ملفات خاصة

 
 
 

"صوت هند رجب" في فينيسيا 82:

أمام صمت العالم

فينيسيا/ محمد هاشم عبد السلام

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثاني والثمانون

   
 
 
 
 
 
 

​الصوت الناعم البريء الضعيف والمُستَنجِِد للطفلة هند رجب، المسموع لساعةٍ تقريباً في "صوت هند رجب"، للتونسية كوثر بن هنية، سيظلّ صداه يتردّد في الأذهان فترة طويلة، وسيصعب على المرء تخيّل أنّه سينساه أبداً. تداعيات الصوت، وملابسات الأحداث وتطوّراتها، الحاصلة في 29 يناير/كانون الثاني 2024، لا تنهش ضمائرنا فقط، بل تدفع إلى التساؤل، صراحةً، بلسان هند: لأيّ ذنب قُتِلتُ؟

لا إجابات إلى الآن كشفتها التحقيقات. لا مجال للخيال السينمائي ولغيره تبرير ماهية هذا الموت المجاني البطيء، لطفلة، تبلغ ستة أعوام. المؤكّد، بلا أي لبس، أنّ وحشية "الإنسان" قتلت هند رجب بمنتهى البربرية.

ينتمي الفيلم، المعروض في مسابقة الدورة 82 (27 أغسطس/آب ـ 6 سبتمبر/أيلول 2025) لمهرجان فينيسيا، إلى نوع مؤثّر للغاية، يجعل المرء عاجزاً عن التفكير في أي شيء يتصل بالتحليل السينمائي. فقط محاولة السيطرة على تدفّق المشاعر والتوتر، وكبح الدموع، ومحاولة التشبّث بأمل واهٍ في نجاح جهود رجال الإسعاف، وإنقاذهم الطفلة. رغم التيقّن، منذ نحو 18 شهراً، أنّ هند قُتلت أمام العالم، ولم يتحرّك أحدٌ. كلّ واحد تابع شؤونه، كما يفعل يومياً، ونسى أو تناسى أو التهى، بسبب حياة لا تأبه بمشاعر، أو بمن رحل وسيرحل، ولا بأسباب الرحيل ومكانه.

بذكاء لافت للغاية، وبحرفية مهنية شديدة، التقطت كوثر بن هنية فكرة فيلمها، وأجادت الاشتغال على إعادة تجسيد الأحداث، وخلق الانسجام والتزامن بين المكالمات المسجّلة بصوت هند، والأداء التمثيلي. بالتالي، لفت الانتباه أيضاً ليس فقط بشاعة الجريمة، وملابساتها المستمرة ثلاث ساعات كاملة، ولا صناعة فيلمٍ يُثير المشاعر ويستدرّ عواطف الجمهور، ولا تقديم بروباغاندا سياسية زاعقة تخبو الحماسة بشأنها سريعاً، بل النقل الصادق، من دون تصنّع وإعمال خيال سينمائي زائد أو غير ضروري، لرسالة إنسانية بالغة القوّة والتأثير.

تكمن قوة "صوت هند رجب" أيضاً في كونه من الأفلام، النادرة جداً، التي تتحدّث عن جانب مسكوت عنه في حرب الإبادة الجارية: عشرات آلاف الأطفال وغيرهم قُتلوا في العامين الماضيين، واعتُبروا "أضراراً جانبية"، أو قتلوا خطأ. لذا، أثبتت السينما، عبر جديد بن هنية، قدرتها على حفظ ذكرى هؤلاء تحديداً، والحفاظ على الذاكرة العامة لشعب، ومقاومة نسيان ما يجري.

يسرد الفيلم قصة صبيّة صغيرة من غذة، كانت في سيارة بصحبة خالها وخالتها وأربعة من أولادهما. لا أحد يعلم بوجود السيارة إلا بعد اتصالِ قريبٍ للعائلة في ألمانيا، يُدعى عمر (معتز ملحيس)، أخبر فيه موظّف الاتصال بالهلال الأحمر في رام الله، ضرورة إنقاذهم. طلب منه عمر الحصول على رقم هاتف بالسيارة للاتصال به، وإرسال الإسعاف، سيّما وأنّ مكان السيارة يبعد عن أقرب سيارة إسعاف 12 دقيقة فقط.

كانت هند وأقاربها يفرّون من منطقة تل الهوا، التي قصفها الجيش الإسرائيلي، والسيارة مُستهدفة بالقصف أيضاً. بصعوبة بالغة، نجت هند وابنة عمّ لها. تواصلت معها موظّفة الاتصال رنا (سجا كيلاني). في البداية، يُسمع صوتها، ثم استشهدت سريعاً، لينهار فريق التواصل. من جهتها، حاولت نسرين (كلارا خوري) التماسك، وحثّ زميليها على التماسك، وكبح الدموع، والسيطرة على العصبيّة، لبثّ الطمأنينة في هند، المرعوبة من أقاربها القتلى حولها، خاصة مع خوفها الشديد من حلول الظلام.

التواصل الصوتي متقطّع بسبب انقطاع الاتصال، أو العجز عن إخبار هند بأي شيء، خلا وعد إنقاذها. بعد ثلاث ساعات، نجحت جهود المدير مهدي (عامر حليحل)، الرافض المخاطرة بآخر طاقم إسعاف لديه في المنطقة، بالحصول على الضوء الأخضر من الجيش الإسرائيلي، عبر الصليب الأحمر، فانطلقت سيارة الإسعاف والطاقم لإنقاذ الطفلة التي، وسط حصار الدبابات وطلقات الرصاص المجلجلة فوق رأسها، بدأت تنزف، كما أفادت. لكنْ، بعد انطلاق فريق الإسعاف، وقبل أمتار قليلة، تُستَهدف سيارتهم، وفيها آخر المُسعفين.

