زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"نائب الرئيس" للأميركي أدم ماكي..

شيطان الأوليغارشية الرجيمة

بقلم: زياد الخزاعي

 

 
   

شريط ذو نزوع ديالكتيكي. يشيد حكايته ضمن تراتب سردي مضفور، يُستهل بوثيقة متلّفزة، وينتهي بإفلمة حياة قائمة على السطوة وشهواتها، قبل ان يقارب تسطيراً أيديولوجياً مقنناً، يستهدف أوليغارشية رجيمة وشياطينها المتوحشة والصاعدة في فلك ديموقراطي غربي، التي لا ترى موجباً يدفعها الى تبرير غزواتها لأمم عريقة وإحتلالها، ونهب خيراتها، ومحق نسيجها الإجتماعي وتنوعاته الفريدة. فيلم "نائب الرئيس"(132 د) مصنوع  بصدامية عقلانية مع مشاهد عقائدي لا يرهن قيمه وإيمانه الى محاججات عابرة أو بذرائع ناقصة. مشاهد يحرص على صون قرائنه ضد تزييف ماكر أو إملاء متعمد. جديد صاحب "بيغ شورت"(2015)، والمصطلح معني بمضاربات إقتصادية تنتهي بعجز كبير، جرت تفاصيلها خلال الأزمة المالية عام 2008، هو قول سينمائي تأليبي، يُراكم إدانات، بمسوغات متوازنة، ضد أشد الضراوات السياسية التي تمكنت، بمكر مستحكم، من إختراق مواقع حساسة في إدارة القرار الأميركي وصناعته، وخطفت مراكز قرار كوني بخفَّة إبليسية. وأسست نظاماً تدميرياً بمناورات شايلوكية، إستمهلت أعداء، وأغوت عَنُودين، وثمّنت مردة، وساندت طغاة وبرّرت لعناتهم. 

هذه قصة دِك تشيني(إداء قوي من البريطاني كريستيان بيل، الحائز على جائزة أفضل ممثل في "الغولدن غلوب" 2019، والمرشح للخانة ذاتها في جوائز "الأوسكار" الـ91) منذ رعونة شبابه وحتى هجرانه المناصب، وتحصّنه خلف ستاره العائلي، وإنتباذه الصُحُبات. رجل مموّه التخمينات. كائن مشفَّر وجاف. طالب فاشل في دراسته بجامعة ييل رغم عناد زوجته لين فنسنت(أمي أدمز) في تصحيح مساره. أب ميال للتفرد والإنزواء والجلافة. شديد الطموح من دون غلو. حركي وعدواني من دون لفت إنتباه. قانص فرص من دون أعباء. انه إنموذج أمثل لسياسي ريفي قليل القيمة، يعتمد على فراساته أكثر من مناوراته، ينطبق عليه قول بليغ لمجهول، يورده المخرج ماكي، في مفتتح فيلمه، كتأويل مسبّق: "احذر الرجل الكتوم، فحينما يتكلم الأخرون، هو ينشط. وحينما ينكبون على العمل، هو يخطط. وحينما يهجعون، يهاجم".

عليه، يقدم النصّ تشيني منذ طيشه الأول، ثملاً مع زمرته، صارخاً بجنون، لكسبه رهان قماره في بلدة كاسبار التابعة لولاية وايومنغ الغربية عام 1963. نقابل رعونة شاب عشريني، قليل الحيلة، يغطي خساراته ونزقه بالكحول والعطالة والعنف. حينما تهدده حبيبته بالفراق، لإنها لا تخطط  للزواج من "متشرد قذر" مثله، إتُهم مراراً بسياقة سيارته تحت تأثير الكحول، يخرس تشيني بعد وعده لها: "لن أخيب أملك بيّ"، حتى نراه في قفزة مونتاجية باهرة، مرتدياً طلّة موظف حكومي، في تلك الصبيحة المشؤومة لـ"غزوة نيويورك"(2001)،  خاضعاً لفريق حمايته، وهم يقودونه الى داخل "مركز عمليات الطواريء الرئاسية"، كي "يقطف" فرصته النادرة من بين حيرة موظفين ساميين ووجلهم وشكوكهم، وهم تحت تأثير حادث جلل غير مسبوق. خادع إبن نبراسكا الجميع بصمته الثقيل ما بين الأعوام 1975 وحتى 2009، وتلّبس رداء طاغية، ممهداً القناعات بإنه الأعقل في تسلم "شبه" سلطة مطلقة وقراراتها وصلاحياتها من رئيس أحمق، وهو الفطنة المتخفّية تحت غطاء كثيف من المعايير المحافظة لإمبريالي إنجيليكي تتفجر، من دون مقدمات، بأفعال قسوة ماحقة ، كما في مشهد إطلاقه الرصاص بدم بارد على أحد رفاقه خلال رحلة صيد، وهو أيضا التاجر العارف بخطايا الرّب الذي أعطى أغراباً همجيين ثروات لا يستحقونها، كما في إشرافه على نشاطات شركة هاليبرتون لخدمات الطاقة. وهو الممتثل الى إرادات سماوية وتكليفاتها بردع المخاطر عن أمة الأباء المؤسسين، كما في تنسيقه المباشر للحملة على الإرهاب، وتنظيم العمليات الغادرة في تنصت وكالة الأمن القومي (أن سي أي) على الرعايا الأميركيين، والأساليب الإجرامية التي مورست خلال جلسات الإستجواب المعزز السيئة الصيت في السجون السرية.

