حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"نبيّ" أوديار يعتبر أن الطريق الى الشاشة باتت سالكة أمام الأقليات

طهار رحيم: فجأة أردتُ أن أجتاز الشاشة!

هوفيك حبشيان

شيء نادر ان يلفت ممثل شاب الانتباه منذ دوره الأول مستحوذاً على هذا القدر من المدائح، وخصوصاً اذا كان هذا الدور نسيجاً من تناقضات ويتطلب قدراً من الاقتصاد في الاداء بعيداً من الاستعراضية. الممثل الذي نتحدث عنه هو الفرنسي من أصل جزائري طهار رحيم. أما الشخصية التي يلعبها في "نبيّ"، فهي سجين محكوم بست سنوات حبساً، سرعان ما يتحول قائداً داخل الزنزانة وخارجها. رحيم هو بلا أدنى شك واحد من الاكتشافات التي اتاحتها الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ في ايار الفائت، الى حدّ انه لم يعد من الممكن تخيل دور مالك الجبانة من دونه. في زيارته لبيروت في اطار مهرجان السينما الأوروبية السادس عشر، كانت لنا "جلسة تعارف" مع هذا الثلاثيني الذي يقف على أبواب المجد.

·         هل كنت تتوقع هذا النجاح منذ دورك الأول في فيلم روائي طويل؟

- بصراحة، لم يخطر على بالي هذا الشيء. فعلت كل ما في وسعي. لا أصدّق هذه الحماسة التي أثرتها عند البعض. ما يحدث يفاجئني تماماً. انها لعاصفة! في المدرسة كنت أتدبر أمري كي اكون في الفريق المناسب، الفريق الذي كان يتيح لي أن أمثل. أردت ان اكون ممثلاً منذ بلوغي الخامسة عشرة من العمر. في فترة معينة بدأت أشاهد الكثير من الأفلام، ثم راحت هذه الرغبة في المشاهدة تشحّ عندي. لم أتعلق بفيلم معيّن، مثلما حصل مع الكثير من الممثلين. حبي للسينما بدأ من فرط ارتياد الصالات المظلمة. كانت لي رغبة في ان أحل مكان الشخصيات على الشاشة. كنت اتخيلني في مواقف مشابهة للمواقف التي وُضعوا فيها، تماماً كما يفعل الأطفال. الآن، مع مرور الزمن، استطيع أن اقول انني كنت ارتاد الصالات، هرباً من واقع يبعث على الملل، لكوني من مدينة بيلفور، حيث لا يوجد ما تفعله. كنت ارتاد الصالات اربع مرات في الاسبوع الواحد. ثم، فجأة، أردت أن أجتاز الشاشة!

·         أيّ نوع من الأفلام كنت تشاهد؟

- عندما تكون مراهقاً، لا يوجد لك الا الأفلام الأميركية. في ذلك الوقت كنت قليل الانجذاب الى السينما الفرنسية. يوماً بعد يوم، تبدأ باكتشاف بدائل أخرى وتتعرف الى سينما ارفع شأناً وأبلغ قيمة. الاشياء بدأت تتكون في رأسي بدءاً من تلك المرحلة. ذهبت لأدرس السينما في باريس. وصلت الى العاصمة مثل كثيرين يأتون اليها بأحلامهم وشنطة الظهر على أكتافهم. بدأت أعمل بلا توقف. كان لي صديق اسمه سيريل مينغا، لكنني لم ازعجه كثيراً، وسرعان تدبرت أمري. وكان لي ايضاً صديق من زمن الطفولة، لكنه كان منهمكاً في امور حياته. لذا، نعم، استطيع ان اقول انني كنت وحدي.

