حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

ليس مهماً ماذا تحكي.. ولكن الأهم كيف تحكيه؟

«500 يوم مع سمر».. فيلم يقدم عشرات الأمثلة على حرية الإبداع

أحمد يوسف

هناك سمة مهمة فى الفن الغربى أعتقد أنها من أحد أسباب ثرائه المهمة، وكنا نمتلكها فى حضارتنا فى الشعر والفن التشكيلى والموسيقى، لكننا فقدناها للأسف الشديد، تلك السمة فى الفن الغربى هى القدرة على إبداع "تنويعات على تيمة واحدة"، خاصة منذ عصر النهضة حتى الآن، وإنك إذا تصفحت "كاتالوجات" الفن التشكيلى الغربى سوق تفاجأ بأنه يدور فى الأغلب حول موضوعات محددة، مثل الحياة اليومية المنزلية، أو نشاطات العمل اليدوى، أو تيمة دينية بعينها، ناهيك عن المناظر الطبيعية وما يعرف باسم "الطبيعة الصامتة"، ويكفى أن تتأمل على سبيل المثال لوحة لباقة من الزهور للفنان الفرنسى شاردان من القرن الثامن عشر، ولوحة عن نفس الموضوع للفنان الهولندى فان جوخ فى القرن التاسع عشر، لتدرك الفارق الهائل بين المعالجتين، سواء فى التقاليد الفنية أو رؤية الفنان الذاتية للعالم. وأستطيع أن أضرب لك عشرات الأمثلة عن أغنيات شهيرة، أداها مغنون ومغنيات كل بطريقته. وليس غريبا فى الفن الغربى أن يكون مصطلح "الأداء"، سواء فى الغناء أو العزف أو التمثيل، هو ذاته مصطلح "التفسير"، لأن كل أداء يحمل معه تفسيرا جديدا، وأرجو أن تقارن ذلك بالجمود الذى نعانى منه فى فنوننا حين يؤدى ـ مثلا ـ فنان ما أغنية معروفة كأنه "يقلد" ولا يؤدى أو يفسر. 

إن ذلك ينطبق أيضا على فن السينما، فبرغم وجود ما يسمى الأنماط الفيلمية، أو "الجانر"، مثل نمط الكوميديا الموسيقية، أو فيلم العصابات، أو "الفيلم نوار"، أو "الويسترن"، فإن هذه الأنماط لا تمنع أى فنان من أن يقدم تنويعه الخاص عليها، فأفلام الويسترن عند جون فورد تختلف عنها عند كلينت إيستوود فى مرحلته الأخيرة، وأفلام العصابات الأمريكية اتخذت أبعادا مختلفة على أيدى صناع الأفلام فى هونج كونج، ولا يقتصر الأمر فقط على الشكل الفنى بل يمتد إلى المضمون أيضا. وهذا هو ما حدث تماما مع فيلم "500 يوم مع سمر"، الذى يمكنك أن تترجم عنوانه أيضا إلى "500 يوم من أيام الصيف"، إن الفيلم ينتمى بشكل ما إلى نمط الكوميديا الرومانسية، التى تعتمد على خطة درامية من ثلاث حلقات: الفتى يقابل الفتاة، وهما يتحابان لكن مواقف سوء التفاهم تباعد بينهما، وأخيرا تتكشف الحقيقة ويفوز الفتى بالفتاة. إن المتفرج يعرف مسبقا هذه الخطة، لكن مصدر متعته فى الفرجة يأتى من التنويع الخاص الذى يقدمه الفيلم عليها، وسوف يقول المتفرج عند إحدى نقاط الفيلم: هنا تطابق الفيلم مع النمط، لكنه سوف يقول عند نقطة أخري: وهنا اختلف الفيلم عن النمط. ومن خلال تحقيق توقعات المتفرج، أو صدمة عدم تحقيقها، يظل المتفرج مشدودا إلى أحداث الفيلم برغم أنه يعرف سلفا أنها سوف تنتهى نهاية سعيدة. 

