ملفات خاصة

 
 
 

ما بين جوائز «كان» و«الأوسكار»

أفلام استحقت ولم تفُز وأخرى فازت ولم تستحق

لندن: محمد رُضا

كان السينمائي الدولي

الثامن والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

عقب فوز الفيلم الإيراني «حادث بسيط» بسعفة مهرجان «كان» الذهبية في الشهر الماضي، طرح بعض النقاد العرب والغربيين مسألة ما إذا كان فيلم جعفر بناهي قد استحق الفوز بالسعفة الذهبية أم لا.

هذه المسألة أُثيرت هنا قبل ذلك في رسالة من «كان» تلت إعلان الجوائز، حيث ورد، ضمن ما ورد، أن الجائزة سياسية أكثر منها فنية، وأن «صراط» و«صوت السقوط» (الأول إسباني والثاني ألماني) كانا أكثر استحقاقاً.

لكن الموضوع يستأهل بالطبع بعض التفسير. ليس أن «حادث بسيط» خلا من الإيجابيات؛ فهناك معالجة المخرج التي تُحسن الحفاظ على البُعد النقدي المطروح، وحُسن إدارته للممثلين. لكن كلا هذين العنصرين ليس كافياً لجائزة بوزن السعفة، خصوصاً أن الناتج مبسّط، يعتمد الحوار لشرح الحكاية والانتقال بين مرافقها. مما يؤكّد أن أحد المبرّرات الرئيسية لمنح الفيلم تلك الجائزة كان سياسياً، يخدم الرغبة في إثارة الموضوع المطروح، بناءً على ذلك الخلاف القائم بين إيران والغرب.

صحيح أن الفيلم ينتقد الرقابة وصنوف الترهيب والسجن في إيران، لكن هذا يرد إيحاءً وحواراً، وليس عبر أسلوب فني يتجاوز المباشرة.

«صراط» لأوليفر لاكس لديه رسالة أشمل وأعمّ، وفيه قبس روحاني مدعوم بأسلوب بصري مبهر. كونه خرج بجائزة لجنة التحكيم (مناصفة مع الفيلم الألماني) يعني أنه كان مرشّحاً للسعفة.

روح شبابية

هذه ليست المرّة الأولى التي يمنح فيها «كان» جائزته الكبرى هذه لفيلم لا يستحقها.

في عام 1989، ضُحي بأربعة أفلام رائعة لقاء منح الجائزة لفيلم ستيفن سودربيرغ «جنس، أكاذيب وأشرطة فيديو» (Sex, Lies and Videotape) (أميركي). تلك الأفلام هي: «افعل الشيء الصحيح» (Do the Right Thing) للأميركي سبايك لي، و«وقت الغجر» (Time of the Gypsies) لأمير كوستاريتزا (بوسني)، و«مطر أسود» (Black Rain) لشوهاي إيمامورا (اليابان)، و«سينما باراديسو» (Cinema Paradiso) لجيسيبّي تورناتوري.

وكان «التضحية» (The Sacrifice) للروسي أندريه تاركوڤسكي قد أذهل مشاهديه في «كان» سنة 1986، لكن لجنة التحكيم فضّلت عليه فيلماً أقل منه قيمة، هو «المهمّة» (The Mission) لرولاند جوفي (إنتاج بريطاني، فرنسي، أميركي).

خسر سبايك لي مجدداً عندما شارك في فيلمه الرائع «حمّى الغابة» (Jungle Fever)، إذ ذهبت السعفة في سنة 1991 إلى «بارتون فينك» للأخوين جويل وإيثان كوين. كلاهما جيّد، لكن فيلم سبايك احتوى كل ما يريده المهرجان من تجديد وروح شبابية ممزوجين بسرد جيّد.

واحد من أكبر الأخطاء المرتكبة كان حرمان «ميستيك ريڤر» (Mystic River) لكلينت إيستوود من السعفة، ومنحها إلى واحد من أسوأ أفلام عام 2003، وهو «فيل» (Elephant) لغاس ڤان سانت، على اعتبار أن فيلم إيستوود لا يحتاج إلى تشجيع، بخلاف «فيل» المستقل. عذر واهٍ، لأن على الحُكم أن يكون فنياً.

الغاية ليست القول إن لجان التحكيم فشلت طوال الوقت؛ فهناك سنوات عديدة أصابت في اختياراتها بلا ريب، لكن تلك الأعوام التي ذهبت فيها السعفة إلى أفلام ليست الأفضل تبقى عالقة في البال كذلك.

سنوات ضوئية

المسألة تتعدّى المهرجان الفرنسي إلى مهرجانات عديدة، وبل إلى أكاديمية العلوم والفنون السينمائية التي توزّع الأوسكار. مثلاً في 1950 مُنح أوسكار أفضل فيلم لعمل هش اسمه «كل شيء عن إيڤ» (All About Eve) لجوزيف مانكوڤيتز. والفيلم هو عالم الفن والممثلين. في العام نفسه كان هناك فيلم أفضل منه هو «صنست بوليڤارد» لبيلي وايلدر الذي دار كذلك عن عالم الفن والممثلين. المقارنة بين هذين الفيلمين برهان على أن فيلم وايلدر الممتاز تمّ التضحية به لصالح فيلم نصف رديء.

في 1980 منحت الأكاديمية جائزتها الأولى لفيلم «كرامر ضد كرامر» لروبرت بينتون. هذا مخرج جيد لكن الفيلم الذي كان يستحق الفوز بسنوات ضوئية هو «القيامة الآن» (Apocalypse Now) لفرنسيس فورد كوبولا. إذا كان الأمر يتعلق برسالة عائلية في الفيلم الفائز فإنه يتعلّق برسالة كونية ضد الحروب ممتزجة بعناصر بصرية ومشهدية لم تقع قبل أو بعد «القيامة الآن».

في عام 2012 ترشح للأوسكار فيلمان تداولا تاريخ السينما هما «الفنان» لميشيل هازاناڤيشوس و«هوغو» لمارتن سكورسيزي، والثاني هو أفضل صنعاً من الأول الذي خطف الأوسكار حينها. تعامل «الفنان» مع حكاية موضّبة على نحو مثير حول بدايات السينما. دار «هوغو» حول المرحلة نفسها إنما بتفاعل يبتعد عن الإبهار ويتميّز بصدق حبه لها. فيلم آخر كان أجدى من «الفنان» في ذلك العام هو «شجرة الحياة»، تحفة من ترنس مالك.

