التالي

بانوراما

يوخنا دانيال

البحث عن الجمال الداخلي في السينما

سيد الخواتم على شاشات التلفزيون

سيد الخواتم على شاشات التلفزيون

عصر جديد في صناعة السينما!

الدخول الى عالم الـ ماتريكس!

ماذا بعد الأوسكار ....

ملامح أزمة في عاصمة السينما الأمريكية!

 يوخنا دانيال

السابق

 

التالي

 

السابق

 

 

 

 

 

 

ذهبت وولّت أيام "سيد الخواتم"! .... عاد الناس من فانتازيا "الأرض–الوسطى" الى الهموم والصراعات الواقعية الراهنة على "كوكب الأرض" .... وعادت معهم صناعة السينما وأكاديميتها الأمريكية لتخوض في وحول الواقع الراهن وتحدياته المختلفة حول العالم. ويبدو انهم – في سعيهم هذا – قد انتبهوا الينا أخيراً. ولأول مرة، في تاريخ أكاديمية علوم وفنون السينما في أمريكا، يكون الموضوع العربي بهذا الحجم من الحضور .... ولا نقصد أيّ حضور ....  لكننا نتكلم عن حضور موضوعي وايجابي الى حدّ ما.

الخاسرون والفائزون

وبالطبع، فان الحضور العربي يكمن من خلال نقطتين ستراتيجيتين وأساسيتين في السياسات الأمريكية والغربية عموماً؛ ونقصد إمدادات النفط العربي وقضية اسرائيل/فلسطين او الصراع العربي/الاسرائيلي "المزمن".... وذلك من خلال الحضور المذهل لأفلام رائعة، متقنة الصنع على كافة المستويات، أفلام مثل : "سريانا" و"الجنة الآن" و"ميونيخ" .... حققت نجاحات فنية وجماهيرية أيضاً، وأثارت الكثير من الاهتمام والجدل.

 وكما حصل في العام الماضي، فقد تشتّت الجوائز الى أفلام وشخصيات كثيرة، ولم يستطيع أي فلم من الأفلام تحقيق أكثر من ثلاث جوائز، بالرغم من ان بعضها كان قد ترشحّ الى 8 جوائز مثل فلم "جبل بروكباك"، والى 6 جوائز كما في أفلام مثل "كراش او الاصطدام" و"مذكرات فتاة الغيشا" و" ليلة سعيدة، وحظ سعيد".... بينما ترشحت أفلام مثل "ميونيخ" و"كابوتي" و"إمشي على الخط" الى 5 جوائز لكل منها، أماالأفلام الأخرى مثل "كنغ كونغ" و"الكبرياء والهوى" و"البستاني الدائم" فكانت مرشحة الى 4 جوائز لكل منها.

الخاسر الأكبر في الحفل التاريخي كان فلم "جبل بروكباك"، الذي لم يحصل على جائزة أفضل فلم، كما لم يحصل أبطاله على أي من جوائز التمثيل الرفيعة المستوى ... واكتفى الفلم بالفوز بجائزة أفضل إخراج للصيني "أنغ لي"، وأفضل لحن رئيسي، وأفضل اقتباس سينمائي. ان هذا الفلم يمثل إشكالية واضحة ويحمل حساسيات حتى بالنسبة للمشاهد الأمريكي، لأنه تقريباً "يسوّد" الصورة الرجولية المثالية للغرب الأمريكي .... ليعرض تعقيدات وصعوبات علاقة عاطفية مثلية بين اثنين من رعاة البقر او الماشية ... وسط مناظر طبيعية خلاّبة، مثيرة للبصر والأحاسيس .... في بيئة تقليدية ومحافظة الى حد ما. لقد نال موضوع الفلم الكثير من النقد والسخرية والتعليقات اللاذعة في وسائل الاعلام المختلفة....  بالرغم من إعجاب النقّاد به واندفاع الجماهير لمشاهدته، كما تظهر ذلك عائدات شباك التذاكر بالنسبة لفلم غير تقليدي في مضمونه مثل هذا.