·         هل كنت تقرأ مثلاً عن السينما وتصقل موهبتك بالمعلومات والمعرفة؟

- هذا هو السبب الذي جعلني اتابع دراسات في السينما. كنت اريد أن ألمس كل مراحل صناعة الفيلم. درست السيناريو، كيفية بناء الفيلم، تاريخ السينما. كنت اريد أن اتسلح بالمعرفة انطلاقاً من رغبتي في ان أكون ممثلاً. كنت اقرأ مجلات مثل "استوديو" و"بروميير"، وحاولت أن اشترك فيهما، لكن كان ثمنهما باهظاً.

·         هل أنت من عائلة متواضعة، وما هو ارتباطك بالثقافة الجزائرية التي يتحدر منها والداك؟

- نعم، والدي من العمال البسيطين. ولا فنانين في العائلة (ضحك). أعتبر نفسي انتمي الى ثقافتين. أمي التي شبّت في الجزائر هي التي تولت تربيتي. مع أمي كنت اتكلم اللغة الجزائرية، ومع أشقائي كنت اتكلم الفرنسية. اليوم، يجب أن أتمرّس بالعربية لأنني بدأت أنساها. طبعاً أنني أشعر بالانتماء الى الثقافتين، الفرنسية والجزائرية. ما يبقى في وجداني من الجزائر هو ما تجسده أمي.

·         كيف جرى اللقاء مع اوديار؟ هل كنت شاهدت أفلامه عند لقائك الأول به؟

- نعم، كنت قد شاهدت "بطل محتشم جداً"، و"على شفتيّ" و"من الخفقان قلبي توقف". عندما بدأنا التصوير، شاهدت "انظر الرجال يسقطون"، ووقعت في عشقه. ليس جاك من دفعني الى مشاهدة أفلامه، بل أنا.

·         أيضاً، كان اللقاء مع عبد الرؤوف الظافري حاسماً بالنسبة اليك.

- التقيت "عبدل" وأنا أمثل في المسلسل التلفزيوني La commune الذي كان كتبه. لكن لقاءنا لم يكن له تأثير على مغامرتي في "نبيّ". تعرفت الى أوديار حين قام بزيارة لموقع تصوير هذا المسلسل للقاء "عبدل" أو ربما المخرج. لدى عودتنا الى باريس صادف وجودنا معاً في سيارة واحدة. ولم نتبادل الا كلمتين، "بونجور" و"الى اللقاء". كانت تلك لحظة كبيرة بالنسبة اليَّ. كنت على علم بمشروع "نبيّ"، وكانت لي رغبة كبيرة في أن يكون لي فيه دورٌ. كنت أحلم أن أصوّر تحت ادارته. ثم التقينا مجدداً عند عرض حاشد للمسلسل، فتوجه اليَّ أوديار بكلمات تشجيعية، لكنه لم يأتِ على ذكر الفيلم. غير أن هذا الأمر شجعني على اجراء كاستينغ عنده. بعد ثلاثة اشهر كنت جالساً امامه لإجراء أول عملية اختيار لممثل. طوال ثلاثة أشهر طلبني نحو سبع مرات لاختباري كي يتأكد من أنني الممثل الذي يريده. أعتقد انه اختبر نحو 40 ممثلاً قبل ان يقع خياره عليَّ. ولم يكن أيٌّ منهم معروفاً، لأنه كان يريد منذ البدء وجهاً جديداً.

