من غزة إلى البندقية: الطريق الأقصر إلى السجّادة الحمراء
هوفيك حبشيان
-
المصدر: البندقية
- "النهار"
"صوت
هند رجب" في البندقية... إلى أي مدى يمكن استثمار مأساة غزة من دون الوقوع
في فخّ المتاجرة بها؟
لو كان للفيلم الانتهازي وطنٌ، لكان "صوت هند رجب" عاصمته.
فبعد الاغتصاب في "على كفّ عفريت"، واللجوء السوري في "الرجل الذي باع
ظهره"، والجهادية السلفية في "بنات ألفة"، تمضي المخرجة التونسية كوثر بن
هنية، التي تُجيد اصطياد المواضيع "الرائجة"، إلى مستنقع جديد: العدوان
الإسرائيلي على غزة. هكذا تواصل تنقّلها بين القضايا "المضمونة"، تلك التي
تفرش لها المهرجانات الكبرى السجّادة الحمراء في السنوات الأخيرة. تعرف بن
هنية، كما عدد من السينمائيين العرب، أن العمل السينمائي الآتي من الشرق
الأوسط لم يعد يُقيَّم بجمالياته، بقدر ما يُنظَر اليه كـ"منفعة سياسية
وجدوى إنسانية". من دون هذه "الفائدة"، يبقى الفيلم على هامش المشهد، مُقصى
من التظاهرات الكبرى.
الفيلم عُرض مساء أول من أمس ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان
البندقية السينمائي (27 آب - 6 أيلول)، ونال استحساناً لافتاً من الحضور.
لكن، خلف التصفيق الحار والعيون المبلّلة والفساتين البراقة، ودعم "المجتمع
الليبيرالي"، يكمن سؤال ملحّ: إلى أي مدى يمكن استثمار مأساة غزة من دون
الوقوع في فخّ المتاجرة بها؟ الفيلم يستثمر في عجز الإنسان العربي، وحاجة
الغرب إلى "غسل عاره" عبر شاشة السينما. عمل يتعجّل بتقديم واقع لا نزال
نعيشه، من دون المسافة الكافية التي يحتاجها الفنّ.
الفيلم، الذي يأتي أشبه بما يُمكن وصفه بـ"الاستحواذ
الثقافي"، صُوِّر في تونس خلال وقت قياسي، ويتناول مأساة الطفلة الفلسطينية
هند رجب، ابنة السنوات الستّ، من حي تل الهوى في الجهة الجنوبية الغربية من
غزة، التي قُتِلت برصاص الجيش الإسرائيلي العام الماضي خلال العدوان على
القطاع. كانت السيارة التي تقلّها مع ستّة من أقاربها هدفاً مباشراً، وهم
في طريقهم للفرار من الموت.
مأساة يدمع لها القلب، كسائر المآسي التي حصدت أرواح
الأطفال في تلك الحرب. سمعت كوثر بن هنية بقصّتها، فرأت فيها مادة لفيلم
سينمائي. استعادت التسجيلات الحقيقية للمحادثة الهاتفية المؤلمة التي دارت
بين هند وعناصر مركز الاتصال التابع للهلال الأحمر، الواقع على بُعد 82
كيلومتراً من المدينة المحاصرة، حيث كانت الطفلة تستغيث قبل أن يصمت صوتها
إلى الأبد تحت وابل الرصاص.
اعتمدت بن هنية على هذه التسجيلات، ودمجتها مع مادة بصرية
خيالية، لتصوغ سردية هجينة تجمع بين التوثيق والتخييل. حتى ان هناك مشهداً
تشويقياً أضيف في منتصف الفيلم، ضمن حبكة مفتعلة لا تخلو من التلاعب
العاطفي. وقد كانت المخرجة صريحة في مستهل العمل، إذ اعترفت بتحويل الواقع
إلى دراما، ولم تسعَ إلى إخفاء هذا التداخل بين الحقيقة والافتراض. هكذا،
استثمرت بن هنية عناصر واقعية دامغة، وأسقطتها على عمل سينمائي يتأرجح بين
الروائي والوثائقي، تماماً كما فعلت في فيلمها السابق. وبما أنها اختارت
خوض تجربة التخييل، فإن من المشروع نقد الفيلم انطلاقاً من منطق الفنّ، لا
من باب الانجرار العاطفي أو الاستناد إلى فداحة المأساة فقط. فالخلط بين
القيمة الأخلاقية للموضوع وركائز البناء السينمائي قد يُفضي إلى ابتزاز
شعوري، أكثر منه فعلاً فنياً يرقى إلى ما يقتضيه الألم من كرامة وعمق.