بخلاف تفريغ الملفات الصوتية للمحادثة، التي تُسمَع كاملة، حرصت كوثر بن هنية على ضبط الأداء  التمثيلي، لاستخراج أفضل شحنة غضب وعصبية وتمزّق مشاعر، ورصد صادق لانهمار الدموع، والعجز عن الفعل والتواصل، وطمأنة طفلة مذعورة. كما أبقت بمصداقية لافتة للانتباه على التناسق اللوني للملابس، والتشابه الجسدي مع الشخصيات الأصلية. إضافة إلى اعتمادها حركة كاميرا محمومة (خوان سارمِيَنتو خ.)، تتحرّك بعصبية وسرعة مزعجتين، ولقطات مقرّبة للغاية على الوجوه غالباً، ليس لضعف صُنعة، بل لنقل حالة وتكثيفها، أساساً.

بنائياً، الفيلم بسيط للغاية، مُحكم وصادق ومؤثّر إلى أقصى درجة. لكنْ، يصعب تفهّم أحداثه الواقعية، أو تقبّلها منطقياً. ناهيك بمحاولة تجاوزها وتناسيها. سيما أنّ اللقطات التسجيلية والأرشيفية، التي ضمّنتها بن هنية في نهايته، تُظهر أنّه بعد 12 يوماً عُثر على السيارتين، واستُخرجت الجثث، وفُهم ما حدث، فيظهر هولٌ ودمار مُرعبَان. أما كلمات والدة هند في الختام، ولقطات الفيديو لها وهي تلهو على البحر، فتؤكّد مجدّداً أنّ ألم هذا الفشل الماثل، وعاره المستمر إلى هذه اللحظة، يُكلّلنا جميعاً.

 

####

 

24 دقيقة تصفيق لفيلم "صوت هند رجب" في مهرجان فينيسيا السينمائي

(رويترز، العربي الجديد)

يحمل فيلم "صوت هند رجب" (The Voice of Hind Rajab)، الذي عُرض لأول مرة أمس الأربعاء في مهرجان فينيسيا السينمائي، التوسلات الأخيرة المؤلمة للطفلة الفلسطينية هند رجب (خمس سنوات)، التي حاصرها الجيش الإسرائيلي وأفراد من عائلتها في سيارة بقطاع غزة وقتلها بأكثر من 300 رصاصة رغم استغاثاتها لإنقاذها.

وقد لاقى الفيلم استحساناً واسعاً عند عرضه. وأوضحت الممثلة سجى الكيلاني للصحافيين، في بيان قرأته نيابة عن جميع العاملين في الفيلم، أنّ "قصة هند تحمل ثقل شعب بأكمله". ويركّز هذا العمل الدرامي الواقعي على مشغّلي خدمة الهاتف في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني الذين حاولوا لساعات طويلة طمأنة هند رجب العالقة وهي تتوسّل لإنقاذها من السيارة، بينما كانت عمتها وعمها وثلاثة من أبناء عمومتها قد قضوا بالفعل.

واستُخدمت عبارة هند رجب "أنا خائفة جداً، أرجوكم تعالوا"، مدعّمة بمقاطع أصلية أخرى من استغاثاتها مع مشغّلي الخدمة، لتتردّد بقوة طوال الفيلم. وأضافت الكيلاني: "السؤال الحقيقي هو: كيف تركنا طفلة تتوسّل من أجل الحياة؟ لا يمكن لأحد أن يعيش في سلام بينما يُجبر طفل واحد على التوسّل للبقاء... دعوا صوت هند رجب يتردّد صداه في أنحاء العالم".

وبعد انتظار استمر ثلاث ساعات، حصل الهلال الأحمر أخيراً على الضوء الأخضر من إسرائيل لإرسال سيارة إسعاف لإنقاذ هند. غير أنّ الاتصال انقطع بالطفلة وبالمسعفين أنفسهم بعد وصول السيارة إلى مكانها. وبعد أيام، عُثر على جثة الطفلة مع جثث أقاربها داخل السيارة، كما جرى انتشال أشلاء عاملَي الإسعاف اللذين قُتلا إثر استهداف سيارتهما.

وقد قوبل الفيلم بتصفيق حار استمر 24 دقيقة خلال عرضه الأول، وهي أطول مدة مسجّلة في المهرجان حتى الآن، ما جعله المرشّح الأوفر حظاً لدى الجمهور للفوز بجائزة الأسد الذهبي التي ستُمنح في السادس من سبتمبر/أيلول الجاري. وقد دوّى من بين الحضور هتاف "فلسطين حرة". واستقطب الفيلم بعض الأسماء اللامعة في هوليوود منتجين منفّذين، ما منحه ثقلاً إضافياً في صناعة السينما، من بينهم الممثلون براد بيت وخواكين فينيكس وروني مارا.

وأكدت المخرجة التونسية كوثر بن هنية، التي كتبت السيناريو أيضاً، أنّ "صوت هند تجاوز مأساة واحدة". وأردفت قائلة: "عندما سمعت صوت هند للمرة الأولى، كان هناك ما هو أكثر من صوتها. لقد كان صوت غزة ذاتها تطلب المساعدة... الغضب والشعور بالعجز عن فعل شيء هما اللذان ولّدا هذا الفيلم". وأوضحت كوثر قائلة "الرواية المتداولة حول العالم هي أنّ من يموتون في غزة يُعتبرون أضراراً جانبية. أعتقد أنّ هذا تجريد من الإنسانية، ولهذا السبب فإن السينما والفن مهمان لإعطاء هؤلاء الناس صوتاً ووجهاً. نحن نقول: كفى، كفى هذه الإبادة الجماعية".