خيارات

ازداد تكرار الخيارات السيئة في السنوات القليلة الماضية. في 2021 فاز شيء يشبه الفيلم، عنوانه Nomadland، بالأوسكار عنوةً على فيلم كامل عنوانه «الأب». وفي 2022 فاز فيلم «كودا» المسلي، وفي 2023 تأكد خروج مانحي الأوسكار عن تبعات التمييز بين ما هو فني وبين ما هو فوضى باسم الفن عندما فاز فيلم «كل شيء في كل مكان في وقت واحد» (Everything Everywhere All at Once). وفي هذا العام خطف فيلم «أنورا» (Anora) الأوسكار من يدي فيلم أفضل هو «ذا بروتاليست» (The Brutalist).

الغالب في كل هذه الأمثلة هو تفضيل المبسط على المركّب، والسهل على الصعب، والمضمون على الفن.

 

####

 

شاشة الناقد: فيلمان رائعان ما بين هدوء الإيقاع وعنفه

لندنمحمد رُضا

HOME SWEET HOME ★★★★

إخراج: رينيه فريله بيترسن

دانمارك | دراما (112 د)

عروض 2025: مهرجان «سياتل» (الولايات المتحدة)

يتبع هذا الفيلم منهج الجمع بين الحكاية الدرامية والسرد التسجيلي. هذه مدرسة ازداد عدد المنتمين إليها من المخرجين الذين يكتبون سيناريو روائياً ويصورونه كما لو كانوا يتابعون الحياة من دون إيقاعاتها ومفارقاتها. معظم هذا النوع يتعثر ويثمر عن نصف نجاح أو أقل، لكن هذا الفيلم يمسك بالمعادلة الصعبة جيداً ويمنح مشاهديه معايشة لما يعرضه على نحو صادق ومثير للمتابعة.

إنه عن الشابة صوفيا (ييت سوندرغراد) التي تبدأ العمل في مركز للعناية بكبار السن في منازلهم. مشهد الافتتاح يُصور يومها الأول، حيث تترقب، بابتسامة عريضة، ما تقوم به ممرضة أخرى لتتعلم منها. سريعاً بعد ذلك تبدأ العمل منفردة وبكل عناية. تتكلم وتستمع وتُداوي، ومن ثم تنتقل إلى منزل آخر فيه مريض آخر. كل شيء يبدو طبيعياً، لكن العين تراقب تبدلات لاحقة وتطورات تجعل عمل صوفيا أكثر صعوبة عندما تواجه، بعد حين، تذمر المرضى ومواجهات لم تكن في حسبانها.

تحاول صوفيا في البداية التعايش مع متطلبات وظيفتها والتعامل مع إحباط وعجز من تُنتدب لتأمين متطلباتهم. بعد حين، ينعكس كل ذلك عليها ويجعلها أقل استجابة وأكثر استعداداً لتقديم الأقل في أسرع وقت. إلى جانب أن ابنتها (10 سنوات) تعيش حزناً صامتاً بسبب غياب والدتها عنها.

الكاميرا عند بيترسن هي عين مستقلة، شريك صامت لما يقع، تتابع أخطاء المؤسسة وتنتقدها عبر تفاصيل منتقاة من دون مبالغة درامية. ألوان وديكورات وأضواء الأمكنة عارية من الدفء. متابعة التفاصيل تؤدي إلى نقد المؤسسة التي تقضم سعادة العاملين فيها.

HIGHEST 2 LOWEST ★★★★

إخراج: سبايك لي

الولايات المتحدة | تشويق (133 د)  

عروض 2025: مهرجان «كان» (فرنسا)

الرقم 2 في العنوان هو بديل لكلمة to والفيلم مأخوذ عن «عالٍ ومنخفض» (Hight and Low) للياباني أكيرا كوروساوا. وكلاهما - سبايك لي وكوروساوا - يستندان إلى رغبة كل منهما تداول أزمة أخلاقية - اجتماعية - عائلية ناتجة عن عملية خطف مقابل فدية.

المسيرة بدأت سنة 1963 عندما اقتبس كوروساوا رواية وضعها الأميركي إيفان هنتر. جيل كامل عاش على روايات هنتر البوليسية (منهم هذا الناقد)، خصوصاً تلك التي كتبها تحت اسم آخر هو إد ماكبين. وهو كتب سيناريوهات للسينما، أشهرها سيناريو فيلم «الطيور» لألفرد هيتشكوك سنة 1963، المأخوذ عن قصة لدافني دو مورييه.

كوروساوا حوّل رواية هنتر «فدية كينغ» إلى «عالٍ ومنخفض» للتعبير عن مستويات أخلاقية ومهنية، وصوّر فيلمه بالأبيض والأسود، محولاً اسم الشخصية الرئيسية من كينغ إلى كينغو. سبايك لي عاد إلى الاسم الأصلي في الرواية وصوّر الفيلم ملوّناً في نيويورك.

يحاذي «عالٍ ومنخفض» فيلم كوروساوا في إجادة التنفيذ، مع اختلاف كبير في استخدام المفردات التقنية والفنية. لكلٍّ منهما أسلوبه، ونقطة اللقاء هي سرد محكم لدراما تشويقية هي أكثر من مجرد فيلم بوليسي.

