زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

القاهرة السينمائي الـ 41

إرث يوسف شريف رزق الله.. يستمر

بقلم: زياد الخزاعي

 
 
 

طالما إعتبرت شخصياً إن الناقد والإعلامي الراحل يوسف شريف رزق الله (1942 ـ 2019) صمام أمان مهرجان القاهرة السينمائي. مدبّره الحكيم الأول وحلال مشاكله العويصة، وراسم خططه غير المعقَّدة واللا إستفزازية. رجل يعي حدود مسؤولياته الإدارية ومثلها الأخلاقية. دمث وكتوم وحييّ. عقلاني ولا يمكن إثارته أو تغيير قناعاته بسهولة. قوّته في إستماعه لأيّ كان من دون ترفَّع أو حساسية. طالما إستمع إستاذي الراحل الى حماساتي بشأن أشرطة حدث أن شاهدناها سوية، وإصراري على دعوتها الى القاهرة وشاشاتها. ينظر في عينيّ مبتسماً ولا يوعد بشيء. كنت حازماً، لكنه يفكَّك عنادي بعذوبة رده الدائم: "ح نشوف".

حتمت ثقافته السينمائية عليه تصريف أمور مهرجان كان يواجه مخاطر مهانات إغلاقه، أو تسفيه وجوده، أو الطعن ببرمجته. كان دؤوباً على إختراق حصارات غير معلنة بشأن طلبيات مشاركة أفلام من دول معينة، أو دعوات مخرجين ذائعي الصيّت. صراع يوسف شريف رزق الله بشأن المهرجان كان وجودياً. هاجسه الإداري إنصب، ضمن كتمان شخصي، وسعي هاديء النبرات من أجل ضمان إستمراريته بأيّ ثمن. الحاسم، إنه لم يقع ضحية ما كان يَحيكَه البعض من اللئام بخصوص كذبة "منافسة" المهرجانات العربية، ومخاطرها في تهديد مكاناتها. لم يكن طرفاً في لعبة سمجة وخاسرة، منذ تدويرها في كتابات بعض الصحافيين المغرضين والعصابيين والمرتزقة. كان يضحك، حين أقول له: هل من المعقول إن تنقل إدارة مهرجان مراكش أهل مصر كي يشاهدوا برمجتهم، ونقفل مهرجان القاهرة بحجة فشله في المجاراة؟. كان ينصت بصبر الى حججي بشأن سلبيتنا الجاهزة في التحامل على برمجة أيّ مهرجان عربي (ومنها القاهرة)، ومثلها إختيار مكرمين أو أصدار مطبوعات أو دعوة تكريم، التي كانت تتطلب منه وطاقمه جهد أبطال لتأمين عناوينها وتنوّعها و"أصطياد" ما هو مميز من سينما العالم ونتاجاتها.

واحدة من عناصر إرث يوسف شريف رزق الله شجاعته في البحث عن بدائل سينمائية، تُعزَّز برمجته، منذ تكليفه كسكرتير فني في العام 1987، بكلمة أخرى المبرمج الأول للمهرجان بشكل أو أخر، إذ وجد مع فريقه ومخلصيه ضآلته في سينمات محاصرة أيديولوجياً وتوزيعياً، سواء من العمق الأسيوي أو الحافة الشرقية من أوروبا، إضافة الى دول هسبانية/ لاتينية ، شعّت أشرطتها على شاشات القاهرة، وحرضتني في الكثير من المرات على مناشدة أصدقاء مرابطين في باحة مقهى الهناجر أو مثيلتها عند بوابة المجلس الأعلى للثقافة الى ترك كراسيهم والتمعن في تجارب سينمائية مميزة لن تُتاح لهم فرصة مشاهدتها مرّة أخرى. كنت أرى بريق عينيه وهو يستمع الى واحدة من صولاتي على أولئك المرابطين، وتعجيلي لهم بدخول صالة مركز الإبداع، لمشاهدة تحفة المعلّم الروسي أندره ميخالكوف كونشالوفسكي "منزل المجانين" (2002)، الحائزة على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان فينيسيا السينمائي. لم أدع أحداً يترك الصالة، بل وتجمعنا بعد العرض للإستماع الى قناعات بعضنا في تفكيك نصّ باهر.

