زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان كان السينمائي الدولي الـ 75

Jury Prize (EX-AEQUO)

The Eight Mountains (LE OTTO MONTAGNE)

"جائزة لجنة التحكيم"/ مناصفة

"الجبال الثمانية" للبلجيكيين شارلوتا فنديرميرش وفيليكس فون غرونينغن.. عن رعاة مدافننا السماويّة

بقلم: زياد الخزاعي

 
 

"جبالي القديمة الآن بدت منعزلة أكثر من أي وقت مضى. أخرج لأتمشى ولا أرى شيئاً سوى خرائب وحطام" باول كونيّتي (ص206)

"لماذا لا تذهب وتصادقه؟"، تُحرَّض والدة راوي حكاية "الجبال الثمانية" للكاتب الإيطالي باولو كونيّتي، حين تعلم أن ولدها بيترو (11عاماً) تعرَّف على قرينه الجبليّ راعي الأبقار برونو من دون أن يفلح في عقد وثاق رفقة طارئة معه، تُعينه على تمضية عطلة عائلية عند سفوح سلسلة مونتي روزا الإيطالية ومروجها. يجيبها ان "تكوين الصداقات" ليس مهماً لديه، فـ"البقاء بمفردي يعجبني". هذا إعتراف مخادع، يُطلِق تباعاً مصافاة ثنائية تمتد طوال عمرهما وقدرهما، وأيضا ما نوت عليه الطبيعة في النيل منهما كلّ على حدة.

يتحصّن الأول، نجل المهندس ومعلمة المدرسة، بمدينيته وعلو محته الطبقيّ وثقافته وطبائع أنَفَته المكتسبة من مجتمع شمال صناعيّ ثري، فيما يسير الثاني بثّقة شخصيّة كاسحة في دروب حياة بريّة قاسية ومقتَّرة ومعزولة. عالمان يبدو أن إلتقاءهما معدوماً أو خاسراً على أقل تقدير، لكن معجزة صداقة ذكوريّة تتفّجر بين شعاب رُوَاء، يصف البطل عناصرها على نحو فلسفي بـ"جمال حزين ومرّ. جمال لا يبعث السلام بل القوّة، وبعضاً من الشجن. جمال عكسي".

نصّ كونيّتي وهو متسلق جبال محترف، صدرت ترجمته العربية عام 2018 عن دار الخيال البيروتية، وبجهد متألق من د. أماني فوزي حبشي، مكتوب بسردية مُحْتَشِدة لكن بإسلوب شديد البساطة. مُغرق بوصفيّة تعبيريّة، تستعير نخاعها الحيوي من طبيعة رعويّة خلّابة، يكون الصبيان بين أحضانها كنُّطفتين، عليهما أن يراعيا إشتداد عودهما، بإستخدام عناصر ذلك الكون ومساراته الجبلية وخرائطها وشفراتها (كود حسب وصف البطل).

كلاهما مهووس بعظمة القمم حولهما وحجمها وجبروتها، وهو أمر ينعكس تماما على مفهوم الألفة بينهما وسموها وأزليتها وصوفيتها، وهي خلاصة سيتوصل اليها بيترو بقوله: "فأيما كان القدر، فهو يسكن في الجبال التي تحلق فوق رؤوسنا"، ما يفسر "عوداته" الى بلدة غرانا، وقبول قرار مشترك مع صديق عمر في إعادة بناء وتأهيل "منزل المصالحة" (وهو عنوان الجزء الثاني من الرواية) عند الصخرة العجيبة(بارما درولا) بعد قطيعة طويلة وإجباريّة، كعنوان لميراث أسريّ، وإشارة على إستئناف رفقة شخص "كان رجلاً لم أعرفه، ولكن في جزء ما كان هناك فتى أعرفه جيداً".

