لا يختلف واقع السينما
الكرديّة عن واقع الشعب الكرديّ المشتّت بين الدول التي تقاسمته وأرضَه،
فهي ليست
استثناءً بل ابنة واقعها، منقادة ومحكومة بكثير من الأمور
المفروضة عليها. لم
تتَمَأسَس بعد، ولم تقف على أرضيّة صلبة تضمن لها الديمومة والتجدّد،
لأنّها لا
تزال تبحث عن ذاتها وسط ذواتٍ تناهبتها. لذلك، يصعب عليها أن تتجاوز
المعاناة
والمأساة اللتين يعيشهما الكُرد حيث هم، ويصعب عليها كذلك أن
تبتدع عوالم خياليّة،
في
حين أن مَن تتوجّه إليهم وتحكي عنهم يبحثون عن مأوىً لهم يقيهم الحرّ
والقرّ،
ولا يعنيهم شيء من تلك الموضوعات التي لا تتطرّق إلى واقعهم، أو التي
تتعالى عليهم
بحجج الإبداع أو الخيال أو الثورة التكنولوجيّة، لأنّ الثورات
السياسيّة
والاجتماعيّة الكرديّة لم تحقّق مبتغاها بعد، ولم يتمتّع الإنسان الكرديّ
بالحرّيّة، كي يبدع في جغرافيّته أفلاماً تروي روحه وطموحه، ولم يكتفِ
أعداء الكُرد
بالتعتيمِ عليهم وإفنائهم، بل لاحقوا كلّ إبداعٍ كرديّ أينما
كان، كتلك الزوبعة
التي أثارتها تركيا لتمنع عرض فيلم «دافيد تولهيلدان» للمخرج
الكرديّ/السوريّ مانو
خليل في دولة الإمارات، مطالبة بشكل رسميّ وقف عرضه لأنّ العرض يُسيء إلى
علاقات
البلدين، بحجّة أنّ الفيلم يدعم الإرهاب. بالتزامن مع ذلك، تمّ
تحقيق أضخم إنتاج
سينمائيّ في تاريخ السينما التركيّة بعنوان «وادي الذئاب، العراق»، الذي
شوّه صورة
الكرديّ، بينما قُدِّم التركيّ الحامي الأوّل والأخير للشرق
كلّه، وللإسلام بداية
ونهاية، مدّعياً امتلاك الحقيقة والأحقّيّة.
تتماهى غالبية الأفلام المُنتجة
كرديّاً مع الواقع، أو إنها تحاول ذلك على الأقلّ، إذ تدور في فلك الحرب،
مقدَّماتها واستتباعاتها، أو في بعض نتائجها، وتعالج التشرّد
والضياع والتهجير
والاغتراب والاستلاب الذي يتعرّض له الكرديّ، وتصوّر في جانبٍ ما التشرذمَ
الكرديّ
بين الحدود وعليــها، ومن ذلــك إيقافه عند كلّ حاجز يمرّ به ليُسأل عن
الهويّة، في
حين يبحث هو أيضاً عن إجابةٍ لهذا السـؤال الذي يُرْبِكه
ويُرْبِـــك غيره ممن
استباحوا هويّته في محاولة محوه ومــحوها، وهي موضوعات متجدّدة في حياة
الكُرد وفي
الســينما أيضاً، ابتداءً بأفلام المخرج الكرديّ/التركيّ
يلمــاز غوني، الذي ركّز
على تصوير واقع المناطق الكرديّة في تركيا، مروراً بالمخرج
الكرديّ/العراقيّ هونر
سليم، وصولاً إلى المخرج الكرديّ/الإيرانيّ بهمن قوبادي، الذي لم يُردْ أن
يخرج عن
إطار الواقع، بل طوّر آليات عرضه.
