زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

Godland

"أرض الرَّب" للأيسلندي هلينور بالماسون... الشّريط المسموم المُذهل

بقلم: زياد الخزاعي

 
 

"لا يَنْتَسِب الإنسان الى أرض لا موتى له تحت ترابها"

غابرييل غارسيا ماركيز

(1924 ـ 2014)

 

شريط مسموم ومُذهل وأصيل. لا يساوم بشأن ريباتنا وموت إيمان البشر الفانين على أرض الله. منها، لن يملك الإنسان شيئاً. فوقها، لن يحوز على وجود أزلي. المَنُون قانون ينتهي بالجسد الى تلاش حتمي. وحده التراب يحتضنه (أو يستضيفه) الى فترة وجيزة قبل أن يضمحل الى الأبد. تشعّ الإشارات الوجوديَّة هذه منذ اللقطة الإفتتاحيّة للفيلم الثالث للأيسلندي الموهوب هلينور بالماسون "أرض الرَّب" (143 د) حيث البريَّة وسماواتها وكائناتها وألوانها وتحوَّل فصولها، عناوين في مديح قوَّة الخالق ومهابة أقداره. أذن، مَنْ نحن؟. حسب صاحب "أخوّة شتويون" (2017) لسنا سوى "صورة" سالبة سريعة العطب والمحو لحياة زاخرة بالعنفوان والمغامرة والمراهنة على جدوى العيش والتَّناسل والحب والتَّناصر والقبول بـ"خطَّة الله" في ترتيب طاعاتنا لطبيعة ذات قانون منظَّم وغير قابل للإختراق أوالتَّحايل.

هذا ليس فيلماً دينيّاً أو عقائديّاً. إنه تفرَّس سينمائيّ وفلسفيّ في مقاصد البشر حين يواجهون المشورة وسؤالها بشأن دِّيمومتهم الى أطول فترة ممكنة. حين يُكلّف الكاهن اللوثري الدنماركي لوكاس (إليوت غروست هوف) من قبل كنيسته في القرن التاسع عشر، بمهمّة عبور أرض قطبيَّة قاسية وخاوية، وصولاً حتى حافّة نهائيّة لجزيرة أيسلندا التي كانت مستعمرة دنماركية أنذاك، قائداً لفريق مؤمن من أجل بناء إرسالية لرعايا غرباء، يخاطبون خالقهم عبر الحفاظ على ممتلكاته، وصون طبيعته، والذّود عن شروطها وتناوب مواسمها، يكتشف البطل الشاب أن هؤلاء بشراً لم تدنَّسهم دولة أو قانون عسف أو قهر سلطة. رعاة وصيادون ذوو أجساد مرصوصة ومعضلة، بدائيون في عيشهم لكنهم على درجة عالية من رقّي مجتمعيّ، يُنظّم علاقات عائلات من جنس أوروبيّ أبيض خالص الجينات والدمّ "يملكون خبرات عمرها قرون، يتعاملون عبرها مع طقس قطبيّ وأنهار وكتل جليديّة" كما يخبره أسقف أبرشيّته ضمن محاولة إعداده مسبّقاً لإيّ مواجهة محتملة في جحيم أرضي مصنوع من قُرّ وبِيل.

يقابلهم لوكاس بعد رحلة يوليسيسيَّة مضنية وخطرة، تمتحن عناده وجزعه وحماقاته كروح يافعة وهشة، تسعى الى مراضاة سنن ثيقراطيّة ألزمته تنفيذ مهمّة كولونياليَّة دينيّة مقدَّسة. هو، صورة لجبروت مدينيّ يتفاجأ بتناسل هذه الأقوام رغم صعوبة البيئة من حولهم، ويغتاظ من أسلوب إيمانهم الفطريّ بكون بهيّ ومفتوح الأصقاع، ينظّمه ربّ غامض لديه مزاميره الخاصة. تتحصَّن إمبرياليّة لوكاس بـ"الوثيقة"، وهي هنا كاميرا فوتوغرافيَّة بدائيَّة، مفوَّضة بالتقاط لوحات ضوئية لأرض الرَّب وتضاريسها وكائناتها، والإعلان عبرها عن حق إستعمارها وإستغلالها وربطها عنوة بمركز حاكم كنسيّ لا يخشى المسافة القصيَّة بينه وعوالم سكانها وإحتياجاتهم وحرياتهم وخياراتهم.

يحمل لوكاس عدَّته الغريبة كنخّاس محروساً بصليب خشبيّ عملاق، هو نذير وبشارة في آن، يمهد لتبشيريَّة وحشيَّة لن توقّفها موانع أو إرادات تشكّك بطلته الطفوليّة. تصبح حالة هيجاناته وتوتّراته المتناوبة، حين يوقفه نهر جارف أو يعرقل واد سحيق مسيرته أو يهدّد شق أرضيّ تقدّمه، أقرب الى قرابين مقدَّسة، عليها إجتراح معجزات ترسم درب يسوعيته مهما كلَّف الثّمن، صورتها ماريا فون هاوسفولف بأبهة وإحتفاء مرئيين لسكونيَّة جغرافيَّة جرداء رغم براكينها وخَبثها المتناثر على مدّ البصر، وشعاب جبال تتفاخر بعدائيَّتها، وأراض سكنيَّة تدعو للحسرة لصغر مساحاتها وشظف العيش فوقها.