كما أعلنت أكبر جمعية أكاديمية في العالم لعلماء أبحاث الإبادة الجماعية هذا الأسبوع عن قرار ينصّ على استيفاء المعايير القانونية التي تثبت ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزة، وهو ما تنكره إسرائيل. وأشار الممثلون الذين جسّدوا أدوار موظفي الهلال الأحمر إلى أنّهم لم يسمعوا تسجيلات هند إلا في موقع التصوير، ما جعل التجربة مؤثرة للغاية. وصرّح الممثل الفلسطيني معتز ملحيس قائلاً: "مرتان لم أتمكّن فيهما من مواصلة التصوير. أصبت بنوبة هلع".

وأمس الأربعاء، أعلنت مؤسسة "هند رجب" الحقوقية أنها رفعت شكوى جنائية رسمية أمام المدعي العام للمحكمة العليا في اليونان ضد المقدم يائير أوحانا، وهو ضابط بالجيش الإسرائيلي يزور البلاد حاليا سائحا. وقالت المؤسسة التي تتخذ من بروكسل مقراً لها، في بيان نشرته عبر موقعها الإلكتروني، إن الضابط أوحانا شغل منصب "قائد سرية وضابط لوجستيات في كتيبة المشاة 432 (تسبار) التابعة للواء النخبة غولاني، الذي شارك بشكل مباشر في حملة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في غزة".

وكان الجيش الإسرائيلي قد أعلن في البداية أنّ قواته لم تكن في نطاق إطلاق النار على السيارة، لكن تحقيقات مستقلة شكّكت في هذا الادعاء، فيما أشار تقرير لاحق صادر عن الأمم المتحدة إلى أنّ الجيش الإسرائيلي دمّر سيارة هند، ثم قتل المسعفين اللذين حاولا إنقاذها. ورداً على سؤال وُجّه إليه هذا الأسبوع بشأن تلك الحادثة، اكتفى الجيش الإسرائيلي بالقول إن الواقعة التي تعود إلى 29 يناير/كانون الثاني 2024 لا تزال قيد المراجعة، ورفض الإدلاء بمزيد من التعليقات.

وبدعم أميركي، تواصل إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 حرب إبادة على غزة خلّفت حتى أمس الأربعاء أكثر من 63 ألف شهيد، و161 ألفاً و245 جريحاً، معظمهم من النساء والأطفال، إضافة إلى أكثر من تسعة آلاف مفقود. كما تسببت المجاعة -جراء منع إدخال المساعدات- باستشهاد 367 فلسطينياً، بينهم 131 طفلاً، وسط نزوح مئات الآلاف.

وترى منظمات حقوقية أن تقديم شكاوى جنائية ضد عسكريين إسرائيليين في دول عدة، مثل اليونان، يشكّل خطوة متقدمة نحو كسر حصانة تل أبيب ومساءلة المسؤولين عن جرائم الحرب والإبادة بحق الفلسطينيين.

 

####

 

غزة في البندقية: كل هذه الأصوات في وجه الإبادة

البندقية/ العربي الجديد

تحوّل مهرجان البندقية السينمائي، أحد أعرق المهرجانات في العالم، هذا العام إلى مساحة واضحة للتضامن مع الفلسطينيين الذين يتعرضون لحرب إبادة متواصلة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 في قطاع غزة. ففي دورته الـ82، لم تقتصر الأضواء على الأفلام والنجوم، بل امتدّت لتغطي واحدة من أوسع المظاهرات المؤيدة لفلسطين في تاريخ الفعاليات السينمائية الكبرى. أمام الكاميرات التي لطالما اعتادت التقاط صور الفساتين الفاخرة والابتسامات اللامعة، علت أصوات المحتجّين، ملوّحين بالعلم الفلسطيني ومطالبين بوقف حرب الإبادة التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، فيما قدّم المهرجان مساحة غير مسبوقة لأعمال سينمائية تناولت جرائم الحرب والمعاناة الإنسانية.

احتجاجات غير مسبوقة

شهدت البندقية مسيرات شارك فيها آلاف المحتجين من ضيوف المهرجان وسكان المدينة على حدّ سواء. ورفع هؤلاء شعارات تطالب بوقف الإبادة وتحرير فلسطين، ورفرفت الأعلام الفلسطينية في أرجاء جزيرة الليدو، بينما أغلق الأمن الطرق المؤدية إلى مقرّ المهرجان. الاحتجاج الذي نظّمته مجموعات محلية ودولية، جاء نتيجة خطاب مفتوح وقّعه مئات المخرجين والممثلين والمنتجين يطالبون إدارة المهرجان باتخاذ موقف واضح وصريح ضد جرائم الحرب في غزة.

جاء في البيان: "مهرجان البندقية يجب ألا يبقى حدثًا معزولًا عن الواقع، بل منصة لإدانة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، وللتنديد بتواطؤ الحكومات الغربية، ولدعم الشعب الفلسطيني".

من بين الموقعين على البيان أسماء بارزة مثل الممثل البريطاني تشارلز دانس (Game of Thrones) والمخرجين الفلسطينيين طرزان وعرب ناصر، إضافة إلى فنانين أوروبيين بارزين. كما طالبت الحملة بمنع حضور ممثلين وفنانين دعموا إسرائيل علنًا، مثل غال غادوت وجيرارد بتلر، وهو ما أدى لاحقًا إلى تأكيد عدم مشاركة غادوت في المهرجان.