أكتفي هنا بمثالين يشكّلان نموذجين
سينمائّيين كرديّين، ليس من باب الموازنة بينهما بل للتعريف بعيّناتٍ من
عالم
السينما الكرديّة، المجهولة بالنسبة إلى كثيرين كأهلها:
«السلاحف أيضاً تطير» لبهمن
قوبادي تأليفاً وإخراجاً و«بيريتان» لخليل أيْسال إخراجاً ومشاركاً جيندا
باران
وديرسيم زيرافان في تأليفه.
«السلاحف
أيضاً تطير»
شارك الفيلم في مهرجانات
عالميّة عدّة، ونال جوائز عديدة، محاولاً أن يختطّ لنفسه خطّاً سينمائيّاً
خاصّاً
به، إذ أنّه يعتمد في تجسيد أدواره على غير المحترفين. تكمن
صعوبته في أنّه تصدَّى
لتصوير الواقع من خلال شخصيّات واقعيّة، فالأطفال المفترَض بهم أن يكونوا
معاقين في
الفيلم، هم معاقون في الحقيقة، لذا فلم يظهر أداؤهم على أنّه تمثيل أو
تكلُّف بقدر
ما ظهر مقنعاً، وهذا بدوره اعتمد على حسن استخدام وإقناع
المخرج، وقدرته على
استخراج ما يريد من أولئك البسطاء البعيدين عن عالم السينما، من خلال
توكيله
أدوارهم الحقيقيّة لهم في الفيلم، حتَّى لَيختلط الواقع بالتمثيل، فيكون
التمييز
بينهما صعباً، وهذا ما ينقل انطباعاً إلى المشاهد على أنّه
يشاهد فيلماً مرتجلاً أو
تصويراً واقعيّاً لبشر مهمَّشين، في جغرافيّة كانت مهمَّشة وتسلَّطت عليها
الأضواء،
لأنّ هناك ما أوجب ذلك. يلاحَظ في الفيلم تغييب متعمّد مدروس لجيل الشباب،
لأنّ هذا
الجيل كان يُستخدَم وقوداً للحروب التي بقيت رحاها دائرة في
المنطقة، مما اضطرّ
الكبار أن يُكبّروا الصغار ويحمّلوهم المسؤوليّات قبل أوانهم، لأنّهم
الأمل،
ولأنّهم مدفوعون إلى ذلك، والحاجة تفترض التضحية بالطفولة لصالح الاستمرار
في
الحياة. كما أنّه يقصّ سيَراً للحياة في عالم الموت والخراب،
ويتصدّى لمرحلة حرجة
من
تاريخ العراق والمنطقة كلّها، وهي مرحلة ما قبل الحرب بأيّام قليلة، ويقدّم
واقع
المناطق المنكوبة التي لا يختلف زمن الحرب فيها عن زمن اللاحرب، لأنّها
دائماً في
حرب مع الموت الذي يربض فيها، مستخدماً كلّ الوسائل المشروعة
وغير المشروعة.
يبدأ الفيلم بلقطة للطفلة آكرين وهي تهمّ بتحقيق رغبتها في
الانتحار، ويختم
بتحقيقها تلك الرغبة التي ظلّت مرافقة لها على مدار الفيلم. وذلك لأنّها
اغتُصبت في
حلبجة على أيدي أزلام النظام السابق، الذي أباد أبناء المدينة المقصوفة
بالأسلحة
الكيماويّة، فشوّه الناجين وشرّدهم، لتكون هذه الفتاة ضحيّة،
قبل أن تصبح قاتلة
لابنها الأعمى، ابن الزنا الذي حبلت به بعد اغتصابها. لم تنسَ كونها طفلة
اغتُصبت
بعد قتل أهلها، وأنها شرّدت مع أخيها المبتور اليدين، الذي يتنبّأ بما
سيجري،
وابنها الأعمى الذي يعكس الجور الذي يتوارثه الضحايا، والعاهات
التي تولَد معهم.
عمى الطفل يعكس عمى البصيرة عند آبائه المغتصبين، كما أنّ الأيدي المبتورة
لخاله
تعكس عُدم الحيلة وقوّة الإرادة معاً، وتعكس قوّة الحياة في مواجهة أعداء
الحياة.