في الفيلم الجديد، يعاني كينغ (دنزل واشنطن) من متاعب مادية، ويرى أن إنقاذ شركته يعتمد على التفاوض مع شركائه بُغية شراء حصصهم. لا اتفاق، بل غضب. بعد انتهاء اجتماع بلا نتيجة واضحة، يرنّ الهاتف. هناك من يُخبر كينغ أن ابنه تراي (أوبري جوزيف) قد خُطف. يتحوّل كل شيء إلى عاصفة، ثم تزداد الأزمة صعوبة عندما يصله نبأ أن ابن سائقه الخاص (جيفري رايت)، واسمه كايل (يؤدي دور كايل إيلايجا رايت، ابن الممثل جيفري رايت في الواقع)، هو أيضاً مفقود. لقد ارتكبت العصابة خطأً حين خطفت ابن السائق معتقدةً أنه ابن كينغ. المعضلة هنا هي: هل كينغ على استعداد لدفع الفدية (نحو 17 مليون دولار) لإنقاذ ابن سائقه، في الوقت الذي يسعى فيه لتجاوز أزمة شركته المالية؟ هذا هو الجانب الأخلاقي من الفيلم. النصف الثاني منه يعتمد على الحركة، والإيقاع، والنبرة التشويقية القائمة على الإثارة. لكن الفيلم لا يفلت من يد سبايك لي لسببين: الأول أنه أحكم قبضته على العمل ككل بفضل سيناريو جيد لآلان فوكس، والثاني اعتماده على تصوير ماثيو ليباتيك تواكب نظرة المخرج الخاصة لمدينة نيويورك.

في أفلامه السابقة، مثل «حمى الغابة» و«الساعة الخامسة والعشرين» (25th Hour)، تعامل مع هذه المدينة بحب، رغم واقعية تصويره لها. لمدينة نيويورك وجهان، وكلاهما موجودان في أفلام المخرج؛ أحدهما جميل، والآخر قبيح، وكلاهما يتناصفان. موسيقى هوارد دروسِن أكثر من عنصرٍ مكمّلٍ لفيلمٍ يُعَدّ من أفضل أعمال المخرج حتى اليوم.

ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز

 

الشرق الأوسط في

05.06.2025

 
 
 
 
 

"كعكة الرئيس": تجربة سينمائية مميزة عراقيًا وعربيًا

محمد هاشم عبد السلام

كان اختيار الفيلم العراقي "كعكة الرئيس" The President's Cake للمخرج الشاب حسن هادي للمشاركة في تظاهرة "نصف شهر المخرجين" في دورتها الـ57، مفاجأة غير متوقعة أبدًا، سيما وأن السينما العراقية كانت غائبة عن المحافل الدولية والعربية منذ سنوات طويلة. يضاف إلى هذا، وهو من الأمور المثيرة للغرابة، أن اسم مخرج الفيلم لم يكن معروفًا من قبل، أو بالأحرى يعتبر مجهولًا تمامًا في الساحة السينمائية العربية، ناهيك بالدولية، إذ لم ينجز حسن هادي إلا فيلمًا قصيرًا، ومونتاج حفنة أفلام قصيرة.

المثير للإعجاب أن "كعكة الرئيس" فاز بجائزة "أفضل فيلم" في التظاهرة. وهي جائزة تمنح بناء على تصويت الجمهور للأفلام المعروضة. ورغم أن الفيلم هو الروائي الطويل الأول للمخرج، وأول مشاركة عراقية خالصة في هذا القسم، وفي مهرجان "كانّ" بصفة عامة، فقد حقق حسن هادي مفاجأة كبرى بتتويجه بواحدة من أرفع جوائز المهرجان، "الكاميرا الذهبية". وتمنح للفيلم الأول لمخرجته أو مخرجه، شريطة أن يكون من الأفلام اللافتة أو المتميزة المعروضة في مختلف مسابقات وفعاليات المهرجان. لا شك في أن الجائزة المستحقة، التي منحتها المخرجة الإيطالية وكاتبة السيناريو أليتشيا رورفاخر، ستفتح أمام الفيلم ومخرجه آفاقًا للتحليق في مهرجانات عالمية مختلفة، وتتيح له التوزيع في أسواق بلدان العالم. ناهيك بأنه سيكون خير ممثل للعراق في ترشيحات "أوسكار" العام القادم.

وبهذا الإنجاز، يعتبر "كعكة الرئيس" أول فيلم عراقي ينتزع جائزتين رفيعتين دفعة واحدة، في أول مشاركة له في مهرجان "كانّ". وأول فيلم ومخرج عراقي يحصلان على هذه الجائزة الرفيعة، "الكاميرا الذهبية" منذ إطلاقها في عام 1978 على يد الناقد السينمائي ورئيس المهرجان السابق جيل جاكوب.

تدور أحداث فيلم "كعكة الرئيس" الذي يحمل أيضًا عنوان "مملكة القصب"، في تسعينيات القرن الماضي، خلال فترة حكم الرئيس السابق صدام حسين. تحديدًا، فترة الحصار الأميركي الخانق، والمتبدية تبعاته على كافة أوجه الحياة اليومية في الشارع العراقي. حيث تقنين المياه، وندرة الطعام، وشح الدواء، والتضخم الهائل. في ظل هذه الأجواء الكارثية، لا يستنكف الحاكم عن الاحتفال سنويًا بعيد ميلاده. أما زبانيته فلا يتورعون عن التهديد والوعيد والتنكيل بمن يفكر في التقاعس عن الاحتفال أو المشاركة في هذا اليوم. ناهيك عمن يتهرب من شرف المهام الموكلة لهم فيه، بمن في ذلك طلاب المدارس. وذلك، من دون أدنى اعتبار لمشاكل الجوع والفقر والتضخم وشح مواد الغذاء الأساسية، وما تعانيه البلاد والعباد من مصاعب حياتية.

عبر لقطة افتتاحية، طويلة ومحكمة وساحرة، لموقع نهري في أهوار العراق، حيث البيوت القديمة المبنية بعيدان القصب، والزوارق الرفعية كوسيلة وحيدة للانتقال، والذهاب والإياب، يفتتح المخرج حسن هادي فيلمه. رؤية فنية تكشف عما يخبئه المخرج من اهتمام بمستويات الصورة والسرد البصري، غير المتكلف ولا المصطنع، ودقة بكافة التفاصيل، جعلت الفيلم يفلت من العيوب المعهودة في التجارب الأولى. أمر يؤكده استعراض المخرج لقدراته في كتابة قصة بسيطة، مقنعة ومؤثرة جدًا، وصادقة قبل كل شيء، وذكاء بالغ تجلى في حوارات سلسة، وإسناد الشخصيات إلى صبية وصبي، ليحملا الفيلم ورؤيته على كتفيهما. مخاطرة كان من الممكن أن تدمر كل شيء، سيما وأنهما وبقية طاقم الفيلم ليسوا ممثلين محترفين. لكن حسن هادي قدَّمَ للسينما العراقية موهبتين رائعتين فعلًا، وخلق بينهما كيمياء أو حالة من التناغم والانسجام قلما توجد بين طفلين. ومن دون مبالغة، يعتبر هذا الاكتشاف والأداء الاحترافي الرفيع من جانبهما، تحت إدارة مخرج واع، من بين أجمل وأصدق الأداءات في السينما العربية. والفيلم إجمالًا - بالأخص الأداء الصادق للطفلين في أغلب المشاهد - يستدعي إلى الذهن روائع مماثلة في تاريخ السينما العالمية. ورغم التشابة أو التقاطع مع هذه الأعمال، إلا أن لتجربة حسن هادي خصوصيتها وفرديتها، وتتوفر على قدر كبير من الأصالة، دون شك.

