زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

برلين السينمائي الـ 70

International Competition

"برليناله" 70: مسابقة رسمية بلا تعديلات.. والجمهور أولوية

بقلم: زياد الخزاعي

 
 
 

كُلّ شيء في مهرجان برلين السينمائي "برليناله" مَحْسُوب بحذاقة. جمهوره أولوية. أفلامه وخياراتها يجب أن تضع في حسبانها ذلك التنوَّع المدهش لأهل مدينة كبيرة وحداثية ومُنعَّمة، تضم 4 ملايين قاطن. أصبح هؤلاء، على مدى السبعين عاماً من عمره، ضمانته كرمز ثقافي، وشارة حاسمة لتاريخها ووحدتها، وما واجهته من محن وفظاعات خلال حرب ضروس. "برليناله"، عنوان عريض على عناد الألماني في بناء مجد أوروبي متجدّد، يجاور بين طليعيّة وافدة وعراقات مجتمع ديناميكي ودؤوب وخلّاق. "برليناله"، عنوان أخر على رِفْعَة مجتمعيّة، ترى في ثقافات الأخر وفنونه، إستكمالات وجدانيّة لفعل إجتماعيّ عام، تحتاج على الدوام الى تدفَّق، يضمن كوزموبوليتها وتعدُّديتها وغناها. مع تصاعد نعرات قومانية وعرقية، يصبح هذه الفيض أمراً لازماً لصدَّها، أو على الأقل تخفيف ضغوطها المسيّسة والمؤدلجة. "برليناله"، دراية جماعية من طراز فريد ببشر وأحوالهم، بأمم وتقاليدها، بعقائد ومرجعياتها، بحيوات وتكافلها، بطبائع  مجتمعات ومبادئها. عليه، يمكن إعتبار هاجسها أيضا، كامن في إستقطاب ما يسمون بـ "الألمان الجدد". هؤلاء المهاجرون القادمون و"الضروريون" الى مجتمع يعوز دوماً الى يد عاملة. ترى "برليناله" إنه من الضروري جعل السينما أداة تواصل حيويّة معهم وتجمعاتهم وثقافاتهم، وكما هي مشاركتها المعرفية في سياسات الدمج، والتعافي من عقلية الـ"غيتو".

أهل برلين، بكلّ أصنافهم، هدف المهرجان السبعيني، الذي يختلف جذرياً عن نظرائه في كانّ الفرنسية أو فينيسيا الإيطالية، كونهما يلتئمان في بلدتين صغيرتين. جمهورهما نخبوي، وهم عموما من أهل الصناعة، أو ما يدور حولهم. أما في "برليناله" فإن ظاهرة طوابير المشاهدين أمام شبابيك التذاكر منذ ساعات الصباح الباكر، وإعلاناتها عن "إكتمال العدد" لغالبية العروض، تعطي المهرجان صفة إستفتاء شعبي، ومتضارب الأعراق، لأيامه وأشرطته وفعالياته ونجومه وبرمجته ولقاءاته. لا ريب إن هذا يتطلب بالضرورة خطة مُحْكَمة تكفل سيولة تنظيم عروض كبيرة، ومُشَكَّلة التوجهات، ومعقَّدة الجدولة والمناطق. من هنا، فإن قضية الدقَّة في هذا المجال لا تضارع "برليناله" فيها أيّ جهة. كانت حجة زيادة العروض في العام الماضي الى ما يقارب الـ400 فيلم، وسيلة للطعن بمنهجية المدير السابق ديتير كوسليك وسطوته، وما ترتَّب عليها لاحقا من تنحية غادرة وغير منصفة لطاقة إدارية مميَّزة، تملك قوّتها وعجلة علاقاتها الواسعة والمؤثرة في سوق إنتاج السينما العالمية وتوزيعها. الغريب إن المدير الفني الجديد كارلو شاتريان أصرّ في حديثه مع المجلة السينمائية الأميركية "دَدلاين" على إنه "لم أرغب في القيام بثورة"، و"أعتقد إن المهرجان يملك جدولة عريضة لأفلام مميَّزة، ويملك هيكلاً تنظيمياً جيد جداً، لذا لم نسع الى تغيير جذري، شعرنا أن هناك حاجة الى بعض التعديلات". هذه الأخيرة، لم تنل من طبيعة المسابقة الرسمية، وهي روح المهرجان، إذ بقي عدد أفلامها في حدود الـ 18، فيما أصابت التقليصات جميع الخانات الموازية الأخرى. كما داورت أسماء مخرجين مكرسين في الغالب، كضامن لرسوخها وأولوياتها في المقام الأول. السبب: "لحاجتنا إلى عروض كبيرة، لأن الجمهور كبير جداً"، حسب المدير الفني الإيطالي.