 كما ان فلمي "ميونخ" و"حرب العوالم" للمخرج الكبير ستيفن سبيلبرغ اللذين ترشحا الى 8 جوائز فيما بينهما... خرجا من المولد من دون أي حمّص على الاطلاق. وربما عاقبت أكاديمية السينما الأمريكية سبيلبرغ على جرأته في إثارة موضوع الأعمال الثأرية الاسرائيلية من الفدائيين الفلسطينيين في أعقاب عملية أولمبياد ميونيخ الفدائية الدموية، في أجواء مشحونة ومتوترة ومليئة بالصراعات والنزاعات الثقافية والسياسية والعسكرية. ولنكن واقعيين ... هذا ليس "لائحة شندلر"... بل انه ينتقد ضمنياً أولئك الذين مجدّهم في لائحة شندلر... انه يظهرهم كمسعورين"عقلانيين" يخططون بذكاء ودهاء وهدوء... لعمليات الثأر "المتخلفة" انسانياً وحضارياً ... ونعلم انهم قد ارتكبوا أخطاءً كبيرة، وقتلوا أناساً أبرياء في مسعاهم هذا... وربما دفع سبيلبرغ ثمن جرأته هذه. ومع ان سبيلبرغ يدّعي ان الفلم في صميمه : هو محاولة لتكريم ذكرى الرياضيين الاسرائيليين المقتولين .... إلا ان الفلم ينطق بالنقد والإدانة لمحاولة اسرائيل الأخذ بالثأر والانتقام من قتلة الرياضيين الاسرائيليين.

خاسر آخر في سباق الأوسكار يهمنا أمره كثيراً، كان هو المخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، وفلمه الرائع "الجنة الآن" ... الذي يحاول البحث عن طريق آخر، أكثر انسانية، من خلال تناول الأعمال الانتحارية الفلسطينية ضد المدنيين الاسرائيليين .....  وسط هذا الصراع الدمي الممتد منذ عقود طويلة، والذي يحرم الشعب الفلسطيني من حقوقه الوطنية والانسانية المشروعة. وبالرغم من فوزه بجائزة الغولدن غلوب المهمة لأفضل فلم ناطق بغير الانكليزية، وجوائز اخرى في مناسبات عديدة – ممثلاً للسلطة الفلسطينية ... الا ان جائزة الأوسكار لأفضل فلم أجنبي ذهبت الى فلم رائع آخر من جنوب أفريقيا هو "تسوتسي"... الذي وجّه مخرجه التحية الى باقي صنّاع الأفلام الأجنبية المتنافسة قائلاً : "ان قضيتهم واحدة ....". ويبدو ان الوقت لا يزال مبكراً لتفوز أفلام إشكالية مثل "ميونيخ" و"الجنة الآن" بجوائز عظمى مثل الأوسكار ... ويكفي ترشيح مثل هذه الأفلام للجوائز الكبرى، لأن يكون نصراً معنوياً بحد ذاته. ويجب ان لا ننسى كيف تمّ استبعاد واحد من أعظم الأفلام في تاريخ السينما وأكثرها رواجاً حتى من الترشيح للجوائز في العام الماضي ... ونقصد فلم "آلام المسيح".

 آخر الخاسرين، كان فلم "إمشي على الخط" المأخوذ عن السيرة الذاتية لمغني الكونتري المتمرد الراحل "جوني كاش" ... هذا الفلم الممتع الذي حقق ما يزيد عن 100 مليون دولار في شباك التذاكر ... لم يحقق سوى جائزة واحدة، لبطلته الممثلة الشابة ريس ويذرسبون التي فازت بجائزة افضل ممثلة في دور رئيسي وسط منافسة حقيقية شديدة. بينما حصل فلم "كابوتي" على جائزة "يتيمة" كبرى، وهي أوسكار أفضل ممثل في دور رئيسي للممثل "المغمور" فيليب سيمور هوفمان. ولم تكن جائزتي كل من هوفمان وويذرسبون مفاجئة لأحد ... لأنه كان قد سبق لهما الفوز بجوائز الغولدن غلوب قبل أسابيع من ذلك. لكن المفاجأة الكبرى، غير المتوقعة، تمثّلت في فوز فلم "كراش" – الذي يعرض للتوترات والمصادمات الثقافية والعرقية والعنصرية في مدينة لوس انجيليس – بجائزة أفضل فلم في منافسة حادة مع باقي الأفلام المرشحة. ولم يكتفي فلم "كراش" بتلك الجائزة، فحصل أيضاً على جائزتي أفضل مونتاج، وأفضل نصّ أصلي للكاتب/ المخرج بول هاغيس.

