الكيت كات

إنتاج عام 1991

 
 
 

نشر هذا المقال في مجلة هنا البحرين في 27 يناير 1993

 
 
 
 

بطاقة الفيلم

محمود عبد العزيز + نجاح الموجي + شريف منير + عايدة رياض + أمينة رزق

سيناريو وحوار: داوود عبد السيد ـ قصة: إبراهيم أصلان ـ تصوير: محسن أحمد ـ مناظر: أنسي أبو سيف ـ موسيقى: راجح داوود ـ مونتاج: عادل منير

 
 
 

شاهد ألبوم صور كامل للفيلم

 
       

       
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

 
 
 
 
 
 

فيلم (الكيت كات - 1992) للمخرج المبدع داود عبد السيد، قد أصبح علامة هامة في تاريخ السينما المصرية وذاكرتها، ليس لأنه فيلماً ذو مواصفات عالمية في الإبداع فحسب، وإنما يعد أيضاً، نموذجاً جيداً بل ومتميزاً في مجال كانت السينما المصرية تعاني منه، ألا وهو ترجمة العمل الأدبي إلى رؤية سينمائية. فقد كان تطويع البعد الروائي الأدبي لصالح المشهد السينمائي مرتبكاً دائماً.. والكاميرا في سعيها لتحقيق وتجسيد الرواية الأدبية سينمائياً وترجمتها حرفياً، تجعل السينمائي ينسى شروط أدواته التعبيرية وإمكانياتها الموضوعية، وبالتالي يحاول ليّ عنق الكاميرا لصالح المشهد الأدبي، وذلك على حساب المشهد السينمائي. وقد ينجح السينمائي أحياناً في نقل وترجمة الرواية، إلا أنه يخفق كثيراً بسبب الشرط الموضوعي لحجم اتساع المشهد الذي تمتلكه السينما. وبالتالي فقدان اللغة السينمائية أو ارتباكها، مما يجعل الفيلم يتخبط كثيراً في لهاثه وراء العمل الأدبي.

أما فيلم (الكيت كات)، فقد كتبه داود عبد السيد ـ إضافة إلى الإخراج ـ من وحي رواية »مالك الحزين« للروائي إبراهيم أصلان. واستطاع أن يصنع فيلماً متميزاً عن عمل أدبي متميز، دون تفريغه من محتواه. كما نجح عبد السيد في أن يتمثل الرواية ويعيد صياغتها، بعد أن أعطى لنفسه الحق ـ كفنان صاحب رؤية ـ في التعديل والحذف والإضافة والتغيير والدمج، وإقامة بناء متواز تخلص فيه مما تصور أنه يشكل عبئاً على بناء الفيلم. حيث أن الرواية تحتوي على أكثر من أربعين شخصية، ومجمل أحداثها تدور في أقل من أربعاً وعشرين ساعة. وليس من السهل ـ طبعاً ـ نقل كل هذا في فيلم واحد. لذلك انتقى عبد السيد بعضاً من الشخصيات وقدم من خلالها موضوعاً مختلفاً عن موضوع الرواية الرئيسي. فقد جعل من الشيخ حسني وابنه يوسف شخصيتان محوريتان تدور في فلكها بقية الشخصيات، وصاغ من تلك العلاقة التي تجمعهما رؤية لعالم »الكيت كات«. بينما لا توجد شخصيات رئيسية أو حدث رئيسي في الرواية، إنما هي مجموعة من الأحداث والتفاصيل التي تنتظم في منظومة أو نسق واحد يحتل رؤية الروائي نفسها، ومن بين صفحات الرواية تخرج شخصيات الفيلم وأحداثه، وهي بالتالي تنتمي إلى الرواية بقدر ابتعادها عنها. فالفيلم والرواية يتعرضان لعالم »الكيت كات« ولشخوصه وشكل الحياة اليومية الممتدة منذ عمق التاريخ للمكان الذي يتعرض للبيع والتفكك في نسق القيم الاجتماعية المتجسدة في الممارسة والسلوك اليومي، من قبل فرسان الانفتاح الجدد، والخارجين عن هذا النسق.