يدور الفيلم في مساحة ضيقة، داخل مركز الاتصالات التابع
للهلال الأحمر، حيث يسعى العاملون على الخطوط الساخنة إلى إسعاف الطفلة
هند، ولكنهم يقعون في مأزق إداري، إذ يتعيّن عليهم انتظار الأوامر الرسمية
قبل التحرك، حفاظاً على أرواح المسعفين الذين سبق أن سقط كثير منهم تحت
نيران الجيش الإسرائيلي.
تتصاعد التوتّرات والمشادات الكلامية بين عمر (معتز ملحيس)،
الشاب المكلّف التواصل المباشر مع هند ومتابعة وضعها الحرج، وبين المشرف
عليه مهدي (عمر حليحل)، الذي يصر على عدم إرسال أي فريق إنقاذ قبل تلقّي
"الضوء الأخضر" والتنسيق مع السلطات، منعاً لخسائر إضافية.
يعالج الفيلم هذا الخلاف بطريقة مركبة، إذ يحوّله إلى ما
يشبه نموذجاً مصغراً للصراع الفلسطيني الداخلي، بعيداً من التوصيفات
المباشرة، حيث يصبح الصراع في صورة مواجهة بين الفلسطيني "المناضل"
والفلسطيني "الخانع"، مع تحميل الأخير مسؤولية "ضياع القضية". اللافت أن
كلمة "حماس" لا تُذكَر قط، الأمر الذي يشير إلى حنكة فنية تجنّب العمل
الوقوع في فخّ الانتماءات السياسية الصريحة.
المُشاهد المطّلع على "المذنب" (2018) للدانماركي السويدي
غوستاف مولر، لا بد أن يشعر بصدمة التشابه، حيث تدور أحداثه حول موظّف
استقبال مكالمات الطوارئ الذي يتلقّى اتصالاً مفزعاً من امرأة في حالة
اختطاف، ثم ينقطع الخط فجأةً، فيبدأ هو بدوره سباقاً محموماً مع الزمن،
محاولاً إنقاذها عبر وسائل محدودة لا تتجاوز الهاتف.
خلال التسعين دقيقة التي يستغرقها "صوت هند رجب"، يجد
المُشاهد نفسه محاطاً بعناصر متطوعي الهلال الأحمر. تركز الكاميرا على
وجوههم وانفعالاتهم وغضبهم وخيبتهم، لكن الأهم من ذلك كله هو عجزهم
الملموس. في هذا الإطار، يحمل الفيلم دلالة قوية على واقع العالم اليوم:
أرض تشتعل بلا قدرة على إخماد النيران! هذه الفكرة تصل بقوة، وتساهم في
صناعة تعاطف لدى المُشاهد، الذي يظلّ متحيراً بين الإحساس بالمأساة واحتمال
التلاعب بعواطفه. تعرف بن هنية القاعدة الذهبية في صناعة التأثير
السينمائي: إذا أردتَ أن ينتفض المُشاهد، فعليك أن تبرهن له، بالدليل
القاطع، على عجزك وعجزه وعجز العالم كله. هذه استراتيجيا قديمة، لكنها تجد
نفسها متجدّدة في هذا السياق المأسوي.
مشهداً بعد مشهد، ينتقل تركيز الفيلم من القضية الأساسية
(طفلة على حافة الموت)، إلى الخلافات التي تدور بين عناصر مركز الاتصال،
الذين يعاني بعضهم من ضغوط نفسية قاسية. يعترف مهدي مثلاً بأنه لم يرَ
ابنته منذ شهور. هذه الدراما الداخلية تستحوذ على مساحة كبيرة من السرد،
ممّا يجعل القضية الأصلية تتوارى في الخلفية. ولا يفوتني أن أذكّر هنا بما
حدث مع "قافلة الصمود" التي انطلقت من تونس لكسر الحصار على غزة، وأصبحت
ظاهرة عالمية، حتى باتت "هي" القضية، في حين بقي الضحايا في الظلّ. غاب مَن
هم خارج الصورة، وتحوّل مَن فيها إلى أبطال. هنا تكمن واحدة من أكبر مشاكل
الفيلم.
