زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان كان السينمائي الدولي الـ 75

Best Director Award

Decision to Leave

 "جائزة أفضل إخراج"

"قرار للإنفصال" للكوري الجنوبي بارك تشان ـ ووك.. المحبَّة تستُر خطايانا

بقلم: زياد الخزاعي

 
 

المُسَيّر الدراميّ في شريط الكوري الجنوبي بارك تشان ـ ووك "قرار للإنفصال" (138 د) ليست جريمة أو حادث عرضيّ يُفضي الى ميتة رخيصة، بل حزن شخصيتين متناقضتين وخسارتهما المشتركة. محقق شرطة يعاني من "حصار" زوجي وسُهاد مرضي مزمن ومهنية مهدَّدة، وصينية مقترنة بمواطن كوري لقى حتفه في ظرف مُلتَبس، وبدا رد فعلها أكثر الْتَياثَاً: "أنها غير مصدومة لموت زوجها. هل رأيت الإبتسامة على وجهها؟"، يقول أحد المحققين مستغرباً.

الرجل، وثن حكومي وشخص إنضباطيّ ومسؤول مجبول على شكوك ولعبة حلّ عُقُداتها. غُمَّته في توحُّده وعالمه الأقرب الى منفى ذاتيّ. شاب لطيف ورفيع ووسيم وشديد الأناقة، طّلَّته إستعارة من شخصيات سينما الـ"فيلم نوار" الأميركية، لكنه يفترق عنها بملامح كمد غامض وعميق. السبب أنه يتعرض بشكل منظم الى نَقّ زوجة أقرب الى علة عائلية. تمنع عنه تدخين السجائر، تراقب هاتفه المحمول، تنسَّق ما يلبسه وما يأكله ومَنْ يلتقيه. أنها سطوة إنثوية و"رسمية" تمارس قمعاً مقابلاً، يجعل من يوميات عمله المثير قناة هروب محتَّمة، ينغمر فيها الى حد الهوس مع تساؤل يظل معكَّراً عوالمه الداخلية: هل فات أوان إنفصاله/ طلاقه من امرأة لجوج؟.

الطلاق الذي لن يقع، هو جَمْرَة فيلم  تشان ـ توك الحائز على جائزة أفضل مخرج في الدورة الـ75 (17 ـ 28 مايو 2022) لمهرجان كانّ السينمائي، التي تضرم لاحقا نيران إغواء وألعابه في مهجة الشاب هاي ـ جوون (الممثل بارك هاي إيل الذي عرف شهرة واسعة ببطولة فيلمي "مذكرات جريمة"2003، ولاحقا "المُضِيّف"2006)، حين يواجه سيدة فاتنة، هي ميدوزا أسيوية تنال قسطاً وافراً من الرّيبة والتّهم.

حسب نصّ مخرج "أولد بوي" (الجائزة الكبرى مهرجان كانّ، 2003) الذي ألفه مع شريكه الدائم  تشونك سيوـ كوينغ، والذي بدأت فكرته الأولية من أغنية كورية شهيرة تدعى "الضباب"!، فالمرأة سيو راي (الممثلة الصينية الموهوبة تانغ ويي المشهورة بإدائها الإيقوني في فيلم "شهوة وحيطة" (2007) لمواطنها أنغ لي) هي تابع جندريّ بلّبوس عرقيّ وافد. قدرها أن تكون ضمن جغرافية عدائيّة تاريخياً، مثلما يصبح فراشها الزوجيّ دنساً دائماً لمواقعات جنسيّة وعُري وعنف وإساءات لن نراها على الشاشة. امرأة مزدوجة النسب، "على الرغم من كونها صينية، إلا أن جدها لأمها كان مناضلاً من أجل الإستقلال الكوري، وهي فخورة بتاريخ عائلتها وجدها". خطؤها أنها لم تُحسِن إختيار قرار إنفصالها/ طلاقها، لتقع في خانة مزاعم قتل.

تأتيها فرصة إقتناص نشوة ناقصة مع هاي ـ جوون، الذي يرى فيها "شخصاً متقلباً كما أمواج المحيط، تارة تكون هادئة، وأحياناً عنيفة، ومرات مدمَّرة" حسب وصف المخرج تشان ـ ووك، حين تتحوّل جلسات الإستجواب الى جسَّ خفيّ لمشاعرهما نحو بعض، تبان إشاراتها البصريّة عبر إضاءات مركزية على وجهيهما، بينما يُبقي مدير التصوير كيم جي ـ يونغ (عرف شهرة عالمية بإدارة تصوير فيلم "حافة الظلال" (2016) لمواطنه كيم جي ـ وون) إنحراف أطار صورها ظاهراً بقوّة كتورية على خصوصيتهما الوليدة وسط حشد بوليسيّ ومكتبيّ.

لن تُحيك سيو راي شباكها حول المحقق المؤدب، إنما تمارس إستقامة وجرأة، وتعبر عن نواياها بوضوح، الأمر الذي يُربك الجميع. فهي لا تخشى الشُّبهة، إنما يكمن جزعها في أن قاتلاً غامضاً يستطيع الإفلات من قصاصه. ترى ما الأوجب أمام "البطل الحكومي" مطاردة شبح أم التضييق على متهمة جاهزة؟.