وبعيداً عن تلك الأنماط المكررة في الأفلام المصرية، ينتقي عبد السيد شخصية الشيخ حسني الحيوية، والتي ملأت رواية »مالك الحزين« مرحاً وصخباً وحياة، ليعيد صياغتها وترتيب علاقاتها وتوسيع مساحتها، لتصبح بذلك هي الشخصية المحورية في الفيلم. فالشيخ حسني (محمود عبد العزيز) مدرس موسيقى سابق، فاقد للبصر لكنه يمتلك بصيرة شيطانية وإصراراً عنيداً على تحدي هذه العاهة ورفض عجزه هذا. متيقناً بأنه يرى أفضل من المبصرين.. إنه يسير بدون عصا ويستخدم كل حواسه ـ حتى أطراف أصابعه ـ ليتحسس الطريق ويتششم البشر. وتسيطر عليه رغبة محمومة في ركوب دراجة بخارية، ولا يتردد في تحقيق هذه الرغبة.

نتعرف على الشيخ حسني منذ أول مشهد، وهو في إحدى جلسات الانبساط. نسمعه ثم نراه يغني بصوت جهوري وسط صحبة الليل والحشيش، محتضناً عوده، ويحاول بصوته المدوي أن يعبر عن وحدته الداخلية، حيث يجد من يسمعه وسط تلك الصحبة. إنه يتحلى ـ أيضاً ـ بخيال جامح وخصب، وذكاء فطري حاد، حيث نراه ـ فيما بعد ـ يوهم الشيخ عبيد الأعمى بأنه مبصر ويصر أن يقوده في الشوارع، بل ويحذره من الحُفَر أيضاً، لدرجة أنه يذهب به إلى السينما ويبدأ في سرد حكاية فيلم من خياله، ثم يقنعه بأنهما في عرض النيل في زورق، بينما الحقيقة بأنهما لم يغادرا الشاطئ. كما أنه يغريه بالنساء ويثير غريزته عندما يصفهن له بكلمات الغزل.

وعشرات التفاصيل صاغها عبد السيد بذكاء شديد ووعي بطبيعة الشخصية، وجسدها باقتدار الفنان محمود عبد العزيز. حيث يصل هذا الفنان بالشخصية وتصل به إلى أعلى وأفضل مستويات الأداء التمثيلي، فهو عندما يرتدي الجلباب ويلغي التعبير بعينيه يصبح لزاماً عليه البحث عن وسائل أخرى للتعبير، فنراه يطوِّع حركة يديه ورجليه وطريقة سيره، كما يعتمد على تلوين صوته للتعبير عن انفعالاته الداخلية. إنه يتحرك في ثقة وحذر شديدين، يصيخ السمع وتتحول شعيرات جسده بالكامل قرون استشعار. إنها حقاً شخصية متميزة، جسدها هذا الفنان المبدع بتميز، وتمثل دور عمره على أقل تعبير.

ثم أن نجاح هذه الشخصية بهذا الشكل المذهل ليس سببه ذلك الأداء المتميز فحسب، وإنما هناك عناصر فنية أخرى ساهمت في ذلك النجاح. حيث أنه من الواضح بأن عبد السيد ومدير تصويره الموهوب (محسن أحمد) قد اختارا أفضل الزوايا الملائمة للتصوير والمدروسة بعناية فائقة، وذلك لكي تتناسب والمواقف التي يؤديها الممثل. ففي المنولوجات الداخلية مثلاً تصور الكاميرا وجه محمود عبد العزيز منفرداً في لقطات قريبة، حتى يبدو على خلفية السماء البالغة الاتساع، كما لو أنه في جزيرة معزولة عن الجميع. كما أن الكاميرا تصوره في العديد من المشاهد من أسفل فيظهر أطول قامة من البيوت. هذا إضافة إلى التركيز بلقطات قريبة وكبيرة على أصابع يديه المرهفة وقدميه وهو يتحسس جدران البيوت خارج شقته، أما عندما يكون في داخل الشقة فنراه يتحرك بحرية وسهولة مطلقة، ذلك لأنه يعرف الشقة ويألفها تماماً.

