"حيث الليل أكثر من غياب الشمس": عبد الله حبيب
مستنطقاً تاريخ الفنّ السابع
كتب سومر شحادة
كتاب السينمائي والشاعر العُماني عبد
الله حبيب "حيث الليل أكثر من
غياب الشمس: قراءات سينمائية" هو، في موضوعهِ، بحثٌ في
عددٍ من التجارب الإخراجية. لكنّ مقولة الكتاب ليست في
السطور التي تتحدّث عن الأفلام،
وتَقرأ في عالم صناعة السينما، وإنَّما، كما يُقال،
بين السطور: في اختيارات الكاتب، وفي الإشارة إلى
خصوصيَّة تبحثُ عن تعريف لها. وهي خصوصيَّة تتأتَّى
قبل هذا الكتاب الصادر حديثاً عن دار "الرافدين"
بالتعاون مع "الجمعية العمانيّة للكتّاب والأدباء"،
تتأتّى من المؤلِّف نفسه؛ باعتباره عُمانياً، ينظر إلى
هذه الصناعة من موقعه كابنٍ لـ"العالم الثالث"
وللثقافة العربية التي تبحث عن هوية لسينماها.
منذ التقديم يقع القارئ على ما بين السطور، إذ يحدِّد
عبد الله حبيب انتماءه إلى
"الوجع العربي الكبير"، بما في ذلك من سوء المآل
وانغلاق المستقبل الذي يراه المؤلّف مستورداً حتّى في
الصناعات الثقافيَّة. ويسجّل هنا غياب مقولة خاصَّة
بالثقافة المحلّية، ويتأمَّل مستقبلَ السينما في
ثقافتنا ككُلِّ. يبدأ الحديث عن المستقبل، أو يبدأ
استراقاته لمستقبل السينما في العالم الثالث بإشارات
تبدو متضاربة ما لم تُوضع في سِياق، ينتهي بالاعتراف
بأنَّ العرض السينمائي الأول حدث في باريس (1895)،
وبأنَّ السينما تطوّرت على ثلاثة أسّس عمَّدتها أميركا
في هوليوود، وهي الإنتاج والتوزيع والتسويق، ضمن حلقة
تبدأ بالتخيّل وتنتهي مع تذاكر البيع، مروراً
بالإنتاج. ليبدو حضور العالم الثالث مقتصراً في كونه
موضوعاً، لا ذاتاً مبدعة.
تأمّلٌ لمستقبل صناعة السينما في شرطه الثقافي العربي
لكن، قبل هذه الاعترافات، يذكّرنا حبيب بابن الهيثم
(965 ــ 1040 ميلادي) الذي عارض أرسطو وبطليموس
وإقليدس، واعتبر أنَّ الأجسام هي التي تُصدر الضوء إلى
العين، لا العكس. ما ساعده على اختراع العدسة، وعلى
أساسها ستُخترَع الكاميرا لاحقاً. كذلك يستعيد رؤية
المنظِّر السينمائي الإثيوبي تشوما غابرييل لبداية
السينما، واعتباره أنَّها بدأت مع نرسيس في
الميثولوجيا الإغريقية. كذلك يسجّل حضور نظرية أفلاطون
عن الأشكال وطبيعة الواقع، فما نراه ليس إلّا انعكاساً
لأشكال هي في حقيقتها أكثر مثالية واكتمالاً. بموازاة
ذلك، يعتبر حبيب السينما صناعةً مسيحية، فالمسيحية
تقول بأن يسوع "صورة" الله. والفن السابع لم يُولد في
ثقافة تمنع التجسيد والتصوير.
إذاً، رؤى المؤلّف تقع على متضادّات ضمن ثقافة العالم
الثالث. تجعله رائداً في جوانب، ومُعيقاً في جوانب
أُخرى. وعوض سينما العالم الثالث، يقترح "السينما
الثالثة" التي تقف بين هوليوود وبين سينما المؤلّف
الأوروبية. ويقول برأيٍ مفاده أنَّ العام ينطوي ضمن
الشخصي، انطواءَ العالَم في الفرد. الشخصي هو رؤية
المخرج، والعام هو الوعي الجمعي.
السينما ليست مصدراً للتاريخ فقط، بل كذلك لفاعليته،
وذلك عبر التحريض على المشاركة في صناعة الحاضر. فهي
ليست عرضاً توثيقيّاً للوقائع؛ بل عرضٌ مشحون بممكنات
فنّ السينما. يستلهم عبد الله حبيب فكرته هذه من فيلم
"الأرض الصفراء" (1984) للصيني تشين كايغ، في قراءة
بارعة تُطابق صورة الفتاة الصينية مع الأرض. وبوفاة
الأم، فإنَّ الأرض تصبح هي الأم التي تغنّي. أمّا في
استخدام الصورة هذهِ، فإنَّ الفيلم عن جندي يقوم
بمهمّة توثيق الأغاني أثناء الحرب اليابانية - الصينية
لاستخدامها في الدعاية. الجندي يحبّ الفتاة الريفية،
ويعدها بالحياة الجديدة، التي يعدهم بها الحزب
الشيوعي. ثمّ يتركها للحزن مع حاضر غير متحقّق. فالشاب
يتابع مهمّته، والفتاة تموت. والفيلم، بهذا، مُساءلة
تاريخية للتجربة الصينيّة، لأنَّ الوجدان العام ينتظر
تغييراً لا يتحقَّق. بصورة دائمة ينتظره، وبصورة دائمة
لا يتحقَّق، وكأنَّما الفقراء يبقون فقراء.
