حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

«آغورا» للمخرج الإسباني أليخاندرو آمينابار:

المرآة الدموية للتاريخ

نديم جرجورة

بعيداً عن إسقاطات تنظيرية وتأويلات نظرية، يُمكن القول إن «آغورا» للمخرج الإسباني أليخاندرو آمينابار (مواليد سانتياغو في تشيلي، 31 آذار 1972) مرآة شفّافة وصادقة وجميلة لواقع حياتي مزر، سيطر على المجتمعات منذ أعوام طويلة. وبعيداً عن السينما، يُمكن القول إن هذا الفيلم الجديد لصاحب «افتح عينيك» (1997) و«الآخرون» (2001) شهادة بديعة عن الصراع التاريخي المستمر بين العلم والدين. يحتمل «آغورا» قراءات متفرّقة. عناوينه الفرعية متلائمة وأذواق عدّة. هناك الحب، في مقابل سطوة الدين (الوثني، اليهودي، المسيحي) في فرض سلوك متناغم والعقائد المتحاربة في ما بينها. هناك العلم، في مقابل الجهل المحصّن بتفسير ما للأديان والعقائد هذه، من دون التغاضي عن الدور السلبي الذي لعبته الأديان والعقائد أيضاً، في مرحلة تحوّلات عميقة في المفاهيم والأخلاق والسياسة والمجتمعات. هناك الشغف، في مقابل العماء. هناك الذاكرة، في مقابل العنف والجرائم المتأتية منه في مستويات العيش والقول والتصرّف. هناك الانفتاح، في مقابل الانغلاق. هناك التمسّك الواعي بحقّ المرء في اختيار أنماط عيش وسلوك وثقافة، في مقابل إيديولوجيا المنع والفرض، النابعة من احتدام النزاع بين الأديان والعقائد، أو ربما النابعة من صلب هذه الأديان والعقائد.

جماليات السينما

لا يخلو «آغورا» من جماليات سينمائية. التصوير والتوليف. السياق الدرامي والمعالجة. المحافظة على تطوّر مسارات عدّة، ودفعها إلى الالتقاء أو التصادم لإكمال مضمون الحبكة. لا يخلو من عوالم جمّة، منصهرة كلّها في إطار قراءة لحظة تاريخية مصيرية في مسار أبحاث علمية، واصطدام هذا المسار بجماعات منسحقة أمام زعماء أديان وعقائد، يرفضون الانصياع لقوة العلم، لأن العلم قابلٌ على أن يهزّ مكانة كل واحد منهم، فيخسروا. أو ربما إيمان مريديهم والعقائد المنتمين إليها. اتفق هؤلاء، ضمناً، على حماية مصالحهم. لكنهم اصطدموا بعنف في ما بينهم، فاشتعلت الأرض بفصل جديد من الحروب الدينية. المسيحية في ذروة انتشارها. إنه القرن الرابع بعد الميلاد. إنها مكتبة الإسكندرية. اليهودية والمؤمنون بها حاضرون في المجتمع الإسكندراني. السلطة رومانية، لكن الامبراطورية في بداية انحلالها البطيء. الوثنية فاعلة. الملتزمون قواعدها مدافعون شرسون عن «إيمانهم». لكنهم فوجئوا بقوة المسيحيين. لهؤلاء الأخيرين مجموعة شبابية متحمّسة جداً للدفاع عن الدين والإيمان المسيحيَّين بشتّى الوسائل، بما فيها العنف المادي. في لحظات عدّة، قدّم الفيلم نماذج من الاحتدام الديني بين الأطراف المتنازعة. قدّم لقطات عن المواجهة الفكرية أيضاً، لكن المبنية على مفردات الإيمان، لا العلم والمنطق. والمكتبة، الأشهر في التاريخ البشري، تعيش غلياناً ثقافياً. لكنها مركز إيماني للوثنيين أيضاً، قبل أن يقتحمها جنود الله المسيحيون، فيحرقوا ويمزّقوا ويدمّروا نتائج علمية وأبحاثاً ومشاريع أبحاث وأفكاراً، هي حصيلة سنين طويلة من الاشتغال العقلي وإعمال الفكر والاجتهاد العلمي. لقطات مثيرة. الجهل وحشٌ لا دين له ولا عقيدة، إلاّ دينه وعقيدته الخاصّتين به. المسيحيون أحرقوا المكتبة. لكن عنف اليهود، في أعوام لاحقة، لا يقلّ تجهيلاً وعماء ووحشية. الوثنيون أيضاً. فهم، وإن ظهروا حماة أبراراً للعلم والمعرفة في لحظات عابرة، أقاموا آلهتهم داخل المكتبة، أي في قلب الحيّز الأجمل للعلم والمعرفة.