·         ما هي نظرتك الاخلاقية الى شخصية مالك الجبّانة؟

- لا أعتبره مجرماً، لا بل أعطف عليه. انه ضحية. أنه أولاً ضحية النظام لأنه لا يملك منزلاً يؤويه، ثم ما إن يدخل السجن حتى يصبح ضحية لنظام السجن، وتحديداً ضحية البطش الكورسيكي. مالك لا يملك أيّ خيار، اذ يقال له: إما أن تصبح مجرماً في خدمتنا وإما جثة. نحن حيال شخصية سيتعلم أن يوظف ما تعلمه في سبيل مصلحته ومن أجل أن يبقى على قيد الحياة. وسرعان ما نجده يقف على رجليه. سيكتشف انه صاحب عقل نيّر، ثم سيستخدم هذا العقل لتحسين وضعه، قبل أن ينتقل الى هدفه الاساسي وهو تأمين خيمة فوق رأسه. في النهاية هذا هو حلم مالك: أن يجد عائلة واستقراراً. يدخل الى السجن متشرداً ويخرج منه قائداً، وهو طبعاً قائد لفريق معين، لأنه اظهر انه أقوى منهم، وقام بما يجب فعله. في الأخير عندما يقتل، فإنه يفعل ذلك دفاعاً عن نفسه، وهو يتحول مجرماً فقط من أجل الدفاع عن النفس. كنت اردد دائماً انه في تلك اللحظة التي يضطر فيها مالك الى القتل للمرة الثانية، يدخل في نوع من انجذاب مع الذات، ويغيب عن الوعي، لكن جاك [أوديار] كان يقول لي ان مالك يبدأ منذ تلك اللحظة الادراك بأنه شخصية سينمائية بامتياز. هذا يعني ان الأمر يشكل ولادة ثانية لمالك.

·         هل أصبت بخيبة لأنك لم تحصل على جائزة التمثيل في مهرجان كانّ السينمائي؟

- اطلاقاً، لا بل كنت خائفاً من أن انالها. لا اعتقد ان من الايجابي لممثل مبتدئ أن ينال جائزة بهذه القيمة المعنوية. أعتقد ان هذا كله يجب ألاّ يأتي دفعة واحدة، منعاً من أن يقع الممثل تحت ضغوط قد يكون في غنى عنها.

·         ما الدور الذي تجد نفسك فيه الآن؟

- آمل أنني سأضطلع بأدوار في مستوى السينما التي تروقني. لا يهمّني إن كان ناجحاً أو لا، الأهم ان اثق به كمشروع. أياً يكن، لا أحب ان احصر نفسي في نمط واحد.

·     هل تعتبر أن الممثلين الفرنسيين من أصول مغاربية الذين تسلقوا سلّم النجاح في العقدين الأخيرين يجسدون جزءاً من طموحاتك وتطلعاتك؟

- لا أعتقد ذلك. لكنني أؤمن أني لولاهم لما كنت هنا اليوم. اسلافي تعذبوا كثيراً ولم يتسنَّ لهم ان يضطلعوا بالأدوار المهمة منذ بدايتهم. ناضلوا كثيراً من أجل الوصول. الآن بدأت الطريق تشرَّع أمامنا، ولم يعد من المستحيل أن نرى الأقليات على الشاشة كما كان في الماضي، وخصوصاً مع هذا الفيلم الذي تخطى مثل هذه الاعتبارات.

·     دائماً في السياق نفسه، وُجّهت انتقادات كثيرة الى الفيلم مفادها اننا لا نرى الا الكورسيكيين والعرب في السجن الذي يصوره الفيلم...

- هناك وقائع لا يمكننا التغاضي عنها. اعتقد أن 70 في المئة من السجناء ينتمون الى أقليات من السود والعرب. هذا عدد هائل، ويجب أن يثير لدينا تساؤلات كثيرة، واللوم يقع على الطرفين، السلطة من جانب والناس من جانب آخر.

 

(•) يبدأ عرض "نبيّ" لجاك أوديار بدءاً من الاسبوع المقبل في الصالات المحلية.

 ( hauvick.habechian@annahar.com.lb)

  

 

ذاكرة

الهواجس السينمائية لخليفة هيتشكوك من الإزدواجية الى التلصص

براين دو بالما يتقن فن الخداع ويدخلنا في متاهة القلق

 