صوت هند رجب

أحد أبرز أعمال المهرجان كان فيلم "صوت هند رجب" للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، الذي حظي بعرض عالمي أول ضمن المسابقة الرسمية. الفيلم يعيد سرد الساعات الأخيرة في حياة الطفلة هند رجب (6 سنوات)، التي علقت في سيارة تحت نيران الاحتلال الإسرائيلي في غزة يوم 29 يناير/ كانون 2024، بعد أن قُتل خمسة من أفراد أسرتها. ظلّت هند تتوسل عبر الهاتف فرق الإسعاف التابعة لـ"الهلال الأحمر الفلسطيني"، قبل أن يُستهدف المسعفون أنفسهم وتُقتل الطفلة برصاص جنود الاحتلال، حيث اخترقت السيارة 335 رصاصة.

بنت كوثر بن هنية فيلمها على التسجيلات الصوتية الأصلية لنداء استغاثة هند، بعد حصولها على إذن العائلة والهلال الأحمر الفلسطيني. واستعانت بممثلين فلسطينيين لتجسيد المسعفين، لكنها أبقت صوت هند الحقيقي كما هو. تقول بن هنية في تصريحات إعلامية سبقت عرض الفيلم يوم أمس في المهرجان: "كنت خائفة أن أفشل في إيصال صوتها، ألا يكرّم الفيلم ذكراها. كان عليّ أن أجد لغة سينمائية للحزن والشهادة، وأن أواجه صمت العالم".

يحمل الفيلم أبعادًا سياسية متشعبة، إذ يضع المشاهد أمام سؤال مركزي: هل الاكتفاء بالمشاهدة شكل من أشكال التواطؤ؟

كما حظي بدعم تنفيذي من أسماء هوليوودية لامعة مثل براد بيت، ووواكين فينيكس، وألفونسو كوارون، ما منح الفيلم زخمًا عالميًا وأتاح له فرصة أوسع للوصول إلى جماهير جديدة.

من لا يزال حيًّا

الفيلم الوثائقي السويسري "من لا يزال حيًّا" (Who Is Still Alive) للمخرج نيكولا واديموف سجّل حضورًا بارزًا آخر في المهرجان. العمل يعرض في قسم Giornate Degli Autori، ويمثّل شهادة بصرية جماعية لقصص تسعة ناجين من غزة.

في الفيلم، يرسم المشاركون خرائط أحيائهم المدمّرة بالطبشور من ذاكرتهم، بينما يروون تفاصيل ما فقدوه من أحبّاء وأصدقاء، في سردية تجمع بين التوثيق الحميمي والرمزية الفنية. يقول واديموف: "لسنا أمام حرب عادية. ما يحدث في غزة يختبر إنسانيتنا جميعًا. إذا فقدنا إنسانيتنا هنا، سنفقدها في أوكرانيا، وفي الولايات المتحدة، وفي كل مكان". يقدّم الفيلم مقاربة مختلفة عبر التركيز على الطبقة الوسطى الفلسطينية، من موسيقيين ومصورين ومؤثرين على وسائل التواصل، في محاولة لتقريب المشاهد الغربي من حياة الغزيّين العاديين، وكسر الصورة النمطية التي تحصر الفلسطيني في دور الضحية البعيدة.

البندقية بين الحياد والانخراط

رغم محاولات إدارة المهرجان الحفاظ على "الحياد الفني"، إلا أن ألبرتو باربيرا، المدير الفني، اضطر للرد على أسئلة متكررة حول موقف المهرجان من الحرب. قال باربيرا: "لم نرفض أي فنان بسبب مواقفه السياسية، لكننا في الوقت نفسه عبّرنا بوضوح عن حزننا العميق لما يحدث في غزة، وخصوصًا لمقتل المدنيين والأطفال". لكن على الأرض، تجاوز المهرجان الحياد التقليدي، فعرض أفلاما تتناول المجازر في غزة، ووضع على جدول أعماله جلسات حوارية عن أخلاقيات التمثيل السينمائي للضحايا، كما فتح مساحاته لاحتجاجات مرئية، حيث حمل الفنانون لافتات دعم لفلسطين على السجادة الحمراء، ما جعله أكثر الأحداث السينمائية انخراطاً منذ بدء حرب الإبادة قبل قرابة عامين.

 

العربي الجديد اللندنية في

04.09.2025

 
 
 
 
 

من غزة إلى البندقية: الطريق الأقصر إلى السجّادة الحمراء

هوفيك حبشيان - المصدرالبندقية - "النهار"

"صوت هند رجب" في البندقية... إلى أي مدى يمكن استثمار مأساة غزة من دون الوقوع في فخّ المتاجرة بها؟

لو كان للفيلم الانتهازي وطنٌ، لكان "صوت هند رجب" عاصمته. فبعد الاغتصاب في "على كفّ عفريت"، واللجوء السوري في "الرجل الذي باع ظهره"، والجهادية السلفية في "بنات ألفة"، تمضي المخرجة التونسية كوثر بن هنية، التي تُجيد اصطياد المواضيع "الرائجة"، إلى مستنقع جديد: العدوان الإسرائيلي على غزة. هكذا تواصل تنقّلها بين القضايا "المضمونة"، تلك التي تفرش لها المهرجانات الكبرى السجّادة الحمراء في السنوات الأخيرة. تعرف بن هنية، كما عدد من السينمائيين العرب، أن العمل السينمائي الآتي من الشرق الأوسط لم يعد يُقيَّم بجمالياته، بقدر ما يُنظَر اليه كـ"منفعة سياسية وجدوى إنسانية". من دون هذه "الفائدة"، يبقى الفيلم على هامش المشهد، مُقصى من التظاهرات الكبرى.