يصل فيلم "500 يوم مع سمر" إلى حد أقصى من انقلاب مواضعات ومواصفات نمط الكوميديا الرومانسية، فهو يقول للمتفرج منذ اللحظة الأولى، وعلى لسان الراوى، أنه إذا كانت البداية تقليدية بأن يقابل الفتى الفتاة، فإن النهاية لن تكون سعيدة على الإطلاق. وهكذا فأنت تعرف مع المشاهد الافتتاحية أن الفتى لن يفوز بالفتاة، فمن أين تأتى متعة الفرجة إذن؟ ذلك هو الجانب المدهش من الفيلم بالفعل، إنك هذه المرة تريد أن تعرف "لماذا" لم يفز الفتى بحب فتاته، وبكلمات أحرى فإن الفيلم يتحول إلى دراسة للعلاقات العاطفية فى المجتمعات الغربية فى الوقت الراهن، لكن لا يذهب بك الظن أبدا إلى أن الفيلم يتحول إلى المزاج الكئيب، فإن خفة الظل والروح تسرى فى كل المشاهد حتى أكثرها شجنا وحزنا، لكنها أيضا لا تتحول إلى خفة المعالجة كما يحدث فى أفلامنا فى أغلب الأحيان. وأرجو أن تتأمل هذه الكلمات التى اعتدنا أن نراها فى بدايات الأفلام: "أى تشابه بين شخصيات الفيلم وشخصيات حقيقية، حية أو ميتة، هو محض مصادفة، خاصة التشابه معك، ياجينى بيكمان، ياسافلة"!! 

تقول موسوعة ويكيبيديا على الإنترنيت أن سكوت نيوشتادر، أحد كاتبى السيناريو، قد عاش تجربة مماثلة لأحداث الفيلم مع إحدى الفتيات، لذلك كتب الفيلم وكأنه يصفى حسابه معها لأنها هجرته، لكن المفارقة الأكثر طرافة ومرارة هى أنه عرض السيناريو على صديقته السابقة، فقالت أنها أحبت بطل الفيلم بينما لم تستطع أن تحبه! والطريف المرير هنا أن "الفتي" يريد أن يقول أن "الفتاة" كانت تتلاعب به، لكن ربما كانت الحقيقة أن الفتاة كانت أكثر نضجا فى تعاملها مع الحياة، إنها تعيش حياتها كما هى، بينما الفتى يريد أن يعيش حياة غير موجودة إلا فى خياله. وإذا كنا لسنا فى موقف التحليل الأخلاقى لهذه العلاقة، فسوف أرجئ الحديث عن التحليل الاجتماعى لها إلى نهاية المقال، لكننى سوف أحاول أولا أن أحكى لك باختصار "حدوتة الفيلم". 

إنها قصة علاقة تمتد 500 يوم، بدأت فى اليوم الأول لها بالفتى توم (جوزيف جوردون ليفيت)، الشاب الحاصل على شهادة الهندسة المعمارية، لكنه لم يجد عملا مناسبا فاضطر للالتحاق بشركة تصنع ما يسمى "بطاقات التحية"، التى يتبادلها الناس فى مناسبات السراء والضراء، ومهمة توم هى تصميم بعض البطاقات وكتابة التعليق المناسب عليها. فى أحد الأيام يفاجأ بقدوم مساعِدة جديدة لرئيسه فى العمل، وهى الفتاة الجميلة سمر (زووى ديشانيل) التى يعنى اسمها "الصيف"، ومنذ اللحظة الأولى لرؤيتها تندلع شرارة الحب فى قلبه، لكنه لا يعرف كيف يفصح لها عن هذا الحب، بل إنه يعجز عن الاقتراب الحميم منها، فيساعده زميله فى العمل ماكينزى (جيفرى أرنيد) الذى تذهب الخمر بعقله فى إحدى أمسيات اللهو، فيخبر سمر أن توم معجب بها، وهكذا تنمو العلاقة بين الفتى والفتاة شيئا فشيئا، لكن المفارقة تنشأ من أنه يرى أن "الحب" هو السبب والنتيجة فى مثل هذه العلاقة الحميمة، فى الوقت الذى لا تؤمن هى فيه بالحب أو حتى بالالتزام الأخلاقى، وتخبره أنه يكفيهما أن يعيشا متعة اللحظة. 