يتمحور "كعكة الرئيس" حول رحلة الطفلة الفقيرة، ذات التسع سنوات، لميعة (بنين أحمد نايف)، التي تعيش مع جدتها المريضة على نحو خطير بالسكر، وغيره من الأمراض، بيبي أو فطيمة (وحيدة ثابت خريبات). لا نعلم الكثير عن خلفيتها الأسرية، عن والديها مثلًا أو ما حدث لهما. بإخلاص واجتهاد وبراءة، تحاول لميعة مساعدة جدتها في الشؤون اليومية المعتادة، البعيدة كل البعد عن أية أجواء تشجع على التعليم والدراسة. ومثل كل الأطفال، تود الهرب والتملص من القيام بالواجبات والذهاب إلى مدرسة، خاصة في يوم "السحب". لاحقًا، نعلم عن هذا اليوم الذي يقام في أنحاء العراق، ويتم فيه إجراء قرعة نزيهة، قبل يومين من عيد ميلاد الرئيس، لاختيار المكلف بمهام جلب أدوات الاحتفال، وبالأخص إنجاز كعكة عيد الميلاد.

"يطلعنا حسن هادي على قصة جيل، كابد فساد نظام، وأجبرته الظروف على النضج قبل الأوان، ومعاينة قبح وفساد وقسوة العالم من حوله، وفوق هذا مكابدة ألم الفقد والفراق"

في ظل أجواء متوترة، وحرب وشيكة، وحصار خانق، وشح في مواد الطعام، وخراب الذمم والضمائر، يقع الاختيار على لميعة المسكينة لإعداد الكعكة، وعلى زميلها وصديقها وجارها سعيد (سجاد محمد قاسم) لجلب الفاكهة. ما يجعلهما ليس فقط في موقف لا يحسدان عليه، وهما الأكثر فقرًا، بل أيضًا في سباق محموم لإنجاز المهمة الوطنية المستحيلة تقريبًا قبل انقضاء الوقت. بهذه القصة البسيطة، الصادقة والقريبة من الواقع، يقدّم الفيلم رؤية إنسانية مؤثرة، تنقل قسوة الواقع ومرارته، وتتقاطع مع الحاضر أيضًا، وذلك بلغة سينمائية جيدة جدًا، وبسيطة للغاية، مؤثرة ومشوقة أيضًا، تجمع بين الرمزية والفنية والصدق.

من خلال توليفة رائعة، مغلفة بروح تتدرج بين الدراما المحبوكة المتوازنة جدًا، والأداء المقنع، والكوميديا السوداء النابعة من الخيوط الدرامية ذات المواقف البسيطة الآخذة في التعقد تدريجيًا، تتدفق الأحداث، بسهولة وانسيابية، عبر رحلة تسعى من خلالها لميعة وسعيد لجلب المطلوب. رحلتهما ليست عبر الزوارق المعتادة بمنطقتهما الفقيرة، بل عبر سيارة وسفر وطرقات طويلة إلى أقرب مدينة، حيث اختلاف الحياة وأسلوب وسلوكيات التعامل. هناك، نعاين الكثير من مفردات الحياة العراقية، وسلوكيات البشر خلال فترة من أحلك الفترات. ونلامس مدى ثقل المهمة، وعسر التحصل على المطلوب نظرًا لشح الدقيق، واختفاء السكر، وصعوبة التحصل على البيض أو توفر الفاكهة.

أيضًا، كان للمواقف غير الإنسانية التي تعرّضا لها، خاصة لميعة، أبلغ الأثر على ردود أفعالهما وسلوكياتهما وتصرفاتهما. إذ، بعدما هربت من جدتها، وبات سعيد هو رفيق الدرب الوحيد في رحلتها الملحمية، تعرضت لميعة لمواقف غير متوقعة ولا مسبوقة. مثلًا، يلتقيان بقالًا يستغل جنسيًا امرأة جائعة وحامل، ويغريهما بتوفير السكر حال حراستهما لهما ريثما ينتهيا، أو النصب عليهما ومنحهما نقودًا مزيفة، أو سرقة ديك لميعة الحبيب "هندي". وغيرها من المواقف المُزلزلة، وكان أقساها نجاتها بصعوبة من مخالب عجوز حقير مفترس وسيء النية، حاول اصطحابها للسينما بعدما أقنعها بالعثور على ديكها.

بنبرة هادئة ومتمكنة، يطلعنا حسن هادي على قصة جيل (أو حتى أجيال) جُرّد من طفولته وانتهكت آدميّته وفقد براءته، وكيف حلَّ الخوف محل اللهو واللعب والفرح والانفتاح على العالم، واستبدلت الأحلام بالطاعة العمياء، والألم والرعب؛ قصة جيل، كابد فساد نظام، وأجبرته الظروف على النضج قبل الأوان، ومعاينة قبح وفساد وقسوة العالم من حوله، وفوق هذا مكابدة ألم الفقد والفراق. إذ يعكس سيناريو الفيلم - بطبقاته المتعددة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا - الذي كتبه المخرج باحترافية شديدة، تعقيدات الحياة اليومية في العراق، وصنوف القهر المتعددة التي عاناها الشعب في ظل الحكم الاستبدادي. وإن كان الإطار العام، لما نسجه وسرده في الفيلم، ينسحب أيضًا على بلدان عربية كثيرة، أو أية بلاد تخضع أو خضعت لحكم استبدادي، كذلك، تنطبق الفكرة العامة والخيوط العريضة على أي نظام بطريركي الطابع، حتى على مستوى الأسرة الصغيرة.

