زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

Klondike

"كلوندايك" للأوكرانيَّة مارينا اِر كورباتش.. حروب الأوغاد

بقلم: زياد الخزاعي

 
 

تبدأ الأوكرانيَّة المقيمة في تركيا مارينا اِر كورباتش شريطها "كلوندايك"(من عروض مهرجان لندن السينمائي (5 ـ 16 أكتوبر 2022)، بعد مشاركتين في برلين الألماني وصاندانس الأميركي) بظلمة قاسية، نسمع وسطها صوتين لزوجين يحلمان. هي، تريد أن تبني نافذة كبيرة "كما في أوروبا" تحلّ محلَّ فتحة بشعة، تسبَّبت بها قنابل حرب طويلة ومنهكة بين طرفين لن ينتصرا أبداً. في حين يقترح زوجها: "دعينا نبني سقفاً أكثر متانة، أن نعيد بناء كُلّ شيء، ونشتري أثاثاَ جديدة، ونحرق قديمها". يقطع حوارهما الرّقيق أنَّات إِركا المفاجئة، لنعي لاحقا إنَّها تنتظر مخاضها بوليد بكر. فطنة المشهد الإفتتاحيّ هذا لا تُضاهى في أيّ عمل سينمائيّ أخر من باب تقشَّفه البصريّ (لون أسود) ورسمه لملامح كائنين مجهولين، نُشكّلها عبر صوتيهما ونبرات قلق لاحق "تسرق" لحظة سعادة عرضيّة بين زوجين، نرافق يوميَّاتهما المريرة، ومحنتهما مع وطنيَّات عدائيَّة ووحشيات مريعة على مدى 100 دقيقة من زمن فيلم، يسعى الى مقاربة متباسطة لكنها مفعمة بإنسانيَّتها لمعاني الخيار الشَّخصي وإستحقاقاته وفواجعه.

عنوان هذا الشّريط لن يُصرف سوى من باب "الأرض التي بلا وظيفة". إنها فضاء مفتوح وسهل على إجتياح كولونياليّ متبادل شرقيّ/ غربيّ، تماما كما هو المنزل الرّيفيّ وملحقاته البائسة. نرى تلك البيداء عبر فجوة جدار واسعة، ونتابع إختراقات المتحاربين لبريّتها وأمانها الرَّبَّانيّ، بل ونراقب بهلع سقوط جثث ومتاع مسافرين مدنيين، أُسقط صاروخ حربيّ مجهول المصدر طائرتهم الماليزية، ونثر بقايا رحلة ملعونة فوق أرض مرجومة، يعاند طرفا الحرب في إتهام غريمه بالتَّسبّب بجريمتها التي تشبه في ملابساتها ومناوراتها الإستخباراتيّة الساعية الى توسيع نطاق الإتهامات وتدويلها، نظيرتها التي وقعت فوق بلدة لوكربي الأسكوتلندية في العام 1988. أنَّ الحرب عند الحدود بين روسيا وأوكرانيا ليست عن ضمّ أرض وضمان حقوق أقليات وحسب بل هي عن بغيّ مستدام، نقابله في مشهد ختامي جارح ومهين وبلا رحمة للأم اِركا وهي تضع وليدها بنفسها على أريكة دارتها، بعد أن إعتقل مرتزقة موالون للروس زوجها، وقتلوا شقيقها ييرك (أوليغ شيربينا) الذي لا يكف من إهانة صهره وإتهامه بخيانة وطنه.

تستضيف لعبة الحرب بمنطقة دونيتسك المتنازع عليها، التي صاغتها كورباتش في فصول سريعة، نفسها عنوة في حياة اِركا وتوليك. تارة بتهديد مباشر حين يقتحم مقاتلون شيشانيون موالون الى القوات الروسية المنزل، ويعيثون بممتلكاته، أو أخرى بالإستلاف حين يستولي الإنفصاليّون على سيارة الزوج من أجل إستخدامات لوجيستيكيَّة في نقل مقاتلين أو جرحاهم أو عتادهم، بل يرغم هؤلاء توليك (سيرغيه شادرين) على ذبح بقرته الوحيدة لتأمين وجبات غذاء لمحاربيهم. أن رفض اِركا لرائحة الدّماء على جسد زوجها وثيابه، يمكن عده بمثابة قانون ذاتيّ لها، يدفعها الى التمسُّك بـ"حلم" تجديد بيتهما وإشاعة نظافته وأمنه، وفوق كل هذا الإعتصام فيه مهما بلغت الأمور شدَّتها. أن بداية الفيلم بصوت الأمّ الشّابَّة يوكد أنَّ هذه المرأة هي الأساس الدراميّ الكلّيّ لحقوق الأرض ودوام الإنتماء لها والإنتصار الى تاريخ أسلافها وأعرافهم وذريَّاتهم التي بنى نصّ "كلوندايك" حججه السينمائيَّة عليها. ترفض اِركا المغادرة لأنَّ جذراً متجدّداً يجب أن ينبت في هذا المكان المفتوح على إحتمال الغدر والتصفيات وسفك الدَّم. أنَّ حرب الأوغاد لا تقتل الأنفس وحسب بل هي تُمْكر بأحقيَّة الحياة التي تصورَّها كورباتش بإستعارة ذكيَّة خلال مشهد الولادة حيث "يموت" أو"يصمت" الصّوت الخارجيّ المحيط بالبطلة ومخاضها، وتتحوَّل تأوهات طلّقها وصرخاته الى ما يشبه عويل طويل ومكتوم على ما ينتظر الوليد من ظلم.