أمّا آكرين، الطفلة أمّ الطفل، فهي الأرض التي تغتصَب وتغتصَب، وتنجب ممّن
لا
يستحقّون
أمومتها التي تقصف الطفولة فيها، وتجترح لها الكوارث المتتالية، من طفلة
تفقد ذويها إلى أمّ تحاول التخلُّص من عارها، الذي هو عارُ مَن جنى عليها.
في طرحه
هذا، يطرح المخرج إشــكاليّات لا تزال تنتظر الحلول المستعصية،
ومنــها مشــروعيّة
التخلُّص من ابن غير شرعــيّ، ومَن يأبــه بضحــايا الحروب، ومَن يحاول
تعويضــهم
عمّا لحــِق بــهم من أضرار وعاهات.
سيُعجَب مَن يشاهد الفيلم بما يحرص الفيلم
على تقديمه، وهو مدى الصفاقة في الاستهانة بالقانون، هذا الذي
يُخترَق في المثلَّث
الحدوديّ «البرموديّ» الذي من دون حدود، إذ أنّه لا وجود لما يُصطَلَح عليه
بالقانون هناك، لأنّه سيرى أنّ كلَّ ما هو محظور في القوانين والأعراف
الدوليّة،
معمول به ومطبَّق من دون أن يسأل أحدٌ عن السبب. فالأطفال
المعاقون ومشوّهو الحروب
وضحايا الاعتداءات يعملون، لكن ليس أيّ عمل، بل في أعمال مختارة بدقّة،
ومنها العمل
في تجميع الألغام وبيعها، إذ يحصدون بذلك الموت ليحيوا به. هذه
من المفارقات
والإشكاليّات التي يطرحها الفيلم، عبر شخصيّة ساتلايت، الفتى الطموح الذي
يتزعّم
جماعة من الأطفال، باعتباره أكبر منهم قليلاً ويلمّ إلماماً مغلوطاً ببعض
الكلمات
الإنكليزيّة التي يردّدها ويتباهى بها، ويدّعي أنّها تكفيه
للتفاهم مع الأميركيين،
وتفتح له بوّابة المستقبل. يتّخذ من مدفعيّة معطَّلة بيتاً له، لأنّه فقد
كلّ ذويه
في الحروب السابقة، كأنّي بالمخرج يقول إنّ السلاح يمكن أن
يُستخدَم للحياة
والإيواء بدلَ القتل والتشريد. لكنّ ساتلايت يكتشف أنّه لا شيء أمام قسوة
الزمن
الذي لا يرحمه، عندما يفقد أحد قدميه في محاولة إنقاذ ابن آكرين من بين
الألغام،
فيقع صريع جرأته وحبيس مأساته، ويدير ظهره للدبّابات
الأميركيّة القادمة، ولا ينبس
بكلماته الإنكليزيّة، لأنّ الخير في اللغة الأمّ. هذا ما يقتنع به في
النهاية، وإن
لم
يصرّح بذلك، لأنّ اللقطة الأخيرة له تعبّر أيّما تعبيرٍ عن حالته، ونظرته
الصامتة الحائرة اليائسة أبلغ من كلّ كلامٍ يمكن أن يقال.