اللافت للنظر التواجد السينمائي العراقي المكثف والملحوظ هذا العام. إذ بعد تمثيل لافت في "مهرجان برلين السينمائي الدولي" بفيلم روائي قصير بعنوان "تحتها تجري الأنهار" للمخرج علي يحيى، وحصوله على "تنويه خاص"، لم يتوقف الأمر عند اختيار "كعكة الرئيس" وفوزه التاريخي في "كانّ". فقد وقع الاختيار أيضًا على ترميم فيلم "سعيد أفندي" للمخرج كاميران حسني، وهو من أفلام فترة منتصف خمسينيات القرن العشرين الماضي، وعرضه ضمن برنامج قسم "كلاسيكيات كانّ".

كما أكدت وزارة الثقافة العراقية على المشاركة الدولية السينمائية من خلال التواجد في "سوق الفيلم"، وحضور بعض أهل الصناعة للترويج لمبادرة دعم السينما. إذ يبدو أن ثمة محاولة جادة للانطلاق بالسينما العراقية، وتواجدها على الساحة العربية والدولية بشكل فعال، سواء من خلال الأفلام، أو الإنتاج المشترك، أو إقامة المهرجانات الدولية والفعاليات المختلفة، وحتى إصدار سلسلة متخصصة في الكتب المؤلفة والمترجمة، وغيرها من المشاريع التي يرجى أن تخرج للنور سريعًا لإثراء الساحة السينمائية العربية. المرجو أن يكون التواجد العراقي، وبالأخص فوز "كعكة الرئيس"، حافزًا لصناعة السينما العراقية، وتحديدًا العمل على إعادة تأهيل دور العرض العراقية للعمل، وانتشارها مجددًا كما في السابق.

 

ضفة ثالثة اللندنية في

05.06.2025

 
 
 
 
 

"صراط" الإسباني أوليفر لاسي: أوديسا صحراوية فريدة

محمد هاشم عبد السلام

في "صراط"، رابع روائي له، يُعمِّق الإسباني أوليفر لاسي تجربتيه الوجودية والصوفية بفيلمٍ ملحمي، يتقاطع والأوديسا. لكنّ الرحلة الأوديسية هنا صحراوية الطابع، ليس لأنّ لاسي يستكشف الصحراء ويسبر أغوارها للمرة الأولى. فهو من المحنّكين في دروبها ومجاهلها، مُقدّماً إياها في مشاهد خلاّبة في "ميموزا" (2016): رحلة روحية وصوفية، وعبثية بعض الشيء، تحتضنها صحراء شتوية قارسة البرودة، وثلوج غامرة، وشخصيات من قلبها وتراثها، وعناوين بلغة عربية فصحى، ومشهد ختامي ينتهي بتكبيرات الحج.

في جديده، يقتصر استخدام اللغة العربية على العنوان. تتردّد كلمات عامية مغربية، كتحية سريعة، ونقاش عابر، وتلاوة قرآنية في قناة تلفزيونية دينية. لكنّ الفيلم لم يُقسّم إلى فصول بعناوين عربية كما في "ميموزا"، ولا تنطق الشخصيات بالعامية المغربية، فالغلبة للّغة الإسبانية.

اكتفى لاسي بكون العنوان يُلخّص الدراما، ويحيل إلى مكنونها الفكري. إذْ جرت الإحالة إلى الصراط في أكثر من مشهد وحلم، تجلّى أروعها في العبور المستقيم والسريع والسحري للشخصية الأساسية فوق ألغامٍ، وصولاً إلى الطرف الآخر الآمن من دون أنْ تُمَسّ، ما استدعى تساؤلات من رفاق لها متعجّبين وخائفين من تقفّي أثرها، أو صراطها المستقيم.

لا يختلف "صراط" كلّياً عن "ميموزا"، طرحاً ومعالجة، لكنّه يتوفّر على رؤية فنية أنضج وأعمق وأكثر إقناعاً، حتّى من "ستأتي النيران" (2019). هناك إتقان هائل للصورة، واستغلال جمالي خلاّب للمناظر الصحراوية البكر، خاصة مشاهد الانتقال من الصحراء المغربية إلى تلك الموريتانية. الأحداث في "صراط"، على نقيض "ميموزا"، تحصل في الصيف، في خشونة الصحراء القاحلة اللاهبة، وقسوتها ووعورتها، وهبوب العواصف الترابية، والشمس الحامية، والقيظ المهلك.

بإعادة توظيفه الرحلة الملحمية في الصحراء، لا يُكرّر لاسي نفسه أبداً، إذْ يُلاحَظ مدى تطوّره الفني ونضجه الفكري مقارنة بـ"ميموزا": الصحراء ليست خلفية للأحداث، إذْ تجاسر بجعلها المحرّك الدرامي، والدافع المتحكم في حركة الشخصيات وتطوّرها وردود أفعالها. يُقلِّل من استخدام الفانتازيا والأحلام، في مقابل توظيف ثقيل الوزن فنياً للموسيقى التصويرية، خاصة موسيقى التكنو المزلزلة لكيان من يسمعها. رغم أنّها ليست للسماع، كما تقول إحدى الشخصيات، بل للرقص. الأدوات الفنية الجريئة والغريبة، والتوظيف الرائع والبارع لشخصيات مكتوبة بمهارة، وحبكة بعيدة عن المطروق، كأغلب أفلامه المفارقة للمعهود والسائد، روحياً وفكرياً وبصرياً، هذا كلّه جعل "صراط" متميّزاً ومتفرّداً، ولا يشبه غيره تقريباً، ويكاد يتقاطع مع أفلامه السابقة، روحياً وفنياً وجمالياً.