براين دو بالما مخرج من الطراز الرفيع. يراعي الأصول البصرية ويتمسك بالشكليات التي استرعت اهتمام النقاد. بعدما اتخذ القرار الصائب، مكاناً وزماناً، بالعودة الى هواجسه، وأفكاره، وهمومه السينمائية التي صنعت مجده طوال 40 عاماً من مسار خلاّق، وشاء أن يلخصها في "المرأة اللعوب" (2002) المذهل شكلاً ومضموناً، باشر صاحب "سكارفايس" و"طريق كارليتو" تصوير "الداليا السوداء"، ومن بعده "منقح"، نعود هنا لنلقي نظرة على تيمات دو بالما وهواجسه وخصائصه، هو الذي نعتبره احد كبار الفن السابع وخليفة هيتشكوك، وذلك من خلال قراءة تحليلية لفيلمه "المرأة اللعوب" حيث تكرست المواضيع التي اتسمت بها أعماله السابقة، وأبرزها الازدواجية والتلصص.

بعدما تجلى اسلوبه المتقن في التعامل مع الموارد السينمائية في Snake Eyes، ولا سيما في ما يتعلق بتناقض وجهات النظر حول رواية لا ينفك فن التلصص والمونتاج والـ"أثر الزائف" لدى دو بالما يكشف عنها النقاب، سجل المخرج عودة الى نمط روائي وسينوغرافي متفرد، والى نوع سينمائي، هيتشكوكي يتلاعب بأعصاب المشاهد ويقطع أنفاسه، كان غاب الى حد ما عن فيلموغرافياته خلال تسعينات القرن الفائت: حب المراقبة والترصد، والتباطؤ في عامل الوقت، والـ"سلو موشن"، والوسواس الاستحواذي، والعبقرية التصويرية، والايروتيكية، والتحكم بالآخر، والتشويق الايقاعي، والاستيهامات المدمرة، والشاشات المزدوجة. كل هذه العناصر، أعاد دو بالما جمعها من جديد، لينسج منها قصة بوليسية تجسسية تشويقية، تحمل كالعادة علامات غير محتملة، في بعض تفصيلات الحبكة الروائية. لكن من يأبه، إذا كانت القصة مركبة أم لا؟ مصطنعة أم لا؟ أو ما إذا كانت تكشف عن أنانية المؤلف، أو انها تتضمن أقل قدر من الوضوح؟ فالسينما فن الخداع والأكذوبة بامتياز، والسينمائيون، حتى لو أوكلوا الى أنفسهم مهمة البحث عن الحقيقة، فلا بد أن يفعلوا ذلك متقيدين بالجوهر واللغة السينمائيين اللذين بطبيعتهما يؤديان الى "خداع" المشاهد و"النيل" منه، بحيث تصبح الحقيقة مطاطة، ومتغيرة، بحسب الزاوية التي نراها منها. وكل من لا يرى امكان منح السينما مثل هذا الدور، الأفضل له الا يحجز لنفسه بطاقة سفر الى كوكب دو بالما، لأن المكوث في ذلك الكوكب سيكون تحت شروط سينمائية صارمة وقاسية.

ثمة أمور أهم من القصة، يحاول دو بالما نقلها منذ أن دخل المعترك السينمائي (الدفع بالمعطيات البصرية الخاصة بالمصطلح السينمائي الى أبعد الحدود) في محاولة للتعبير صورياً في غالبية الأحيان، وشفهياً عندما تدعو الحاجة الى ذلك. صيغته هذه في التعبير قد لا تكون سابقة عند السينمائيين الأميركيين والأوروبيين، لكن تمسكه في إظهار عشقه للسينما علناً وإصراره على مشاركة الآلاف في هذا العشق، جعلاه يستكشف مساحات سينمائية خاصة حوّلته معلّماً لا يقل شأناً عن هيتشكوك.

ثمة أعداء كثر يتربصون بدو بالما. فبعض التقليديين يأخذون عليه أنه "يحاكي" هيتشكوك و"يزوّره" و"يقلّده". وينتقدونه لنزعته السوقية التي تدفعه الى ابتكار "مشاهد تفتقر الى الانسيابية"، و"الذوق" و"النظافة الروائية"، ولـ"عدم اكتراثه بصدقية القصة".