لم يعصمْ مخرجُ
الفيلمِ الكرديَّ من الخطأ، إذ لم يكتفِ بتصويره على أنّه الضحيّة فقط،
باكياً
ومستبكياً لحاله، بل عرض صورةً للكرديّ الانتهازيّ الذي لا يتوانى عن
المتاجرة
بأبناء شعبه في سبيل المال، وذلك من خلال شخصيّة مشتري الألغام
الذي لا يريد أن
يعرف أحدٌ أنّه كرديّ، كي يبقوا على حذرٍ منه، ويبقى هو في مأمنٍ منهم،
متلاعباً
بهم وبحيواتهم، بتجييرهم وتسخيرهم لجشعه الذي لا يرتوي. يصوّر الفيلم صمود
الإنسان
وقوّة إرادته وصلابته أمام ظلم أخيه الإنسان، ولا يحاول أن
يفرض حكماً مسبقاً،
لأنّه يحرص على إيصال رسائل عديدة مشفَّرة وواضحة، منها أنّ بشر هذه
المنطقة، على
الرغم من أنّهم يصيَّرون بفعل الحروب من راجلين على قدمين إلى متّكئين على
عكّازات
يدبّون عليها، أو إلى زواحف تزحف على الأرض، إلاّ أنّهم، مهما
تبطَّأ حركتُهم
وتبتَر أعضاؤهم ويوقّف زمنُهم، يبدأون الطيران والتحليق في عوالم أرحب،
ويقتحمون
صلب اهتمام الإعلام العالميّ، يستقطبونه على الرغم منه، ويجبرونه على عرض
مآسيهم،
بل يوقظ في المعنيّين روح التندّم ومحاسبة الذات، لإهمالهم
المُمنهج عالماً متجدّدَ
الانتكاب تاريخيّاً، والهناء بغفواتٍ مسترقة من حيوات مُستلَبَة.
يبقى أن أذكّر
أنّه بالإضافة إلى أبطال الفيلم، كانت الطبيعة الرائعة البطلة الرئيسة.
طوال
الفيلم، أراد المخرج أن يبديها على حقيقتها، عصيّة على الاندثار والتغيّر،
على
الرغم مما مرّ عليها من عدوان وطغيان. فالجبال بقيت شمّاء،
والسهول بقيت محتفظة
بألقها وخضرتها، والأنهار لم تتوقّف عن الجريان، لتكون شاهدة حيّة تبثّ روح
المقاومة، تتجدّد بالحرّيّة وتجدّد الحياة، مؤكّداً مقولة أنّ كلّ ذرّة
تراب سقيت
بدم شهيد، مجبراً زائر المنطقة على الالتزام بنصيحة المعرّي:
سر إن استطعت في
الهواء رويداً/لا اختيالاً على رفات العباد. كما كان الانسجام بين البدايات
والنهايات ملحوظاً، وكلّ ذلك على أنغام موسيقى يحار المرء من أين تستلب
روحه، أو
كيف تستأثر بحواسّه، عبر مخاطبتها أحسن وأرقّ ما فيه، من
إنسانيّة متسامية حقيقيّة.
خلال متابعة الفيلم، يتذكّر المُشاهد ويسترجع في ذاكرته أغنية البداية
لمسلسل
الأطفال الكرتونيّ «سنان»، التي تقول بصوت جوقة أطفال: «ما أحلى أن نعيش في
خيرٍ
وسلام/ما أحلى أن نكون في حبٍّ ووئِام/لا شرّ يؤذينا/لا ظلمَ
يؤذينا/والدنيا تبقى
تبقى آمال للجميع»، أيّ أنّه يعرض القبح الفاضح للشرّ عبر الجمال المثوِّر
للخير
والداعي إليه، وهذه أبلغ رسالة يمكن أن توصَل، وكفى بالجمال بشيراً، بعدما
ظلّ
دهراً شهيداً.
«بيريتان»
إنه عنوان الفيلم، واسم الشخصيّة الرئيسة فيه
أيضاً: فتاة متعلّمة مدنيّة «إسطنبوليّة»، التحقت بالثورة
لأنّها رأت أنّ من واجبها
الدفاع عن حبّها الكبير وعن كرامة أمّتها التي تُمتَهَن على أيدي الأتراك.