المخرجون الكبار

وفضلاً عن المخرجين الكبار من أمثال ستيفن سبيلبرغ وأنغ لي ... فقد اشترك أيضا في سباقات الأوسكار هذا العام اثنان من كبار صناع السينما في العالم، ونقصد المخرج روب مارشال صاحب فلم "شيكاغو" من خلال فلم "مذكرات فتاة الغيشا" ... وبيتر جاكسون صاحب ثلاثية "سيد الخواتم" من خلال فلم "كنغ كونغ". لقد تمكّن الاثنان من الحصول على ثلاثة جوائز لكل منهما عن فلمه. وبينما كانت جوائز فلم " مذكرات فتاة الغيشا" في حقول الاخراج الفني والتصوير والأزياء ... فان جوائز فلم "كنغ كونغ" كانت في حقول المزج الصوتي والمونتاج الصوتي والمؤثرات البصرية الخاصة ... وهذا يعطينا فكرة عن طبيعة عمل وتوجّهات المخرجين الكبيرين، وكذلك الفرق بين الفلمين وعالميهما المختلفين.

وتجدر الاشارة الى مخرجين كبار آخرين لم تحظى أفلامهم بأي جائزة على الاطلاق في سباقات الأوسكار هذا العام، ومن بينهم : المخرج ديفد كرونينبرغ وفلم "تاريخ العنف"، هياو ميازاكي وفلم "قلعة هاول المتحركة"، جورج لوكاس وفلم "حرب النجوم – انتقام السيث"، جورج كلوني وفلم "ليلة سعيدة، وحظ سعيد"، وودي ألن وفلم "نقطة الفوز"، تيرنس مالك وفلم "العالم الجديد"، تيم بيرتون وفلمي : "العروس الجثة" و"شارلي ومصنع الشوكولاتة" .... وبالطبع فلمي ستيفن سبيلبرغ : "ميونيخ" و"حرب العوالم".

 وهذه أفلام رائعة، صادفت نجاحاً تجارياً وفنياً كبيراً.... وعلى الأخص فلم جورج كلوني "ليلة سعيدة، وحظ سعيد" ... الذي يستعيد – بالأسود والأبيض – المرحلة المكارثية في الخمسينات من القرن الماضي، من خلال تمجيد إعلامي حرّ في محطة تلفزيونية كبرى، وهو يوجّه الانتقادات الى السناتور مكارثي والحملة الأمريكية "اليمينية" ضد الشيوعيين واليساريين من المثقفين والفنانين في أمريكا. ان تذكّر الحملة المكارثية الآن، يسلّط الضوء أيضا على الحملة "الاعلامية" الراهنة ضد المعارضين للسياسات الأمريكية العدوانية في عالم اليوم.

أما الأوسكار التكريمية الكبرى لهذا العام، فقد ذهبت الى المخرج الكبير "روبرت ألتمان" الذي تجاوز الثمانين من العمر ولايزال مستمراً بصناعة الأفلام. ألتمان ذو التاريخ اليساري الليبرالي العريق، المناهض لحروب أمريكا في العالم والمنفتح على قضايا المرأة والصراع الطبقي ... ألتمان الذي صنع أفلاما كبيرة مثل "ماش"، "ناشفيل"، "طرق مختصرة"، "اللاعب"، "غوسفورد بارك" وغيرها... قامت الفنانتان ميريل ستريب وليلي توملين بتقديمه للجمهور على أنغام الموسيقى الرائعة لفلم "ماش". وفي حديثه المختصر بمناسبة قبوله الجائزة ... شبّه ألتمان صناعة الأفلام ببناء القصور والقلاع المذهلة من الرمال على الشواطئ ... وعندما يأتي المدّ بكل عنفوانه فانه يجرف هذه القصور والقلاع المدهشة ...  ومع ذلك، فهي تبقى في الذاكرة لأوقات بعيدة. وأكمل ألتمان قائلاً :"... لقد صنعتُ ما يقارب الـ 40 من هذه القصور والقلاع الجميلة ....".

وفي اشارة الى عمره الكبير ونشاطه السينمائي المذهل قال، ان الجوائز التكريمية او الفخرية قد تشير الى نهاية الطريق وربما الى نهاية الحياة أيضاً... لكنه غير خائف، ويحسّ بدماء الشباب تجري في عروقه، لأنهم قد زرعوا له قلب امرأة شابة قبل أكثر من عشرة أعوام ...  تحية الى روبرت ألتمان من عشاق السينما في العالم.

الميول والاتجاهات .....

