زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

برلين السينمائي الـ 70

"برليناله" الـ70: عقيدة ديتيركوسليك سائدة.. و"إستمراريَّتها" حصانة

بقلم: زياد الخزاعي

 
 
 

الإنقلاب الذي أطاح بـ"القيصر السابق" لمهرجان برلين السينمائي الدولي "برليناله" ديتير كوسليك، لم ينل من عقيدته التي بنى عليها مجده طوال الـ 18 عاماً (منذ أيار 2000)، وهي فترة إدارته لثالث أكبر مهرجانات أوروبا. فما أعلنته القيادة الجديدة المكونة من رأسين، العضو المنتدب السابق لمؤسسة "جيرمن فيلمز" الألمانية الترويجية مارييت رايزنبيك (من أصول هولندية)، مديراً تنفيذياً لإدارة الجانب التجاري، والإيطالي كارلو شاتريان مديراً فنياً، من خيارات سينمائية تضمنها برنامج الدورة السبعين (20 فبراير ـ الأول من مارس 2020)، بقيت تدور بِرُمَّتها ضمن فلك نهجه القائم على أوروبية الحدث الكبير، وضمان توافر أسماء رنانة للسجادة الحمراء، وديمومة عمل غالبية التظاهرات الموازية. كما إنهما لم يحيدا عن العمل بـ"مواثيق كوسليك"، خصوصا الفقرة المثيرة للجدل "50/50"، وخطة الأمم المتحدة للعام 2030 الخاصة بالتنمية المستدامة وأهدافها الـ17، المعنية بـ"القضاء على الفقر بجميع أشكاله، وضمان الإحترام العالمي لحقوق الإنسان وكرامة الإنسان، وحكم القانون والعدالة والمساواة وعدم التمييز والجندرية وغيرها".

الذريعة التي أوردها الثنائي رايزنبيك/ شاتريان في مقدمة الملف الصحافي للدورة، تجلَّت عبر إستخدامهما كلمة "الإستمراريَّة"، التي صيغت كمناشدة وحصانة لرونق "برليناله"، بإعتبارها "هاجس المهرجان لسنوات خلت، ومسؤوليته الخاصة في الدفاع عنها، من أجل ضمان تحسين الظروف المعيشة العادلة للجميع في القطاع الثقافي وصناعة السينما"، حسب بيانهما. هذه أخلاقية إدارية سنّها كوسليك (ولد عام 1948)، حين شعر بالسكاكين وهي تُشْهَر في وجهه، وإستعجل تكريسها في أخر دورة أشرف على تنظيمها في العام الماضي، فارضاً أرثه الذي حاول أعداء كثر إقصاء أمجاده من فعاليات عريقة، بقيت ـ رغم كل شيء ـ أمينة الى خططه وسمعته ومناوراته.

كتبنا في "سينماتك" (04 فبراير 2019) ضمن تحيتنا الشخصية لكوسليك، إن "أفضاله لا تحصى على مهرجانه وفريقه وإدارته، فهو الذي شدّ من عود ترسيخه كفعالية ثقافية خالصة النزعة، ضمن الأجندات المتكاثرة في مدينة كوزموبوليتانية، فريدة بـ"شهواتها" الطليعية. تكلّلت جهوده مع نقل المهرجان ونشاطاته الى موقعه الحالي في حي بوتسدامر الحداثي والشديد الأناقة والأمركة!"، وإطلاقه العديد من المبادرات والتظاهرات وغيرها. الحاسم، إن الإدارة الجديدة واجهت رهاناً عصيّاً في إختراق هذا الأرث وتدميره. بدلاً من ذلك، سعت الى إضفاء روحية تغيَّرية حجتها "دعم الأصوات الجديدة"، هي في الواقع مناورة من المدير الفني الجديد، وهو ناقد سينمائي وكاتب وصحافي ومبرمج (ولد في مدينة تورينو الإيطالية عام 1971)، متحصَّن بتجربة شبابية ثريّة، وتسّلك سابقاً في مهمات متعددة، بالذات في مهرجان لوكارنو السينمائي السويسري منذ العام 2006، وحتى تعيينه مديراً فنياً له في العام 2012. أول هذه الخطوات قرار تنظيم مسابقة موازية، تجتمع تحت يافطة ملّتبسة وفضفاضة عنوانها "لقاءات"، وتسعى الى "إعطاء مساحة أكبر لأشكال السرد الروائي والوثائقي وتنوعاتهما في البرنامج الرسمي. على أن تختار لجنة تحكيم من ثلاثة أعضاء (هم المنتج الياباني شوزو إيشياما، والمخرجة التشيلية دومنغا سوتومايور، وزميلتهما الألمانية إيفا تروبيش) الفائزين بجائزتي أفضل فيلم وأفضل مخرج، إضافة الى جائزة لجنة تحكيم خاصة" حسب بيان المدير الفني الجديد. تضم 15 شريطاً، يقارب كل واحد منها "حكايات سينمائية عبر أساليب متنوعة من سيرة ذاتية، وقصة حميمية، وأخرى سياسية، وثالثة إجتماعية، ومثلها فلسفية، وملحمية، وحتى سوريالية"، وفقاً لشاتريان. تثير حزمة هذه المسابقة أسئلة جوهرية: لماذا لم يتبن الثنائي المتحمس في المقام الأول "سياسة خَضّ" لبنية المسابقة الرسمية ذاتها، ودعمها بتلك الأصوات الجديدة وأشرطتها ورؤاها وتجديداتها؟. أهو قرار رسمي بإبقائها (المسابقة) نادياً مغلقاً للكبار والمكرسين، والتعهُّد بعدم التطاول على قوّة شركات الإنتاج والتوزيع الكبرى وتواجدها وحساباتها ومشاركاتها، كما كان الحال في عهد كوسليك؟. هل إن تمرير "لقاءات" وعناوينها ليس سوى محاكاة مهرجانية ـ مع أكبر قدر من التشوَّف ـ للتشبُّه بنجاحات خانة "نظرة خاصة"، التي تعتبر جوهرة الإكتشافات في كروازيت "كانّ" الفرنسي؟.