"الجندرية" واحدة من رهانات مسابقة الدورة الـ70، التي ستُفتتح بنصّ الفرنسي الكندي فيليب فالاردو "عامي مع سالنجر" حول كاتبة شابة تحلم بشهرة أدبية عصّية، حيث إن وعد الـ50/50 لم يتحقق هذه المرّة. هناك 7 مخرجات سينمائيات من مجمل القائمة العامة، وهو رقم محرج، يغطي شاتريان عليه بحجة إننا: " نحاول  إدراج أكبر قدر ممكن من التنوّع، لكن يجب علينا التجاوب مع الأفلام نفسها، بدلاً من السياسات التي تمثلها. في النهاية نحن هنا لدعم السينما". هذا العجز سيفسح المجال أمام المتنمَّرين وأصحاب النَّميمة الكثير ليشتموه، بيد إن الحرص على دعوة أسماء طليعية مثل البريطانية سالي بوتر وجديدها "طرق لم تُسلك"، أو الأميركية كيلي رايكارد ونصّها الثامن "بقرة أولى"، تضفي بعض حماسة المشاهدة والنقد، وإن لا تُبرّر غياب أفكار كبيرة لديهن. المؤلفة بوتر (1948)، التي إستعارت عنوان شريطها من قصيدة الشاعر روبرت فروست، ترصد علاقة مضطربة بين الأب ليو (خافيير بارديم) وإبنته مولي (أل فانينغ)، وهما داخل حافلة عمومية، تسلك طريقاً روتينياً وسط أحياء نيويورك. الرجل غارق في تهويماته حول حياة كان يمكن أن يعيشها، بينما تحاول الفتاة الحفاظ على توازن ذاتي، والتفكير في مستقبلها. أما رايكارد (1964)، فتعود الى الغرب الأميركي وثيماته مع حكاية مهاجر شاب، يلتحق طباخاً لدى عشيرة من رعاة بقر في فيافي أوريغون. يعقد صداقة مع زميله الصيني كينغ ـ لو، ويخططا الى خوض مغامرة مشتركة برفقة بقرة، تجود عليهما بحليب مدرار وثروة لم  يتوقعاها.

في حين، تعرض مواطنتها أليزا هيتمَن في "الدائم أحياناً نادر"، إقتباساً جارحاً لحكاية حقيقية، تعرَّضت فيها شابة هندية الى مهانة إجتماعيّة في إيرلندا بسبب حمل خارج الزواج، وسعيها غير القانوني لإجهاضه. أدى موتها لاحقا الى إقرار التعديل السادس والثلاثين للدستور الإيرلندي، وتوقيع قانون الصحة (تنظيم إنهاء الحمل) في عام 2018. هنا، رحلة شابتين أميركيتين من ريف بنسلفانيا الى نيويورك بحثاً عن سبيل لتخلّص إحداهن من حمل غير مرغوب فيه. عُرض هذا الفيلم الثالث لهتمَن بعد "شعرت كما الحب" (2013)، و"جرذان الشؤاطىء"(2017)، في الدورة الأخيرة لمهرجان صاندانس السينمائي الأميركي للسينما المستقلة.

الفيلم الروائي الثاني للأرجنتينية نَتالي ميتا "الدخيل" هو أكثر المشاركات إثارة للإهتمام. وصفه المدير الفني لـ"برليناله" بإنه "مفاجأة كبيرة. "فيلم نوار" يغوص في ذهن امرأة". حكاية إثارة جنسية، بطلتها الشابة أنييس (الممثلة إريكا ريفاس التي إشتهرت بدور العروس المخدوعة في فيلم "حكايات مجنونة" (2014) لداميان سيفرون)، وهي ممثلة دبلجة ومغنية في جوقة موسيقية تابعة لإحدى الإذاعات في بوينس آيرس، تعاني من إضطرابات في النوم، إثر حادث مؤلم تعرضت له، خلال قضائها عطلة في الأرياف. تحاصرها الكوابيس، بينما تلتقط الميكروفونات في الإستوديو أصواتاً غريبة تصدر من جسدها، ما يهدد حياتها المهنية وغنائها. تصاب الشابة بلّوثة حادة، يتداخل فيها الوهم والواقع، ما يدفعها الى فكرة مجنونة: إن شخصيات هلوساتها تحاول السيطرة على كيانها!.