وعلى العكس من شخصية الشيخ حسني، تأتي شخصية ابنه يوسف (منير شريف) المصاب بالإحباط والإحساس بالعجز. فيوسف شاب عاطل يبحث عن عمل وأمله كبير في الخروج من أزمته هذه، والتي تكاد تخنقه، بالسفر للخارج هرباً من واقع محبط. ثم علاقته المجهضة مع فاطمة (عايدة رياض) وعجزه عن التواصل معها جسدياً. نراه في البداية يفشل في علاقته هذه لأنه مشدود إلى عالم بعيد غير محدد الرؤى، ولا تتحقق علاقته بها إلا عندما يدرك بأنه جزء من هذا الواقع ويبدأ في صياغة علاقته بهذا الواقع. ثم أن استيعابه لشخصية أبيه بكل تناقضاتها وهو يراه مصراً على تجاوز عجزه مدفوعاً بحبه للحياة، جعل يوسف يستوعب الدرس من أبيه. وقد برز ذلك من خلال المشهدين الأخيرين من الفيلم، حينما يغني معه ثم يصحبه في نزهة على الدراجة ليشاركه ويساعده على تحقيق رغبته الأبدية، في شكل من التوحد بين الأب وابنه ولحظة انطلاق جديدة لهما. 

بالإضافة إلى تلكما الشخصيتين المحوريتين، هناك شخصيات أخرى ثانوية في هذا الفيلم، تعاني بدورها من الضياع والعجز، وخصوصاً النساء اللاتي نراهن ضائعات خائنات، وإن كان عبد السيد يلتمس لهن الأعذار والدوافع ولا يحكم عليهن أحكاماً أخلاقية.

ففاطمة التي تحب يوسف بجنون، كانت متزوجة من أحد الأثرياء العرب إلا أنه سافر إلى بلده وانقطعت أخباره بمجرد سفره، فأصبحت من بعده مهجورة وهي لا تزال في ريعان شبابها، تتمنى ولو لحظة ود من يوسف. كذلك روايح وزوجها سليمان الصائغ، تفتح بابها للرجال، وتصل ذروة الخيانة والمأساة بهروبها، ليتضح ذلك الواقع النفسي المشوه الذي يعيشه الزوج سليمان.. الزوج غير القادر على الحوار مع زوجته والتعامل معها كزوج عليه واجبات كما له حقوق، فنراه يلقي بنفسه إلى الخمرة عله ينسى أو تحل عقدة لسانه. أما عواطف الأرملة (أم روايح) فهي لا تأبه لهروب ابنتها، وتتمنى الخلاص من ابنتيها الأخيرتين، ولا تتورع عن الاستجابة لمداعبات الشيخ حسني، بل وتعده بلقاء في اليوم التالي. إضافة إلى فتحية، زوجة الأسطى حسن العليل، التي تخونه مع المعلم هرم.

شخصيات فيلم (الكيت كات) إجمالاً من المنسيين، يعيشون على هامش المجتمع، وبالرغم من البعد اللا أخلاقي في سلوك شخصياته، ينظر عبد السيد إليهم برحمة وحنو وتفهم لحاجات النفس والجسد. فهناك المعلم هرم الذي بالرغم من اتجاره بالحشيش وبالرغم من خيانته لصديقه الأسطى حسن، إلا أن هناك جوانب أخرى مضيئة في شخصيته. فهو مثلاً يرفض العمل كمرشد للشرطة، ويدبر الألف جنيه التي طلبها منه الشيخ حسني. إنه إنسان محبط هو الآخر تتعقبه الشرطة ومطارد لا يملك لحظة أمن، يختلس الحياة ويسعى لأمان مفتقد. أما شخصية المعلم عطية صاحب القهوة، فهو مغلوب على أمره رغم أنه قد حاول استجماع شجاعته للتصدي للمعلم صبحي الانفتاحي، إلا أنه يجد نفسه أعزل وعاجز عن مواجهته ومواجهة رجاله الذين أسالوا الدم من فخذه تحذيراً وإرهاباً.

هؤلاء هم شخصيات (الكيت كات)، شخصيات واقعية صاغها عبد السيد بحذر وصدق أخاذ. راصداً في رهافة ودون مباشرة متغيرات الواقع وتأثيراتها على تلك الشخصيات وعلى تطور علاقاتها، وذلك من خلال نماذج شديدة الإنسانية، انتقاها من أرض الواقع.

إن (الكيت كات) فيلم يتجاوز الحكاية التقليدية، بل إنه لا يهتم بعناصر الحكاية بقدر ما يعرض لحالات ونماذج بشرية لا تعيش الفراغ ولكنها تجد نفسها في واقع أليم ضيق وخانق.