ما صنعه الراحل يوسف شريف رزق الله لا يحتاج الى عرفان. جهده هو مشروعه الذاتي. المدهش إن أغياراً من تلامذته حافظوا على إرثه، وما أعلنه رئيس مهرجان القاهرة السينمائي المنتج وكاتب السيناريو محمد حفظي وفريقه في تخليد أسمه عبر جائزة الجمهور، هو في قناعتي أكبر تكريم لأبي كريم (كما أحب تسميته) وهدفه الأساسي: تحريض الجمهور على المشاهدة والتعرف (والتعلم بالضرورة) عبر مقاربة خلاصات سينمائية مجيدة. كنت أردد على مسمعه دائما: "أبا كريم، أنت وسعت جدران بيتنا السينمائي ونوافذه، وضَمَنت لنا حاضنة سنوية ومتجددة". اِعتبرها الراحل مجاملة، وأنا أصّررت على إنها إعتراف بمهنيته العالية وتوكيدها. هذا العام، وفي كل دورة سيكون يوسف شريف رزق الله، وقبله سمير فريد وعلي أبو شادي، أرواحاً تُذكَّرنا بإن السينما ككون معرفي هي حصانتنا الجماعية، وإن لا خيار أمامنا سوى صونها وتكريسها وتجديدها وتعميمها.

الدورة الحادية والأربعون هي إستمرار لرؤية رزق الله، من ناحية إنتصارها الى تنوّع دولي شبابي في المقام الأول، على حساب عناوين مهرجانية مكرَّسة، وأسماء قامات سينمائية لها ناديها الذائع الصيت هنا وهناك دولياً. مسابقتها الرسمية، التي يرأس لجنة تحكيمها كاتب السيناريو الأميركي ستيفن غيغن صاحب نصوص أفلام مثل "تهريب" (2000) لستيفن سودبيرغ و"سيريانا" (2005) من إخراجه، وهي روح المهرجان، ستجول على حكايات تقارب أمراضاً بشرية ماحقة مثل سوء الظنون والغرابات الإنسانية والحروب الضمنية ومصائب تواريخ وسير وهويات وإلتباس ثقافات وإنقلاب عزلات وهزائم سلالات، ووعود ناقصة تحاصر أبطالاً عاجزين أو مدحورين. في جديد صاحب "إيلو إيلو"، الحائز على جائزة "الكاميرا الذهب" في مهرجان كانّ السينمائي 2013، يضع السنغافوري من أصل صيني أنتوني تشين في "موسم ممطر" (103 د) الشرط العائلي الناقص كإختبار لعواطف جامحة وقيمها ومآلاتها. حكاية معلمة تُدرّس لغة الماندرين في مدرسة سنغافورية، تعاني من خيبة أمل في زيجتها وعدم قدرتها على الإنجاب، وغياب زوجها الدائم وصدوده، قبل أن يخترق طالب حياتها وإهتماماتها. تنقلب موازين البطلة الشابة ضمن تساؤل وجودي عن معاني الحب وفقدان الحنان. يهيمن هذا السؤال من باب أكثر غموضاً على نصّ الروماني آندريه جروزنيتسكي "زافيرا" (96 د) الذي يداور سرّاً يقود الى تعرّية صداقات مخترقة وغير سوية. يواجه فيه رجل الأعمال ستيفان إلتباس علاقته القديمة مع رفيقه نيك إثر وفاته المفاجئة. في كل خطوة، تتفجر أمام حيرته مصائب جارحة، يكون عليه مواجهة إستحقاقاتها مهما كلف الثمن.

على المنوال ذاته، تساوم ورطة مشابهة نجم شهير في عالم موسيقى الروك، وترتهنه الى شكوك الجميع، إثر إختفاء شريط فيديو يوثَّق ملابسات جريمة لم يرتكبها، في شريط "الرجل الودود" (84 د) للبرازيلي إيبير كارفالو، قبل أن يجول في ليل ساو باولو، حيث "يتعين عليه مواجهة شياطينه والإضطراب السياسي الحالي العاصف بالبلاد". يتجلى هذا التحدي بفرادة درامية في باكورة التشيكي ميكال هوجينور "نوع خاص من الهدوء" (96 د)، إذ يكون على الشابة ميا التي تُكلّف برعاية صبي (10 سنوات)، أن تحسم أمرها بشأن مطالب عائلته في تنفيذ مهمات بيتية غير معهودة. ترى ما هو أسبق لهذه الفتاة، عزّة النفس أم التضحية أم نكران الذات أم قوّة التحايل لصون حاجتها؟. وهو الإختيار ذاته الذي يواجهه بطل باكورة البوتاني باو تشوينينج دورجي "لونانا: ثور داخل الفصل" (109 د)، المصوّر بأكمله بكاميرة تعمل ببطاريات تُشحن بالطاقة الشمسية، حين يجد نفسه مجبوراً على الإلتحاق بالعمل معلماً في إحدى قرى الهمالايا الجبلية، تحمل أسم الشريط. ممزقاً بين إحساسه بالغبن في وجوده بمكان ناء وبعيد عن العصرنة، وبين حماسة تلاميذ يسعون جاهدين وبأي ثمن الى نيل رضاه كي يبقى معهم، يملك الشاب أوغاين حيزاً زمنياً ضيقاً كي يحسم أمره مع إقتراب موسم عواصف جليدية لا ترحم، والتي تعزل المنطقة الى أشهر طويلة. هذا النأي المكاني، يصبح رحماً ملعوناً في شريط الكولومبي ديفيد ديفيد "الحدود" (85 د) الذي تسكنه ثلاث شخصيات هي سيدة من الأنديز وزوجها وشقيقها، يعتاشون على نهب مسافرين يعبرون الحدود الملتهبة مع فنزويلا. حكايات بشر وأرض وحشية ومصائر تعصف بها سياسات لئيمة ومصالح مريضة وعنف مجاني.

