زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

مهرجان كانّ السينمائي الـ72

"تَّشارك" للأميركية بيبا بيانكو..

حينما تخذلنا الجسارات

بقلم: زياد الخزاعي

مرجعيّة عنوان باكورة الأميركية بيبا بيانكو هو "ذلك" الزرُّ الخاص الحامل لإشارة "تَّشارك" (شير) على أيّ هاتف جوال ذكي، الذي يتيح لمستخدميه تبادل الرسائل والنصوص والمقاطع المصوَّرة و...الفضائح وعارها، الدسائس وأوزاها، النَّميمة وأكاذيبها. هذه خطايا أقرب الى حماقات، يرتكبها أُناس من باب فَكِه خسيس، يدمَّر حيوات أخرين بلا طائل. خطايا يمارسها البعض بخبث إجتماعيّ للنيل من أقرانهم من باب إنتقام أو تشوّف أو إبتزاز. خطايا تتراكم مسؤولياتها من دون رادع حقيقي، نظراً الى تحايلاتها وتذاكيها على القانون، تارة من باب حذفها الألكتروني الذي يتطلب جهوداً لرصدها و"جلبها" الى العدالة. ومن أخرى، إن أبطالها جُلُّهم من قاصرين تعجز المحاكم ودوائرها على إدانتهم بإحكام قاسية، تقطع بها دابر جناياتهم وتخابثاهم.

شّريط "تَّشارك"، الذي شارك ضمن خانة "عروض خاصة" في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان كانّ السينمائي الدولي، يقارب محنة ضحية واحدة، قبل أن يعمَّم ـ درامياً ـ الضرر الذي واجهته، ويوسَّع دائرته الى إدانة أخلاقية صارخة ضد العنف الجنسي، ومستلبيّ كرامات ضحاياه. وهي في حالة فيلم بيانكو، صبية من أصول مختلطة، والدها أميركي أبيض ووالدتها من أصول أسيوية، في إشارة عرقيّة باهرة الى إن الآثام الأخلاقية لا لون لها أو سحنة أو معتقد. تفتح الفتاة ماندي عينيها (إداء قوي من الممثلة البريطانية ذات الأصول العراقية ريحانة برتو)، بعد حفلة عارمة مع زملائها في المدرسة، لتجد نفسها فجر يوم، سيتحول لاحقا الى مرارة عائلية وشخصيّة، وهي مرمية على عشب حديقة دارة والديها. المشكلة إنها لا تتذكر ما حدث لها، لكنها تكتشف كدمات على جسدها. ماندي، البالغة من العمر 16 عاماً، طالبة محبوبة من الجميع. هادئة الى حد التقوقع. كتومة الى حد العزلة، رغم حيويتها ومشاركاتها في المباريات الرياضية أو الحفلات أو النشاطات الإجتماعية. قبل ختام اليوم الدراسي، تُوزع رسالة على جميع هواتف زملائها، تتندَّر من واقعة "إغتصاب". لزيادة الإثارة، تُرفق مع شريط حيّ، يُظهر ماندي مخمورة وشبه غائبة عن الوعي، فيما يحاول فتيان من "التعرض" الى عريها، بحركات أقرب الى إعتداء جنسي جماعي وصاخب.

تتعاظم المحنة من مستوى اللا حياء الذي نال من "شرف" ماندي، وإستهدف خذلان جساراتها، ليستدعي الشريط ضميراً سينمائياً، ويضعه في خانة التشكيك بوازع أخلاقي عقيم الدوافع، وزاوية نظر قاصرة وملّتبسة الى جناة مراهقين يعبثون بقيم لا يقدَّرون أعرافها. كمنت الفطنة في نصّ المؤلفة والمخرجة بيبا بيانكو (ولدت في نيويورك عام 1988)، في إنتصار حكايتها المشدودة، ذات التفاصيل القليلة  الى التعرض الى "تجربة" ماندي بالذات، وتحولاتها من سؤال داخلي حول "ما جرى لي"، الى قرار بشأن "ما عليّ أن أفعله الأن". ذلك إننا سنتابع كل ما تتعرض له البطلة في أيامها المعدودة، قبل إتخاذها القرار المفاجيء والصادم في نهاية الشريط . فما كنا نعتبرهم حثالة بشرية سعوا الى "بطولة" آثمة، هم مخربون إجتماعيون يرتكبون رزايا لا تُغتفر بلؤم مقصود وإصرار عنيد، يساعدهم في ذلك تّستّرهم تحت رداء صبينتهم وسحن براءاتهم. أحدهم ويدعى ديلان(الممثل تشارلي بلامر)، هو الأكثر قرباً لماندي، إلا إن سذاجتها تمنعها من إكتشاف "عقدة" المتهم الحقيقي وكابوسه، وتدفعها الى توبيخ مكتوم لنفسها، نظراً لضعفها أمام شرب الكحول وثقتها المغالية بالأخرين، قبل إن تفّجره في وجه والدتها كيري (بورنا جاغاناثان) بسؤال مرير: "هل ستلومينني؟".