إنها
تقوم بأكثر من واجب: تعلّم وتقاتل وتحارب الخرافة المستوطنة في بعض الأذهان
وتثور
على العادات والتقاليد البالية البليدة، وتعكس قيمة وعظَمة ما
يمكن أن تؤدّيه
المرأة، وهي عظَمة لا تقلّ عن الأمومة أو الأخوّة أو البنوّة، كما أنها لا
تريد أن
تكون إمّعة أو ظلاًّ للرجال، لأنّها تبحث عن المجد من دون أن تُوصَف أو
تُمتدَح على
أنّها أخت الرجال، أو أن تكون راقدة مكتفية بأنّها وراء عظَمة
أحدهم، ولا أن تشبَّه
على أنّها كالرجال جسارة وبطولة، لأنّها سليلة الجبال، محتازة المجد
ببطولتها، لا
يمنعها عنه مانع، ولا يحرفها عن سبيل تحقيق ذلك أيّ سبب. هذا العنوان، وإن
كان
مأخوذاً من قصّة استشهاد حقيقيّة، لا يجسّد البطولة الفرديّة
أو يكتفي بالإشارة
إليها فقط، بل هو مثال وإشارة على أنّ بيريتان هي كلّ فتاة كرديّة حرّة، هي
المرأة
التي تغيّر المستقبل، هي عنوان للآتي أكثر منه لما تقدّم. كان يمكن اختيار
عنوان
آخر للفيلم، لكن لم يكن ذلك العنوان ليُنقص من قيمة شهادة
بيريتان أبداً، بل كان
يمكن أن يكون أشمل مدلولاً.
ظلّ الفيلم وفيّاً لفكرة العرض الأحاديّ، الذي
اعتمد على تصوير حياة الثوّار في الجبال بشفافيّة وواقعيّة.
ومن دون التهويل في
التعظيم، قدّم صورة سعَت إلى أن تحيط بأكثر من بعدٍ، فيها الحبّ الأسمى
والتضحية
العظمى والشرف والنبل والجبن والتخاذل. وقدّم أيضاً صورة للخيانة، من خلال
القائد
الذي باع عناصره وقبض الثمن، الذي هو بقاؤه خائناً طيلة عمره،
منبوذاً بين مَن
اشتروه بدريهمات لا تغني، لأنّ مَن يخون أهله، لن يتورّع عن خيانة الآخرين،
أي أنّه
يكون معروضاً للبيع بضاعة رخيصة، لا أحد يتنازل على إلقاء نظرة عليها،
لأنّها وباء
يجب محوه. أما الجبن وانعدام الحيلة، فقد عرضهما الفيلم من
خلال أكثر من نموذج،
أحدها نموذج الثائر الذي يرتجف ويقعده الخوف ممّا سيلاقيه من القتال
والدفاع عن
رفاقه، وحتّى عن نفسه، فيبقى أسير جبنه، قتيل تخاذله، وأيضاً من خلال نموذج
الثائرة
التي أقعدها الخوف عن إطلاق رصاصة على الأعداء، مكتفية
بالارتجاف والذهول الذي
خلّفهما الهلع المتعاظم عندها، لتسقط ضحيّة جبنها وفقدان ثقتها بنفسها.
وهؤلاء، بلا
شكّ، قد حملوا بذرة الهزيمة في دواخلهم حتّى قبل أن يلتحقوا بالثورة،
لأنّهم
تقهقروا وركعوا أمام أوّل مواجهة حقيقيّة لهم مع الأعداء،
فشلّهم الخوف وجمّدهم
مكانهم، ليصبحوا عالّة على غيرهم. وقد لوحِظ أنّ شحذ الهمم من قبل الثوّار
لهؤلاء
لم
تجدِ نفعاً، لأنّهم لم يحرّكوا ساكناً، ولم يطلقوا إلاّ رصاصة في الهواء،
أي
أحدثوا جعجعة، ثمّ سارعوا ليخفوا رؤوسهم في الرماد، ويدّعوا في
قرارة أنفسهم
وعلانيّة أن يكون ما يحيونه حلماً أو كابوساً. يُظهر الفيلم، بالطبع، أنّ
هذه حالات
واردة، ولا ترفُّع أو تساميَ أبداً في غضّ النظر عنها، بل
الأصدق أن يُتحدَّث عنها
وتُظهَر، كي يُقضَى عليها، لأنّ الإنسان يكون عرضة للكثير من العوامل
والدوافع
النفسيّة التي تتحكّم بسلوكه، كما أن هذا لا ينفي عنهم صفة الثوريّة التي
لولاها
لما التحقوا بالثورة، ولا وُجدوا حيث هم، ولكن لأنّ إظهار
الصورة من مختلف الأبعاد
يحتّم تصوير مثل هذه الحالات، للتوقّف عند هذه الآفة واستئصالها من الجسد
الذي
تنخره، فسلوكات كتلك قد تشوّش أو تغبّش صفاء الصورة في محاولة التثبيط من
الهمم.