يعود صاحب "كيناتاي" (2009) و"الرهينة" (2012) و"ماما روزا" (2016) المعلم الفيليبيني بيرلنته ميندوزا الى القاهرة بجديده "ميندناو" (123 د) الذي يمزج حكايتين متوازيتين. الأولى عن أم ترعى طفلها المصاب بسرطان الدماغ، فيما تصور الأخرى يوميات الزوج/ الأب وهو يخوض حرباً ضروساً ضد المتمردين. يستخدم ميندوزا الرسوم المتحركة للربط بينهما، والتعبير عن عالم طفولة يخطفه موت بطيء. تستعرض تلك الرسوم أسطورة الأخوين رجا وسليمان، اللذين يقاتلان التنينين جينتو وبولا، تورية عن حالة صراع معقد تشهده البلاد من دون أفق حل نهائي، يوقف سفك الدمّ.

عربياً، هناك أربعة أفلام تتنافس على الهرم الذهبي هي: "إحكيلي" (98 د) للمصرية ماريان خوري، وهو تسجيل ديناميكي بين المخرجة وإبنتها، يطال مفاهيم عدة سياسية وإجتماعية وعائلية. بينما يقارب اللبناني أحمد غصين في "جدار الصوت" (93 د) حرب يوليو 2006 بين حزب الله واسرائيل، لكن من زاوية سجالية تقول إن مَنْ لم ينخرط فيها فعلاً، لن تكون الحرب بالنسبة له سوى "صوت"! بطلها الشاب مروان الذي يستغل وقف مؤقت لإطلاق النار للبحث عن والده الذي رفض مغادرة قريته الجنوبية. أما مخرجة "المر والرمان" (2010)، و"عيون الحرامية" (2014) الفلسطينية نجوى نجار، فتعرض في جديدها "بين الجنة والأرض"(92 د) تداعيات سر عائلي على زوجين شابين، يسعيان الى إستكمال خطوات طلاقهما التي تتطلب سفر الرجل الى الناصرة ومحاكمها، ليكتشف ماضي والده. في حين، يمس العراقي الدانماركي علاوي سليم في باكورته "أبناء الدانمارك" (120 د) صعود التيارات المتطرفة في البلاد سواء اليمين الشعبوي أو الإسلام الراديكالي، عبر قصة تجري أحداثها في العام 2025، بطلها الشاب زكريا (19 عاماً) الذي تأمره إحدى الجماعات الإسلامية المتطرّفة بإغتيال مُرشّح يميني للانتخابات المقبلة، بسبب حملته الرافضة للمهاجرين.

من العناوين الأخرى نذكر، "الجدار الرابع" (91 د) للصينيين تشانغ تشونغ و تشانغ بو عن عزلة امرأة وجهد رفيقها في هدم جدار توحُّدها. أما الليتواني كاروليس كوبينيس فيسرد في " ليتوانيا الجديدة" (96 د) "سعي مدرس جغرافيا الى تحقيق فكرة جنونية: إقامة نسخة جديدة من الدولة تكون بمثابة مستعمرة تصلح ملجأ في حالة وقوع كوارث!". وحول أزمة وجود شخصي، يجعل المكسيكي فرناندو فرياس من الموسيقى وإبداعاتها في " أنا لم أعد هنا" (104 د) مفتاحاً وعلاجاً لليافع أوليس سامبيريو (17 عاماً) الذي يُجبر على الهجرة إلى الولايات المتحدة، إثر سوء تفاهم مع أعضاء كارتل إجرامي محلي، "تاركاً خلفه أكثر ما يميزه: عصابته وحفلات الرقص التي يعشقها كثيراً. يحاول أوليس بذل قصارى جهده للتكيف مع بلد جديد، لكنه سرعان ما يدرك أنه يفضل العودة إلى أسرته وأصدقائه في مونتيري، بدلاً من العزلة والوحدة التي يواجههما في أميركا". هذا الكرب الشخصي هو ما تواجهه السيدة خديجة بطلة فيلم "ليل مداري" (85 د) للبلجيكي باس ديفوس. بعد يوم عمل طويل، تستخدم المرأة المحجبة أخر مترو ليلي للعودة الى منزلها، لكن النعاس يغلبها، لتجد نفسها في المحطة الأخيرة، الأمر الذي يفرض عليها العودة سيراً على الأقدام. خلال رحلتها تلتقي خديجة بكائنات متنوعة المشارب والمظالم.

سينماتك في ـ  17 نوفمبر 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004