 
 

يضع صاحب "مدبرة المنزل" (2016) بطله أمام مهمة فَكّ ألغاز عدة دفعة واحدة. يحيك ثيماتها بسياقات شديدة الكلاسيكية، تنأى بجديده هذا عن عنف وجنس ودمويّة كانت عصباً تجارياًّ لسينماه: موقع جريمة غير مألوف لصخرة تشرف على مدينة سيول: "ما الذي يدفع بالمرء أن يتسلق صَفَاة مثل هذه؟"، يتساءل المحقق الشاب حاملاً زميله على ظهره، وهما يرتقيان بحبل حافة جُلْمُود في مشهد هو أقرب الى نكتة وجوديّة، من أجل تعيين نقطة تخفّي القاتل ومغافلته ضحيته و"قذفها" نحو هُوَّة، ضمن مساحة قمة لا تتجاوز أمتاراً قليلة!. تُزيد رقدة الميت الأبديّة على أرض بريّة سوداء من غموض جريمة لن تُفلِت ظنونها زوجة حسناء أجنبية وصموتة، لا تكف عن إظهار ندوب غامضة على جسدها، كما لو أنها تعرضت الى تعذيب ممنهج.

كما عليه واجب إستيضاح إرْبات كائن مجهول يعرف تحركات ضحيته، ومثلها دروب المدينة الساحلية وزواريبها. تقوده مطارداتهما الأكروباتيكية الى فزّورة أن كان القاتل المُتَوَار والمناور الفذّ له علاقة ما بزمرة أو شخص "إشترى" خدماته الإجرامية كي يُصفي مغدوراً. أن يدفعه غِيلة من حافة سامقة نحو ميتة ممسرحة بأناقة حيث نرى لقطة مكبرة تقف فيها ذبابة على قرنية عين ميت وهي مفتوحة برعب هيتشكوكي، لا يُخطىء إستعارته من نظيرتها التي تختتم مشهد الحمام الشهير في "سايكو" (1960).

كذلك عليه، وبجهود كاريكاتورية من مساعد أحمق، أن "يُشفَّر" الدليل الوحيد على مراوغة القاتل عبر إختراق "داتا" هاتفه النقال المتداخلة بدراية وخبث، تجعل المواقيت وأمكنة الأرسال والإتصال وأرقامها تستعصي الرصد. تتخذ حكاية الهواتف مقطعاً سحريّاً في متن "قرار للإنفصال"، كونها تورية على ترابط صوتي غنيّ التفاصيل، يجمع شخصيتين على خط واحد من حواريات متبادلة، تكشف عن الإيقاع الرومانسي لكل منهما.

ذلك أن المُخبر الشاب المتماهي إعجاباً بقرينه، المعروف بإستقامته المهنية، في نصوص الروائي السويدي مارتن بِك، يجد نفسه مخلوباً بسحر سيدة "تحمل قلباً ناصعاً"، وذائباً أمام إعترافاتها "عن الأوقات التي أقضيها أمام منزلك كل ليلة، وأنا أفكر بك". فيما تصبح المهاتفات بالنسبة للمرأة إعلانات متجزأة لخسارتها الشخصيّة، وإشارات لا يدركها شاب منشغل الى حد الهوس بوضع قطرات طبية سعياً لتهدأ حُرْقَة عيون أرقه المزمن، الى إقتراب قدرها من نهايته المتعجّلة.

تشان ـ ووك (1963) صانع مرئيات تخطف مهجة مشاهدها و لن تُمحى من ذاكرته. يحتفي في هذا العمل الماهر بمصاهرة ذات صنعة إنقلابيّة بين تشويق محكم الصنع ورومانسية صافيّة وميلودراما شفيفة، تُضفي طعماً منظوريّاً هجيناً بألوان غير مسبوقة على نوع سينمائي تفترض صوره ومشهدياته عوالم من ظلال وظلمة وإحتباس أمكنة وشخصيات حائرة.

نشاهد، في بداية الشريط،  تلك الألوان بقتامة مدروسة لحالتي حصار يعانيان منها (دائما هناك مشاهد جبال كالحة)، قبل أن تتفتح على سماوات مضيئة وباهرة عند حافة محيط فاتن، وهما يتبادلان ملامات على موت علاقة وداد كادت أن تتمخض عن حب جارف. يقول لها بوجع يثبت تعاسته: "هل أنا شخص عاجز أمام الإغواء؟ هل أنا شخص ملعون الى هذا الحد؟". مثل هذا الإعتراف، يكاد أن يكون مستحيلاً وروده على لسان أيّ بطل هوليوودي من أيّ "فيلم نوار" أميركي.

يتنازل هاي ـ جوون عن رجولته وأنفته كمسؤول وشرطي، ويُقدم وجهاً إنسانيّاً غير معهود لشخص يعاني من كبواته وتصاغره أمام هيامه. أما هي فترفع في وجهه عنواناً مخاتلاً يقول أن مَنْ يزداد علماً يزداد حزناً، ليصبح إنموذجاً صادماً لرجولة عرفت الكثير، ولو متأخراً، عن تخلفها في تحقيق "لا إفتراقها"، ليعم الأسى روحها، قبل أن تنال فاجعة إنتحار المرأة الصينية لاحقا ما تبقى من مرادها بصبابات تستحق العناء، لكنها لن تكتمل أسطورتها، ذلك أن "الحزن المطلق مستحيل، مثلما هو الفرح المطلق"، كما كتب صاحب "الحرب والسلام" الروسي الحكيم ليو تولستوي ذات مرّة.

سينماتك في ـ  30 يونيو 2022

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004