زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

"كتاب أخضر" للأميركي بيتر فاريللي..

تنميط متباسط لعرقية متغولّة

بقلم: زياد الخزاعي

 

 
   

رغم أريحيّته الدرامية، وتهكم غمزاته المسيّسة، يبقى شريط الأميركي بيتر فاريللي "كتاب أخضر" محكوماً بأفخاخ خطاب عرقي مغرق بعدائياته، ومثلها إرتباكات عدالة إجتماعية مهددة على الدوام، أوما يدور بإسمهما من فظاعات ومهانات وخسات إنسانية. عمل لا يدعي الكثير من المواقف بقدر مقاربته ما هو منطقي من أعراف إجتماعية وأُسرية، وما ينتمي منها الى شارع شعبوي، بلونين لن يكملا بعضهما الأخر: أبيض ضد أسود. يضع "كتاب أخضر" الحائز على جائزة أفضل فيلم درامي في جوائز "الغولدن غلوب" 2019، وبإخلاص إيديولوجي، ثيمته الأساسية(الصداقة) في منطقة "الما بين الدرامي"، أي تلك التي تحصرنا ضمن فلك إعتباري، يؤمن بأننا جميعا عصاة ضد أخلاق الجماعة، حينما نشعر ان مواقع مَحْتِدنا وتسيّده مهددة، أو على الأقل تجابه مزاحمات غير منصفة من قبل بشر أقل شؤوا منا، لنهرع من دون تردد مستنجدين بحصانات تعالينا الجنسي وأسبقياته. عليه فان بطليّ فاريللي يشكّلان قطبين أزلين لخطيئة "الأبارتيد" تلك، بوجوهها المتحزّبة والتحقيرية والإقصائية والتدميرية، رغم إن جميع مَنْ يمارس جوره العنصري ضد الأخر، هم بلا إستثناء غرباء تواجدوا في أرض الدولار المجيد كل حسب قدره، فالموسيقي الأفرو أميركي الدكتور دون شيرلي(الممثل مهراشالا علي، جائزة أفضل ممثل مساعد في خانة الدراما بجوائز "الغولدن غلوب" 2019)، يمثل تبعات إرث إستعبادي طويل. يعيش اليوم، في نيويورك عام 1962، تحدياً لسياساته، حينما تقرر إدارة أعماله توجهه الى عمق الولايات الجنوبية، لتنظيم حفلات عزف موسيقى جاز خلال مواسم الأعياد المسيحية، ويكون عليه ان يتصدى لممارسات عرقية بغيضة، ما زالت سائدة في ولايات العبودية الأولى، يرافقه سائقه ومساعده وحاميه، وهو رجل أبيض مفتول العضلات من إصول إيطالية وضيعة، يملك من حيل أهل برونكس الشعبي الكثير، يدعى توني ليب فاليلونغا (فيغو مورتينسن) شعاره: "العالم يعج بإناس متوحّدين، ينتظرون القيام بخطوة أولى"، وهي إشارة الى إغتنامه الفرص والتَمَاكُر.

الرجلان هما جزء من حكاية حقيقية، داورت فصولها ـ كالعادة ـ حول لقاء متعجرف، ينتهي الى صداقة عائلية، وشراكة عمل تمتد من أوائل حقبة الستينات وحتى وفاتهما قبل أعوام قليلة. إكتشف منتج الفيلم وكاتب السيناريو نيك فاليلونغا(بمشاركة كل من المخرج فاريللي وبراين هايز كوري) تفاصيلها، من بين ما ورثه عن والده توني من وثائق وأشرطة سينمائية عائلية، واجداً فيها ثيمة متألقة لزمالة غريبة، إنتصرت الى إنسانيتها وآصرتها العاطفية، متجاهلة إختلاف السحن والأعراف والطبائع. ركيزة النصّ، التي يحملها عنوان الشريط، تعود الى دليل معلومات خاص بـ"الزنوج"، عنوانه "الكتاب الأخضر للمسافرين النيغرو"(1936 ـ 1964)(والأخيرة مَسَبّة تُطلق على أصحاب البشرة السمراء في الولايات المتحدة) كتبه ونشره فيكتور هوغو غرين(1892 ـ 1960) كمرشد لأسماء الفنادق التي تستقبلهم وعناوينها، أو المطاعم والمقاصف التي تضيفهم ومواقعها، وأيضا يمدهم بمعلومات ضرورية لتجنب العقبات الإجتماعية السائدة خلال فترة "شرائع جيم كرو" الشديدة العنصرية التي شُرّعت في نهايات القرن الـ19. والأسم الأخير يُنسب إلى أغنية "إقفز يا جيم كرو"، وهي إهزوجة ورقصة كاريكاتيرية تسخر من السود الأميركيين، أداها الممثل الأبيض رايس توماس، وظهرت للمرة الأولى عام 1832. هذه المعلومات ضرورية وكفيلة بقيادة مشاهد الفيلم الى مغازي اللقاء الأول بين دون وتوني، ذلك ان صاحب الأشرطة القليلة القيمة مثل "الغبي والأكثر غباء"(1994) و"شيء ما بشأن ماري"(1998) لن يشرح خلفية الدليل الذي سيقود الإيطالي الى معارك شخصية مع كيانات شديدة البياض(مثله) لن ترتضي بـ"مزج" أسود عابر مع أفرادها، رغم كونه ضيفاً مرموقاً. إن الحد العرقي هو ما لا يجب إختراقه أو تجاوزه، مع أن رحلات الثنائي، خلال الدقائق الـ130 مدّة الشريط، الى عمق دلتا المسيسيبي هي في حد ذاتها نفاذ الى عقلية حقودة، تحتم تعقيداتها الى تحفيز النباهة المغيّبة لدى توني بشأن عنصريته الشخصية التي نقابلها في مفتتح الفيلم، حينما يرمي بكأسين في سلة قمامة منزله، بعد ان راقب زوجته دولوريس(ليندا كارديلليني)، تقدمهما الى عاملين زنجيين كي يرويا عطشهما. ترى ما الذي يجمع بين دون وتوني؟ في الوهلة، تبدو المراوحة بين صفقة عمل، بالنسبة للثاني الذي يواجه عطالة عمل طارئة، وبين حاجة الأول الى حماية مبطنة معقولة لكنها شديدة البطش، كونه يعي خطورة رحلته، تنقلب ركائزها في نهاية المطاف لتصل الى فردوس عِشْرَة رومانسية النزعة بين أسرتين متناقضتين. الأولى، لآل فاليلونغا المفعمة بالحياة والصخب والمناكفات والمائدة العامرة. الأخرى، لدون الذي يعيش وحيداً ومنعزلاً إلا من خادم أسيوي. تحيط به إكسسوارات أفريقيته الناقصة، التي يشرف عليها من على عرش فخم يجلس عليه حينما يقابل "أجيره" للمرة الأولى، مرتدياً زيّاً تقليدياً، يوكد فيه إنتماء ملّتبساً الى غيتو شخصي، ينتظر فكاكه المرتقب نحو جماعية عقائدية، تغمز الى شعار أوبامي(نسبة للرئيس السابق) صاخب أصرّ آنذاك على "كلنا أميركا"، ومع ذلك لم يحقق إختراقاته السياسية البتة. أن ما يجمع دون/ توني ببساطة هو صحوة ضمير، تختزلها حكمة العازف الأسود وقوله: "لن يكفي ان تكون عبقرياً، فالأمر يتطلب شجاعة لتغيير قلوب الناس".