وفي سابقة غير معروفة في تاريخ مثل هذه الاحتفالات، قام أحد الاعلاميين "التلفزيونيين" البارزين وهو "جون ستيورات" بتقديم حفل توزيع جوائز الأوسكار هذا العام... مما يشير الى تنامي حضور المؤسسات الاعلامية في هذا العالم، وعلى الأخص التلفزيون. لكن جون ستيوارت ليس اعلامياً بالمعنى التقليدي، انه صاحب برنامج كوميدي منوع شهير هو "استعراض اليوم" الذي يقدم من على قناة الـ CNN. وقد كانت له مساهمات في السينما والمسرح والكوميديا التلفزيونية في السابق ... لكن برنامجه الحالي هو الذي صنع شهرته الواسعة، وكذلك تعليقاته اللاذعة على أمور الحياة الأمريكية في المجالات السياسية والاجتماعية والفنية. وبينما تهجّم الممثل "كريس روك" بسذاجة وفجاجة في العام الماضي على الرئيس جورج بوش أثناء تقديمه حفل توزيع جوائز الأوسكار، فقد كانت تعليقات ستيوارت أكثر ذكاءاً وعمقاً وقبولاً بين أوسع الجماهير. ويبدو انه من المقبول ان يكون الفنان غبياً أحياناً ... بينما من غير المقبول إطلاقاً ان يكون الاعلامي غبياً او ساذجاً او حتى متحيزاً... ولهذا فقد نجح ستيوارت في إدارة هذا الحفل من دون ان يجرح او يهين أحدا. وأشارت مقدمته الافتتاحية الى تناقص أرباح صناعة السينما بشكل عام، وتفاقم مشكلة او "مصيبة" القرصنة الى أبعد الحدود .... وكذلك أشار الى سيادة الأفلام ذات الطابع "السياسي" التي تتعامل مع مشكلات انسانية حقيقية راهنة مثل : العنصرية، الإرهاب، الفساد السياسي، الرقابة وقمع حرية التعبير، سوء الفهم، والبحث عن الهوية الجنسية ....

الفنان جورج كلوني الذي ترشّح لجوائز عن الاخراج والتمثيل والكتابة... وجّه التحية الى أكاديمية علوم وفنون السينما في أمريكا، لانفتاحها الفكري والسياسي ومواكبتها العصر وتحدياته ومناهضتها للعنصرية منذ نهاية الثلاثينات من القرن الماضي، وقال انه يشعر بالفخر الآن لأنه ينتسب اليها. لكن رئيس الأكاديمية تحدث عن موضوع آخر، فقد لاحظ أولاً غياب الأفلام الضخمة عن التنافس على الجوائز الكبرى، وسيادة الأفلام "الصغيرة" و"المستقلة" المشبّعة بالصراعات السياسية والثقافية والاجتماعية ... ولأجل كل ذلك فقد ركّز في كلمته على أهم شيء في السينما، على الشيء الأكثر انسانية في صناعة الأفلام ... القصّ او السرد او ما نسميه  الـ  Story Telling. هذا السرد او القصّ او الحكي هو الذي يقرّبنا الى الناس دوماً... مهما كانت التكنولوجيا والمؤثرات البصرية والصوتية المستخدمة في صناعة الأفلام ... القصة أولاً وأخيراً.

كل هذه الكلمات والالتفاتات "الانسانية" صاحبتها كولاجات سينمائية جميلة من أفلام شهيرة على مرّ تاريخ السينما .... أفلام تتحدّث عن المواجهات السياسية والاجتماعية الكبرى على مرّ التاريخ، وعن النضالات من أجل حياة أفضل لجميع البشر من كل العرقيات والألوان والأديان... وكذلك كولاجات من أفلام السيرة الذاتية التي تواظب هوليوود على انتاجها سنوياً عن حياة علماء وفنانين ورياضيين ورؤساء وسياسيين ومصلحين كبار. وبصورة عامة، كان الحفل مليئاً بالاشارات والتلميحات والنكات السياسية "الراقية"، المعارضة لسياسات المحافظين الجدد في هرم السلطة الأمريكية ... واحد من أجمل التعليقات كان لمقدم الحفل جون ستيوارت الذي وصف حفل توزيع جوائز الأوسكار السنوي : "بأنه المناسبة التي تستطيع ان تشاهد فيها أكبر عدد من نجوم السينما .... من دون ان تضطرّ الى تقديم التبرعات الى الحزب الديمقراطي" .... وهذا هو أحد ملامح الأزمة!

ملامح أزمة في الأفق!

تواجه صناعة السينما بشكلها التقليدي منافسة شرسة من وسائط الكترونية "ترفيهية" أخرى ... مثل ألعاب الفيديو وشبكة الانترنيت ومحطات البثّ التلفزيوني المتعددة والبدائل المنزلية عن دور العرض السينمائي التقليدية ... وأخيراً القرصنة الناشطة في كل مكان بسبب العولمة والتقدّم التكنولوجي الهائل في حقلي الاتصالات والالكترونيات. والمشكلة ان القرصنة تبدأ من داخل أمريكا نفسها، لتنتشر بسرعة البرق الى كافة أرجاء العالم. قبل سنوات كان من المستحيل تصوّر إمكانية شراء نسخة "مقرصنة" لفلم جديد كليا بأبخس الأثمان من الأسواق المحلية في بغداد او عمّان... في نفس وقت عرض الفلم في دور السينما في باريس او لندن او نيويورك! 