لكن، يا ليت كل مخرج قلّد، كما فعل دو بالما، وتوصل الى إنجاز ولو عدد ضئيل من الاعمال تعادل أعماله، والتي صارت من روائع السينما، وتحوّلت مدرسة للانتاج البصري - السمعي تحتوي على لقطات تصويرية تدعو الى التحليل، وتعتبر المثال الذي يقتدى به، والنموذج - المرجع في الفن الاخراجي. مهما يبلغ اعجابنا بأفلام المعلم، فسيصعب علينا ايجاد ادلة "علمية" مرتكزة على نظريات دقيقة، أو علامات ملموسة، تستطيع التصدي لكل من تعرض لـ"قدسية" عمله، إذ كثيراً ما يكون الدفاع عن سينما دو بالما، لاشعورياً، ومن منطلق عاطفي لا علاقة للعقل به (ربما لأن الافلام التي ينجزها لا تتبع قانوناً معيناً)، على عكس المنتقدين الذين يجدون دوماً الأعذار المحقة، وهم يحاولون النيل منه. فلا الثغر الدرامية، ولا المبالغة في تصعيد مستوى التوتر في بعض المشاهد، ولا النوعية دون الوسط لأداء بعض الممثلين تغيب عن أفلامه. على رغم ذلك، يأخذ الفيلم المُشاهد الى مجالات سينمائية ثلاثية البُعد، بحيث يجعل المتلقي يجتاز حالات نفسية مختلفة، بدءاً من القلق، مروراً بالضياع، وصولاً الى النشوة.

ولكي يخدم فكرة الفيلم ليس إلا، وأيضاً هرباً من هيمنة الاستوديوات الكبيرة التي تتدخل في كل شاردة وواردة، قرر دو بالما تصوير "المرأة اللعوب" في فرنسا حيث استقر، بعدما رفضت شركات الانتاج الأميركية تمويل مشروعه، لكنه وجد المساندة من المنتج الفرنسي من أصل تونسي طارق بن عمار (منتج "قرصان" لبولانسكي)، من خلال مبلغ 36 مليون دولار كان كافياً ليجسد رؤاه السينمائية الأكثر جنوناً، في حين ان هوليوود اكتفت برمي نظرة سلبية على هذه "المبادرة الفرنسية". اما قرار دو بالما الابتعاد عن هوليوود، فكان خياراً فنياً أكثر منه خياراً انتاجياً، إذ ان المواقع التي تدور فيها الحوادث (باريس، كان، بلفيل) تعطي الفيلم هوية وشخصية تميزه عن سائر الأفلام الأميركية، وحتى الفرنسية.

يُفتتح "المرأة اللعوب" بجينريك لمشهد من إحدى كلاسيكيات بيلي وايلدر Double Indeminty. حركة "ترافيلينغ خلفي" بطيئة تقوم بها الكاميرا، تدعنا نكتشف لورا (ريبيكا روماين - ستاموس)، شبه عارية وممددة على السرير، تتابع حوادث فيلم تمثل فيه باربارا ستانويك دور "المرأة اللعوب". إن هذه اللقطة وحدها، تدل على أن لورا هي بطلة الفيلم ومُشاهدة له في الحين نفسه (وهو الأمر الذي سيتضح لاحقاً). وإذ برجل أسود يدخل غرفة لورا ويعطيها بعض التعليمات، فنصبح عندئذ على علم بأن هناك عملية سرقة ضخمة يتهيأ لها الرجل والمرأة. ينتقل بنا المونتاج سريعاً الى مهرجان كانّ السينمائي، حيث ستقدم هذه العصابة على سرقة صدرة من الماس ترتديها عارضة فائقة الإثارة ترافق المخرج الفرنسي ريجيس فارنييه، المدعو الى المهرجان لعرض فيلمه "شرق - غرب". هذه اللحظات المتقنة، التي صوّرت فعلاً في آخر أيام مهرجان كانّ 2000، تكشف عن مهارة دو بالما في اشاعة "أجواء تحضيرية"، واللعب بعامل الزمن، وتنمية الحس الايقاعي.