*******

أفلمة الثنائي الفيلمنكي شارلوتا فنديرميرش (1983) وفيليكس فون غرونينغن (1977)، الحائزة على "جائزة لجنة التحكيم/ مناصفة" في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو 2022) لمهرجان كانّ السينمائي، قاربت بإقتدار وفطنة سينمائيين تلك الطاقة النقيّة المُحرَّكة لسجايا غامرة، ينتشر عنفوانها بين ضمائر حيَّة ومتعاطفة وأمينة. مشاعر لن تخبو أو تزاح لإن غريزة كائنيها تنتمي الى قانون رَبّانيّ خالد ومَجِيد، بذريعته فإن عهود الصُحبَة بينهما لن تُعوج، ولن يصيبها الصدَع.

هكذا، يختار الشريط أسلوب درب جبليّ يبدأ من نقطة (اللقاء) أرضية بين البطلين، ويسمو صعوداً الى قمة (الإفتراق) دراميّة حزينة حول خيار فردي، يدفع بيترو نحو مغامرات في الهيمالايا وعند سفوح الشقيقات السامقات الثمانية لأفريست، قبل أن يستقر في المدن الكبيرة ممتهناً إخراج أفلام وثائقية لن تُلفت النظر، فيما يتقيَّد برونو الى أمانة وعد بقائه في البقعة ذاتها التي شهدت مولده، راعياً المنزل الذي عمراه ورفعا سقفه معا، وأيضا خاسراً بسبب عناده مزرعته وامرأته(وهي صديقة بيترو السابقة قبل أن تقع في عشقه) وإبنتهما، ومحروساً بقمم الألب، حتى ذلك اليوم المشؤوم الذي طمرت ثلوج عواصفها جثته، في إنتظار أن "تكتشفها الغربان أولاً، ويعثر عليها مسعفون في مجرى ما في عزّ الصيف".

في مشهد إفتتاحي يستعير معلومات نظيره في الرواية، نلتقي عائلة غواستي  حين عودتها الى القرية التي شهدت موت بييرو أقرب صديق الى مهجة الأب جوفاني(فيليبو تيمي)، مدفوناً تحت جليد إنهيار عظيم. الراحل هو شقيق والدة البطل بيترو، وبسبب زيجتهما الملعونة، تقوم عائلتها بنبذها، ليرحلا نحو عاصمة لومبارديا.

يُعلمنا البطل بذلك عبر تعليق صوتيّ مصاحب، يستعير سيرة كونيّتي، لكن الشريط سرعان ما يتخلى عن نبرة إرشاداته، مصوّراً يوميات اليافع، وخضوعه الى سطوة والده في التسلق والطواف بين الجبال ووديانها وقراها ولقاء رعاتها والتعرّف عليهم. إنه التأسيس لشغف ذاتيّ يحوله لاحقا الى أشهر شخص في وادي أوستا. هنا، يخترق عالمه فجأة برونو "أخر طفل في القرية" كما يُعرّف نفسه، ويقوده الى الثيمة الأصيلة لعهد الصداقة: "أن تعود وأن تكون مُحِباً!".

*******

 
 