أحد العناصر المهمة في الأزمة "المقبلة" ... هو الانقسام السياسي والفكري والثقافي في هوليوود. إذ يسود الفكر الليبرالي – واليساري أحياناً – بين العديد من العاملين في صناعة السينما من ممثلين ومخرجين وكتّاب وفنيين. وتقليدياً، هوليوود مناصرة للديمقراطيين ضد الجمهورييين، مع الليبراليين ضد المحافظين ... وهذا ما شاهدناه في انتخابات الاعادة للرئيس جورج بوش ... الذي انتقد هوليوود ونجومها بحدة في أحيان عديدة. والكثير من صنّاع السينما يريدون الاستقلالية التامة في تنفيذ ابداعاتهم على مختلف المستويات الفكرية والسياسية والمادية أيضاَ.

وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الأرهابية على نيويورك وواشنطن صادفت صناعة السينما بعض الانتعاش وحقّقت الأرباح الهائلة من خلال أفلام مغامرات "هروبية" كبيرة وضخمة ... ويبدو انها قد بدأت تصادف بعض الركود حالياً لمختلف الأسباب المتداخلة. ان الوجه الآخر لهذه الأزمة يتمثّل في الابتعاد التدريجي عن الأفلام الضخمة المليئة بالمغامرات والخدع الفنية والإبهار... وانكباب صنّاع السينما على الأفلام "الصغيرة" و"المستقلة" التي تحمل رسائلاً سياسية واجتماعية وثقافية، واقترابهم من الصراعات الواقعية الراهنة في هذا العالم. ومن المعروف ان مثل هذه الأفلام من الصعب جداً ان تحقق المليارات من الدولارات كعائدات سنوية لصناعة السينما الضخمة. وخلال حفل توزيع جوائز الأوسكار تحدث الممثل جيك جيللينهال – عن لسان أقطاب صناعة السينما، بالطبع –  عن الأفلام الكبيرة ....  او بالأحرى عن غيابها الجزئي هذا العام ... داعياً الناس الى الذهاب الى دور السينما لمشاهدة الأفلام في ظلام دور العرض وعدم الاستسلام لسهولة الوسائط "المنزلية" الجديدة مثل الـ DVD. وكذلك، في الحفل الخاص اللاحق لتوزيع الجوائز ... أبدى المخرج سبيلبرغ امتعاضه من الناس الذين يشاهدون الأفلام على شاشات صغيرة جداً في الطريق او المنزل او العمل ... بدل الذهاب الى دور العرض السينمائي. ويبدو ان هناك تهديدا جديا من السينما المستقلة "الفقيرة نسبياً" للمراكز السينمائية التقليدية الفاحشة الثراء المدعومة بالمال والتقنيات، فضلاً عن تهديدات الوسائط الأخرى. لكن مثل هذه التناقضات والصراعات ... هل هي عارضة او وقتية او قاتلة! ... أمْ انها ستؤدي الى المزيد من التغييرات والتحولات في صناعة السينما ومواضيعها واهتماماتها وتوجهاتها الفكرية ... هل سنرى ملصقات يدعو فيها "الأنكل سام" الأمريكيين الى الذهاب الى دور السينما اسبوعياً لإنقاذها من الكساد والخسائر؟

لقد نزلت صناعة السينما من عليائها او برجها العاجي قليلاً .... لتنخرط جزئياً في صراعات وكفاحات ومآسي انسانية شخصية وعامة ....  لتصبح الأفلام تعبيراً – أكثر صدقاً ودقةً –  عن صورة العالم الراهن!

 

 

 

في انتظار الأوسكار ...

مضامين وثيمات سياسية سينمائية بامتياز!

يوخنا دانيال

 

لأول مرة، في تاريخ أكاديمية علوم وفنون السينما في أمريكا، يكون الموضوع العربي بهذا الحجم من الحضور .... ولا نقصد أيّ حضور، لكننا نتكلم عن حضور موضوعي وايجابي الى حدّ ما. وبالطبع، فان الحضور العربي يكمن من خلال نقطتين ستراتيجيتين وأساسيتين في السياسة الأمريكية والغربية عموماً؛ ونقصد إمدادات النفط العربي وقضية اسرائيل/فلسطين ( او كما يسميها العقيد القذافي ...  إسراطين!).