هذا الشّاب ليس أهْلا للمهمة لكن إختياره كان محسوباً. فنزقه سلاح فاعل ضدّ مظنَّات الأخرين (وجميعهم من الذكور) ورهانهم على إنكساره، منهم الأيسلندي رانجار (أنغفار سيغوروسون) الذي يقود القافلة عبر فيافي جليديّة مترامية كمرشد محترف ومضمون، ويرى في لوكاس وشخصيته عنجهيَّة مستعمر، أمامها خياران أما الموت أو الغدر. يختار القسّ الثانية بالضَّرورة.

اللافت في المقاطع الأولى للرحلة، إحتفاء المخرج بالماسون بجماعيَّة الفريق المحليّ ضد عزلة وافد يرى المواطن الأيسلندي مشروع نكايات وتآمرات، نظراً للا تحضره وجلافته ودونيَّته. يتحمّس لوكاس الى يقينه مزيحاً تحذيرات رئيسه من أنّ ضوء شمس منتصف الليل لا يغرب قد يحفّز شياطين رأسه، وأنّ غازات كريهة تنبعث من أفواه أرضيّة قد تسمّم روحه قبل جسده، وأنّ أيّام صيف مديدة قد تجهد قواه وعزومه "من السهل أن تصاب بالجنون هناك"، يصرّ الأسقف العجوز وهما مجتمعان عند طاولة غداء في كوبنهاغن.

 
 

نتابع رحلته بمشاهد مذهلة، مصوّرة بنسبة أكاديميّة ضيّقة 1:1:33 ذات زوايا محدَّبة، تستلف روح ألواحه الفوتوغرافيَّة (هناك أشارة الى أن الفيلم مستوحى من سبع صور تاريخيّة، تبقَّت من مجموعة إلتقطها كاهن دنماركيّ خلال جيلانه عبر الساحل الجنوبشرقي للجزيرة). تتعاظم حصارات لوكاس لأنّه يغفل عدم إنتسابه الى هذه الأرض. شاب عابر يصوّر بهوس صامت كل ما تقع عليه عيناه، لكنه ينكر أجنبيته وكونه خصماً للأنفس التي تقدّس أرضها وميراثها وذرّيَّاتها. ما يصرّ عليه، في قناعاته، أنّه كمبعوث لن يختلف عن أولئك الرُّسل المبجَّلين الذين جالوا من أجل الدّعوة، وقضوا كرجال مستوحدين وملامين وملعونين.

يذكّرنا المخرج بالماسون ضمن مونتاج إيقاعيّ مرئيّ بتوحّد بطله ونهايته المحتومة، عبر لقطات فوتوغرافيَّة مصوَّرة من علو لأجثاث حيوانات متفسّخة مرميَّة في عراءات باهرة الجمال، نعود اليها في تذكّر مدروس (أوّلها لجثَّة حصان صوّرت على مدى عامين) مع تصاعد محنة لوكاس وعدوانيَّته، نراها وهي في أخر مراحل تحلُّلها التَّدريجيّ. حين يتوَّرط الكاهن بموت المرشد المشهود بحدسه المدهش لمجاري الأنهر وفداحة تغيّر تيّاراتها، وبقدراته الخفيَّة على تطويع خيوله التي يعاملها ككائنات سماويَّة مبجَّلة، نعرف أنّ تقواه أصبحت إثماً يقوده حتما الى فاجعة ختاميّة ملئية بالدَّم.

تُذكر هذه اللَّمحة الشّخصية لبطل "أرض الرَّب" بذلك التّكليف الملتبس الذي يورّط المصور الفوتوغرافي بيدرو (ألفريدو كاسترو) في  شريط التشيلي الإسباني ثيو كورت "أبيض على أبيض" (2019) في جرائم مستوطنين بيض في مفتتح القرن الـ19، يصوّرهم بكاميرا بدائيّة وهم يحصون أعداد الآذان البشريَّة التي قطعوها من رؤوس السكّان الأصليين. يأثم بيدرو بسبب صمته الذي يتجاوز حدود إرادته الى أن يصبح تواطؤاً مريراً، فيما يجعل عجز تعلّم اللغة الإيسلندية والتّعامل مع أهلها من لوكاس رجلاً أعجم (أقصى ما تعلمه هو مفردات المطر على يد مترجم يلقي حتفه بمأساويّة وثمن بخس)، يستخدم بكمه وسيلة تكبُّر عرقي واستهانة لكرامات من حوله، من هنا يُفهم الدّافع الحقيقيّ لقرار المخرج بالماسون في تسمية شريطه بعنوانين مختلفين. بيدرو/ لوكاس ثنائي نموذجيّ صارخ لفراغ أخلاقيّ، يُسقط إنسانيَّتهما ودوافع وجودهما في أرضين مجهولتين. ينتهي الأول هائماً بين الجثث، فيما يصبح الثاني جسداً ميّتاَ يتفسَّخ وسط الصخور حين يفشل في التّكييف مع محيط غليظ وجهم، علاماته ديدان تنخر لحما ميتاً أو تعتاش على روث خيول عابرة، وبراكين تطلق حمماً تكتسح غبراء نساها خالقها منذ دهور، وأنهار ترتفع مستويات مياهها من دون سابق إنذار. أنّ اللقطات التي ينجزها القسّ تسجّل أوجه حيوات لا تثير حماسته، ولن ترغم أيمانه بأنها جزء من ملكوت الله، والسبب إصراره على تعاليه ونفوره وعنصريَّته، وهوسه المريض في إتمام تكليفه ببناء صرح إستعماره الدينيّ.