تقارب السويسريتان ستيفاني شوا و فيرونيك ريمو في جديدهن "شقيقتي الصغرى" محنة عائلية من طينة أخرى، بطلها مرض خبيث ينهش جسد الممثل المسرحي الشهير سفين، ويعذب في الوقت ذاته ضمير شقيقته التؤام ليزا، التي كانت ذات يوم كاتبة مسرحية مجيدة. تعيش المرأة مع أسرتها في سويسرا ، لكن قلبها يهفو الى برلين. عندما يتم تشخيص حالة سفين وإصابته بسرطان الدم (لوكيميا)، تتقرّب أواصرهما. تعلن البطلة رفضها الهزيمة، وتفعل ما في وسعها لإعادة شقيقها إلى المسرح. بيد إن هوسها، يعرض زواجها وعائلتها الى خطر التفكك. تصبح خيارات "الشقيقة الصغرى" علّة الجميع.

العرب غائبون تماماً في مسابقتي برلين (الرسمية والجديدة المسماة "لقاءات"). أحصينا 9 أشرطة لمخرجين شباب، أمثال اللبناني أكرم زعتري، وزميلته الفلسطينية أميلي جاسر، والجزائرية أميرة خلف الله، والمصري ماجد نادر وغيرهم، توزّعت بين خانات موازية. المخرج الإيراني الموهوب محمد رسول أف (1972)، الذي يتعرض الى إجحاف سلطوي في بلاده، جعله حبيس إعتقال إداري بتهمة المسّ بالأمن القومي و"الدعاية ضد النظام"، على غرار ما عاناه قبله مواطنه جعفر بناهي، ضَمَنَ مكانة مرموقة في التنافس بجديده "لا وجود للشيطان" (150 د) الذي يقارب موضوعاً صدامياً وتحريضياً حول الحرية الفردية والإعدام وقوانينه وضحاياه وملابساته وأخلاقياته وشرعيته، عبر حكايات متداخلة لأربع شخصيات. يقول التعريف الموجز للشركة الفرنسية المكلفة بتوزيع الفيلم الآتي: "تحتاج كل دولة، تفرض عقوبة الإعدام، إلى أشخاص يقتلون مواطنين أخرين. يتم وضع أربعة رجال أمام خيار بسيط لا يمكن أن يتصوروه. أيا كان قرارهم بشأنه، فسوف ينخر بشكل مباشر أو غير مباشر حيواتهم وعلاقاتهم ووجودهم". فيما يقتبس الأفغاني الألماني برهان قرباني (1980) رواية "برلين ألكساندربلاتس"، التي تعد من كلاسيكيات الأدب الألماني المعاصر للكاتب ألفريد دوبلن، والتي نشرها في العام 1929. هذا هو الإقتباس الثالث، بعد المخرجين بيل جوتزي (1931)، وراينر فيرنر فاسبندر (1980). تجري الحكاية هذه المرَّة في برلين 2015.  فرانسيس لاجئ أفريقي، يبلغ من العمر 30 عاماً، والناجي الوحيد من قوارب الموت والتهريب غير الشرعيّ. يواجه محنة وجوديّة وأخلاقيّة، حينما يصبح المجتمع عدواً، تقوده اللا رَحْمَة الى حضيض وإقصاء ودمّ وجريمة، في شريط زمنه 183 دقيقة.