"نائب الرئيس" ليس سيرة ذاتية سينمائية، على شاكلة ما قام به مواطنه أوليفر ستون في "دبليو"(2008)، لذا لن يعول عليها كمرجعية تفصيلية، والجليّ ان ماكي لم ينشدها(أقتبس عمله من كتابين للصحافيين جين ماير وبارتون غليمان). الحقّ أنها قائمة حقائق سياسية كثيرة، وخفايا يعرفها الجميع، وهي متوافرة في مراجع عديدة، كُتبت هنا بنفس تراجيدي ـ كوميدي ذي فيوض إستعراضية  شبه توثيقية. يربط بينها راو شاب يدعى كيرت(جسي بلمنز)، يمثل روح مواطن عادي، بنزعته الشخصية و"نضاله" اليومي في صون عائلته الصغيرة وأمانها اليومي. يوصف الشاب ما ينتقيه هو من حياة تشيني. يعلق عليها تارة، ويدخل في مشهدياتها تارات أخرى(منها ما هو خيالي يتعلق بنقل قلبه الشاب بعد موته في حادث الى صدر تشيني!). ذلك انه كضمير سينمائي يتحتم عليه ان "يحطم" أوهام جدار سينمائي رابع. ويضمن للمشاهد الحق في التهكم على تتابع حياة رجل "غير مسارات تاريخ ملايين من البشر، محققاً ذلك كشبح. لا يعرف الكثيرون مَنْ هو، أو من أين أتى". عليه، نتابع صعود تشيني في مشاهد، وإنهيار عالمه في أخرى خلال دقائق معدودات. نلم بشخصيات سياسية دارت ضمن فلكه، من قائده الرئيس جورج دبليو بوش(سام روكويل) الى عرابه دونالد رامسفيلد(ستيف كاريل) الذي علمه الحقائق الثلاث الذهبية: "أغلق فمك. نفذ ما يطلب منك. حافظ على ولائك دائما"، إلا أن الجرم الوحيد المشعّ  في كون تشيني هو تشيني نفسه، الذي لن يتوانى من التجسس على صلاحيات الرئيس. أن يضمن مكتباً خاصاً له في كل إدارة حساسة وأروقتها. أن يقارع الموت، المتمثل بذبحات قلبه المتكررة لخمس مرّات، بعزم إله الظلام هيديس، لإن جموحه يحفز كيانه على البقاء حياً، لإغتنام المزيد من العظمة، حتى لو كان على حساب قيمه العائلية ، رغم تفانيه المطلق لأفرادها، كما في موقفه من زواج المثليين، بسبب إبنته ماري وشذوذها!، وهو ما يفسر تلك الحوارية الإستعارية من مسرحية "ماكبث" شكسبير بين تشيني وزوجته، وتأمرهما الرمزي لنيل السطوات مهما كانت عواقبها وأثمانها. 

سعى ماكي الى جعل متفرجه شريكاً في سياقات لعبته الفيلمية، فمرّة يحرضه على أخذ بعض الفصول على محمل النكتة، خصوصا تفاصيل المناورات الميكافيلية ودسائسها بين الثلاثي تشيني ورامسفيلد وهنري كيسنجر. وفي أخرى، يجعله شاهداً غاضباً على ذلك التياسر المفجع في أخذ قرارات مصيرية لسفك الدم، مثل غزو العراق، التي تتم عبر جمل لا تتجاوز أصابع اليد. ان كافة الشخصيات التاريخية هنا تصبح على يد المخرج أدم ماكي وفريقه تكميلات كاريكاتورية لمفهوم التآمر(كما في المشهد الفاقع حين يسعى فريق تشيني الى إقناع وزير الدفاع آنذاك كولن باول بالكذب على الكونغرس بشأن أسلحة الدمار الشامل لدى نظام صدام حسين)، وما على مشاهدها سوى التمعن حقاً في عالم مشحون بالإزدراء والتخابث والشر والبغي. ففي مشهد لماح، يسأل تشيني مثاله السياسي رامسفيلد: "ما الذي نؤمن به حقاً؟"، لينفجر الأخير بضحكة مجللة، صافقاً باب مكتبه في الكابيتول في وجهه. فالجواب يأتي لتشيني لاحقا حينما يمسك بـ"عصا موساه"، ويضربها في أرض قرارات صعبة، تحتاج الى رجل فائق القدرة على الخداع مثله، وبإمكانيات لا تضارع في إخفاء الخطايا تحت سواتر حيل متقنة. في المشهد الختامي، ينظر تشيني الى كاميرة مدير التصوير غريغ فريزر، ويقول مباشرة: "لقد أخترتموني أنتم. وفعلت ما طلبتموه مني". أن الدم على يديه لن يُشعره بالعار مطلقاً. أما الأخرون فليبقوا رهن غباءاتهم، وصراعهم المديد في خطف السلطة والقوة والثروات من بعضهم الأخر حتى قيام الساعة.

سينماتك في ـ  20 يناير 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2019)