الفيلم عُرض مساء أول من أمس ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية السينمائي (27 آب - 6 أيلول)، ونال استحساناً لافتاً من الحضور. لكن، خلف التصفيق الحار والعيون المبلّلة والفساتين البراقة، ودعم "المجتمع الليبيرالي"، يكمن سؤال ملحّ: إلى أي مدى يمكن استثمار مأساة غزة من دون الوقوع في فخّ المتاجرة بها؟ الفيلم يستثمر في عجز الإنسان العربي، وحاجة الغرب إلى "غسل عاره" عبر شاشة السينما. عمل يتعجّل بتقديم واقع لا نزال نعيشه، من دون المسافة الكافية التي يحتاجها الفنّ.

الفيلم، الذي يأتي أشبه بما يُمكن وصفه بـ"الاستحواذ الثقافي"، صُوِّر في تونس خلال وقت قياسي، ويتناول مأساة الطفلة الفلسطينية هند رجب، ابنة السنوات الستّ، من حي تل الهوى في الجهة الجنوبية الغربية من غزة، التي قُتِلت برصاص الجيش الإسرائيلي العام الماضي خلال العدوان على القطاع. كانت السيارة التي تقلّها مع ستّة من أقاربها هدفاً مباشراً، وهم في طريقهم للفرار من الموت.

مأساة يدمع لها القلب، كسائر المآسي التي حصدت أرواح الأطفال في تلك الحرب. سمعت كوثر بن هنية بقصّتها، فرأت فيها مادة لفيلم سينمائي. استعادت التسجيلات الحقيقية للمحادثة الهاتفية المؤلمة التي دارت بين هند وعناصر مركز الاتصال التابع للهلال الأحمر، الواقع على بُعد 82 كيلومتراً من المدينة المحاصرة، حيث كانت الطفلة تستغيث قبل أن يصمت صوتها إلى الأبد تحت وابل الرصاص.

اعتمدت بن هنية على هذه التسجيلات، ودمجتها مع مادة بصرية خيالية، لتصوغ سردية هجينة تجمع بين التوثيق والتخييل. حتى ان هناك مشهداً تشويقياً أضيف في منتصف الفيلم، ضمن حبكة مفتعلة لا تخلو من التلاعب العاطفي. وقد كانت المخرجة صريحة في مستهل العمل، إذ اعترفت بتحويل الواقع إلى دراما، ولم تسعَ إلى إخفاء هذا التداخل بين الحقيقة والافتراض. هكذا، استثمرت بن هنية عناصر واقعية دامغة، وأسقطتها على عمل سينمائي يتأرجح بين الروائي والوثائقي، تماماً كما فعلت في فيلمها السابق. وبما أنها اختارت خوض تجربة التخييل، فإن من المشروع نقد الفيلم انطلاقاً من منطق الفنّ، لا من باب الانجرار العاطفي أو الاستناد إلى فداحة المأساة فقط. فالخلط بين القيمة الأخلاقية للموضوع وركائز البناء السينمائي قد يُفضي إلى ابتزاز شعوري، أكثر منه فعلاً فنياً يرقى إلى ما يقتضيه الألم من كرامة وعمق.

يدور الفيلم في مساحة ضيقة، داخل مركز الاتصالات التابع للهلال الأحمر، حيث يسعى العاملون على الخطوط الساخنة إلى إسعاف الطفلة هند، ولكنهم يقعون في مأزق إداري، إذ يتعيّن عليهم انتظار الأوامر الرسمية قبل التحرك، حفاظاً على أرواح المسعفين الذين سبق أن سقط كثير منهم تحت نيران الجيش الإسرائيلي.

تتصاعد التوتّرات والمشادات الكلامية بين عمر (معتز ملحيس)، الشاب المكلّف التواصل المباشر مع هند ومتابعة وضعها الحرج، وبين المشرف عليه مهدي (عمر حليحل)، الذي يصر على عدم إرسال أي فريق إنقاذ قبل تلقّي "الضوء الأخضر" والتنسيق مع السلطات، منعاً لخسائر إضافية.

يعالج الفيلم هذا الخلاف بطريقة مركبة، إذ يحوّله إلى ما يشبه نموذجاً مصغراً للصراع الفلسطيني الداخلي، بعيداً من التوصيفات المباشرة، حيث يصبح الصراع في صورة مواجهة بين الفلسطيني "المناضل" والفلسطيني "الخانع"، مع تحميل الأخير مسؤولية "ضياع القضية". اللافت أن كلمة "حماس" لا تُذكَر قط، الأمر الذي يشير إلى حنكة فنية تجنّب العمل الوقوع في فخّ الانتماءات السياسية الصريحة.

المُشاهد المطّلع على "المذنب" (2018) للدانماركي السويدي غوستاف مولر، لا بد أن يشعر بصدمة التشابه، حيث تدور أحداثه حول موظّف استقبال مكالمات الطوارئ الذي يتلقّى اتصالاً مفزعاً من امرأة في حالة اختطاف، ثم ينقطع الخط فجأةً، فيبدأ هو بدوره سباقاً محموماً مع الزمن، محاولاً إنقاذها عبر وسائل محدودة لا تتجاوز الهاتف.

خلال التسعين دقيقة التي يستغرقها "صوت هند رجب"، يجد المُشاهد نفسه محاطاً بعناصر متطوعي الهلال الأحمر. تركز الكاميرا على وجوههم وانفعالاتهم وغضبهم وخيبتهم، لكن الأهم من ذلك كله هو عجزهم الملموس. في هذا الإطار، يحمل الفيلم دلالة قوية على واقع العالم اليوم: أرض تشتعل بلا قدرة على إخماد النيران! هذه الفكرة تصل بقوة، وتساهم في صناعة تعاطف لدى المُشاهد، الذي يظلّ متحيراً بين الإحساس بالمأساة واحتمال التلاعب بعواطفه. تعرف بن هنية القاعدة الذهبية في صناعة التأثير السينمائي: إذا أردتَ أن ينتفض المُشاهد، فعليك أن تبرهن له، بالدليل القاطع، على عجزك وعجزه وعجز العالم كله. هذه استراتيجيا قديمة، لكنها تجد نفسها متجدّدة في هذا السياق المأسوي.