بعيداً عن أبعاده الروحية والفكرية والفلسفية، وما يزخر به من جماليات فنية ومتعة بصرية وأداء أخّاذ، يمكن التأكيد على أنّ لـ"صراط" قَدراً كبيراً من الفنية والصدق. في الصحراء، فارّون من جحيم الحياة ومشاكلها إلى رحابة الأفق وصخب الموسيقى الجنونية، وهذا يُعَدّ بامتياز من أهم الأفلام السياسية في هذا العام. ليس لأنّ شخصية سألت أخرى عن رأيها عن شكل نهاية العالم، والأخيرة أجابتها بتردّد أنّ تلك النهاية حصلت منذ فترة طويلة؛ وليس لأنّ الراديو يتناول مشاكل سياسية واضطرابات ومفاوضات؛ ولا لأنّ الجيش حضر فجأة إلى قلب الصحراء لفضّ التجمّع الغنائي الراقص، نظراً إلى خطورة الأوضاع بالمنطقة.

هذا كلّه ليس مهماً كثيراً، ففي النهاية، وباستعراض مصائر ما تبقى من الشخصيات، يؤكّد لاسي أنّ هؤلاء الصعاليك، غير المبالين بالعالم ومشاكله، الذين تركوا الحياة برمّتها وعانقوا الصحراء، والذين لا يؤذون ولا ينشغلون بأيّ شيءٍ خلا الموسيقى والرقص والتدخين والمخدّرات وغيرها، هؤلاء الصعاليك، أو الـ"هيبز" المُسالمين، لن ينجوا بحيواتهم أيضاً. إذْ حتى في قلب الصحراء القاحلة، وفي ظلّ انتفاء الحرب أو وجود عدو واضح واشتباك صريح، يسقطون ضحايا القتل والدمار والهلاك.

يبدأ "صراط" ـ الفائز بجائزة التحكيم، مناصفة مع "صوت السقوط" للألمانية ماشا شيلينسكي، في الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ" ـ بلقطات استعراض، طويلة وسريعة ورائعة، لمكبّرات صوت ضخمة تُنصب وسط الصحراء المغربية، استعداداً لحفلة صاخبة. بين حشود الحفلات، من مهووسين ومأخوذين وسكارى و"هيبز" وصعاليك، يقف رجل في منتصف العمر يُدعى لويس (سيرجي لوبيز)، مع ابنه الصغير إستيبان (برونو نونيز) وكلبتهما اللطيفة بيبا، باحثاً عن ابنته التي لم يرها منذ خمسة أشهر، بعد ذهابها إلى حفلةٍ مماثلة.

لتمسّكه بخيط رفيع كما الصراط، يُشير إلى احتمال وجود ابنته في حفلة أخرى سيذهب إليها هذا الحشد، يغامر لويس وإستيبان، بسيارتهما غير المؤهّلة، للانضمام إلى الجميع، والذهاب إلى الحفلة الصاخبة في عمق الصحراء. رحلة قاسية وشاقّة جداً، محفوفة بمخاطر مُهلكة. لكن لويس يتعرّف فيها على أشياء كثيرة، ويصبح (ولو لفترة) صديقاً لعائلة من الرحّالة الصعاليك.

خمسة مجانين رائعين (ممثّلون هواة بأسمائهم الحقيقية: ستيفانيا جادا وجوشوا هندرسون وجيد أوكيد وريتشارد بيلامي وتونين جانييه)، يستمتعون بحياة الكفاف في شاحناتهم المتهالكة، وانطلاقهم العدمي، وموسيقاهم الغريبة الصاخبة، وما يتعاطونه من مواد غريبة. يتقبّل شخصياتهم ونزقهم والإعاقات الجسدية لبعضهم، ليخرج من وحدته وحزنه، وينتمي إليهم بوصفهم عائلة جديدة ينسجم مع أفرادها، وإن تقف الأمور لهم بالمرصاد، في النهاية.

لا يرحم لاسي أبطاله. يُسقطهم الواحد تلو الآخر بدم بارد وجسارة درامية واقتدار فني، لا يجسر عليه إلاّ مخرجاً كبيراً مثله.

 

العربي الجديد اللندنية في

06.06.2025

 
 
 
 
 

فيلم “الموجة الجديدة” عمل فني مغموس بالحب

أمير العمري- كان

الخيال الواقعي أو المبني على الواقع، على معلومات ومعطيات محددة، يتجلى في فيلم المخرج الأمريكي ريتشارد لينكليتر الجديد “الموجة الجديدة” Nouvelle Vague الذي وجد مكانه الطبيعي بين أفلام مسابقة مهرجان كان السينمائي الـ78.

الفيلم أولا هو أول فيلم لمخرجه ناطق في معظمه باللغة الفرنسية، وثانيا أن موضوعه هو تلك الحركة السينمائية الشهيرة التي أعادت تشكيل وجه السينما الفرنسية أي “الموجة الجديدة”، وثالثا، أنه يتوقف أساسا أمام الفيلم “الأيقوني” الفرنسي “على آخر نفس” لمخرجه جون لوك جودار، بل وأمام شخصية جودار نفسه، الذي أقام الدنيا ولم يقعدها حتى وفاته التي اختارها بنفسه.

يمكن اعتبار فيلم لينكليتر تحية مشوبة بلمسة من النوستالجيا، لجماعة السينمائيين الفرنسيين الشبان الذين صنعوا “الموجة الجديدة” التي غيرت وجه السينما الفرنسية رغم عمرها القصير نسبيا، ورغم أن من ظل منهم مخلصا إخلاصا تاما لمبدأ التمرد بقوة على نهج السينما القديمة، كان عمليا، هو جودار وحده.

لذلك ليس غريبا أن يصبح جودار في قلب فيلم لينكليتر رغم أنه جاء بعد لوي مال وشابرول وتروفو. وهذا ما يصوره الفيلم في البداية، بما يشي بشعور جودار بالغيرة من زملائه من نقاد مجلة “لي كاييه دي سينما” (كراسات السينما) الذين سبقوه إلى الإخراج السينمائي بينما هو صاحب المقولة الشهيرة”: “إن أفضل وسيلة لنقد أي فيلم هو أن تصنع فيلمك”. وهي مقولة ليست صحيحة تماما، وإلا لما بقي هناك نقاد سينمائيون!

