قبل
الكتابة عن
هذا الفيلم كان لي ان احدد من هو المخرج الحقيقي؟ خاصة ان يوسف
شاهين (82 عاما)
وللمرة
الاولى يكتب اسم مخرج آخر معه بعد ان قدم للسينما العربية عشرات الافلام
التي حقق بعضها نجاحات كثيرة على المستوى الجماهيري والنقدي على رأسه «صلاح
الدين»
و«الأرض» قبل ان تستهويه سينما المؤلف والبحث عن الذات. ومعنى ان يصر شاهين
على
مشاركة
مخرج آخر احد أعماله فإن ذلك يعني اعترافه بأن المخرج خالد يوسف قام بجهد
كبير في تحقيق الرؤية وتنفيذ الفيلم. لكن من ناحية اخرى فإن خالد يوسف كلما
تعرض
للسؤال عن طبيعة مشاركته وحجم انجازه فإنه بتواضع شديد يؤكد ان
الصانع الحقيقي هو
شاهين وان الأخير قد اصر على وضع اسمه بجانب اسمه وهذا شرف كبير يحظى به
التلميذ من
الاستاذ.
واذا
تأملنا العلاقة الوثيقة والوطيدة بين شاهين وخالد يوسف فسنجد
انهما يتشاركان في العديد من الرؤى وقبلها تشاركا في اكثر من عمل قبل ان
ينطلق خالد
يوسف ويقدم «العاصفة» ذلك الفيلم الذي وضعه في دائرة الاهتمام.
ويمكن القول ان
افكار خالد يوسف وثقافته ووجهة نظره عن الحياة كانت قريبة - ومازالت - الى
حد كبير
من
ثقافة وافكار شاهين عن دور الفن واهداف السينما، وفي الوقت ذاته كانت مدرسة
شاهين هي البنية الاساسية والمناسبة التي ساعدت على صياغة
وتطوير ادوات خالد
الاخراجية. من هنا فإن السؤال عن مخرج «هي فوضى» الحقيقي هو نوع من «تحصيل
الحاصل»
لأننا في النهاية نتعامل مع مدرسة اخراجية عتيقة لها اصولها وطقوسها
وملامحها، وكل
ذلك تأسس على مر نصف قرن او يزيد.
نماذج
وتجسيد
في «هي
فوضى» نحن بصدد حركة
متدفقة من
الصور التي يدور داخلها العديد من الاحداث. وتجسد الاحداث مجموعة متناقضة
ومتشابهة من الشخوص وتحرك الشخوص مجموعة متناقضة ومتضاربة من الدوافع
الداخلية
والخارجية. وفي طريق ليس مفروشا بالورد يتم عرض نماذج من البشر
تجسد الى حد كبير
هؤلاء الذين يعيشون في قلب الشارع المزدحم الذي يعج بالحب والكراهية، وعلى
ضفافه
يعيش المهمشون في بؤس واحتياج، وفي قلب الشارع يتم تجاوز كل القوانين، بعد
ان اصبحت
تلك القوانين في يد قلة فاسدة مستعدة دائما لبيع ضمائرها بأبخس
الاسعار.
حاتم
هو الشخصية المركزية والمحورية في قصة وسيناريو ناصر عبدالرحمن
ويبدو من ملامحه انه
تجاوز الاربعين لكن مازال قلبه ينبض بشدة لابنة الجيران التي تعمل مدرسة
وقلبها
مشغول بابن مديرة المدرسة الذي يعمل وكيلا للنيابة. منذ المشهد الاول اذن
قد تم
تقديمنا كمشاهدين الى نوع الصراع الدرامي المنتظر الذي يتمحور
حول مثلث العشق
الشهير حيث يتصارع رجلان حول امرأة والعكس يحدث احيانا. والقراءة الاولى
للشخصية
ستقودنا ايضا الى التعرف الى أوجه الاختلاف وأوجه التشابة التي ستصنع
المفارقة
الدرامية في ما بعد، فحاتم ونور يتشابهان في خضوعهما لطبقة
واحدة ومكان واحد لكنهما
يختلفان تماما بعضهما عن بعض من حيث درجة النقاء والطهارة.