مشهداً بعد مشهد، ينتقل تركيز الفيلم من القضية الأساسية (طفلة على حافة الموت)، إلى الخلافات التي تدور بين عناصر مركز الاتصال، الذين يعاني بعضهم من ضغوط نفسية قاسية. يعترف مهدي مثلاً بأنه لم يرَ ابنته منذ شهور. هذه الدراما الداخلية تستحوذ على مساحة كبيرة من السرد، ممّا يجعل القضية الأصلية تتوارى في الخلفية. ولا يفوتني أن أذكّر هنا بما حدث مع "قافلة الصمود" التي انطلقت من تونس لكسر الحصار على غزة، وأصبحت ظاهرة عالمية، حتى باتت "هي" القضية، في حين بقي الضحايا في الظلّ. غاب مَن هم خارج الصورة، وتحوّل مَن فيها إلى أبطال. هنا تكمن واحدة من أكبر مشاكل الفيلم

وبما أن الشخصيات تقف عاجزة خلف الخطوط الهاتفية، ينساب في الفيلم الكثير من الحشو الكلامي، في انتظار صدور التصريحات الرسمية التي تسمح بالتحرك. وفي وسط هذا العبث، يظلّ سؤال "ما لونك المفضّل؟" الموجَّه إلى طفلة تكاد تفارق الحياة، سؤالاً ثقيلاً، حتى وإن افترضنا انه وقع في الواقع. هناك فجوة كبيرة بين ما هو ممكن الحدوث وما يُصدَّق عندما يتحوّل إلى سرد سينمائي، وهنا يكمن التباين بين الواقع والفنّ، أحدهما غير ملزم بالآخر.

ولأن ما تمتلكه بن هنية في الفيلم لا يتجاوز صوت الطفلة هند، وتعويلها على هذا الصوت وحده لا يكفي لاستدعاء العواطف أو تأجيجها، نجدها تضطر إلى إدخال صور متقطّعة للطفلة بين حين وآخر، محاولةً العودة إلى الواقع المادي لشخصية يفترض أنها محور الاهتمام. فالفيلم، في ذاته، لا يملك ما يعيد إحياء القصّة أو يملأ فراغ المشاعر سوى تلك المحادثة المسجلّة في مكاتب الهلال الأحمر. فلا بد أن نرى شيئاً ملموساً من الشخص الذي يُفترض أننا يجب أن نهتم بمصيره، وإلا فإن مخطط الفيلم كله أصبح خارج التأثير.

غير أن الفيلم يفشل في توليد أي انفعال عضوي. وبنظر دقيق في تفاصيله، يتضح أن تعاطف المُشاهد ينبع من خارج الفيلم، من السياق العام الذي نعيشه ومن معرفتنا المسبقة بالمأساة، لا من بناء الفيلم ذاته، الذي يفتقر إلى آليات تراكم المشاعر وإثراء الشخصيات وخلفياتها.

أرادت بن هنية تقديم عمل يختلف عن سرد نشرات الأخبار الجاف، لكنها أعطت الفيلم ثقة مفرطة تفوق قدراته الفنية. ذلك الضغط الممارَس على المُشاهد لإثارة تعاطفه يؤدّي إلى نتيجة عكسية، ويتحوّل إلى شكل من أشكال الابتزاز. وبينما أجد نفسي أدمع أحياناً على أصغر التفاصيل، مثل حفيف ورقة، لم يحرك هذا الفيلم فيّ أي شعور، إذ أن آليته واضحة تماماً، لا تترك مجالاً للمفاجأة، وبالتالي تفقد القدرة على صناعة الانفعال. خصوصاً أن النهاية معروفة مسبقاً، وبن هنية ليست جيمس كاميرون لتبني تشويقاً سردياً حول قصّة باخرة نعلم أنها ستغرق.

على صعيد التمثيل وتطوير الشخصيات، لا يسهل تصديق أن أشخاصاً يعيشون حرباً يومية ويتعاملون معها ضمن روتين متكرر، يتصرفون بهذه الحدّة العاطفية التي تصل إلى حد الشجار بسبب اختلاف وجهات النظر. الفلسطينيون، الذين تعايشوا مع هذا الواقع المر، لهم طريقة تعامل تختلف جذرياً عن نظرة التونسي، الذي لم يعش حرباً، لهذا تبدو مشاهد مركز الاتصال زائفة، وكأننا في بلد بعيد مثل السويد. الشخصيات نفسها هوائية ومبهمة، تنبثق من فراغ وتعود إليه، لا تُمنح خلفيات كافية لنفهم دوافعها.

أخيراً، يصر البعض على ضرورة إيقاف العقل وتعطيل أدوات النقد والاحتفاء بمدة التصفيق كدليل على عظمة العمل، حين يشاهدون فيلماً عن مأساة غزة يُعرض في مهرجان دولي كبير. في طريقي من قاعة العرض إلى الفندق، التقيتُ بمخرج نصحني بأن أغلق أبواب التأمّل السينمائي موقّتاً، وأضع جانباً أدوات القراءة الجمالية، لأن "هناك من يُقتلون الآن"… ففي رأيه أن كلّ ما يخدم القضية يجب الترحيب به بلا تردد. هذا موقف أبعد ما يكون عن الحكمة، لا بل هو ضرب من العبث بلغ في الآونة الأخيرة حدّاً خطيراً، خصوصاً عندما يصدر عن ناس يعملون في ميادين الفنّ والثقافة التي تقوم في الأساس على روح التفكيك والمساءلة والمعاينة الدقيقة.