نصّ بيانكو هجومي، من دون صخّب. إتهامي من دون ضوضاء. ذلك إن قرار "وصمة العار" وعقوباته لن يقعا ضمن لهاث خلف معلومات وعدالة ومسؤولية وغيرها وحسب، بل عليه الخضوع إيضا الى إتزان جماعيّ، يتحاشى قصاصاً سريعاً وموتوراً (على شاكلة طرد ماندي من فريق كرة السلة الخاص بالفتيات)، ولملمة فضحية بأسرع وقت وأقل ضرر (مشهد مشادة والدها مع أب أحد المراهقين المتهمين). الى ذلك، فإن على ذلك القرار إستكشاف النقطة الأساس التي تطارد البطلة: هل تعميم الفيديو القصير الجارح هو عمل فئة أم فرد؟. كيف يحق لزميل أن يُشهَّر بأخر، عبر وسائل التواصل الإجتماعي، من دون تفكير مسبَّق بعواقبه الوخيمة على الجميع؟ هل السذاجة تطبَّع إجتماعيّ أم هي تربية خاصة أم نتاج نقص ذاتيّ؟ أي خيارات شخصية سـ"تُنحر" لصالح إحتواء الأزمة والتغلب عليها؟. أن محاكمة "وصمة العار" تجري على يد بيانكو ومديرة التصوير الحاذقة أفا بيركوفسكي ضمن عوالم مغرقة بأضوائها وألوانها، وهي توريات بصريّة شديدة التألق لتهويمات البطلة الصبية. فالمشهد الإفتتاحي مُكوَّن من تعدَّد صوري للقطات قريبة جدا (كلوز أب)، تستعرض مصابيح شوارع، ومساقط أنوارها على الأسفلت، ومثلها إرتداداتها على واجهات زجاجية لمحلات ومطاعم المدينة خلال "رحلة" ماندي من الحفلة الى حديقة المنزل. التورية جليّة لحالتها المزرية، وما سيتَّبع ذلك من حصارات تتعرَّض لها. فالضوء يتضاعف بإشكال مختلفة وإستفزازية. نشاهده وميضاً قاسياً، وهو ينطلق من ألة تحريض الذاكرة، تجلس ماندي في مواجهتها كمتهمة ومشكوك بدعواها. فيما يخبو داخل منزل الأسرة حينما تضيق البلوى عليهم، ويصبح ثقيلاً داخل غرفة ماندي وفوق دموعها. في المشهد الختامي العاصف بهدوئه، سنرى ضوءاً خارجياً واهناً يخترق غرفتها من الخارج، وهي تقرأ رسالة قصيرة ملعونة.

ما تفعله المخرجة بيبا بيانكو ومونتيرة فيلمها شيلبي سيغل في هذا المشهد هو إنتصار الى عقلانيّة ماندي التي تشعّ بدءاً من نور هاتفها الجوال الساقط على وجهها وعينيها المندهشتين، وهي تشاهد "مشاركة" ديلان معها لفيديو صوره داخل سيارته. الصاعق، إنه "يريها" فعله الدنيء، وهو يغتصبها في تلك الليلة المشؤومة. ننتظر ما ستُقدم عليه. هل ستضغط على زرّ "تَّشارك" (شير) مع الشرطة، لفضح الوحش الحقيقي ومنعه من إعادة إرتكابه جريمته مع فتاة أخرى، أم عليها الإتصال به كي تُرتب طريقة لإنتقامها الشخصي؟ فجأة، وبقرار صادم تضغط المراهقة النموذجية على زر "إلغاء" الرسالة، قبل أن ينطفىء ضوء الشاشة الكبيرة، ويعمّ الظلام فوقها، ذلك إن بيانكو/ سيغل صوبا سهمهما الضوئي المشترك على إمتداد الشريط ، وهو معالجة مطوّلة لنصّ قصير سابق (11 دقيقة)، فازت عنه المخرجة بالجائزة الأولى لمسابقة "سينفاونديشن" في الدورة الـ69 لكانّ (2015)، على مفهوم الحق وطبائع النقمة من سرقته أو الإخلال به. في حالة ماندي يصبح هذا المفهوم سؤالاً إتهامياً، مع توضح  حقيقة إن الشرطة لن تتمكن من الوصول الى الجاني وإعتقاله: هل كان الإعتداء ممكناً لولا إنها أمعنت في شرب الخمرة، وهي تحت السن القانوني؟. أكان للجاني عزيمة على فعلته لو حافظت على تماسكها ووعيها؟.

حُجَّة المشهد النهائي، إن السلوك الإجرامي لا يتطلّب من ضحيته المزيد من العذاب، بما إن العنف الجنسي وقبحه وعنفه مُدَان من قبل الجميع، وهو مُجرَّم حسب القانون والعرف والمعتقد، خصوصا في حقبتي حركة "مي تو" المتعاظمة القوّة و"العصر الرقمي" الكاسح الإستخدام، فإن إنشوطة القصاص الإعتباريّ ضد تهميش النساء الضحايا، وإلحاق العار بهن الى الأبد، يجب أن تكون جاهزة في كل مكان وفي كل لحظة، ترتكب عندها وفيها جريمة إغتصاب رجيمة.    

سينماتك في ـ  05 سبتمبر 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004