إمدادات النفط ومنابعه، والصراعات الدولية والمحلية حول هذه الإمدادات والمنابع، ودور المخابرات الأمريكية – والغربية عموماً – في دعم الأنظمة السياسية المحلية او تغييرها، من أجل السيطرة على منابع النفط وإمداداته او ديمومتها .... كل هذه الأمور المتداخلة والمتشابكة تشكّل المحور الأساسي لفلم "سريانا" للمخرج ستيفن غاهان، بالاضافة الى قضايا راهنة أخرى مثل الإرهاب والتطرّف الاسلامي والفقر والبطالة. وكعادته، يلعب المخرج/الكاتب غاهان على موضوع العولمة والعلاقات الدولية والصراعات السياسية، كما شاهدنا ذلك في النصّ الرائع – الذي اقتبسه من مسلسل تلفزيوني – لفلم "ترافيك" للمخرج ستيفن سودربرغ ... لكن، في فلم ترافيك كان الصراع يدور حول الإتّجار غير المشروع بالمخدرات بين الولايات المتحدة الأمريكية والمكسيك. 

في فلم المخرج ستيفن سبيلبرغ الأخير "ميونيخ"، هناك استحضار غير مباشر لعملية ميونيخ الفدائية الدموية، التي أدت الى مقتل أكثر من 10 رياضيين اسرائيليين في دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ مطلع السبعينات من القرن الماضي. لكن الموضوع الأساسي في فلم ميونيخ، هو الثأر او الانتقام الاسرائيلي اللاحق، وغير المعلن، من الفدائيين المتورطّين في تلك المأساة التي أحدثت ضجّة دولية كبيرة. لقد سلّطت حكومة اسرائيل فرقة اغتيالات محترفة لتتبّع أولئك الفدائيين حول العالم، لتعمل على تصفيتهم واحداً بعد الآخر. ومع ان سبيلبرغ يدّعي ان الفلم في صميمه : هو محاولة لتكريم ذكرى الرياضيين الاسرائيليين المقتولين .... إلا ان الفلم ينطق بالنقد والإدانة – غير المباشرة – لمحاولة اسرائيل الأخذ بالثأر والانتقام من قتلة الرياضيين الاسرائيليين. وهذا ما أثار امتعاض قوى اسرائيلية ويهودية واسعة في العالم الغربي ... لأن ما نراه على الشاشة، هو ما بعد ميونيخ؛ حمى اسرائيلية عنيفة وهوَس، وبحث متواصل ومستمر من أجل القتل والاغتيال.

أما في فلم "الجنّة الآن" للمخرج الفلسطيني – الهولندي الجنسية – هاني أبو أسعد ... فهناك عنف مضاد، مخالف، عربي هذه المرة، ضد الاسرائيليين. اثنان من الانتحاريين، يريدان تفجير نفسيهما وسط مدنيين اسرائيليين ....  مع كل الصراعات النفسية، وعوامل الشك والتردد والنقاشات المؤيدة والمعارضة لعمليات القتل الشاملة العمياء هذه. من جديد يحاول المخرج "الفلسطيني" البحث عن طريق آخر، أكثر انسانية، وسط هذا الصراع الدامي الممتد منذ عقود طويلة، والذي يحرم الشعب الفلسطيني من حقوقه الوطنية والانسانية المشروعة. فلم هاني أبو أسعد يمثّل رسمياً السلطة الفلسطينية، كما جرت تسميته في جوائز الغولدن غلوب. ويبدو مرشحاً ساخناً للحصول على جائزة الأوسكار لأفضل فلم ناطق بلغة أجنبية، من جميع النواحي الفنية والفكرية والسياسية أيضاً... وهو أكثر حظاً من بقية الافلام المنافسة له، لأنه ينتقد – ضمنياً – العنف والإرهاب والعمليات الانتحارية، مع تأكيده المستمر على حقوق الشعب الفلسطيني الأساسية المشروعة.

 وبينما فلم "ميونيخ" للمخرج سبيلبرغ مرشح لجائزتي أفضل فلم، وأفضل مخرج ... فانني، شخصياً، أشك في امكانية نيله لأية من الجائزتين الكبيرتين وسط المنافسة الفنية "الشرسة" مع الأفلام المتنافسة ومخرجيها الأفذاذ. ولنكن واقعيين ... هذا ليس "لائحة شندلر"... بل انه ينتقد ضمنياً أولئك الذين مجدّهم في لائحة شندلر... انه يظهرهم كمسعورين"عقلانيين" يخططون بذكاء ودهاء وهدوء... لعمليات الثأر "المتخلفة" انسانياً وحضارياً ... ونعلم انهم قد ارتكبوا أخطاءً كبيرة، وقتلوا أناساً أبرياء في مسعاهم هذا... وربما يدفع سبيلبرغ ثمن جرأته.