يمارس لوكاس رياضاته وسط بيئة ساحرة العناصر بيد أنّه "يتكلَّس" كجسد حين يدخل بيت مستوطن دنماركيّ في المقطع الثاني للفيلم، لإعتقاده أنه أصبح أقرب الى الدّناسة. هذه الاخيرة سرعان ما تتحقّق حين يقع في غرام الصبية أنا (فيك كارمن سونه) إبنة مضيفه كارل (جاكوب هاوبيرغ لومن)، فيما تضعه شقيقتها الصغرى إيدا (إيدا مكين هلينسدوتير وهي إبنة المخرج) في شَدَه بسبب غرابة تصرّفاتها. يصوغ بالماسون العائلة كمؤشر إعتباريّ على تماسك عرف إجتماعيّ ضد رخاوة مؤمن لا يجد ضيراً في إرتكاب معصية صغيرة "تتنظَّف" أو تنشد غفرانها بمناجاة روحانيَّة طويلة، يؤديها لوكاس كتعذيب حسيّ مضمر.

لئن غلّب القسّ شهوته على طهارته، فإن حقَّ الموت يطاوله بسرعة، ويلقى فيه جثمانه عقاباً بطيئاً، يتكفّل به طقس قطبيّ لن يرحم حقارته. الحاسم، أنّ رميم لوكاس يبقى فوق أرض تتهجَّن لحده تحت ترابها، بل وتستنكر عَزْوه لها. إنه كائن طارىء ودخيل ومرجوم ستكون ذبيحته كَرِه إنتسابه الى أرض رَّب تملَّص لوكاس من الإعتراف بحقيقة أنّه موجود في كل شيء وكل مكان ما عدا كينونته الحمقاء.

شّريط "أرض الرَّب" تجربة لافتة عن مرور الزمن وعواقبه وأمارته وشراسته. وهو أمر حاذق وجد لبنته الأولى في المنجز الثاني لبالماسون "يوم شديد البياض" (2019) حين تتحوَّل فاجعة موت زوجة رئيس شرطة بلدة أيسلندية في حادث سيارة، تعرضت الى إنهيار صخريّ الى مرثيَّة مرئيَّة للضمير وعثراته التي تتجسَّد على شاشة مزدحمة بالضّباب وبياضه النَّقي، عبر لقطات خاطفة لكل ما هو حول موقع الفجيعة أو إكسسوارت الزّوجة المقتولة وممتلكاتها الشخصية وتماهيها بفطنة بصريَّة مع ريبات البطل إنغنمودر بشأن خيانة امرأته مع صديق مقرب للعائلة.

أنّ ترتيب صور تلك الأشياء بأزمان متوازية، تدفع بالمشاهد الى إعادة تصوّر زمن العلاقة بين زوجين حين يكون الوفاء بينهما شديد البياض. يخسر إنغنمور خلَّانه ويُهان مراراً، ويكاد أن يرتكب جريمة، لأنَّه إرتدَّ عن ضميره. فيما ينهزم لوكاس أمام كفارته لأنَّه خان عزمه، وظنّ أن تسيّده كممثل لتاج دنماركيّ يكفل له حقّ إستعباد مّنْ يشاء حتى وأن رفض كتابه المقدس وأسفاره مثل هذا القهر. الى ذلك، يعيش كلاهما في بقعة مفتوحة على طبيعة فاتنة، إلا أن سقَمُهُما الداخلي يسمّم بصيرتهما حول مرور الزّمن من حولهما. إنهما كافران بحقيقة أنّ الحياة لا تُستعاد بالتَّمني أوالتآمر بل هي ماضية قدماً نحو ناموسها. فيلم بالماسون مسموم لأنّ على مشاهده التَّحسب الى خطيئته الشخصية، والنظر الى زمنه وعدم التّفريط بمروره، ذلك أن الله يوفّر حكمته السَنِيّة في أشياء عوالمنا قبل زوالها وفنائنا.   

سينماتك في ـ  30 أكتوبر 2022

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004