ثم تأتينا المقاطع حيث تحدث عملية السرقة. فيها يبلغ دو بالما قمة فنه. فمعزوفة "بوليرو" لرافيل، والتي عدّلها على نحو لافت الموسيقي ريوي ساكاموتو، سترافقها لقطات شائقة وصامتة تقطع الأنفاس، مصورة حوادث عدة موازية لعملية السرقة التي تجري في المراحيض. في خاتمة هذا الفصل، ستخدع لورا زملاءها الذين شاركوها في العملية، وستهرب الى الولايات المتحدة حاملة معها الكنز المسروق، بعدما انتحلت شخصية فتاة تشبهها... وبعد 7 سنوات، تعود لورا الى فرنسا، وهي التي تزوجت سفيراً (بيتر كويوت)، فتكلف احدى المجلات المتخصصة بتغطية الفضائح، الباباراتزي نيكولا باردو (أنطونيو بانديراس) ليلتقط صورة لسيدة المجتمع هذه، لأن ما من أحد نجح في التقاط صورة طوال سنوات غيابها السبع الأخيرة. فهل ستساعد هذه الصورة شركاء لورا في العملية، وهم لا يزالون يبحثون عنها، في العثور عليها والنيل منها؟ أم ان هذه اللقطة الصحافية ستورط باردو الذي سيخضع شيئاً فشيئاً للعبة الاختبار والظهور المميتة، والتي يجهل قوانينها.

دو بالما الذي ألّف السيناريو منطلقاً من "صورة ذهنية"، لا يكترث هنا بتاتاً بالمطبات، والضربات القاضية، والمفاجآت التي من الصعب توقع حدوثها، وكل أساليب التلاعب بكليشيهات الفيلم البوليسي وثوابته، مستنداً بذلك الى خلفية فيلم "فرتيغو"، وبعدما استوحى منه (مجدداً)، عقب فيلمه "هَوَسْ"، كاراكتير البطلة. فهيتشكوك كان ينصح معاصريه بالانطلاق من "كليشيه" معين، إذا لم تتوافر الحلول الأخرى، بدلاً من الانتهاء به. هكذا، استخدم دو بالما هنا كليشيهات الفيلم البوليسي الذي نال شهرته في الأربعينات، ثم قام بتعطيلها.

وعلى غرار ديفيد لينتش في "مولهولند درايف"، فهدف دو بالما هو إدخال المُشاهد في متاهات سرد روائي متبعثرة، يبتعد بوضوح عن كل مكوّنات السرد الكلاسيكي - الرومنطيقي، ويسعى الى التأثير على دلائل المُشاهد، مانعاً عنه الشرح، إلا في مرحلة ما قبل نهاية الفيلم بقليل. دو بالما، مثله مثل لينتش، يتمتع بمزايا بصرية، لا مكان فيها للحوار. منها، اللقاء الأول بين روماين - ستاموس وبانديراس، والذي لامس الحلم والاستيهام، وعالم الفانتازيا في جوهره، مثيراً الغرائز المكبوتة والرغبات الجنسية المتشنجة. فهذا اللقاء الحاسم صوّره دو بالما بكاميرا تكشف وتشهد أيضاً ان الذي خطط حركاتها ليس مجرد حرفي، وإنما خلاّق لا يوازيه أحد في حسه وذائقته الجمالية. فضلاً عن ذلك، ترمي سينما دو بالما الى بعث انطباع "سبق أن شوهد" (Déjà Vu) بأننا في ازاء استعراض بصري خاص بالأحلام، حرص على نقله الى المُشاهد، عبر الخيال الى الحقيقة (الموضوع الأثير لديه)، ومن خلال أسلوبية يملك وحده سرها.

