الحريف

إنتاج عام 1983

 
 
 

نشر هذا المقال في جريدة الأيام في 2 يونيو 1989

 
 
 
 

بطاقة الفيلم

عادل إمام + فردوس عبد الحميد + عبد الله فرغلي + نجاح الموجي

إنتاج: أفلام الصحبة، تصوير: سعيد شيمي، قصة: محمد خان+بشير الديك، سيناريو وحوار: بشير الديك، موسيقى: هاني شنودة، مونتاج: نادية شكري.

 
 
 

شاهد ألبوم صور كامل للفيلم

 
       

الحريف

مهرجان الصور
       
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 
 
 
 

في فيلم (الحريف)، يصل محمد خان إلى مرحلة متقدمة جداً في بحثه عن أطر جديدة لمحتوى أفلامه، حيث ينجح في كسر إحدى دعامات السينما التقليدية في مصر .. إنها الحدوتة، وذلك بعد أن بدأت روح التجريب والابتكار تظهر لديه في فيلمي (موعد على العشاء، طائر على الطريق). أما في (الحريف) فهو يعلن ثورته على الحدوتة ويتحرر من قيودها. فبعد أن كانت الحدوتة من مقدسات الفيلم المصري، بدت عند محمد خان عاملاً مساعداً للتوصيل لا أكثر، واتضح أكثر محاكاته لشخصياته والغوص في أعماقها ونقل أحاسيسها واضطراباتها، جاعلاً من التفاصيل الصغيرة والكثيرة المحيطة بالشخصيات، أسلوباً جديداً وخلاقاً لإضفاء أبعاد إنسانية عميقة وصادقة عليها.
إن (الحريف) عبارة عن سيمفونية حزينة عن العالم السفلي للمدينة، ينزل به محمد خان إلى قاع مدينة القاهرة .. إلى حواريها وأزقتها الضيقة، ليكشف عن الإنسان المصري المسحوق، والذي يعاني من الفقر والكثير من الإحباطات النفسية والاجتماعية، نتيجة مقاومته لطوفان المدينة الكبيرة. إن محمد خان يكشف في هذا الفيلم عشقه وتعاطفه مع البسطاء ساكني هذه الحواري والأزقة، أكثر من عشقه للحواري والأزقة نفسها. إنه يضعنا أمام نماذج بشرية تعيش على هامش المدينة، بكل إحباطاتها وأزماتها والنفسية والأخلاقية والعاطفية.
نحن في (الحريف) أمام فارس آخر من فرسان محمد خان، يشبه إلى حد ما فارسه في (طائر على الطريق). ففارس (عادل إمام) هنا إنسان بسيط وفقير يعيش حجرة حقيرة فوق سطح إحدى البنايات الشاهقة، يعمل في ورشة لصنع الأحذية، إضافة إلى أنه يحترف لعبة الكرة الشراب، والتي يمارسها في الشوارع والساحات العامة.
يعيش فارس أزمة عاطفية مع مطلقته دلال (فردوس عبد الحميد)، التي يحبها وابنه الذي يعيش معها بحكم المحكمة. وهي ترفضه لمعاملته العنيفة لها، إضافة لفشله المادي. وبالرغم من أنه يشعر برغبة في العيش معها وابنه تحت سقف واحد، إلا أنه عاجز عن ضمان عيشة مستقرة لهما، خصوصاً عندما يتعرض ـ فيما بعد ـ للإهانة والطرد من عمله. كما أنه يقضي بعض الليالي في التخشيبة إثر اتهامه بقتل جارته الثرية. يتهمه الضابط بأنه رجل عنيف، فقد سبق أن ضرب زوجته ومدربه في النادي من قبل. وهذا صحيح، ولكن برغم العنف الذي يحمله فارس، إلا أنه في المقابل لطيف المعاشرة في معاملة من حوله، فظروفه الصعبة هي التي تضطره لاستخدام هذا العنف الكامن في داخله. وإثناء التحقيق نتعاطف بشكل مؤثر مع فارس، إثر الطريقة الاستفزازية التي يستخدمها الضابط في التحقيق، والتي تشحننا ضد هذه النوعية من المحققين الذين دائماً ما يوجهون أصابع الاتهام لهذه الطبقة ويحتقرونها.
ومأساة فارس تكمن في أنه يعي ويدرك تماماً لكل ما يدور حوله، ولكنه لا يستطيع التوائم مع محيطه. فهو يحمل في داخله طاقة رهيبة من التمرد على كل ما يحيط به من فشل وإحباطات .. فهو متمرد على سيطرة صاحب ورشة الأحذية .. ومتمرد على زوجته رغم حاجته إليها والى ابنه .. ومتمرد على زميلته في العمل سعاد (زيزي مصطفى) التي تسعى بإيحاءاتها المغرية لمشاركته الفراش، إلا أنه غالباً ما ينفر منها رغم حاجته إلى إفراغ كبته الجنسي الذي يفرضه عليه المجتمع .. كما نراه يتمرد أيضاً على متعهد مبارياته المعلم رزق (عبد الله فرغلي) عند شعوره بأنه يستغله ويستغفله، وبالتالي يتمرد على لعبته ومصدر عيشه، هذا بالرغم من أن الملعب هو الشيء الوحيد الذي يشعره بقيمته في هذا المجتمع، يشعره بأنه أكثر من عامل مهمل في ورشة للأحذية. فالحشود الكبيرة من عشاق تلك اللعبة جاءوا لمشاهدته والهتاف باسمه والتصفيق من أجله، وهو ما يجعله يشعر بالتفوق على كل ظروفه القاسية. أما خارج الملعب فالفشل والإحباط يلاحقانه في كل مكان، في علاقته بابنه وفي علاقته الإنسانية بوالده الذي لا يستطيع التواؤم معه، علاقته بالناس بشكل عام تقوم على الرفض من جانبه، فهو يعيش في وسط كم هائل من الشخصيات المحبطة ، ومن الطبيعي أن تنعكس عليه إحباطاتها هذه.
فارس نموذج صارخ للتمرد، لكنه ليس نموذجاً فوضوياً، إنما هو إنسان يمثل خليطاً من المشاعر والأحاسيس والمتناقضات، بين الجد واللامبالاة، الفقر والإسراف، العنف والرقة، الشهرة والوحدة، الكرامة والإحباط. كل هذا يجعله يعيد النظر في أسلوب حياته ليكشف في النهاية استحالة الاستمرار هكذا في هذه الحياة القاسية التي يعيشها. لذلك نراه يستجيب لعرض صديقه القديم بالعمل معه في التهريب، رغبة منه بلم شمل العائلة الصغيرة وتوفير احتياجاتها.