وحش غاضب
امين
الشرطة حاتم في القراءة الاولى للفيلم هو مجرد مواطن بسيط تيتم
منذ الصغر وعانى من
الوحدة والجوع والفقر وتربى ونشأ في بيئة لم يشعر ابدا من خلالها وفي
محيطها
بالامان والطمانينة. في سلك الشرطة هناك الفرصة الذهبية لحاتم لكي يحل عقده
الكثيرة
التي تشكل نفسيته المريضة فهو سادي يقوم بتعذيب الطلبة المقبوض
عليهم بشكل غير
قانوني انتقاما من حرمانه من التعليم، وهو يضرب عرض الحائط بكل القوانين من
اجل
المال لعله يعوض به ما فاته من حرمان، وهو يتعثر كطفل صغير ويجعلنا نتعاطف
معه
عندما يعشق المدرسة الصغيرة نور لعلها تعوضه بعض الحنان الذي
افتقدة باليتم. وعندما
ترفضه نور يتحول الى وحش غاضب ومعذب ويحاول الانتقام لفشله في تحقيق الامل
الوحيد
الذي ملك عليه حياته عسى ان يعيد اليه توازنه.
في قراءة
ثانية وعلى المستوى
الثاني
فإن حاتم هو رمز للكثير من الاشخاص الموجودين الآن في المجتمع المصري وفي
اغلب المجتمعات العربية هؤلاء الاشخاص الذين استطاعوا ان يخترقوا منظومة
القانون
الغائب بفعل غياب المرجعيات السياسية والثقافية والدينية
وانشغالها بأمور تحقق
وجودها واطماعها.
وفي غفلة
هذا القانون استطاع حاتم ومن يجسدهم اللعب بالقانون
من
اجل تحقيق مصالحهم الخاصة. في الفيلم وفي الواقع، وفي عز النهار لا يتوانى
حاتم
في تقاضي ثمن فساده علنا من خلال مبالغ من المال يفرضها على من
يرغب في تخليص
مصالحه. وفي عز النهار لا يتوانى من هو اكبر منه في سلك الشرطة في الشهادة
معه
لتبرئته من تهمة اغتصاب نور. انها منظومة فاسدة مترابطة تحافظ على وجودها
ومصالحها.
علاقة
وارتباط
الفيلم
السيناريو اجاد في رسم شخصية نور الداخلية
والخارجية واجاد ايضا في صنع تاريخ لها مناسب كواحدة من بنات الجيل الحالي
تخرجت من
الجامعة كدارسة للغة الانكليزية ولا تعرف كتابتها او نطقها بشكل صحيح. وهى
صريحة
وقوية ونقية لذلك فان ارتباطها بمديرة المدرسة يمكن تبريرة
بسهولة، ويمكن ايضا
تبرير رغبة هذة المديرة لتزويج البنت لابنها وكيل النيابة. وشخصية الأم
جاءت لتجسد
صورة من بقايا الطبقة الوسطى التي انحسرت بفعل متغيرات المجتمع. وفي ظل
الفساد الذي
استشرى وفي ظل انحسار، بل واختفاء الطبقة الوسطى التدريجي تصبح
مديرة المدرسة كأنها
على وشك الانقراض ان لم تنقرض فعلا فهي امينة على
ذكرى زوجها وترفض زواج ابنها
بابنة احد
الاثرياء لأن ذلك لا يتناسب مع القيم التي تربت عليها. وفي تصويره
للشخصيات الثانوية لعلنا نتذكر شخصية ام نور التي يمكن اعتبارها معادلا
موضوعيا
لشخصية بهية التي تكررت اكثر من مرة في أفلام يوسف شاهين ونذكر
هنا تواجدها الطاغي
في
فيلم «العصفور». اما شخصية ابن مديرة المدرسة فقد جاءت لتجسد الجانب الآخر
من
الصراع، وهي شخصية متوازنة قادرة على اتخاذ القرار فعندما شعر وكيل النيابة