 "كتاب أخضر"، الذي أُختير كفيلم إفتتاح للدورة الـ40 (20 ـ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2018) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، متباسط في طروحاته، شديد التقليدية في بنائه الفني. لن يدعي تمايز ثيمته، فهو يسير على منوال هوس هوليوودي كثير العناوين في ما يتعلق بالثنائيات العرقية وإلتباساتها ومخاطرها وأزليتها. تارات يتفاخر (الهوس)بها، كما في النصّ السجالي للمعلّم  د. دبليو. غريفيث "مولد أمة"(1914)، حيث تُزكي الرسالة الإنجيلية مواطنها الأبيض، من دون غيره، كي "يؤسس" إمبراطوية إلهية ماحقة القدرات، مُكلفة بقيادة كوننا، وأخريات يتمازح معها، كما في النصّ الكوميدي لبروس بيرسفورد "توصيل السيدة ديزي"(1989)، حيث تصبح المناكفات الإجتماعية حول بطلين عجوزين، هما سيدة بيضاء يهودية وسائقها "الملون"، عنواناً إستفزازياً يُعلن ان معاداة السامية والعرقية سُبّة جماعية، ومرات من أجل تخويف مشاهده بها، كما في العمل الباهر لجوردن بيل "أهرب"(2017)، حيث يُستهدف الذكر الزنجي بفحولته من قبل عائلة بيضاء، تُكلف إبنتها الحسناء للإيقاع بشباب سود، قبل ان يخضعوا الى عمليات جراحية بغية سرقة أعضائهم، وتعويض مواطنين بيض تعرضوا للعطب الجسدي!، مروراً بفكرة القدر المزدوج الذي لا فكاك من قيوده الأزلية بين عرقين، كما في العمل التحريضي لستانلي كريمر "المتحدان"(1958)، حيث يتحوّل القيد الذي يربط معصميّ مجرمين هاربين أحدهما أبيض (توني كيرتس)والأخر أسود(سيدني بواتييه) الى ميثاق ضمني لمواجهة سلطة لا تفرق بينهما، ولن ترحمهما في نهاية المطاف. في المقابل، يعلن "كتاب أخضر" عن عقيدته المرتكزة على مصالحات إجتماعية عابرة، بإعتبارها سداّ للذرائع، سواء العنصرية منها أو الطبقية. فشخصية دون التي تمتاز برقيها الأخلاقي وأنفتها وطلّتها الأرستقراطية، تعتمد على رجل شوارعي عنيف لا يساوم، لتحقيق جزءاً يسيراً من قبول مجتمعي للونه، وليس لموهبته. من هنا فان رحلته الى الجنوب، هي في وجهها الميثيولوجي قريبة الشبه بنظيرتها التي قام بها أورفيوس الى العالم السفلي، بحثا عن روح زوجته يوريديس، بيد ان ما نقب عنه الموسيقي الزنجي هو ألفة عائلية مغيّبة في حياته، يقابلها لاحقا ضمن مشهد أخير مفعم بالعاطفة والحنية، في دارة رفيقه توني، عبر السيدة دولوريس الممتّنة لبادرته في "تصحيح رسائل زوجها لها". فيلم فاريللي يداور تحنُّنه السينمائي على شخصياته بكم وافر من الأحداث، تبدأ بقاعة مقصف كوباكبانا الشهير، وتنتهي بموتيفات درامية تركز على دنوّ الثنائي دون/توني من ألفتهما ووفائهما، اللتين ستدومان حتى رحيلهما عن عالمنا المليء بالرزايا، وبعواقب عنصريات لن تكف عن تغولّها.

سينماتك في ـ  14 يناير 2019

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)