جميع مشاهد الطفولة وأسلوبها التشكيليّ التي صورها البلجيكي روبن إمبينس بنسبة أكاديمية هي 1.37.1، مُسقِطاً السينما سكوب ولقطاتها العريضة كخيار بصريّ حتمي لطبيعة مفتوحة، مصاغة بسينوغرافيا مدروسة لشقاوة صغيرين، وهما محاطان بضياءات وهاجة لصيف جبلي وحنو عائلي ومواقع أخاذة، يكشفان روعتها للمشاهد تباعاً. بيد أن إمبينس يميل لاحقا الى إيقاع أكثر هدوءاً مع تفاصيل اللقاء الثاني بين رجلين فرقتهما وجهتان متضادتان، حيث تقود الفصول وأجواؤها وطقوسها وألوانها وحساسياتها البصريّة والنفسيّة، مشاهد المقطع الثاني وحتى نهاية الدقائق الـ147 طول الشريط الى التمتع بإيقاع متروّ وصبور ومتبصّر، ذلك أن الحكمة التي إكتسبها الثنائي بيترو(لوكا مارينيللي الذي عرف شهرة عالمية ببطولة فيلم "مارتن إيدن"، 2019) وبرونو (أليساندرو بورغي) بشكل منفرد، تجعل فعلهما الدرامي شحيحاً، بينما تتحوّل حواراتهما الى تّذكّرات أو مكاشفات رقيقة أو مناكفات صداقة، يكون موقعهما دائما ضمن حيّز يقع أسفل الصورة، بينما تتعملق الجبال فوقهما. أما في حال اللقطات التقابلية التي تجمعهما، تصبح الجبال في موقع خلفي يكشف هيبتها وأُبَّهَتها. وخير مثال على هذا الإختيار ما تجلَّى في مشهد ليلي خارجي، يتجالس البطلان أمام نار لَظَى، يحاول فيه برونو معرفة دوافع صديقه بشأن إمتهان الكتابة. ففيما يغطي اللهب مقدمة الصورة أو جانبها الإيسر، تظهر القمم تحت ضياء السحر القاني أشبه بحراس قلبهما الأوروبي، أو حماة "لذلك العالم الخام". عندها "يتصور" بيترو كونهما المشترك الأزليّ بتوصيف رومانسي، يقول وكأنه يُخرِج مشهداً سينمائياً: "نار حامية. سمك مشوي. جبال هنا وهناك. وأنت. أبق ثابتاً. لا تتحرك. هكذا، أعتقد أنني أستطيع أن أحيا الى الأبد".

يتوحّش برونو في عزلته، ويصبح أقل حماسة للضوء ووهجه. رجل يحرقه أثم الخسران، لن يحتاج الى نور يرشده الى حتفه. هو "فارماكوس"، محكوم عليه أن يُقدم كيانه الداخلي أضحية لحزنه و نجاسته حين عاشر أناس حضريين، أفسدوا طهاراته وإجتاحوا عالمه، قبل أن يرسم له صديقه ووالدته قدراً أخر، حين يعرضا عليه مرافقتهم الى المدينة الصناعية والإلتحاق بمدارسها. يعترض الأب، ويجبر الصبي على العمل في ورشة بناء بعيدة، ليحدث "البُعاد" الأول بين الصفيّين. لن يغفر البطل جناية والده، ويقاطعه حتى النهاية. بيد أن هذه الأخيرة لن تقفل دائرتها القدرية حتى "تغييب" الشاب برونو تحت ثلوج "عالمي القديم"، حسب وصف بيترو في الفصل الأخير.

*******

شخصية الراعي الذي "لا يعرف شيئاً عن النقود" لن تُكمّل مقابلتها المدينية، ذلك أن برونو مؤمن بجبليته ورحابتها ونقاوتها. يتحدث عنها بعشق، ويستعدي وافديها وزوارها ومدنّسيها، في حين تُكبَّل الحداثات شخصية بيترو، وتجعله مسايراً لتقنينها المدروس. فهو صنيعها الذي يستطيع شراء وإقتناء أيّ عدَّة جبليّة إينما كان ومن دون عناء. صحيح أن ذاكرة الجبال لن تتركه أبداً، وأكتسب شغفه بها عن طريق والده الراحل، الإ إنه سريع الإستسلام في محاولات كسر هاماتها، كما يفتقد حدس الوعورة ومسّ معابرها السرية، فيصبح ضياعه ذات مرة بين شعاب جبال النيبال إشارة أدبية الى نقص رعويّته، صوره (الضياع) الثنائي فنديرميرش/ فون غرونينغن بنفس وثائقيّ، وكأنه ذاكرة عابرة لنشور شخصيّ مقبل، يقوده ثانية الى الشمال الإيطالي لإن "المدينة أصبحت مكاناً لا يُحتمل"، ساعياً في الوصول الى المدفن السماويّ لرفيقه، وهو مسجَّي في راحته الأبدية مع "أفكاره الصامتة"، وكذلك الى دفاتر والده وصفحاتها التي تؤرخ سعادته وفخره بجيلاناتهما الجبليّة معا. أن الذكرى هنا أقوى من العزاء، لإنها "تعيد الحياة لأولئك الذين لم يعودوا بيننا" (غي دو موباسان).