إن فيلم (الحريف) ـ الذي كتبه بشير الديك أيضاً ـ يقدم صورة سينمائية صادقة للبطل المهزوم والمحاصر. وبالرغم من أن الفيلم قد اهتم أكثر بشخصية فارس، إلا أن هذا الفارس لا يعيش وحيداً في هذا الواقع، بل في بيئة شعبية تمثل قطاعاً كبيراً من المسحوقين أمثاله. فهناك شخصية جاره (نجاح الموجي) الذي يعاني من الفقر الشديد وعجزه عن إعالة زوجته وأولاده وتضطره هذه الظروف لارتكاب جريمة قتل. وشخصية سمسار العربيات والمباريات الوصولي (عبدالله فرغلي) الذي يستغل فارس أيما استغلال، ضارباً عرض الحائط بالزمالة والقيم والأخلاق في سبيل الحصول على المال. وهناك أيضاً جارته التي تمارس الدعارة وتتمنى قضاء ليلة واحدة مع رئيس مجلس الإدارة، والتي يستسلم لإغراءاتها فارس وهو في حالة حزن ويأس شديدين. كذلك هناك الوافد الجديد من القرية (حمدي الوزير) الريفي البسيط والطيب، الذي يحاول تكييف نفسه للتعامل مع هذه المدينة الكبيرة، إلا أنه يضيع في دوامتها الواسعة وينجرف مع التيار اليومي للمدينة. أما رواد المقهى الذين يتردد عليه فارس، فهم كثيرون ويملئون المقهى، ولكل منهم شخصية قائمة بذاتها بكل آمالها وآلامها إحباطاتها. أمثال كابتن كرة القدم العجوز الذي يظل يحكي عن أمجاده الماضية مع الرياضيين القدامى ويتحسر عليها، ويمنعه كبرياؤه من الإفصاح عن حاجته للمال لمواجهة متطلبات الحياة الصعبة.

قطعاً ليس هؤلاء فقط هم شخصيات (الحريف)، فالفيلم فيه كشف هائل ورائع لقاع المدينة وشخصياتها، فكل شخصية تقول شيء وتعبر عن صورة بشعة لهذه البيئة، صاغها السيناريو عبر مشاهد سريعة الإيقاع لتؤدي وظيفة درامية هامة في عملية شحن المتفرج للتأفف من أوضاع هذه النماذج البشرية والتعاطف معها في آن واحد.
وفي حديث لمحمد خان عن فيلمه هذا، قال: (انظر إلى الحريف، كان يلهث مخنوقاً من ضغط فوضى السلبية. الضغط بهذه الشخصيات يخرج النقاء والحب خالصين. فأنا أؤمن بإيجابية المتفرج، وعندما أقدم عملاً سلبياً لا أدعو إلى تكريس السلبية والعجز، ولكن أدعو المتفرج إلى أن يستنكر الموقف) *12

إن محمد خان في فيلم (الحريف) يقدم تجربة سينمائية هامة وجريئة تعتبر من أكثر التجارب تطرفاً في السينما المصرية، وهو بالطبع تطرفاً إيجابياً يدعو ويحرض للخروج على ما هو سائد ومستهلك من أنماط وشخصيات تقليدية.

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004