فنٌّ يحرّض على الفاعلية بالتاريخ والمشاركة في الحاضر
كما ينظر الشاعر والسينمائي العماني إلى تجربة
الياباني آكيرا كوروساوا (1910 ــ 1998) من جِهة
الزمن، ويرى الزمن وعاءً للواقع. ويراه أيضاً خلقاً
جديداً للواقع عبر نسج الفنّ علاقات جديدة بالواقع
وتمثيله على الشاشة. يقرأ هنا فيلم "راشومون"، والفيلم
عن جريمة قتل تسترجع كلُّ واحدةٍ من الشخصيات
أحداثَها؛ ما يؤلّف حقيقة ملتبسة. وهذا التباسٌ يراه
حبيب نحتاً للمتفرِّج في الجريمة. وهو نحتٌ في زمن
الجريمة بصورة أدقّ؛ في سردها. فالزمن هنا ثابتٌ،
مسترجَع ومستعاد. لكنه في الوقت نفسه متغيّر لارتباطه
بمَن يروي، بمَن يقول ومَن يقصّ الجانب الذي رآه من
الجريمة. والسينما بهذا المعنى، ليست وعاءَ الواقع،
بقدر ما هي تشتيتٌ للواقع ومِن ثَم محاولة لتجنيسهِ.
أي، جعله متجانساً وفق حقيقة، ليست الحقيقة عينها،
بقدر ما هي التباسٌ يعرضهُ الفنّ.
في الحديث عن العنف، يخرج عبد الله حبيب من وراء شاشة
السينما إلى أمامها، في استعادة للحظتين تشيران، فيما
تشيران إليهِ، إلى الفرق الزمني بين استقبال
الباريسيِّين لأوّل عرض سينما سنة 1895، حيث اعتقد
الباريسيون أنَّ القطار سيخرج من الشاشة ويدهسهم، وبين
استقبال العُمانيين في صُحار لأول عرض عُماني سنة
1970، إذ اعتقد العمانيون أنَّ الخيول الجامحة في عرض
"عنترة وعبلة" سوف تخرج من الشاشة وتطيح بهم. الفصل
يتحدَّث عن العنف في أفلام الأميركي آرثر بن (1922 ــ
2010)، وهو ينفي بساطةَ العنف ويصوّره قراءةً، بما
لمفردة القراءة من دلالات. أساساً، أوّلَ ما تجسَّد
فنّ السينما للمشاهد، تجسَّد في لحظات عنيفة، وأظنُّه
عنف المخيّلة مترافقًا مع التقنية؛ التي جعلت من
المستحيل مُمكناً.
وفي الرسالة، يربط الشاعر العُماني الرسالة التي
يؤدّيها فيلم ما، بالنضج التاريخي والمتانة النظرية
التي تؤسّس لهذا الفيلم. حتى إنّه لا يقول "رسالة
سياسية" بقدر ما يميل إلى القول بتضمين سياسي للفيلم.
ما يحيل إلى وجود السياسة في الأفلام غير المصنّفة
كأفلام سياسيّة. فتضمين المقولة في فيلم لا يحرفه تجاه
عصبيات بعينها، بقدر ما يجعل منه فيلماً يخاطب
الإنسانية. لا يستفيض حبيب في هذا الفرق. لكن، في بحثه
عن أهمية أفلام الأميركي نيكولاس راي، يمكن للقارئ أن
يبني خلاصاته حيال موضوع البحث، وقراءات عبد الله حبيب
تبحثُ عن قارئٍ يشترك بتجربته في تلقّي السينما. ويمكن
للقارئ أن يرى كتابه كمقدّمة لكتاب أوسع، فهو كتابٌ في
علامات تختزلُ السينما: إنَّه كتاب اختزالي.
يُنهي السينمائي العماني قراءاته بفصل عن سينما الغرب
الأميركي، ينظر إليها من زاوية الثنائيات التي بُنيت
عليها، مثل: الحضارة/ الهمجية، السماء/ الأرض، النبيل/
الوغد، وما إلى ذلك من ثنائيات متصارعة، العلاقات
بينها علاقات سيطرة. بهذه الصورة يحلُّ العرب محلّ
الهنود الحمر و"همجيّتهم"؛ أما الرجل الأبيض، فهو خالد
التمثيل، لصيقٌ بصورة الرجل الذي ينقذ الغرب الإنساني
من خطر الشرق المتوحّش...
في شهادته الذاتية عن فيلمهِ "أصابع"؛ يعتبر عبد الله
حبيب نفسه منتمياً إلى الجيل المغدور، وسرعان ما
يستدرك بتعبير أوضح: "الأفراد المغدورون". وهُم أفراد
صاغتهم هموم الستينيات والسبعينيات، وأفكار التغيير.
لكن في ما يخصّ السينما، نستذكر حديثه عن ظروف صناعة
فيلم في بلد من العالم الثالث أوائل التسعينيات، حيث
الفيلم الخام يحتاج للحفظ في درجة حرارة معيّنة كي لا
يتلف. هكذا طُلبت الأفلام بالبريد السريع من نيويورك
إلى دبي، حيثُ أوفدت في ثلّاجة صديق. لتخرج سيارة
محمَّلة بصندوق ثلج من دبي إلى مسقط، تحضر الأفلام
التي سُرعان ما تنجز مادتها لتعود إلى نيويورك
بالطريقة المثابرة ذاتها. إن كان الحال هكذا بعد قرابة
القرن من صناعة السينما، فلا بأس من الانطلاق من حقيقة
صندوق الثلج وسط حَرَّ الخليج؛ بما في ذلك من تَوق
للغة السينما التي يبرع عبد الله حبيب في قراءتها، وفي
السعي إلى استباقها ونحت خصوصيتها.
*
روائي من سورية |