نصل الآن للحديث عن المكان في فيلم (الكيت كات)، والذي يعد لوحده شخصية محركة وفاعلة، وليس فقط مجرد خلفية جامدة للأحداث والشخصيات، فالمكان يكتسب أهمية كبيرة في فيلم عبد السيد هذا. إن »الكيت كات« كفيلم أو »مالك الحزين« كرواية يعدان بمثابة سيمفونية بصرية عن المكان وعن البشر داخل هذا المكان، داخل تلك الحواري الضيقة، والتي تحاصر الحركة وتطبق على الأنفاس، وبالتالي يكتسب الديكور أهمية كبيرة أيضاً. ولم يكن اعتباطا عندما أهدى عبد السيد فيلمه هذا لصديقه الفنان إنسي أبو سيف. فقد نجح فنان الديكور أبو سيف في إبداع هندسة المناظر وبناء ديكور يصل إلى أعلى درجات الإيهام بالتماثل مع الواقع، وذلك من خلال وعي كامل وإدراك حقيقي لطبيعة المكان. لقد كانت لمسات أبو سيف واضحة بالذات في شقة الشيخ حسني وشقة فاطمة حيث كان الديكور يجسد بشكل ملحوظ ما يسمى بالوظيفة الدرامية للديكور والإكسسوار، فالجدران تحاصر ساكنيها وتدفعهم إلى الهرب والفكاك منها. كذلك الحجرة الفقيرة المهجورة التي يلتقي فيها يوسف وفاطمة. فقد عبرت هذه الحجرة، بقطع الأثاث المهشم الذي يعلوه التراب، عبرت بشكل بليغ عن تلك الفوضى وذلك العجز الجنسي والوضع النفسي المحبط الذي يتملك يوسف، خصوصاً عندما تصورهما الكاميرا من أعلى بين ركام الأثاث المهمل في لقطة ذكية ومعبرة لتبدو الحجرة الضيقة كما لو أنها واسعة عليهما وذلك من تأثير الحالة النفسية المتفائلة. ومن الطبيعي تحت ظل ديكور كهذا أن يكون مدير التصوير الفنان محسن أحمد قد استفاد كثيراً من تلك المناظر وديكوراتها، بل وساعدته ـ أيضاً ـ على تجسيد الحالات النفسية للشخصيات عن طريق توزيع الإضاءة واستخدام زوايا للتصوير ساهمت في نقل مشاعر وأحاسيس شخصياته إلى المتفرج، وبالتالي ليس من الغريب أننا استمتعنا بكادرات جمالية إبداعية معبرة وقوية، ارتقت بمستوى الفيلم الفني والدرامي.

لقد حظي فيلم (الكيت كات) باهتمام نقدي وجماهيري فاق كل تصور، حيث استمر عرضه الجماهيري أكثر من عشرين أسبوعاً. هذا بالإضافة إلى الاحتفاء والقدير النقدي في الصحافة والمهرجانات. فقد اشترك الفيلم في عدة مهرجانات محلية ودولية، ففي مهرجان الإسكندرية حصل على جوائز أفضل ممثل وسيناريو وتصوير وديكور. وفي مهرجان دمشق الدولي حصل على جائزة السيف الذهبي مناصفة مع فيلم كوبي وجائزة أفضل ممثل. أما مهرجان جمعية الفيلم فقد أهداه ثماني جوائز وهي: أفضل فيلم، أفضل إخراج، أفضل سيناريو، أفضل ممثل، أفضل مونتاج، أفضل موسيقى، أفضل ديكور، أفضل ملصق إعلاني.

ولم يأتي هذا الاحتفاء، وبهذا الشكل المذهل، إلا لأن الفيلم يستحق كل هذا فعلاً. فقد تضافرت جميع العناصر والطاقات الفنية في الفيلم (تمثيل، تصوير، مونتاج، ديكور، موسيقى) تحت قيادة مايسترو ماهر وسينمائي فنان، استطاع حقاً، من خلال ثلاثة أفلام فقط، أن يقف في مقدمة الصفوف مع كبار المخرجين المصريين. إننا ، مع المخرج المبدع داود عبد السيد، أمام حالة فنية خاصة في السينما المصرية.

 
 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004