السينما السعودية:
قراءة في تقرير هيئة الأفلام 2024 والتحولات الثقافية
عبدالله الزيد
كشف التقرير الصادر عن هيئة الأفلام السعودية لعام 2024 عن
تحولات مهمة في المشهدين الثقافي والاقتصادي بالمملكة، فبعد أن كان الفن
السابع – قبل سنوات قليلة – خارج المشهد الثقافي السعودي؛ تجاوزت إيراداته
السنوية اليوم «845 مليون ريال»، ليصبح جزءًا من أرقام الناتج المحلي
السعودي.
وما بين نمو الإيرادات الاقتصادية، وتغير أنماط الحياة
اليومية، تبرز السينما اليوم كأحد معالم التحول الاجتماعي والثقافي الجديد.
فمن خلال الأرقام التي سنغوص في تحليل بعضها في ثنايا هذه المقالة، يمكن أن
نرى بأن «الذهاب إلى السينما» يمثل اليوم أحد أنماط المعيشة الراسخة في
السعودية، ومتغيرًا مهمًا في استدامة التنمية؛ من خلال تعزيز جودة الحياة،
وخلق الفرص الوظيفية في القطاعات الإبداعية، وتوسيع الوصول إلى الأنشطة
الثقافية.
من أهم ما لفت انتباهي وأثار توقفي عنده هو قائمة الأعمال
السعودية المتصدرة لشباك التذاكر المحلي، عبر فيلمي «شباب البومب» و«مندوب
الليل».
وهنا قد يطول النقاش والتفكير في معيار القبول الجماهيري
وخصائصه.
فهل الفيلمان يعطيان مؤشرات فنية دقيقة حول ما الذي يجب أن
ينتج لاحقًا؟
في رأيي الشخصي، المسألة لم تكن فنية بالمقام الأول؛ إذ رغم
الفروقات الفنية الواضحة بين الفيلمين، إلا أن نجاحهما المبهر يرتبط أساسًا
بقوة القاعدة الجماهيرية التي بناها صناع هذه الأعمال عبر التلفزيون ومنصات
التواصل الاجتماعي.
ويمكن إثبات وجهة النظر هذه من خلال نجاح فيلم «هوبال»
(2025م)، الذي يمثل نوعًا مختلفًا تمامًا من الأعمال.
رغم طابعه الدرامي المختلف، استطاع الفيلم تحقيق أرقام لافتة بفضل توجهه
لشريحة جماهيرية واسعة بطريقة مدروسة.
إذاً، تعكس أرقام التقرير أهمية الارتكاز على الشرائح
الجماهيرية الواضحة، وتوظيف أدوات التسويق الذكية، بوصفها عاملًا حاسمًا في
تحقيق الإيرادات المرتفعة.
على الجانب الآخر، تظهر أرقام التقرير أن أفلام الأكشن
والكوميديا – سواء المحلية أو العالمية – استحوذت على ما يقارب 60% من
إجمالي إيرادات شباك التذاكر.
هذا الميل الجماهيري نحو الأعمال الترفيهية يؤكد أن السينما
السعودية، خلال هذه المرحلة من نموها، ما تزال تؤدي وظيفة ترفيهية خالصة في
حياة الجمهور.
وهو نمط متكرر في المراحل الأولى لنشوء الصناعات الثقافية،
حيث تتقدم الحاجة للمتعة والتسلية على التوجهات الفنية أو الدرامية الأكثر
تعقيدًا.
أحد المؤشرات البارزة التي رصدها التقرير هو الارتفاع
الملحوظ في نسبة الأفلام المصنفة «+18»، بالتوازي مع تصدر الفئة العمرية
«18–34 عامًا» لرواد صالات السينما.
ورغم أن التقرير لم يصرّح بشكل مباشر بتغير نمط الحضور بين
العائلي والفردي، إلا أن هذه الأرقام تلمح إلى تحولات محتملة في أنماط
استهلاك الترفيه، مع تزايد الاعتماد على القرار الشخصي في اختيار العروض
السينمائية.
هذا الاستنتاج يقيس درجة من النضج الاجتماعي في التعامل مع
الترفيه، ويعكس تطور أنماط الفراغ لدى الجيل الجديد في السعودية، حيث بات
استثمار الوقت الثقافي أكثر استقلالية وتنوعًا.
من جهة أخرى، يكشف التوسع السريع في البنية التحتية لصالات
السينما – التي بلغ عددها أكثر من 70 دار عرض موزعة على مختلف مناطق
المملكة – عن بعد تنموي يتجاوز الاعتبارات التجارية البحتة.
فلم يعد الترفيه حكرًا على المدن الكبرى، بل أصبح وسيلة
لتعزيز العدالة الثقافية وتوسيع نطاق الفرص الترفيهية.