تخوض اِركا حربها بيأس يتعاظم منذ لحظة إستفسارها من زوجها "الى أين ستأخذني؟"، ورده "الى حيث  لا توجد حرب"، قبل ثوان من إنفجار قذيفة يقع فوق رأسيهما في تلك الليلة المشؤومة في السابع عشر من يوليو 2014، قبل زمن قصير من مأساة الطائرة المنكوبة. إذ أنَّ ذلك الـ"حيث" لن ينوجد أو يتحقَّق. هما في نهاية المطاف مواطنان ريفيَّان فقيران لا حول لهما في تغيير مصائر حرب مستدامة. يعدّ المسؤولون بقرب إجلائهما لكن لا أحد يُنفذ ولا أمل يُشاع، نظراً لإنَّ القرارات تتغيَّر مع دوي قنابل طائشة، أو إكتشاف جثث مجهولة ومتعفّنة، أو إختراق عصابات مسلَّحة لـ"إراض بلا وظيفة"، عليه فإن  كورباتش ومدير تصويرها سفياتوسلاف بولاكوفسكي يُبقيان الخارج المحيط بمزرعة اِركا/ توليك كبقعة مفتوحة لفعاليّات عابرة لا علاقة لها بما يجري داخل البيت المقصوف، ويستعرضان عدم إكتراث أي كائن لحالة حملها الثَّقيل وحاجتها الى وضع أمن.

تلعن اِركا (إداء واثق من أوكسانا تشيركاشينا) الجميع بيد أن لا أحد يسمعها. ورغم إستثناء وضعها تبقى امرأة مجالدة، لا تريد التخلّي عن واجباتها الشَّحيحة التي تدور غالبا حول التَّنظيف وتأمين مستلزمات معيشة متقشّفة. في وقت، يبقى توليك بصلعته ووشومه وغضبه، أسيراً لمحاولات يائسة لإسترجاع سيارته كي يفلت وزوجته من هذا الجحيم، وبسببها (المحاولات) يكون عليه أن يداهن أطراف الصراع من دون نجاح. يرسم الشريط هذه الشخصية بدقة فريدة حيث أن طلّته التي توحي بعنفه وجبروته وجلافته، إنَّما تخفي كائناً رقيقاً وأميناً ومؤمناً بإسرته الصغيرة، يعيره زميله السابق في المدرسة والمتعاون مع الإنفصاليين: "كف أن تكون خاضعاً لزوجتك"، عارضاً عليه أعادة بناء جدار منزله وسقفه، ليجيبه بتهكم: "بالتأكيد، لكن عليكم أن تتعلموا أولا كيف تطلقون النار!". لن يطلق توليك رصاصة واحدة طوال الفيلم، لكنَّه كشخصية مأساويَّة يحمل تناقضاً كوميدياً أسود بين قوَّة بدنه ورقة حاله وإنسانيَّته، ليكون بذلك أضحيَّة سهلة لواجهة حرب، تفرض على أسراها اختياراً واحداً لا غير، الإنخراط في لعبة موت أو الفناء. لن يقبل الرجل الوقوع في براثنه بسبب إجحافه، الأمر الذي يؤدي به مغدوراً برصاصات قتلة مأجورين في مشهد إستفزازي على الطريقة الهوليووديَّة!.

يضع فيلم كورباتش ذو السرديَّة المتسلسلة والمباشرة نصب إهتمامه إبتذال الحرب ومسوغاتها. انه معني بشدَّة بموت المشاعر وبوار البيئة حولها، كما هو الحال مع شريط مواطنها فالنتين فاسيانوفيتش "أتلانتس" (2019) حول عجز بطله الجندي السابق، الذي شارك في معارك أقليم دونباس، في إعادة تأهيل عالمه الداخلي وسط محيط ديستوبي فريد المعالم. هذه الإعادة أو التَّرميم ما لن يحدث في " كلوندايك " لإن القتل يصنع رجاسات الخراب، ويخلق بشراً من دون عواطف. وحَّدها اِركا وهي محاطة بدمار فتحة جدار منزلها، تضع الوليد (الحياة) أمامها بإعتباره رمزاً قادراً على أن يغلب العالم، لإنه إيمان مطلق بالرَّحمة.

سينماتك في ـ  25 سبتمبر 2022

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004