ان
حياته غير متكافئة مع خطيبته لم يتردد في انهاء العلاقة وعندما
ارتبط بنور كان
قادرا كرجل شجاع الوقوف بجانبها وحمايتها بقدر المستطاع رغم وقوعها كضحية
بائسة في
يد
الشقي المعذب حاتم. ونأتي الى حاتم الذي اجاد السيناريو تصويره ليجعل منه
ظالما
ومظلوما وجلادا وضحية في الوقت ذاته. ورغم كرهنا الشديد لما
يفعل حاتم فانك لا تملك
الا ان تتعاطف معه وترثي لموته كبطل تراجيدي وهذه هي المصيبة الكبرى! رغم
مشهد ثورة
الشارع في نهاية الفيلم ورغم صحوة الناس وهجومهم على مركز الشرطة كنوع من
التعبير
عن الغضب فإن الموت المأساوي لحاتم بانتحاره لم يدع الفرصة
الكافية للمشاهد لكي
يدين سلوكيات حاتم وجرائمه. وكان كاتب السيناريو وربما يوسف شاهين وربما
خالد صالح
رفضوا معا اختزال الادانة في شخص فرد حتى يتم توجية الادانة
الى المنبع والى من هم
وراء حاتم.
مناطق
القوة
في الفيلم
«الفن» طبعا يمكن التوقف عند العديد من
محطات التميز ولعل اول هذه المحطات واهمها هو اختيار الممثلين وادارتهم فقد
اجاد
خالد صالح الذي يتأهل ليصبح واحدا من اهم نجوم العام في تجسيد شخصية حاتم
الى درجة
كبيرة وكان هو الانسب للدور، واستطاع توظيف ادواته الداخلية
والخارجية ونجح في
اضاءة مناطق الضعف ومناطق القوة في الشخصية إلى درجة مذهلة. ومع تقلبات
الشخصية
وتحولاتها تنقل خالد صالح ببراعة الفاهم والواثق والدارس لكل هذه التحولات.
وفي
تجسيدها لشخصية نور تألقت منة شلبي واجادت ومن المؤكد ان هذا
الفيلم يضعها في مصاف
النجمات الكبار للفترة المقبلة. ويعيد الثنائي يوسف شاهين وخالد يوسف
اكتشاف هالة
صدقي كممثلة موهوبة ذاكرة انفعالية عامرة بالمشاعر والاحاسيس ولا ننسى هالة
فاخر في
دور أم نور. وهناك اشارة ايضا الى الممثل الذى قام بتجسيد
شخصية وكيل النيابة. ومع
تألق الشخصيات في ادوارها هناك اشارة ايضا الى الممثلين في الادوار
الثانوية والى
الكومبارس الذي ساعد على اضفاء لون الواقع والحقيقة على ما يحدث امامنا على
الشاشة،
والفضل هنا يعود ايضا الى مخرجي الفيلم والى احدى سمات مدرسة
شاهين في تشكيل اللقطة
العامرة دائما بالحركة الموظفة. ويمكن ايضا الاشارة الى مهندس الديكور الذي
اضفى
بذوقه الكثير على الامكنة وما تمثله بالنسبة إلى الشخصيات.
قد يعجب
بعض
المشاهدين بفيلم «هي فوضى» باعتباره واحدا من اكثر افلام يوسف
شاهين تماسكا، ومن
الممكن ان يعجب البعض الآخر هذا الفيلم نتيجة ارتباطه المباشر بواقع الحياة
الآن
وبحالة الحراك الاجتماعي والسياسي التي يمر بها المجتمع المصري. ومن المهم
عند
تفسير النجاح الكبير الذي يحققه الفيلم على مستوى شباك التذاكر
ان نتذكر ان هناك
بعض الاعمال الفنية وفي لحظة تاريخية معينة تأتي كأنها تعبر بصدق وبمنطق عن
واقع
الحال.
القبس الكويتية في 16
يناير 2008
|