تباهى شاتريان بإن جدولته "إكتشفت" خمس مواهب جديدة في هذه المسابقة، التي ستُفتتح بالملحمة التاريخية لصاحب "موت السيد لازاريسكو" (2005) الروماني كريستي بويو "مالمكروغ" (200 د) المقتبسة عن كتاب الفيلسوف الروسي فلاديمير سلافيوف "ثلاث محادثات" (1915)، التي تداور نقاشات ساخنة وخطرة بين شخصيات خمس، حول الحرب والتقدم والأخلاق والموت، خلال إجتماع ماراثوني في قصر منعزل بمقاطعة ترانسلفانيا. والمخرجون المعنيون هم: الهندي بوشبندرا سينغ وعمله "الراعية والأغاني السبع" (100 د)، حول الشابة الحسناء ليلى، المتزوجة حديثاً من رجل جبان، لا يدافع عنها ضد محاولات رجل أمن دنيء، يسعى الى الإيقاع بها، قبل أن تقرر الإنتقام بنفسها. علماً أن سينغ عرض باكورته الروائية "القيم على الشرف" في خانة "الفوروم" (دورة العام 2014). أما البولندي ماريوش فيلشنسكي، الذي سبق أن عرض فيلمه "كيزي ميزي" (21 د) في خانة الأفلام القصيرة في دورة العام 2008، فبقى أميناً الى حرفيته العالية الجودة في مجال الرسوم المتحركة، مصوراً سيرة ذاتية مزدوجة لوالديه ولمدينة لودز في جديده "إقتل وإترك هذه البلدة" (104 د). في حين تضع المنتجة والمخرجة البرتغالية كاترينا فاسكونسالوس، بصيرة عائلية أخرى بطلتها السيدة بياتريس، التي تعلمت من دراسة النباتات ومراقبتها، كيفية تربية أبناءها الستة، في الغياب الدائم لوالدهم، الذي يخدم ضابطاً في القوات البحرية، في شريطها الوثائقي "تحولات الطيور" (100 د)، فيما تتتبع الألمانية ميلاني فالدي في باكورتها "حيوانات عارية" مصائر خمسة يافعين، تجمعهم الدراسة والتسكع والعلاقات الحميمية، قبل أن تفرقهم أقدراهم. صاحبة "الصورة المستحيلة" (2016) النمسوية الألمانية ساندرا فولنر، تصوغ رؤيا مستقبلية عن إشباح دواخلنا في "معضلة أن تولد". حكاية روبوت تُدعى "إيلي"، تعيش مع رجل تفترض إنه والدها. يتشاطران ذكريات متنوعة، تعني الى الرجل كل شيء، فيما هي عدم بالنسبة لها.  ذات ليلة، تتوجه إيلي نحو الغابة، بعد أن هاتفتها أصداء غامضة.