وإذا كان صحيحاً أن دو بالما أقدم على تصوير أفلامه لمجرد المتعة واللذة، فالصحيح أيضاً أن شخصياته وخياراته الاخراجية، وعاداته في ما يتعلق بالكتابة السينمائية (ذات الحلول السهلة وإن كانت دائرية أو حلزونية في بعض الأحيان)، ظاهرة للعيان لمن يدقق في تفصيلات إنتاجه الفني منذ أفلامه الأولى. فبالاضافة الى الموضوع الذي قد نجده في غالبية أفلامه، وهو التفصيل العبثي الذي، في لحظة من اللحظات، يغيّر مجرى الحوادث ويظهر سخرية القدر، هناك أيضاً شخصية الباباراتزي في "المرأة اللعوب"، الذي ليس إلا نسخة طبق الأصل عن المخرج. فهذا البابارازي الذي، فضلاً عن مهنته الاستفزازية، يهتم بالعمل الفني، فيسعى الى تشكيل لوحة حائط عبارة عن "كولاج" من مجموعة صور لمكان واحد التقطها في أوقات مختلفة، وكذلك، يثير لدينا الفضول ويدفعنا الى التفكير في ماهية عمل المخرج الذي لا يفعل - مثل بطله - الا لصق صور التقطها في ساعات متباعدة ووضعها في سياق اصطناعي، من أجل تحويل الجزء كلاًّ. عندما ينتهي هذا الباباراتزي من العثور على الصورة الأخيرة التي ستكتمل بها تحفته الفنية، لن يبقى لدو بالما سوى اختتام فيلمه.

في "بلو أوت"، كان جون ترافولتا يقوم بدور مهندس صوت يعاني أزمة ابداعية تمنعه من ايجاد صرخة مناسبة لمشهد جريمة قتل كان قد طلبها منه المخرج. الا انه يغدو شاهداً على جريمة حقيقية، ما يؤدي الى حصوله على "الصرخة الحقيقية" التي سيستخدمها لاحقاً في عمله، تماماً مثل الباباراتزي هنا، الذي سيستغل صورة حادثة التقطها، لاختتام لوحته، متحدياً الحدود الفاصلة ما بين الحقيقة والخيال. وما يمنح أيضاً مشروع "المرأة اللعوب" الطابع الشخصي هو واقع ان الباباراتزي عايش صراعاً دائماً مع ما تفرضه عليه متطلبات الحياة من جهة، وما تطالب به طموحاته الشخصية من جهة ثانية. لذا، فهو يموّل عملية إنجاز لوحته بالمال الذي يجنيه من عمله كمصوّر. تماماً مثل دو بالما وصراعه المتواصل مع الشروط الانتاجية والمقاييس الشعبية، من ناحية، ومع حلم إنجاز فيلم خارج أنظمة استديوات الانتاج من ناحية أخرى.

لمن اعتاد القراءة العميقة لنسيج دو بالما الروائي، فإنه سيكتشف تفصيلات ذكية تتمحور عليها سينماه التي تفتح مناقشة حول الفرق في ما نشاهده، والنظرة التي نلقيها إذا قررنا أن نكون مجرد مشاهدين لما نراه. فثمة حلول بديلة في حال قررنا التدخل، وفي هذه النقطة بالذات يكمن جوهر سينما دو بالما الذي يطلب من المتلقي المشاركة الفاعلة.

ممارسة أسلوبية، شكلية، تجريدية وشبه صامتة... هكذا نختصر أفلام دو بالما الذي أقفل مع "المرأة اللعوب" أولاً "والداليا السوداء" ثانياً، المزدوج الذي فتحه منذ أفلامه الأولى، لعله المحاولة الاخيرة لنفض الهواجس السينمائية عنه (لكن ما أهمية دو بالما من دون هواجسه؟) والتي تلاحقه منذ عقود، والتي أدت، ولا تزال، الى صيغة مغناطيسية، من يقف ضدها ينجرف معها.