إن توم لا يبدى فى الظاهر ممانعة لرأى سمر، لكنه فى الحقيقة يتمنى أن ينمو الحب تجاهه فى قلبها، خاصة أنها بدأت تشاركه بعض الأشياء التى يحبها، مثل الذهاب إلى بقعة بعيدة تشرف على مكان هادئ من مدينة لوس أنجلس الصاخبة، ربما كانت تُذكِّره بطفولته وصباه فى مدينة نيو جيرسى المختلفة تماما، كما تطوف معه بعض المتاحف، وفى مشهد شديد الطرافة يدخلان محلا يضم أثاثا لغرف المنازل، فيعيشان فيه للحظة كأنهما زوجان يتشاركان منزلا حقيقيا. هل يمكن إذن أن يتسرب الشك فى نفس توم فى أن سمر تحبه، أو أنها سوف تحبه؟ الإجابة الصادمة سوف تصعقه عندما تتعرض سمر لتحرش شاب متنمر، وعندما يدافع توم عنها بوصفه "صديقها الحميم"، تثور سمر لأنها لا تريد أن تتحول العلاقة إلى نوع من الالتزام! وبدءا من تلك اللحظة يبدأ عالم توم فى الانهيار، حتى أن شقيقته الصغرى راشيل (كلوى مورتيز) تسدى له النصح حول ما تفكر فيه الفتيات، على نحو يجعلها أكثر نضجا منه! وبسبب الحزن الذى خيم على شخصية توم، يقرر رئيسه فى العمل نقله إلى قسم التعازي. وتمر الأيام ليلتقى توم بالمصادفة مع سمر التى يعرف أنها تزوجت! إنها تقول أنها عرفت الحب وأصبحت تؤمن به، لكن ليس مع توم! وهو لا يفهم السبب أبدا، لكنه يقرر أن يغير حياته، فيستقيل من شركة البطاقات، ويبدأ فى البحث عن عمل كمهندس معمارى، وفى المشهد الأخير يذهب لمقابلة فى شركة يبحث لديها عن عمل مناسب، وفى الردهة يقابل فتاة تنافسه فى التقدم للوظيفة، لكنه يعجب بها، ويطلب موعدا للقاء، ويسألها عن اسمها فتجيب: "أوتام"، أى الخريف، ويبدأ "فصل" جديد من علاقة جديدة. 

لقد حكيت لك حدوتة الفيلم، لكنها ليست الفيلم على الإطلاق، وهنا نعود إلى فكرة "التنويعات على تيمة معروفة"، فعندما تشاهد الفيلم سوف تفاجئك تفاصيله الأصيلة والجديدة معا، خاصة أن مخرجه مارك ويب، الذى يقدم فيلما روائيا لأول مرة، قد جاء من عالم "الفيديو كليب"، الذى يعنى عند السينمائيين فى الغرب شيئا مختلفا تماما عما نعرفه: إنه بالنسبة إليهم معمل تجريب إبداعى بالغ الحرية، وسوف تتجلى هذه الحرية الإبداعية كما سوف نرى فى المعالجة السينمائية، خاصة أن سيناريو سكوت نيوشتادر ومايكل ويبر اختار بناء سرديا لا يعتمد على تعاقب الأحداث بتاريخها الزمنى، لكنه ينتقل بين الأيام الخمسمائة جيئة وذهابا، فهو يبدأ من اليوم (488) ليعود إلى اليوم (1) ثم يقفز إلى اليوم (290)، بينما يظهر "عدّاد" الأيام على الشاشة. إن هذا البناء لا يهدف إلى مجرد سرد الحكاية، بل التعامل معها كتجربة فى الذاكرة، والعلاقة بين ذكرى وأخرى ليست التتابع الزمنى، ففكرة ما تستدعى فكرة أخرى قد تكون سببا أو نتيجة أو حتى نقيضا للفكرة الأولي. 

فى أحد المشاهد، فى اليوم (34)، يشعر توم بالنشوة العارمة لأن علاقته الحميمة مع سمر قد وصلت إلى ذروتها، إنه يخرج من منزله فى الصباح، ويرى الناس كلها تحييه، ثم يبدأ فى الغناء والرقص وحده، لينضم إليه الجميع فى نمرة غنائية راقصة، تشارك فيها أيضا فرقة موسيقية عسكرية بأزيائها الملونة الزاهية. إن هذه النمرة فى الحقيقة تدور فى خياله، إنها إحساسه بالواقع فى تلك اللحظة وليست الواقع ذاته، وتنتهى عندما يدخل مصعد الشركة فى حالة بالغة السعادة. فى القطع المونتاجى التالى مباشرة يخرج توم من نفس المصعد، ويظهر على الشاشة رقم اليوم (303) لنراه فى حالة شديدة التعاسة، فقد تركت سمر العمل فى الشركة، وانقطعت الصلة بينهما بعد جدالهما الصارخ بأنها لا تريد أى شكل من أشكال الالتزام. من جانب آخر أرجو أن تلاحظ أن الفيلم كله يأتى من "وجهة نظر" الفتى، فنحن على المستوى السردى والسينمائى لا نرى سوى ما يراه هو، وهو الأمر الذى يجعلك تتعاطف معه من جهة، لكنك من جانب آخر تعرف أنها ليست "الحقيقة" كاملة، وإنما وجهة نظره عنها. فى اليوم (154) نرى لقطات شديدة الاقتراب من سمر، يتحدث فيها توم للكاميرا ولنا عن عشقه للفتاة، ولتفاصيل وجهها وعينيها وضحكتها وتلك الوحمة على شكل قلب على عنقها... إننا نرى نفس التفاصيل، ونفس اللقطات، دون تغيير على الإطلاق، فى اليوم (322)، بينما هو يؤكد أنه يكره هذه التفاصيل، بما فى ذلك الوحمة على شكل صرصور على عنقها!! 