أنجز آليخاندرو آمينابار فيلماً مختلفاً عن سيرته السينمائية. في «آغورا»، جمع التاريخ بالتحوّلات الاجتماعية والعلمية، ودفع الدين إلى العراء المطلق أمام الوعي المعرفي. الدين منتصرٌ طبعاً. فالزمن لم يكن قادراً على تلبية حاجات العقل المنفتح. لكن، هل الزمن الراهن قابلٌ لهذا، في ظلّ تنامي الأصوليات المتحجّرة؟ الغرب تحرّر من سطوة الدين. أبدع وأنجز خطوات كبيرة ومهمّة إلى الأمام. الشرق محاصرٌ بما كان الغرب محاصرٌ به قديماً، قبل الانشقاق الدموي بين الكنيسة والمجتمع. «آغورا» يعيد صوغ الحكاية نفسها، للقول إن التاريخ شاهدٌ، والاختبارات موضوعة في خدمة الناس للاستفادة: «إنه فيلم تاريخي يتحدّث عن الحاضر»، قال آمينابار (الملف الصحافي الخاصّ بالفيلم). أضاف أن الفيلم «مرآة موضوعة أمام كل واحد منا» للتأكّد من أن هذا العالم لم يتغيّر أكثر مما كان عليه سابقاً. بهذا المعنى، يُمكن اعتبار أفلامه كلّها بمثابة «رحلة»، بحسب التعبير المستخدم من قبله: «هذا الفيلم رحلة في الزمان والمكان». هذا ما يسم أفلاماً سابقة له: «افتح عينيك» مثلاً (اشترى توم كروز حقوقه الإنتاجية مطلع الألفية الثالثة هذه، فأنجزه المخرج كاميرون كرو، في العام 2001، بعنوان «سماء وينيليّة»، مثّل فيه الدور الرئيس إلى جانب بينيلوبي كروز، مؤدية الدور النسائي الأساسي في النسخة الإسبانية)، رحلة في داخل الذهن البشري والتفاصيل المبطّنة في السياق الحياتي. «الآخرون»، رحلة في الحدّ الفاصل والواهي بين الحلم والواقع، على خلفية الموت والعيش في البقعة اللامرئية للحياة. «آغورا»، رحلة في دهاليز الجنون البشري، القابع في إيديولوجيا الدين المناهضة للعقل والعلم والمعرفة.

صراعات

في ظلّ الصراعات المتفرّقة، الدائرة حول مكتبة الإسكندرية وداخلها، أمضت العالِمة هيباستيا (راشيل وايز) وقتها في الدفاع الشرس عن العلم والبحث العلمي وإعمال العقل. تلامذتها شبان في مقتبل العمر. دينها وثني. لكنها مؤمنة بالفلسفة. المدّ المسيحي اقترب من منزل والدها ثيون (مايكل لونسدال)، آخر مدراء المكتبة وأحد وجهاء المجتمع الوثني. تلامذتها عشّاق علم ومعرفة. لكن نزاعاً خفياً نشأ بين فريقين: مسيحيين ووثنيين. الخادم ديفوس (ماكس مينغيلا) عاشق ولهان بها. لكنه عبد لا يجرؤ على فعل شيء مخالف للسائد. أورست (أوسكار إيزاك)، أحد تلامذتها، مغرم بها أيضاً. في ما بعد، يُصبح حاكماً للمدينة، في ظلّ اندلاع الصراع الدموي بين المسيحيين واليهود. هيباستيا مؤثّرة في محيطها. عنيدة في الدفاع عن حقّها في العلم والفلسفة والعقل. مناهضة للتقوقع. أرادت تلقين تلامذتها درساً في التعاضد. تجاوزوا النزاع العنيف بين المسيحيين، وعلى رأسهم آمونويس (أشرف برهوم) أحد قادة «جنود الله» المعروفين باسم «بارابولاني»، والوثنيين. دايفوس اعتنق المسيحية. بات تلميذاً لآمونيوس. أورست أيضاً، لكن من دون التزام. في دائرة النار والدم والخراب، حافظت هيباستيا على صفاء ما في سلوكها إزاء الأحداث والناس. في داخلها، غليان من أجل مزيد من المعرفة. في خارجها، اضطراب. واجهت الحكومة، كما فعلت في مقارعتها وحشية الوثنيين والمسيحيين، سابقاً. متمسّكة بحريتها. مدركة مصيرها. بدت سقراط آخر.

إن مشاهدة «آغورا» مشوّقة. هناك نوعٌ من إطالة غير مبرّرة أحياناً. لكن هذا لا يمنع المُشاهد من التمتّع بأشياء كثيرة فيه. هناك، في المقابل، لقطات جميلة على الرغم من هذا الكَمّ الهائل من الخراب، الروحي والمادي. تشريح النفس متقن. قراءة اللحظة واضحة في رسائلها الفكرية والإنسانية. الجماليات السينمائية مشغولة بحرفية لافتة للانتباه. راشيل وايز في واحد من أدوارها الجميلة القليلة. الديكورات مؤثّرة. أعيد صنع كل شيء تقريباً. بدت لوحة فنية عن زمن مضى. أو ربما لا يزال حاضراً، وإن في أشكال شّتى.

 

يُعرض الفيلم، بدءاً من بعــض ظهر اليوم، في صالات «زوق» و«أبراج» (فرن الشباك) و«سيتي كومبلاكس» (طرابلس) و«ستارغايت» (زحلة) و«سينما سيتي» (الدورة) و«أمبير دون» (فردان) و«أمبير سوديكو»

السفير اللبنانية في

31/12/2009

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)