يؤخذ على الفيلم أنّه لم يتغلغل في عمق المعسكر التركيّ ليصوّر
الحالات النفسية
للجنود الأتراك، وهم مقبلون على مواجهة الثوّار. لم يظهر بطريقة سينمائيّة
اليأسَ
الذي ينتاب العدوّ بعد كلّ عمليّة ناجحة من قبل الثوّار، فلو أنّه صوّر
مثلاً بعض
الأحاديث الدائرة بين العساكر الأتراك، أو بين بعض ضبّاطهم،
قبل أن يقدموا على فعل
معيّن، وليكن ذاك الفعل الهروب مثلاً، وكيف أنّ الواحد منهم يقنع الآخر بلا
جدوى
القتال، وبوجوب حلّ القضيّة حلاًّ سلميّاً يضمن حقوق الطرفين، من دون
استهتار أو
تضييع أو تزييف لحقوق الكُرد، وبعيداً عن اجترار الأوهام
المدوّدة عن الهيبة
الإمبراطوريّة أو العظمة السلطانيّة. أي إظهار العدوّ مُبلبَلاً مضعضَعاً
من
الداخل، معدوم الحيلة والوسيلة، أجوف لا يحمل ما يستميت في الدفاع عنه.
اكتفى
الفيلم بتصوير لقطات عدّة تذكّر باقتتال الإخوة، ولم يفصّل ولو
جزئيّاً في أيّ من
الأحداث المرافقة والمساندة، كي يلمّ المشاهد بالظروف التي دفعت أو تدفع
إلى ذلك.
لا يخفَى على المشاهد بعض التطويل الحاصل في الزمن، أو التمطيط
في الأحداث: من
ذلك مثلاً، في المشهد الأوّل من الفيلم، عندما يهمّ عدد من الغريلاّ
باقتحام معسكر
للجيش التركيّ، وتجري في خلال ذلك محادثة بين حسن (قائد المجموعة والمشرف
الميدانيّ) والقائد الذي يترأسه، هذه المحادثة تُمَطّ، وكان
يمكن الاكتفاء بالقسم
الأوّل منها، مع تكثيف الحوار وإضافة جُمَلٍ معيّنة إليه (استغرق المشهد من
الدقيقة
السابعة حتّى الدقيقة العشرين). حدث ذلك في مواضع أخرى، ولو أنّ زمن الفيلم
كان
أقصر من ذلك، لكان التركيز والتكثيف مجديين أكثر، ولَما شاب
وضوح رسالته شائبة، مع
الملاحظة أنّه يتحوّل في بعض اللقطات إلى ما يُشبه تقريراً سياسيّاً أو
إخباريّاً
جرّاء مباشرته.