فلم "سريانا" ... المثير بصرياً بمشاهد الملابس العربية والدشاديش الطويلة والقصيرة، ودعاوى المتطرفين الاسلاميين وشيوخ النفط والتفجيرات الأرهابية الشبيهة بما يجري في العراق يوميا ...  فلم سريانا هو الأقل حظاً في الترشيحات ... لكن يجب ان لا ننسى ان بطله جورج كلوني حصل على جائزة الغولدن غلوب عن أفضل ممثل في دور ثانوي، وربما يفعلها في الأوسكار أيضاً. ورغم ان الفلم مرشح أيضاً لأوسكار أفضل نص أصلي .... لكنه يواجه منافسة شديدة من أفلام مثل (كراش) (ليلة سعيدة، وحظ سعيد) ذات المحتوى السياسي أيضاً.

مضامين سياسية... غير عربية، غير تقليدية

فلم "كراش" او إصطدام – والأفضل ان يسمى اصطدام الحضارات او الثقافات – يتناول حادث تصادم سيارات متسلسل وكبير في احدى ضواحي لوس أنجيليس ... كي يصل الى الاصطدام المحتمل للثقافات والاثنيات والقوميات والأديان في هذا العالم، ربما ...  وذلك من خلال الصراعات بين شخصيات الفلم المختلفة التي يجمعها حادث التصادم ويكشف عن جوهرها. يضم الفلم بعضاً من أفضل الممثلين مثل مات ديلون وساندرا بوللوك وآخرين في أدوار بطولة جماعية او أدوار ثانوية كبيرة ...  والفلم مرشح لجوائز أفضل فلم وأفضل اخراج وأفضل نصّ أصلي للمخرج/الكاتب بول هاغيس. ان أمريكا ممثلة بلوس انجيليس هي روما الحالية او بابل التوراتية، وفيها تصطدم كل الأعراق والثقافات والأحقاد بين البشر. ولمن لا يعلم، فان هاغيس هو كاتب النص الرائع لفلم ( حبيبة بمليون دولار) الفائز بالاوسكار للمخرج/ الممثل كلينت ايستوود في العام الماضي.

 اما فلم (ليلة سعيدة، وحظ سعيدة) للمخرج/الممثل جورج كلوني، فهو عودة جديدة الى المرحلة المكارثية في أمريكا في الخمسينات من القرن الماضي، من خلال تمجيد إعلامي حرّ في محطة تلفزيونية كبرى، وهو يوجّه الانتقادات الى السناتور مكارثي والحملة الأمريكية "اليمينية" ضد الشيوعيين واليساريين من المثقفين والفنانين في أمريكا. ان تذكّر الحملة المكارثية الآن، يسلّط الضوء أيضا على الحملة "الاعلامية" الراهنة ضد المعارضين للسياسات الأمريكية العدوانية الحالية. الفلم بالأبيض والأسود، ومرشّح لأوسكارات أفضل فلم وأفضل مخرج وأفضل ممثل في دور رئيسي لبطله ديفيد ستريثرين. هذا العام لدينا خمسة أفلام مرشحة لأوسكار أفضل فلم، ويترشح مخرجوها الخمسة لأوسكار أفضل مخرج أيضاً، في مصادفة "فنية" رائعة.