أخيراً، وعلى سبيل الاستفزاز فقط، نحرّف هذه الجملة الشهيرة لبيلموندو في A Bout De Souffle: "من لا يحب دو بالما، ولا يحب التشويق، ولا يحب أن يتم خداعه، فالأفضل له أن يبحث عن متعة غير السينما".

هـ. ح

   

مهرجان

الواقع العربي يشع أملاً في مهرجان دبي

يعرض مهرجان دبي السينمائي الدولي في دورته التي انطلقت مساء أمس برنامجاً اسمه "ليال عربية" يتضمن مجموعة أفلام من مختلف أنحاء العالم العربي، تقول عنها مستشارة البرامج العربية أنطونيا كارفر، إن أهميتها تنبع من كونها تلقي الضوء على بعض جوانب واقع المجتمع المعاصر عند العرب. "إنها أفلام تشع أملاً حتى في أشد المشاهد بؤساً، وتنقل صوراً مؤلمة عن الواقع العربي، من سيدني إلى باريس مروراً ببرلين ولندن، وأيضاً غزة وجبال كردستان العراق".

هذه الأفلام ليست من صناعة العرب فحسب. كريستوف هيلر مثلاً يأتي بفيلم "أبي، خالي" عن قصة عراقي في آخر العشرينات من العمر يعيش في ألمانيا ويسافر إلى الشارقة للقاء عائلته بعد طول غياب، فيطفو على السطح موضوع الروابط العائلية والى ما هنالك من تيمات تشير الى صدام بين الحضارات.

والى "نبيّ" لجاك أوديار (انظر الاطار) "رسول" الذي صوّر معاناة شاب من أصول مغاربية يحكم عليه في فرنسا بالسجن لمدة 6 سنوات، هناك أيضاً "همسة مع الريح" للكردي شهرام عليدي، عن قصة سوريالية تدور فصولها في جبال كردستان العراق، والجاً ما يشكل معاناة الاكراد وتحدياتهم للعيش والصمود.

بعد "سقوف باريس" الذي أخرجه من مواضيعه المرتبطة ببلاده كردستان، يعود كردي آخر هو هينر سليم في "بعد السقوط"، الى مواضيع يعرفها جيداً: تجربة كردي يعيش في ألمانيا، يدعو أصدقاءه العراقيين الذين يعيشون في المنفى للاحتفال بسقوط نظام صدام حسين في عام 2003. لكن في حين يواصل التلفزيون عرض المشاهد من بغداد، يعود الألم والخيانة الى الذاكرة.

تدور حوادث اثنين من الأفلام التي تعرض ضمن برنامج "ليال عربية"، حول الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة، والجدار المنيع الذي يفصل أبناء فلسطين عن العالم، وهما: "الرصاص المصبوب" للايطالي ستيفانو سافونا و"إطلاق النار على فيل"، للمخرجين محمد الرجيلة وألبرتو آرسي. وهذا الشريط مستوحى من مقالة لجورج أورويل.

المعالجات تختلف من فيلم الى آخر. البعض منها يختار السهل الممتنع في قوالب لا توحي بالأجواء البائسة. تلك هي حالة "حاجز الصخرة: موسيقى تضرب الجدران" لفيرمن موغوروزا، عن رحلة إلى فلسطين، بصحبة مجموعة مغنين فلسطينيين. يقدم العمل لوحة تعكس التنوع الكبير للمشهد الفني في فلسطين، تبدأ مع مارسيل خليفة في جنازة محمود درويش، مذكراً بإبداعاته التي تركت بصمتها في الحياة الفلسطينية.

هناك ايضاً في هذا البرنامج: "صباح الخير، أمان"، دراما قاسية للايطالي كلوديو نوسي، و"البارونات"، لنبيل بن يضر، و"أولاد الأرز" لسهرات كرادي، عن حياة الطبقة العاملة من أبناء الجالية اللبنانية في أوستراليا.

النهار اللبنانية في

10/12/2009

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)