يعيّ المشاهد الفطن أن إقتباس الزوجين فنديرميرش/ فون غرونينغن لـ "الجبال الثمانية" غير معني إطلاقاً بحراك سرديّ تشويقيّ. إنه لا يتنازل عن إنتصاره الى تراكم ضميريّ لمعاني الصداقة وسيروراتها. عليه، فذلك المشاهد مُلْزِم الإمساك بطويَّتها وصلاحها وتراكماتها. ما يُشاهده هو: كائنان وسط إتّساع طبيعة خلّابة. ما عليه أن "يراه" هو: قانون الله الخفيّ في بحثنا عن الدلالات الحقيقية والقاطِعة للعِشْرَة، التي بانت بشكل ميلودرامي جليل في فصل إعادة بناء الكوخ الجبلي، إذ يضحى تعاون الشابين وحواراتهما المباشرة والمختزلة وعرقهما وجلسات سمرهما وتمرداتهما، وتلك الحياتية الشديدة التقشف التي يحياها، الى ما يطابق صلاة جماعيّة مخفّية من أجل ديمومة ملاذنا الذي نقتل عصبه كل لحظة بإنانية حُمْق بشري.

بسبب هذا، أطر المخرجان/ المؤلفان إقتباسهما بنسيج عاطفيّ باذخ ، يتخذ وجهة نظر مشاهد يقوده تعليق صوتي قصير، قبل أن يصبح رائيّاً مطلقاً الى الوسع الملحميّ للطبيعة. أن البطلين هما ضرورة دراميّة للكشف عن المساحة الشاسعة بين أجزاء عالمنا. كما هما صانعا حسّ إنسانيّ وإشباع روحيّ، يختبر مدى إيمان ذلك المشاهد بحكايته الذاتيّة على هذه الأرض، والتمتع ببركاتها: هل قارب نشأته وسيرته مع محيطه؟. هل كان يخزر حقا في مكامن رونق ما حبانا الله به من جمال؟. هل إتخذ من هذه الروعة الكونية ملاذاً أخيراً لخلاص أخلاقيّ ووجوديّ؟. أيّ خطوة إتخذها للدفاع عن بكارتها وتناغمها، ووقف هتك نواميسها بحجج الرخاء وتعاظم جشع أناسه؟. هؤلاء الأنانيون الذين يشتَّمهم برونو بخطبة عفوية وجريئة: "إنكم أنتم يا أهل المدن مَنْ تطلقون عليها أسم طبيعة. إنها مجرَّدة في ذهنكم، فأصبح الإسم بالتالي مجرَّداَ. نحن هنا نقول: غابة، مرعى، نهر، صخرة، أشياء يمكن للمرء أن يشير اليها بإصبعه. أشياء يمكن إستخدامها. إذ لم يكن في الإمكان إستخدام شيء ما، لن نعطيه إسماً، لإنه لا يفيد في شيء". أن هجاء الراعي"الصادق والنقيّ" هو مواجهة غير متكافئة مع معيارية أوروبية منافقة، تؤمن أن حيوات برونو وأمثاله، أمست في عهدة كارتلات أتمتة متعاظمة البأس والمال، تمحق معارضيها أو مَنْ تبقى من مناصري يوتوبيات خضراء، هي في حكم الموات حين تنقطع عنها الوفرة والطاقة و...الفلوس!.

*******

الثنائي الفيلمنكي شارلوتا فنديرميرش وفيليكس فون غرونينغن: هي مؤلفة موسيقية وكاتبة نصوص وممثلة ذائعة الصيت تُنجز باكورتها الإخراجية هنا، أما زوجها فعرف شهرة دولية مع شريطه الميلودرامي المحكم الصنع "إنهيار الدائرة المكسورة" (جائزة الجمهور لخانة "بانوراما" في مهرجان برلين السينمائي 2013)، ولاحقا "بلجيكا" (2016)، قبل أن ينجز شريطه الأميركي الأول "فتى رائع" (2018) مع الكوميدي الشهير ستيف كاريل والنجم الشاب تيموتيه شلاميه.

سينماتك في ـ  30 يوليو 2022

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004