الجدير بالذكر، ان باقي الأفلام الأخرى التي يترشح نجومها او عناصرها المختلفة في سباقات الأوسكار، تحمل ايضاً ثيمات سياسية "جديدة" او مختلفة عن السائد عندنا. الفلم الرئيسي لهذا العام هو "جبل بروكباك"، الذي يتحدث عن علاقة عاطفية مثلية بين اثنين من رعاة الماشية العصريين – هكذا فضّل مخرج الفلم، الصيني أنغ لي، الحديث عن فلمه ... إذ لم يسمي أبطاله Cowboys ... بل Shepherds ، عندما ظهر في جوائز أكاديمية السينما البريطانية الـ BAFTA قبل ايام ( هناك فرق في الدلالات بين الكلمتين ). ان هذا الفلم "الرومانسي" ومخرجه وثلاثة من أبطاله، مرشحون لأوسكارات أفضل فلم وأفضل مخرج وأفضل ممثلين وممثلات في أدوار رئيسية وثانوية، اضافة الى ترشيحات أخرى للموسيقى والتصوير أيضاً. ان المثلية الجنسية في مجتمع محافظ، والاعتراف بحقوق المثليين جنسياً وإقرارها قانونياً... هي نوع من الصراع السياسي في المجتمعات الغربية، ونحن في الغالب لا نعير لهذه الصراعات أية اهمية او انتباه. ومثل هذه الصراعات الجنسية/السياسية/الانسانية ... تظهر أيضا في فلم آخر يتحدث عن معاناة الحائرين – او المتحولين –  جنسياً، ونقصد فلم "أمريكا المتحولة جنسياً   Trans America"، حيث تترشح بطلته فيليستي هوفمان لجائزة أفضل ممثلة في دور رئيسي.

 والفلم الكبير الآخر الذي يحظى بترشيحات كبيرة للأوسكار، هو الفلم الغنائي الجميل "إمشي على الخط" عن سيرة المغني الشعبي جوني كاش، الذي يترشح بطليه واكين فينيكس وريس ويذرسبون لنيل أوسكاري أفضل ممثل وأفضل ممثلة في أدوار رئيسية. جوني كاش، كان فناناً شعبياً بمعنى الكلمة، خارجاً على المؤسسة، بعيداً عن الأضواء البراقة، دخل السجون عدة مرات بمختلف التهم، عاش حياة اجتماعية وعاطفية صاخبة، جرّب كل أنواع الإدمانات. وأخيرا انتبهت اليه صناعة السينما قبل وفاته بأشهر قلائل... بطريقة مشابهة – تقريباً – لما حدث مع فلم "راي" الغنائي في العام الماضي، الذي حصد الأموال والجوائز الكبيرة.

 ويبقى أخيراً من الافلام الرئيسية، فلم "كابوتي" للمخرج بينيت ميللر. هذا الفلم ومخرجه مرشحان لجائزتي أفضل فلم وأفضل اخراج، ويترشح بطله "فيليب سيمور هوفمان" لأوسكار أفضل ممثل في دور رئيسي، وقد نالها مسبقاً في الغولدن غلوب. تدور أحداث الفلم حول سيرة الكاتب ترومان كابوتي، مؤلف رواية "فطور في تيفاني" وغيرها من الروايات والقصص. يقوم كابوتي بمصاحبة صديقة طفولته الكاتبة هاربر لي – تلعب دورها كاثرين كينر المرشحة لأوسكار أفضل ممثلة في دور ثانوي – بزيارة مدينة أمريكية صغيرة للتحري والبحث في ملابسلات جريمة غامضة ذهبت ضحيتها عائلة بأكملها، ودراسة آثار تلك الجريمة على سكان البلدة وعلاقاتهم. كابوتي كان ينطلق من نظرية مثيرة : إذ كان يعتقد انه على يدي الكاتب المناسب، تصبح الوقائع اليومية الحقيقية ....  مثيرة للاهتمام وآسرة، مثل الخيال الأدبي بالضبط. وهذا ما حدث مع الكاتبة هاربر لي، التي كتبت الرواية الشهيرة "مقتل طائر محاكي" عن وقائع حقيقية معروفة، ونالت جائزة البوليتزر  في مطلع الستينات.

هذا العام تسيطر الأفلام التي تحمل رسالة ما او مضمونا سياسيا واجتماعياً – او جنسياً بالتحديد – على أهم الجوائز الرئيسية، وحتى على الجوائز الثانوية.... أما الأفلام الضخمة الحافلة بالمغامرات والحركة والمؤثرات البصرية الخاصة او "البلوك بسترز" مثل أفلام : كينغ كونغ، حرب العوالم، حرب النجوم – انتقام السيث، هاري بوتر وكأس النار، الوطواط يبدأ، ويوميات نارنيا ... فتغيب عن الصفوف الأمامية، وتتنافس على الجوائز التقنية. لقد ذهبت وولّت أيام "سيد الخواتم" .... وعاد الناس من فانتازيا "الأرض–الوسطى" الى الهموم والصراعات الواقعية الراهنة على "كوكب الأرض" .... وعادت معهم صناعة السينما وأكاديميتها الأمريكية ... لتخوض في وحول الواقع الراهن وتحدياته المختلفة حول العالم... ويبدو انهم – في سعيهم هذا – قد انتبهوا الينا أخيراً !  

الصباح الجديد في 2 مارس 2006

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

أعلى