وهذا الاتجاه يتسق مع ما أظهرته دراسات اجتماعية حديثة، من
بينها دراسة تركية حديثة، أكدت وجود علاقة وثيقة بين تخطيط وقت الفراغ
وجودة الحياة، ودورهما في رفع مؤشرات الرفاهية الفردية والاجتماعية.
وبهذا المعنى، تصبح السينما جزءًا من استراتيجية وطنية
لتحسين جودة الحياة عبر إعادة تنظيم أوقات الفراغ وتوجيهها نحو خيارات أكثر
غنىً ثقافيًا.
على المستوى الاقتصادي، تشكل الأرقام التي أوردها التقرير
رسالة بالغة الدلالة:
السينما السعودية أصبحت قطاعًا استثماريًا واعدًا، مما
يستدعي تحفيز مزيد من الاستثمارات الخاصة والعامة، سواء عبر بناء دور عرض
جديدة أو عبر دعم الإنتاج السينمائي المحلي.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى تأسيس «ملتقى للاستثمار في قطاع
الأفلام»، بوصفه منصة استراتيجية لتسريع نمو الصناعة وتعزيز حضورها محليًا
وعالميًا.
وهي دعوة أوجهها إلى هيئة الأفلام لبحث تأسيس هذا الملتقى
ضمن أجندتها المستقبلية، بما يسهم في تحويل الأرقام الواعدة إلى مشاريع
استثمارية حقيقية ومستدامة.
وسط هذا الحراك التجاري المتسارع، قد نواجه معضلة فنية
تتمثل في أن السينما قد تتحول إلى فعل تجاري صرف.
وعلى العكس، أرى أن السينما الفنية «المستقلة» أمام فرصة تاريخية لإعادة
تعريف حضورها داخل المشهد السعودي.
فبدلاً من أن تظل حبيسة الأطر النخبوية في الحضور والتسويق، تتيح التحولات
الحالية إمكانية بناء جسور مع جمهور أوسع، شرط تبني استراتيجيات توزيع
وتسويق ذكية تراعي المزاج الثقافي المتغير، دون التفريط بقيمتها الفنية
الأصيلة.
وهو ما يتطلب من صناع السينما المستقلة تبني منهج مزدوج:
الحفاظ على الهوية الفنية الأصيلة، مع تطوير مهارات قراءة السوق، والتفاعل
مع تحولات الذائقة العامة.
إن الزخم الذي تشهده دور العرض، وتنوع الشرائح العمرية
والثقافية للجمهور، يفتحان أمام الأفلام المستقلة فرصة لتوسيع نفوذها،
والمساهمة بفاعلية في صياغة مشهد سينمائي أكثر ثراءً وتعددية، يوازن بين
الترفيه والتأمل، وبين السوق والرسالة الفنية.
وختامًا، أرى أنه في التلاقي بين الثقافة والاقتصاد، تتجسد
اليوم ملامح مستقبل سينمائي سعودي واعد، يكتب فصله الجديد بثقة وجدارة.
وتبدو السينما السعودية في طريقها إلى أن تكون أكثر من مجرد صناعة، بل منصة
حيوية لصياغة الوعي الجمعي، وتعزيز التنمية المستدامة، وترسيخ الحضور
الثقافي محليًا وعالميًا.
في أول ساعتين من فيلم أوبنهايمر لكريستوفر نولان، باستثناء
محادثة واحدة، لم تتعد محادثة واحدة أكثر من دقيقة. هذا المشهد هو بالطبع
المشهد المحوري حيث يحاول ليزلي جروفز، الذي يلعب دوره مات ديمون الذي لا
تشوبه شائبة، إقناع روبرت أوبنهايمر بالانضمام إلى مشروع مانهاتن الصامت.
لكن بخلاف ذلك، فإن كل مشهد يسجل أقل من دقيقة واحدة، وننتقل من مشهد إلى
آخر بسرعة البرق. ناهيك عن أن هناك روايتان منفصلتان، وكلاهما غير خطيتين.
ومع ذلك، لا يبدو الأمر معقدًا على الإطلاق. في الحقيقة، هو عكس ذلك تماما.
على الرغم من وقوعه في المقام الأول في فئة أفلام السيرة الذاتية، إلا أن
أوبنهايمر يشعر بالتوتر والبهجة. لا تشعر أن ثانية واحدة منها مملة أو غير
ضرورية. ولهذا السبب بالذات، ينبغي لنا أن نشيد بتحرير جنيفر لامي الواضح.
من باب الصدفة، يصادف أن لامي متعاون بشكل متكرر مع المخرج نوح باومباخ،
الذي كتب فيلم
Barbie
للمخرجة جريتا جيرويج، والذي يضيف حجمًا كبيرًا إلى ظاهرة
“Barbenheimer”. |