تستضيف المسابقة 6 مخرجين مكرسين. أولهم، صاحب التحفتين الباهرتين "يوم وقع الخنزير في البئر" (1996)، و"المرأة مستقبل الرجل" (2004) الكوري هونغ سانغسو وجديده "المرأة الراكضة" (77 د)، عن السيدة غامهي التي تلتقي مع ثلاثة من أصدقائها في ضواحي سيول، بينما زوجها في رحلة عمل. تجتهد البطلة في جعل المحادثات المشتركة وديّة الى أقصى حد، كما هو الحال دائما، بيد أن وجهات النظر وتصادماتها تتصاعد وتتشابك، ما يجعل التحكم بها مثل عدو في سباق محموم. أما حكيم السينما المخرج الفرنسي فيليب غاريل، فيعود مجدداً بـ"ملح الدموع" (100 د)، عن الشاب لوك الذي يتوجه الى باريس لأول مرة، لإجراء إمتحان قبول في مدرسة للنجارة، حيث يتقاطع حظه مع العاملة الشابة جميلة (عُليا عمامرة). يعقدان علاقة حب قصيرة وعابرة، قبل عودته إلى مسقط رأسه، والشروع في علاقة أخرى وموازية مع صديق طفولته. يقع لوك في صراع عالمين من المشاعر، ومثله معاناته من وعد قطعه أمام والده بخصوص ضمان مستقبله، لكن ماذا عن الحب الحقيقي وعهوده؟.

المخرج الأميركي المستقل أبيل فيرارا (1951) لا يني في إدهاش الجميع بثراء أفكاره، وقدراته على إثارة حفيظة المتعصّبين بمواضيع أفلام إستفزازية، على شاكلة "ضابط  الشرطة السيء الصيت" (1992) الذي مسّ سطوة الكنيسة، وتحامل على فساد قوة الأمن. في "سيبيريا" (92 د) ينحو بشكل مفاجىء نحو فلسفة إقصاء ذاتي وعزلات شخصية، والبحث عن معاني الوجود، عبر حكاية رجل منعزل يدعى كلينت(ويليم دافو). يعيش وحده في "التندرا" الجليدية. رغم ذلك ، لا تجلب له هذه الخلوة حصانة أو سلاماً. في إحدى الليالي، يشرع في رحلة لمواجهة أحلامه وذكرياته ورؤاه، عابراً من ظلام نفسه وكربه الى عالم النور والحياة.

يعرض صاحب "يحيا الحب" (1994) و"الثقب" (1998) و"كلاب ضالة" (2013)، وأحد أعمدة ما يسمى بـ"السينما البطيئة" التايواني الطليعي(ولد في ماليزيا عام 1957) تساي مينغ ـ لاينغ شريطه الجديد "أيام" (127 د) حول رجل أربعيني يدعى كانج، يعيش وحيداً في منزل كبير، وتنتابه ألآم غريبة وغامضة، لا يستطيع مكابدتها، وتسيطر على جسده. على طرف أخر، وفي بانكوك تحديداً، يعيش صديقه نون في شقة صغيرة حيث يقوم، بشكل منهجي، بإعداد أطباق تقليدية، تعلمها من قريته الأم. عندما يجتمعان في غرفة فندق متواضع، يتقاسم الرجلان الوحدة بينهما.

أخيراً، يتنافس صاحب "ترانزيت" (2019) الألماني كريستيان بيتزولد للمرة الخامسة في مسابقة "برليناله" بجديده "أودين" (90 د) حول مؤرخة تعمل مرشداً في متحف برليني. امرأة مهووسة برجل عابر، أشعل السحر في كيانها، قبل أن يختفي. عالم ينهار داخل تشكيل قصصيّ خرافيّ حداثيّ، ينعى خيبات كائنات محبطة، رغم عالمها وحياتها المرفهتين.

من العناوين الأخرى نذكر، الفيلم الروسي "دي أي يو، ناتاشا" (145 د) لإيليا خرزانوفسكي وزميلته كاترينا أورتيل الذي تدور أحداثه في عالم سرّيّ داخل معهد أبحاث سوفياتي غامض المهمات. والكوميديا الفرنسية البلجيكية "تاريخ محذوف" (110 د) للثنائي بينوا ديلبان وغوستاف كرفرن حول الإختراقات الأخلاقية لوسائل التواصل الاجتماعي، وعواقبها على حيواتنا. في حين يرصد الإيطاليان فابيو وداميانو دينتشينسو أزمة عائلة وطبقة وحارة في العاصمة روما في نصّهما التهكمي "حكايات سيئة" (98 د). فيما تشعّ جماليات صور وتكوينات وتجهيزيات الكمبودي الأصل الفرنسي الإقامة ريثي بان في "مُضاء" (88 د) داعياً مشاهده الى نقاش بصريّ حول شرورنا. ومثله، يقارب البرازيليان كايتانو كوترادو وماركو دوترا النخاسة وفظاعاتها التي شهدتها بلادهما في العام 1899 في "كلّ الأموات" (120 د).

سينماتك في ـ  20 فبراير 2020

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004