 

####

 

"الغريب" في البندقية: هل كسب أوزون رهان أفلمة أيقونة الأدب العبثي؟

هوفيك حبشيان - المصدرالبندقية - "النهار"

فرنسوا أوزون ينجح بالتقاط النبرة الملائمة، إلى حدّ كبير، لنقل رواية ألبير كامو إلى شاشة البندقية.

بذكائه الحاد وموهبته الفذّة التي جعلته أحد أسياد السينما الفرنسية المعاصرة، نجح فرنسوا أوزون في التقاط النبرة الملائمة، إلى حدّ كبير، لنقل رواية "الغريب" لألبير كامو من صحفات الكتاب إلى الشاشة. كان الإيطالي لوكينو فيسكونتي قد سبقه إلى هذه المغامرة في الستينات، ولكن مع نتيجة لم تعمّر في الأذهان، بينما تردّد غيره طويلاً في الاقتراب من هذا النصّ، لما يحمله من تعقيد وجودي وجفاف شعوري. شاهدنا الفيلم أول من أمس ضمن عروض مهرجان البندقية السينمائي (27 آب/أغسطس - 6 أيلول/سبتمبر).

كما هي الحال مع "المحاكمة" لكافكا، فإن تحويل "الغريب"، أيقونة الأدب العبثي (الصادرة عام 1942)، إلى فيلم سينمائي، طالما عُدَّ تحدّياً عسيراً، لأسباب عدة. أولها أن الرواية بأكملها تتّخذ شكل مونولوغ داخلي. كلّ ما يحدث يدور داخل ذهن البطل. السيد مورسو، راوينا، باطني، يصرّ مراراً على أنه "لا يعرف" و"لا يملك ما يقوله". هو نقيض الشخصيات السينمائية المليئة بالثقة والانفعال. نظرته إلى الموت والحياة محايدة، باردة.

هذه الطبيعة التأملية جعلت من "الغريب" مادة عصيّة على النقل إلى الشاشة، التي تعتمد في طبيعتها على الصورة والحركة والإيقاع البصري. فمورسو لا يظهر مثلاً أي انفعال حتى في أكثر اللحظات مأسويةً: وفاة والدته أو ارتكابه جريمة قتل. هذا البرود هو ما يمنح الرواية بُعدها الفلسفي، لكن أفلمة هذا العمق تتطلّب حسّاً سينمائياً خلاقاً، قادراً على الإيحاء.

يبقى السؤال الجوهري: كيف يمكن فيلماً أن يجسّد هذا البرود من دون أن يربك المُشاهد أو يخلق نفوراً؟ أو كيف يمكن ترجمة العبارة الافتتاحية الصادمة "اليوم ماتت أمي. أو ربما أمس. لا أدري" إلى لغة الصورة، من دون أن تفقد نبرتها الفريدة؟ يستعين أوزون بحيله الإخراجية كي نرى هذه الجملة بدلاً من أن نسمعها. وهذا في حد ذاته فعل إخراج مغايراً، يتطلّب قراءة دقيقة للنصّ، وليس مجرد تحويله إلى مشاهد مرئية. ويبقى التحدّي الأكبر: إلى أي مدى تستطيع الكاميرا أن تخترق شخصية بهذه الصرامة والغموض والوضوح القاطع كالسيف؟ بل، هل تتوافق الفلسفة الوجودية أصلاً مع الفكرة البصرية، مع العرض، مع التمثيل؟ ألا تُعدّ الوجودية، في جوهرها، نقيضاً لكلّ ما هو ظاهري؟

الجزء الأول من الفيلم شبه خالٍ من الحوار، يكتفي بالإيماءات والنظرات، كأن المخرج يتعمد خلق صمت يوازي صمت مورسو الداخلي. في المقابل، ينتهج الجزء الثاني مقاربة مغايرة، خصوصاً مع دخولنا قاعة المحكمة بعد الجريمة. هنا، تهيمن الكلمة من جديد، ويجد التعليق الصوتي طريقه إلى الفيلم كخيار سيناريستي لا مفرّ منه، وربما كحلّ لا يمكن الالتفاف عليه.

بعض الجمل التي أصبحت أيقونية في الرواية، ينتظرها المتلقّي بشغف (وقد يكون هذا الانتظار بمثابة تحية للكلمة المكتوبة)، لا لشيء إلا ليرى كيف ستبدو حين تُترجَم بصرياً. غير أن هذا الترقب في ذاته قد يكون مربكاً، إذ يدخلنا في حالة من الانتظار تناقض روح السينما التي تتطلّب انسياباً لا يقطعه توقّع أو ترصّد. لكن، لماذا نخضع هذا الفيلم لمقارنة مباشرة مع أصله الأدبي، وهي ممارسة نادراً ما نعتمدها مع أفلام مقتبسة أخرى؟ وهل في ذلك عدالة؟ الجواب، على الأرجح، لا. فمثل هذه المقارنة تظلم الفيلم حكماً. ولكن "الغريب" ليست رواية عادية. انها نصّ مفصليّ في تاريخ الأدب الحديث، وبطلها، مورسو، ليس كأيّ بطل آخر. إنه بطل مضاد، من طراز خاص، كامو كان سبّاقاً في ابتكاره. مع مورسو، ألّف كامو ربما أعظم بطل مضاد أو بطل نقيض في تاريخ الأدب. روايته لا تزال حتى اليوم تكشف محدودية الصورة أمام سطوة الكلمة، وتذكّرنا، كلما حاولنا "رؤيتها"، بأن الأدب يتفوّق على السينما في كثير من الأحيان.