فيلم “الموجة الجديدة” مصور بالأبيض والأسود، وطبقا للمنسوب “الأكاديمي” أي الشاشة الضيقة الصغيرة لمحاكاة الأسلوب الذي كان سائدا في تلك الفترة، وفي الوقت نفسه، لمحاكاة أسلوب تصوير فيلم “على آخر نفس” A bout de souffle بوجه خاص (يترجمه كثيرون، اللاهث، أو النفس الأخير) وهو ما يتوقف أمامه فيلمنا هذا تفصيلا، مستعرضا من خلال أسلوب كلاسيكي مناقض تماما لنهج جودار، تجربة إنتاجه ومراحل تصويره وطريقة مخرجه في العمل، وما أحاط بالفيلم من أمور كثيرة لا شك في غرابتها كل الغرابة.

يصور الفيلم في البداية، النجاح الكبير الذي حققه عرض فيلم “400 ضربة” لتروفو في مهرجان كان حيث كان جودار وزملاؤه حاضرين، وانطلاق رغبة جودار في إخراج فيلمه الأول استنادا على فكرة اشترك في كتابتها تروفو مع شابرول، الأمر الذي شجع المنتج جورج دو بورجار على تمويل إنتاج الفيلم، خصوصا بعد أن أقنعه جودار بأنه يستطيع أن يصور الفيلم في 20 يوما وبميزانية صغيرة للغاية.

لم يكن جودار يعرف كيف يمكن أن يسير الفيلم، كان لديه سيناريو أولي في صفحتين أو ثلاثة، أي أنه دخل التصوير تقريبا من دون أن يكون لديه سيناريو مكتمل واضح المعالم، بل مجرد أفكار، كان – كما نرى-  يقوم بتطويرها وتعديلها خلال التصوير، وحسب ما يشعر به ويراه ولكن من المؤكد أن فكرة جودار عن السينما وعن صنع الأفلام، كانت شديدة التمرد من البداية على  ما هو سائد، ولم يكن الأمر عشوائيا كما يصوره فيلم لينليكيتر الذي يجعل الفيلم يبدو كما لو كان بكامله عملا ارتجاليا، وأن جودار لم يكن وقتها سوى مجرد “مهرج” لكنه وفق بفضل “عبقريته” الخاصة إلى إنتاج عمل يبقى في الأذهان ويتحدى الزمن، ومع ذلك ليس من الممكن أن يختزل جودار بالطبع اختزاله في فيلم واحد. لذلك فعنوان الفيلم لا يتسق تماما مع محتواه، فهو في الحقيقة” كيف صنع جودار فيلمه الأول، وليس “الموجة الجديدة” بل ولا حتى “سينما جودار” المتعددة الأوجه التي امتدت لعقود طويلة.

ملحوظة: جودار أخرج فيلما عام 1990 بعنوان الموجة الجديدة

يتوقف الفيلم طويلا أمام يوميات تصوير “على آخر نفس” بأسلوب الفيلم التسجيلي الذي يتضمن كتابة العناوين وأسماء الشخصيات المختلفة التي تظهر على الشاشة، والتعاقب الزمني الطبيعي من اليوم الأول حتى اليوم الأخير من التصوير، بتركيز على شخصية جودار، بنظاراته الشمسية الداكنة، وميله للمشاكسة والتشبث بما يراه من أفكار تبدو للآخرين أفكارا مجنونة، ومزاجيه المتقلب، والأهم من هذا كله، رفضه الالتزام بقواعد السينما، وخصوصا تشبثه بكسر الاستمرارية الزمنية في المشهد خلافا لما تنبهه إليه مساعدته بينما يصرخ هو في وجهها في أحد المشاهد أن “الاستمرارية نقيض الواقع”.

ورغم تأملات جودار الفلسفية التي يعكسها الفيلم ولو على استحياء، إلا أنه يبرز أيضا جانبا ربما بدا كاريكاتوريا بعض الشيء، وهو الجانب الفكاهي الساخر في شخصيته التي عرفت بجديتها الشديدة، وميله للتعليق الهجائي، خصوصا تجاه صناعة السينما التقليدية.

يبدأ الفيلم بتقديم الشخصيات التي ستلعب الأدوار الأساسية في حياة الفيلم، اختيار مساعد المخرج “بيير ريسنت” بناء على ترشيح المنتج دو بورجار، والمصور “راؤول كوتار” الذي يختاره جودار في حين أن الحقيقة هي المنتج   هو الذي فرضه على جودار، وكان يرغب في إسناد التصوير إلى مصور آخر. أما كوتار، فكان في الأصل، مصورا فوتوغرافيا ثم اتجه إلى تصوير الجريدة السينمائية والأفلام التسجيلية في شرق آسيا، خلال حرب فرنسا في “الهند الصينية”، وهو ما أضفى على أسلوبه الطابع الواقعي، وميزه بالحركات الحرة الطويلة للكاميرا، وسيصبح فيما بعد من الأبناء الأصليين للموجة الجديدة بعد أن ارتبط مع جودار وصور له كل أفلامه (من 1959 إلى 1967) باستثناء فيلم “مذكر مؤنث”. كما عمل مع عدد من كبار المخرجين الفرنسيين مثل تروفو، وجان روش، وفيليب دي بروكا، وكوستا جافراس (صور فيلمه الشهير زد).

سنرى أيضل كيف أسند جودار بطولة فيلمه الأول، أي دور بطله، الشاب العبثي ميشيل بواكار، إلى جان بول بلموندو، ودور باتريشيا صديقته الأمريكية إلى الممثلة الأمريكية جين سيبرج التي ظلت باستمرار تبدي شكوكها في إمكانيات جودار كمخرج، وتتشكك في أن ما يصوره يمكن أن ينتج عنه فيلما متماسكا ذا معنى.

ويتوقف فيلم لينكليتر كثيرا أمام المفارقات المضحكة التي شابت التصوير، وكيف كان جودار يكتفي بتصوير ساعتين في الصباح ثم يصرف الممثلين، أو يأتي إلى موقع التصوير ذات يوم، فلا يجد شيئا حاضرا في ذهنه فيقرر أن يمنح جميع العاملين عطلة، وكيف أثار تكرار مثل هذه المواقف الغريبة، غضب المنتج وأدى في إحدى المرات، إلى اشتباك بالأيدي بينهما في المقهى الذي كان يجتمع فيه يوميا قبل التصوير مع فريقه!