يبدو من خلال الفيلم وكأنّ صنّاعه قد توجّهوا به إلى مشاهدٍ
بعينه، إذ مرّت من خلال الفيلم الكثير من الجمل التركيّة التي
لم تُترجم إلى
الكرديّة، كأنّ الفيلم قد صُوِّر للكُرد الذين يلمّون بالتركيّة فقط، أي
أنّه تجاهل
التعدّد اللغويّ أو ثنائيّة اللغة بالنسبة إلى الكرديّ. كان ضروريّاً أن
ترفق
الترجمة المتعدّدة له، كي يتمكّن المشاهد الآخر من متابعته،
والاستمتاع به. عند
الانتهاء من متابعته، يكون هناك خيط بسيط فاصل واصل، حيث تتداخل الخيوط بين
الواقع
والتمثيل، وهذا يعكس الصدق في الأداء الذي خرج عن حدود التمثيل، خاصّة
عندما نعرف
أنّ مَن قاموا بأداء الأدوار هم ثوّار وليسوا ممثّلين. يخرج
المشاهد بانطباعات
مختلفة، كالحبّ والحقد والسعادة والاندهاش، ذلك كلّه مختلط بعضه ببعض. يغلب
عليه
البِشْر والأمل، طالما يوجَد هناك من يضحّون في سبيل القيم النبيلة،
ليقدّموا
براهين على أنّ الشعب الكرديّ شعبٌ حيّ لا تمحوه الكوارث، وإن
هي تساهم في تأخيره،
لكنّها تنمحي أمام عناده المحمود في دفاعه عن وجوده.
يُعتبر «بيريتان»،
بإمكاناته المتواضعة، إنجازاً في هذا الميدان الذي يحتاج إلى تكاتف
اختصاصات
متعدّدة لإنجاز سينمائي معيّن. وهو، على الرغم من اعتماده على جهود ذاتيّة،
من دون
خبرات عالميّة، استطاع أن يوصل إلى الجمهور رسائله التي كان
موكولاً بحملها، وذلك
من
خلال تمثُّل المؤدَّى تماماً والصدق في الأداء، هذا الذي أظهر العمل وكأنّه
يصوّر حقيقة رحى حربٍ قائمة بالفعل، حيث الرصاص الحيّ يئزّ ويلعلع، ليشعر
المشاهد
أنّه يشارك في كلّ تلقيمٍ للسلاح، وفي كلّ إطلاق للرصاصــات،
ثمّ يتنفّس الصعداء
بعد كلّ عملية منجَزةٍ، ويرتاح أو يغنّي مع الممثّلين وهم يغنّون أو
يمرحون، يضحك
لضحكهم، ويأسى لحزنهم، ويتأسّف لانتكاسةٍ غادرة مفاجئة، ويتلهّف ويسعد
ويهتف لنجاح
متحقّقٍ على أيدي مَن يساندهم ويتعاطف معهم، من ثوّارٍ يشعلون
رؤوس الجبال نيراناً
وآمالاً: النيران لتكون هناك فرصة لتبديــد العــتمة والإظــلام، والآمال
ليكون
هناك ما ينبغي أن يعــاش من أجله. كلاهما مرفوقان معاً، وكلاهما يحيلان على
بعضهما
البعض، يلتقيان ليكملا الدرب معاً إلى نقطة معيّنة، ترتــاح
عندها النيران أو تغيّر
مسارها، ثمّ يكمل الأمل دربه إلى اللانهاية، في سلسلة استيلاد آمال، بعد أن
كان
الاستيلاد على أيدي الأعداء للآلام وحـدها، ليصــبح ذو الأمل، جديراً بأمله
الذي لا
يبخل عليه بالروح في سبيل تحقيقه.
وبعدُ، حيث الدموع الصامتة والابتسامات
المُدمعة لا تزال تُؤفلِمُ حياة الكرديّ، هل تبقى السينما الكرديّة
مُنغواةً
بالواقع تحاكيه سينمائيّاً، أم أنّها ستغيّر واقعها تمهيداً
لتغــيير إيجابيّ
مأمولٍ يطال بُنى هذا الواقع المُحاكَى، لتــبني عليه، أو لتقلب المعادلة
أملاً في
أن
يحاكيها الواقــع وينــغوي بــها، وذلك بعد أن تتحدّد هويّتــها، المبنيـّة
على
حـرّيّة وهــويّة مَن تتحدّث عنهم؟
)سوريا(
السفير اللبنانية في 11
يناير 2008
|