من هنا، فإن تلقّي الفيلم سيختلف باختلاف الخلفية: من يقرأ النصّ للمرة الأولى عبر الشاشة، قد يجد نفسه منجذباً إلى عالم مورسو الغامض وإلى براعة يد أوزون، أما من سبق له أن قرأ الرواية، فربما يصطدم بما صنعه خياله الخاص مراراً، حتى تبدو له النسخة السينمائية عملاً ميكانيكياً: ها هو مشهد الدفن، يتبعه اللقاء الأول مع ماري، ثم حادثة القتل… وهكذا دواليك، وكأن الفيلم يعيد ترتيب فصول الرواية حرفياً، على نحو خطّي ومتوقّع.

هذا النوع من الانتظار يسرق من الفيلم شيئاً من طزاجته. لكن، مرة أخرى، قد تكون هذه "المشكلة" حكراً على مَن حفظ الرواية عن ظهر قلب، لا على مَن يدخل هذا العالم للمرة الأولى.

بمشاهد مكثّفة ولقطات غير مطولة، بل متقنة الصوغ، كما في سينما الأربعينات، صاغ أوزون فيلمه انطلاقاً من شخصية مورسو، ذلك المراقب الأبدي لما يدور من حوله. هذا الجانب (مشاهداته اليومية) هو أكثر ما تمت التضحية به في عملية الاقتباس، لكنه أيضاً من أبرز سمات العمل عندما يظهر بخجل. هل ثمة أجمل من وصف مورسو لما تراه عينيه، لحركات المارة في الشارع في يوم أحد هادئ وهو يطلّ عليهم من شرفته؟ منذ اللحظة الأولى، مع صعود الجنريك الذي كتب العنوان باللغتين العربية والفرنسية، يضعنا الفيلم أمام صفحة قديمة – جديدة من الواقعية الشاعرية التي عرفت أوجها بين الحربين العالميتين، من دون أن يكون نسخة منقولة، بل عمل يحافظ على أصالته ويعيد إحياءها.

اختار أوزون التصوير بالأبيض والأسود (مدير التصوير مانو داكوس)، وهو قرار فنّي أبدع في تنفيذه إلى درجة يصعب وصفها. سواء أحببنا الفيلم أم لم نتفاعل معه، لا يمكن إنكار أننا أمام عمل استعادي راق، يعكس ذوقاً فنياً عالياً في إدارة المشاهد وتصميم الصورة. وفيلموغرافيا أوزون تؤكّد انه لا ينقصه لا الحرفة ولا الذوق
من خلال هذه الرؤية البصرية، يقدّم لنا الفيلم تذكرة ذهاب بلا عودة إلى الجزائر، لنتسلل إلى داخل أزقّتها الضيقة وحاراتها المتعرجة، نجلس مع الناس في ساحاتها ونشعر بدفء أشعّة الشمس تخترق مسامات جلدنا. الحسية لازمة في سينما أوزون، والمكان الذي تدور فيه أحداث "الغريب" يشكّل مصدراً غنياً ومُلهماً له. لا حاجة إلى مؤثّرات بصرية أو إضافات، فكلّ شيء في الرواية يتميز ببساطته الصاعقة، يكفي أن يكون الرجل الذي خلف الكاميرا بارعاً مثل أوزون، ليخرج تلك البساطة إلى العلن، ويقدّم لنا مشاهد بصرية متتابعة تغوي العين وتحفّز الفكر، ضمن إيقاع سينمائي يُتيح لنا الاستغراق في التأمل
.

من أجل تجسيد شخصية مورسو، اختار أوزون بنجامان فوازان، وهو اختيار يختلف عن رؤية لوكينو فيسكونتي الذي منح الدور لمارتشيللو ماستروياني في نسخته، وكان آنذاك في الثانية والأربعين في حين فوازان يبلغ الثامنة والعشرين. فوازان يقدّم مورسو بصورة رقيقة، تحمل أحياناً لمسة أنثوية خفيفة. أما الشخصيات الثانوية، فجميعها تبرع في تشكيل اللوحة الخلفية للفيلم. هذه المكونات المتجانسة أضافت عمقاً للأجواء من دون أن تطغى على البطل.

الأهم من ذلك، أن أوزون نجح ببراعة في تجنّب فخّ التحديث، الذي كثيراً ما ينجر اليه المخرجون حين يحاولون نقل رواية من زمن سابق إلى حاضرنا، فارضين عليها مفاهيم اليوم، ممّا يؤدّي إلى تشويه جوهر النصّ الأصلي. فالقضية الأساسية، الجريمة الذي يرتكبها مورسو، لم تتغيّر. القتيل، الذي لا يحمل اسماً سوى "العربي"، يحتفظ بموقعه المحدود في الرواية، ولا يُمنَح أي أبعاد إضافية. هو مجرد ذريعة، عذر يسمح لمورسو بارتكاب جريمته ولكامو بالتعبير عن فكره العبثي، لا أكثر ولا أقل. وهذا الاقتراح، في ذاته، أقوى وأصدق، إذ يبقى صريحاً مع المرحلة التي تجري فيها الأحداث: زمن الاستعمار الفرنسي في الجزائر، من دون محاولة مسح أو تشويه. ومع ذلك، وبهدف التعامل مع الأصل الأدبي من منظور اليوم، أضاف الفيلم شخصية غير موجودة في الرواية، أدعو القراء والمشاهدين إلى اكتشافها بأنفسهم.

 

النهار اللبنانية في

04.09.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004