وبما أن الشخصيات تقف عاجزة خلف الخطوط الهاتفية، ينساب في
الفيلم الكثير من الحشو الكلامي، في انتظار صدور التصريحات الرسمية التي
تسمح بالتحرك. وفي وسط هذا العبث، يظلّ سؤال "ما لونك المفضّل؟" الموجَّه
إلى طفلة تكاد تفارق الحياة، سؤالاً ثقيلاً، حتى وإن افترضنا انه وقع في
الواقع. هناك فجوة كبيرة بين ما هو ممكن الحدوث وما يُصدَّق عندما يتحوّل
إلى سرد سينمائي، وهنا يكمن التباين بين الواقع والفنّ، أحدهما غير ملزم
بالآخر.
ولأن ما تمتلكه بن هنية في الفيلم لا يتجاوز صوت الطفلة
هند، وتعويلها على هذا الصوت وحده لا يكفي لاستدعاء العواطف أو تأجيجها،
نجدها تضطر إلى إدخال صور متقطّعة للطفلة بين حين وآخر، محاولةً العودة إلى
الواقع المادي لشخصية يفترض أنها محور الاهتمام. فالفيلم، في ذاته، لا يملك
ما يعيد إحياء القصّة أو يملأ فراغ المشاعر سوى تلك المحادثة المسجلّة في
مكاتب الهلال الأحمر. فلا بد أن نرى شيئاً ملموساً من الشخص الذي يُفترض
أننا يجب أن نهتم بمصيره، وإلا فإن مخطط الفيلم كله أصبح خارج التأثير.
غير أن الفيلم يفشل في توليد أي انفعال عضوي. وبنظر دقيق في
تفاصيله، يتضح أن تعاطف المُشاهد ينبع من خارج الفيلم، من السياق العام
الذي نعيشه ومن معرفتنا المسبقة بالمأساة، لا من بناء الفيلم ذاته، الذي
يفتقر إلى آليات تراكم المشاعر وإثراء الشخصيات وخلفياتها.
أرادت بن هنية تقديم عمل يختلف عن سرد نشرات الأخبار الجاف،
لكنها أعطت الفيلم ثقة مفرطة تفوق قدراته الفنية. ذلك الضغط الممارَس على
المُشاهد لإثارة تعاطفه يؤدّي إلى نتيجة عكسية، ويتحوّل إلى شكل من أشكال
الابتزاز. وبينما أجد نفسي أدمع أحياناً على أصغر التفاصيل، مثل حفيف ورقة،
لم يحرك هذا الفيلم فيّ أي شعور، إذ أن آليته واضحة تماماً، لا تترك مجالاً
للمفاجأة، وبالتالي تفقد القدرة على صناعة الانفعال. خصوصاً أن النهاية
معروفة مسبقاً، وبن هنية ليست جيمس كاميرون لتبني تشويقاً سردياً حول قصّة
باخرة نعلم أنها ستغرق.
على صعيد التمثيل وتطوير الشخصيات، لا يسهل تصديق أن
أشخاصاً يعيشون حرباً يومية ويتعاملون معها ضمن روتين متكرر، يتصرفون بهذه
الحدّة العاطفية التي تصل إلى حد الشجار بسبب اختلاف وجهات النظر.
الفلسطينيون، الذين تعايشوا مع هذا الواقع المر، لهم طريقة تعامل تختلف
جذرياً عن نظرة التونسي، الذي لم يعش حرباً، لهذا تبدو مشاهد مركز الاتصال
زائفة، وكأننا في بلد بعيد مثل السويد.
الشخصيات نفسها هوائية ومبهمة، تنبثق من فراغ وتعود إليه، لا تُمنح خلفيات
كافية لنفهم دوافعها.
أخيراً، يصر البعض على ضرورة إيقاف العقل وتعطيل أدوات
النقد والاحتفاء بمدة التصفيق كدليل على عظمة العمل، حين يشاهدون فيلماً عن
مأساة غزة يُعرض في مهرجان دولي كبير. في طريقي من قاعة العرض إلى الفندق،
التقيتُ بمخرج نصحني بأن أغلق أبواب التأمّل السينمائي موقّتاً، وأضع
جانباً أدوات القراءة الجمالية، لأن "هناك من يُقتلون الآن"… ففي رأيه أن
كلّ ما يخدم القضية يجب الترحيب به بلا تردد. هذا موقف أبعد ما يكون عن
الحكمة، لا بل هو ضرب من العبث بلغ في الآونة الأخيرة حدّاً خطيراً، خصوصاً
عندما يصدر عن ناس يعملون في ميادين الفنّ والثقافة التي تقوم في الأساس
على روح التفكيك والمساءلة والمعاينة الدقيقة. |