فلتقل إذن أن الحكاية فى جانب منها تمثل رحلة فى "تيار الوعي" فى عقل وذاكرة توم، وهو الأمر الذى يتأكد مع العديد من المشاهد "الذاتية": إن توم وسمر يذهبان إلى السينما فى اليوم (191)، ويعيشان لحظات من السعادة مع الفيلم وأكياس الفيشار، لكنه فى اليوم (314) يذهب إلى السينما وحيدا حيث يسرح بخياله وينام، ويرى نفسه فى الحلم بطلا خائبا فى الحب فى فيلم بالأبيض والأسود يشبه أفلام فرانسوا تروفو، ثم يقفز إلى محاكاة لفيلم إنجمار بيرجمان "الختم السابع"، حيث يرى نفسه وهو يلعب الشطرنج، ليس مع ملاك الموت كما عند بيرجمان، وإنما مع كيوبيد، وهذه المرة يهزمه ملاك الحب! ويذهب توم فى اليوم (402) إلى حفل دعته إليه سمر وهو يمنى النفس بإعادة العلاقة معها، وهنا تنقسم الشاشة إلى نصفين، النصف الأيسر يعبر عن أمله فى أن تتعامل معه سمر بطريقة "حميمة"، أما النصف الأيمن من الشاشة فيصور ما يحدث بالفعل، طريقة فاترة لعلاقة بين صديقين قديمين، لينتهى المشهد وفى الجانب الأيمن لقطة قريبة لخاتم خطبة فى إصبع سمر، ويبدأ هذا الجانب فى إزاحة الجانب الأيسر من الشاشة ليحتلها كلها، كأنه يطيح بآمال توم وتوقعاته. 

سوف تجد فى الفيلم عشرات الأمثلة على هذه الحرية الإبداعية، الجادة وخفيفة الظل معا، فى تقديم حكاية نعرف نهايتها مقدما، فالمهم هنا ـ كما فى كل سينما جادة وممتعة ـ ليس ماذا تحكى وإنما كيف تحكيه. وبرغم أن الفيلم يبدو فى ظاهره كأنه يهدف إلى متعة الفرجة فقط، فإنه فى جانب منه يمثل شهادة على علاقات "الحب" فى الغرب فى العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، مثلما كان ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ فيلم "عندما التقى هارى وسالي" فى ثمانينات القرن الماضي. فى ثنايا الفيلم سوف تجد حديثا عن الجيل الشاب، الذى أثَّرت فيه رومانسية فيلم "الخريج" وأغنيات "البوب" البريطانية، لكن فى مقابل هذه الرومانسية تجد النزعة العملية الاستهلاكية، التى تعبر عنها سمر فى حديثها لتوم: "أريد أن أكون حرة، وأستمتع بقدر الإمكان، وأترك التفكير فى الحياة الجادة للمستقبل... لا أريد أن أعيش جروح الحب وندوبه... إن والدى مطلقان... لا يوجد شيء اسمه الحب، إنه خيال". إن هذه الفكرة التى تنفض عن المرء كل أثر للالتزام العاطفى، بل الأخلاقى والاجتماعى والسياسى، هذه الفكرة التى أراها قد طالت أيضا أفكار شريحة من الجيل الشاب فى مجتمعاتنا، هى أحد الآثار السلبية لما يسمى "العولمة" التى لم يتحقق معناها الحقيقى، بل تحول بها العالم إلى سوق كبير يشبه "المول" أو المجمعات التجارية، المهم فقط فيها هو متعة اللحظة، واستهلاكها لآخر قطرة، لكن بعد أن تطوف بكل ما فى هذا "المول" الافتراضى، وتستنفده ـ مثلا ـ فى عقد من الزمن، وليس مجرد (500) يوم، سوف يدرك هذا الجيل أن الصيف قد فاته ولم يحقق شيئا، ولم يبق أمامه إلا الخريف. 

العربي المصرية في

08/12/2009

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)