تظهر في الفيلم شخصيات كانت قريبة من جودار مثل رائد الواقعية الإيطالية الجديدة، روبرتو روسيلليني الذي كان جودار يعتبره أستاذه، وقد جاء في زيارة الى مجلة كاييه دو سينما، والواضح كما يصوره الفيلم أنه كان بخيلا أو مفلسا، فقد طلب اقتراض مبلغ من المال لكي يدفع للتاكسي.. ومن الشخصيات المعروفة الأخرى، المخرج الفرنسي الكبير جان بيير ميلفيل، الذي يعتبر “الأب الروحي” لمخرجي الموجة الجديدة، وسوف يسند إليه جودار دور الكاتب “جون بافولسكو” (من أصل روماني) في فيلمه. وهو مشهد تلقائي، لم يكتب له جودار الحوار بل أعطى الممثلة “جين سيبرج” بعض الأسئلة وترك لميلفيل حرية الإجابة عنها ومنها أسئلة ساذجة مثل “هل يمكن أن يؤمن المرء بالحب في عصرنا” وما الفرق بين الإثارة الجنسية والحب؟ وما هو أكبر طموح لديك؟ وهو ما يجيب عنه بقوله: أن أصبح أبديا ثم أموت!

وفي الفيلم يلتقي جودار- كما حدث في الحقيقة- بأستاذ كبير من أساتذة السينما الفرنسية هو المخرج روبير بريسون أثناء تصويره فيلما في إحدى محطات مترو الأنفاق في باريس حيث يمنحه بريسون بعض النصائح وهو بصدد تصوير فيلمه الأول، وكان جودار وقتها قد قارب الثلاثين من عمره، وشعر أنه تأخر كثيرا عن زملائه الذين سبقوا في إخراج الأفلام، ولم يكن يعرف بالطبع حرفة الإخراج التي لم يدرسها شأن أبناء جيله جميعا.

باريس تظهر في الفيلم كما كانت تماما في أواخر الخمسينيات، الشانزليزيه، المقاهي، مقر مجلة كاييه دي سينما، وكان جودار يمتلك من الجرأة ما يجعله يظهر في أحد المشاهد بنفسه في دور الرجل الذي يشي للشرطة بميشيل بواكار، كما يسند الى زميله وصديقه المخرج إريك رومير دور رجل يتمدد قتيلا على أرضية الشارع، ويظل كما نرى، يعيد تصوير اللقطة من زوايا مختلفة، ثم يلتقط عربة بريد ذات صندوق، يضع الكاميرا في داخل الصندوق مع المصور راؤول كوتار صاحب الجسد الضخم، لكي يمكنه التصوير عن طريق حركة الأمامية ثم الخلفية، للمشهد الأخير في الفيلم، الذي يتميز بحركة الكاميرا التدريجية حيث يسير البطل مترنحا في الشارع بعد إصابته بالرصاص، والمارة يتطلعون إليه من دون أن يدركوا أنه تمثيل وأن هذا فيلم.. وعندما يتجمع الناس مع رجل شرطة حقيقي حول جثة بلموندو، يقفز مساعد المخرج لتفرقتهم منبها إياهم “إننا نصور فيلما”!

شخصيا لم أجد تشابها كبيرا في الملامح أو في الشكل العام بين الممثل “جليوم ماربيك” وبين جودار الحقيقي، فجودار كان نحيفا ذا وجه مستطيل بينما هذا الممثل يبدو مكتنزا ذا وجه مستدير، لكنه مع ذلك أجاد محاكاة صوت جودار وطريقته التي تشي بالاعتداد الشديد بالنفس والتسلط، وكيف كان يصر على تحطيم قواعد السينما من دون حتى أن يمتلك في ذلك الوقت، حلولا  بديلة بل كان يرتجل أثناء التصوير، ويبتكر ويغير حسب ما يشعر وبما يوحي به مكان التصوير، وكان بلموندو يستمتع بالعمل بهذه الطريقة، بينما كانت جين سيبرج تضج بالشكوى، وأعربت أكثر من مرة عن رغبتها في ترك الفيلم لولا تدخل زوجها الفرنسي “فرانسوا مورييه” الذي منحه جودار دورا صغيرا في الفيلم (كان لابد من إرضائه وإرضاء الجميع!).

كان الممثل الذي قام بدور بلموندو وهو أوبري دولان” جيدا إلى حد كبير وإن لم يكن الشبه كبيرا أيضا مع بلموندو (غيرى رأى أن التشابه كان “مذهلا” بين جميع الممثلين والشخصيات الأصلية وعلى رأسهم جودار، وهو ما “أذهلني” شخصيا!!).

أما أفضل أداء في رأيي والأكثر اتقانا وإقناعا وجمالا في الفيلم كله فهو أداء الممثلة الأمريكية “زوي ديوتش” التي كانت تنتقل بين الإنجليزية، والفرنسية بلكنة أمريكية في براعة وخفة ظل واتقان، وهي تتقمص دور جين سيبرج التي قامت بدور “باتريشيا” حبيبة بلموندو أو ميشيل بواكار، والتي ستنتهي حياتها- أي حياة الممثلة- فيما بعد ( في 1979) في ظروف تراجيدية وقد قامت بدورها   كريستين ستيوارت في فيلم “سيبرج” (2019).

فيلم لينكليتر فيلم بسيط وممتع، لا يشعرك بالملل، ولا يجعلك تلهث خلفه أو تجري “على آخر نفس” بل يدفعك كما يدفع الكثيرين، إلى استعادة فيلم جودار الشهير، ويسلط الأضواء بقوة على السينما الفرنسية في عصرها الذهبي وعلى جيل الموجة الجديدة خصوصا، ولا شك أن المتعة لا تكتمل إلا لو كنت قد شاهدت “على آخر نفس”. ومن حسن الحظ أن الميديا الجديدة جعلت هذا متاحا لجيل الشباب، كالماء والهواء.. إن كان الماء لا يزال مباحا أو متاحا، وهذا أمر يتوقف على موقعك على الخريطة!

 

موقع "عين على السينما" في

07.06.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004