عدا هذا، لم يتغير الكثير في "برليناله" هذا العام. هناك 18 فيلماً ضمن المسابقة الرسمية، التي يرأس لجنة تحكيمها الممثل البريطاني جيريمي آيرونز (من بينهم الفلسطينية آن ماري جاسر مخرجة فيلم "واجب"، 2017). لم يخل إختياره من تحاملات طوائف الحريات الجنسية ـ على خطى ما يحدث في هوليوود ـ بشأن تصريحات له سابقة طالت المثليين ومنظماتهم، رغم تراجعه عنها لاحقاً. أما أعظم مبادرات كوسليك وهي "مواهب البرليناله"، فتشهد دورتها التي تحمل شعار "جماعيات"، إحتشاد 255 موهبة من 80 دولة. تجمعهم طاولات نقاش وندوات وحلقات دراسية حول 100 موضوع وزاوية بحث، منها 33 مفتوحة لمحبي السينما، يشرف ويحاضر فيها مائة سينمائي عالمي. أما عراب الجميع فستكون الممثلة الأسترالية المميزة كيت بلانشيت التي ستقدم دروساً، وتقود ورشات عمل. ومعها المخرج البرازيلي الجزائري الأصل كريم عينوز (صاحب "الحياة اللا مرئية لأوريديسي غوسمَو"، 2019)، ومعه مواطنه، عضو لجنة تحكيم الدورة السبعين، كليبر ميندونسا فيلهو مخرج "إكواريوس" (2016) و"باكوراو" (2019). وزميلهما الصيني الذائع الصيت جا تشانغ ـ كه (له "لمسة الخطيئة"،2013). عربياً، سيتواجد داخل "مواهب" كل من المخرج المصري تامر السعيد (له "أخر أيام المدينة"،2016)، ومواطنيه فيولا شفيق وهبة أمين ومحمد الحديدي، إضافة الى المخرج المغربي نادر بوحموش، ومؤسسة مشروع "سينما عقيل" ومديرته الإماراتية بثينة كاظم.

وتذكيراً بأمجاد كوسليك، حافظت تظاهرة "مسابقة الفيلم الأول" التي أسسها في العام 2006، على قوّة تواجدها، وأهمية حضورها كمنصّة ديناميكية لإكتشاف المواهب، حيث سيتنافس 21 عملاً معروضة ضمن خانات المهرجان، ما عدا المسابقة الرسمية، منها 3 أشرطة من "لقاءات"، 8 أفلام من خانة "بانوراما"، و4 أعمال من "الفوروم"، وأخيرا 4 نصوص من تظاهرة "أجيال" الخاصة بالفتيان والفتيات. تشرف على جوائزها لجنة تحكيم من ثلاثة أشخاص، أحدهم المخرجة المصرية هالة لطفي ("الخروج الى النهار"، 2012).

ونجد لزاماً التَنْوِيه أيضا بواحدة من المناقب السينمائية المجيدة التي حققها كوسليك ضمن خانات "برليناله"، ونعني بها مسابقة الفيلم الوثائقي. تضم هذا العام 21 شريطاً. تصل مبالغ جوائزها الى 40 الف يورو، على أن تعلن لجنة تحكيم دولية من 3 أشخاص أسماء الفائزين في حفل الختام (ليلة 29 فبراير 2020). لعل أكثر المتنافسين شهرة في هذه الفقرة، نذكر كل من الكمبودي ريثي بان وجديده "مضاء"، الذي يحافظ على روحية تشكيليات فطنة، وإبتكاريات خلّاقة، ومداخلات أيديولوجية تحريضية، شعّت سابقاً في "الصورة المفقودة" (2013) و"قبور بلا أسماء" (2018) حول جرائم الخمير الحمر. هذه المرّة، يناشد بان عزائم مشاهديه ومحبي سينماه لفهم الشرّ وفظاعاته. فيما يجمع الصيني جا تشانغ ـ كه مجموعة كتاب وعلماء، في مسقط رأسه،  ليصوغ سيمفونية سينمائية مُشكلة من 18 مقطعاً حول المجتمع الصيني المعاصر منذ العام 1949، في نصّه "أسبح حتى يتحول البحر أزرق". في حين، يتمعن كل من المخرجين الأميركيين كورتني ستيفنس وباتشو فيليس في تداعيات ضميرية وعنصرية وإسقاطات مسيّسة، تقف خلف قرار نقل أقسام متعددة من جدار برلين، بعد سقوطه في العام 1991، وإعادة بنائها في بلدة بعيدة، كإعلان عن زهو بالنصر على النازي في شريطهما "القطاع الأميركي"، وهو عنوان المساحة التي كانت الولايات المتحدة تحتلها من برلين، إثر نهاية الحرب العالمية الثانية.

سينماتك في ـ  17 فبراير 2020

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004