زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

مهرجان كانّ السينمائي الـ72

"حُريَّة" للكتلاني ألبرت سيّيرا..

قيامات فوضوية

بقلم: زياد الخزاعي

 

 

كل شيء مؤكّد في سينما الأسباني الكاتلاني ألبرت سيّيرا. إستدعاء التاريخ من أجل مشاكسته. الإقتراب من رموزه وأبطاله من أجل مقاربة بلاياهم. إسترداد أزمنتهم من أجل مطارحات (غير وفيّة) لخلاصات إيديولوجية وعقائدية، تعود الى حقب، نظّنّ إنها بادت، لكنها لا تخجل من تقمَّص دهورنا الحداثيّة. هذا مؤلف مجيد وشديد الطليعية من باب أفكاره السينمائية الخلّاقة، ورؤاه الجمالية المبالغ في تمايزاتها التشكيليّة. أشّرطته الروائية هي مقابلات درامية بين أُناس وأقدارهم العصيّة على إيجاد حلول نهائية وصارمة. هم أشبه بـ"سيزيفات" متعددة الوجوه، لن يتمكنوا من إيجاد السُبل لبلوغ أماكن خالقيهم كي يناشدونهم إنهاء عذاباتهم الأزلية، مثلما فشلهم في إدراك قوّاهم وعزومهم الذاتية في الإنتفاض ضد قاهريهم أو مسيَّريهم على حد سواء، وإجبارهم على إزالة عوائق قياماتهم الجديدة.

 كلّ كائنات سيّيرا أدبية النزعة. هلامية وهائمة. زمنها أقوى من ملامحها العائدة الى طبقات ملعونة ومدنَّسة وهشّة. هكذا، يتحوّل دون كيشوت في "شرف الفرسان" (2006) الى طريدة فلاحية تجوب البراري، لإقتناص بطولة خيالية، بيد إنه يستكشف بدلاً منها، بهاء طبيعة ربَّانيَّة، تزّهو بتوافقات وتكافلات مدهشة. وهي خلاصة فلسفية ستُناقض ما سينتهي اليه الملوك الثلاثة في "أغنية الطير" (2008) خلال رحلتهم الى أرض فلسطين لرؤية يسوع الوليد، حيث ينكرون واجب رسمهم لخطط عقلانية، تُسبَّق ما سيدلّهم عليه، قبل أن يقعوا في بلاهة شجار وجودي، يُدخلهم في "أرض عدم" حمقاء، يُبددون فيها حقائق إيمانهم وإستقاماتهم، رغم إعترافهم لاحقا: "أحيانا، نشعر بالرّهبة من روعة الأشياء"! .

في "حكاية موتي" (2013)، تتلّبس رحلة مشتركة لشخصيتيّ الغريزي والفوضوي الشهير/ رجل العقل كازانوفا، وأمير الظلام/ الرومانسي المطلق دراكولا نحو أرض ترانسلفانيا، روحاً مانوية خالصة، تنعى إنحسارات أنوار المخلوق الأسمى، وضعف جرأته وجلادة صبره. يتزامل البطلان حول حيوات محكومة بموتها وزوالها، ليضع كل منهما إستحقاقات رحيله المقبل، عبر قطبين باهرين هما الضوء(المُشخَّص بشموع وحرائق) والظلام(المُميَّز بعتمة غابات وحشية)، يصبح تعارضهما عنواناً مشتركاً لولادات متعاقبة ومفعمة بالحيوية، تُنتج من تعفنات وإضمحلالات ذات صبغتين قدرية ولازمة. يعود هذا الإندثار في شّريط "موت لويس الرابع عشر" (2016) كبطل أساسي ضمن حكاية ذات بُعد درامي أحادي، تدور يومياتها المكرورة حول الرقدة السريرية الأخيرة للعاهل الفرنسي الملقب بـ"الملك الشمس". ينتظر الجميع رحيله بيد إن لوعتهم الكبرى، تكمن ـ حسب رؤية سيّيرا ـ في حقيقة إن زمنهم يعلن بشماتة عن إنطفائه. إن خاتمة السطوة لا علاقة لها برجل يتفسَّخ، بل بفشلها في سحق عدوها، المتمثل في حالة البطل المُحْتَضَر، بموت مقبل لا راد له.

