عن عنوان مقبرة ينوي زيارتها. نال الفيلم الجائزة الكبرى في مهرجان كانّ عام 2005.

• "غوست دوغ، درب الساموراي" (1999).

في "رجل ميت" كان وليم بلايك يتسكع على طول الغابات وهو يحتضر بعد اصابته برصاصة. اما فوريست ويتيكر، الملقب هنا بـ"غوست دوغ"، فهو النقيض السينمائي لهذا الاخير: انه ناجٍ من الموت، كائن حي بين الاموات، قاتل محترف، يعمل ويعيش مثل ساموراي اسود ذي جسد ضخم ومهيب. لا حاجة الى تعداد المراجع التي استند اليها جارموش لإعداد هذا الفيلم، من كوروساوا الى ملفيل. مع "غوست دوغ" قدّم مجازفة فجرت عمله السينمائي واعتمد على اظهار ما يقاوم الزمن والتلف. تجسد شخصية "غوست دوغ" هذا التلاقي بين الحاضر والماضي، بين التقليد والشكل المعاصر، ويعرض العمل شخصيات معروفة ويسعى الى العثور لها على تجسيد جديد. اما بالنسبة الى الساموراي الناسك، فيعيش تبعاً لمبادئ اخلاقية قديمة، لكنه يرتدي ملابس عازف "الراب" مندمجاً في البيئة المدينية المعاصرة. انه شخصية مدعوة الى الزوال في كل لحظة؛ ميت مع وقف التنفيذ، يستخدم كل مهارته الحركية كي يتجنب الموت، المرئي حيناً واللامرئي حيناً آخر، بطريقة يكون فيها شبحاً متسللاً بين مجموعة بيوت. يتمسك المخرج قبل كل شيء آخر بوصف حركات شخصياته: طقوسها وطريقتها في التنقل داخل الكادر. يعرض الفيلم رجال المافيا بطريقة قديمة، مثل دمى متحركة، شبيهة بتلك الرسوم الكرتونية التي نتابعها على التلفزيون. في حين ان عازفي الراب في الشارع معاصرون تماماً. ان هذا التفاوت يخلق اكثر من مجرد تأثيرات كوميدية ويتيح لجارموش إلغاء الزمن والحدود، ولغة الدلالات التي تُختزل الى ابسط تعبير لها.

• "رجل ميت" (1995).

عن كاوبوي (جوني ديب) جاء يجرب حظه في الغرب الأميركي اواخر القرن التاسع عشر، قبل أن يصبح هدفاً لعصابة ترغمه على اللجوء الى قبيلة هندية. شريط وسترن ذو نبرة سوداء مبتكرة، ولم يكن متوقعاً لدى محبيه ان يخوض غمار هذا النوع الا انه خرج من مغامرته رابحاً بضعة رهانات شكلية. وسجل له تعاونه مع أحد عمالقة السينما وهو روبرت ميتشوم في آخر دور له. صوّره بالأسود والابيض البديعين، على أنغام موسيقى نيل يانغ. روبي مولر اضاء الفيلم. حتى بلوغه العشرين، لم يكن جارموش قد شاهد تلفازاً بالألوان. وكانت تقنية الأسود والأبيض تذهله كونها تمنح قدراً أقل من المعلومات. ولا يزال يستغرب حتى اليوم اعتبار البعض الأسود والأبيض موضة قديمة. ويقول محتجاً إن ذلك يشبه قولكَ اذا امتكلت قلم حبر فيمكنك الاستغناء عن قلم الرصاص. الأسود والابيض عنده أداة ووسيلة تعبير، اذ يبقى الأهم ما تنوي قوله من خلال الأداة.

 

أفلامه الأخرى:

  1. Coffee and Cigarettes (2003).
  2. Year of the Horse (1997).
  3. Night on Earth  (1991).
  4. Mystery Train (1989).
  5. Down by Law (1986).
  6. Stranger Than Paradise (1982).
  7. Permanent Vacation (1980).

هـ. ح.

النهار اللبنانية في

31/12/2009

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)