تتوالد هذه العاقبة مرة أخرى في جديد سيّيرا"حُريَّة"، الحائز على جائزة لجنة التحكيم لتظاهرة "نظرة ما"، برئاسة اللبنانية نادين لبكي، في الدورة الـ 72 (14 ـ 25 مايو 2019) لمهرجان كانّ السينمائي الدولي، لتحتضن زمرة من "الأناركيين" الهاربين، بقيادة الدوقة دي فالسلاي (الممثلة أنغريد كافين)، من جور بلاط الملك لويس السادس عشر في العام 1774، قبيل إندلاع الثورة الفرنسية بقليل، الى غابات ألمانيا وبريَّتها، إثر إتهامهم بالفُسُوق والإنحطاط والتخابث الأخلاقي. هؤلاء خوارج طبقيون "ليبرتاريون" (ينعتهم الفرنسيون "أرستقراطيو لوش")، رفضتهم أخلاقيات متجذّرة ومحكومة بإعراف ومنظومات قيّم، فيما رأوا فيها تسلطاً وعدماً، لإنها ببساطة ضد حرية فردية يعتبرونها هدفاً سياسياً سامياً، ينشط ضمن نطاق عدالة إجتماعية وإتحادات طوعية. لجؤهم الى غابات منطقة بودستامر قرب برلين، جاء بعد حصولهم على دعم من "رفيقهم" (والراوي الرئيس لفيلم سيّيرا) المدعو دوق دي فالشن(الممثل النمسوي هيلموت بيرغر)، ما يعطي الإنتباه الى واقع تضامن فرقهم أوروبياً، وقوّة المقامات السياسية التي يتمتعون بها.

تصبح الغابة التي صورها الإسباني أرتور تورت بفتنة دقيقة التفاصيل، زاهية الألوان، غامضة الظلال، أقرب الى مسرح شاسع ومعقّد ودموي، تُستعرض فوق خشبته وبين أكماتها (تماما كما عُرضت على مسرح فولكسونا ببرلين في عام 2018)، ضروباً من النزعات الجنسية "الفيتش"، التي تصل في أحايين كثيرة الى ممارسة ما هو أشد قرفاً في العرف الإنساني ضد جسد بشري، ذكراً كان أم أنثى. إن مواقعاتهم المختلطة التي تحدث في أي بقعة متاحة، وفي زمن لا يرتبط سوى بتوقيت الشهوات، تصبح فجأة أفعالاً عدائية وإستحواذية، ذلك إن الحُريّة المطلقة للرغبات، تدفع أرستقراطيها نحو تجربة كل ما هو شاذ، وغير قابل للتكرار أوالتقليد. بما أن عدد الفاعلين لا يتغير، فيما حدود المتعة الجسدية مُشرعة على إحتمالات تجريب لا عد لها، يكون أمام الجميع التضحية ببعضهم، في مداورة درامية وحشية، لا ينطقون خلال زمن عرضها الطويل البالغ 132 دقيقة بكلمة حب واحدة، بل نسمع وفرة من الحكايات واللغو والتهويمات، مثلما نرى الكثير من تلصَّصهم على بعض خلال حفلات الجماع، أو نشهد عدداً من الأفعال السادية، بسبب فشل رجل في مضاهاة الإنحراف الجنسي لرفيقته.

 تتصدّع هذه اليوتوبيا المعزولة لإنها "أرض عدم"، تأسست من أجل نيّة طوعيّة، لكنها تنتهي الى تأسيس سطوات مميتة، تقودهم جميعا نحو مقبرة رمزية، يلفّها الظلام والتعفَّن والغياب. يضع سيّيرا (ولد عام 1975) حُريّته السينمائية في مطلق صوري لا مثيل في جرأته وثباته و...فوضويته الإيديولوجية. إن شّريطه المتناغم الى حد فاتن، يخفي تحت طيات جيلان كاميرته بين أفعال شائنة، ما هو أكثر من صدم مشاهده بصور فاحشة، لإنه معني بالتعرض الى رؤية فلسفية تواجه إضمحلالها الطبيعي والمحتوم، كونها قامت على نفاق حاد، وتبرير خاطيء لإنتهاك الفضائل، يشير اليها في نهاية عمله بحكمة لئيمة، تقول: "كل ما هو عرضة للتغيير قابل للزوال".

سينماتك في ـ  29 أغسطس 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004