هل بات عبداللطيف قشيش الابن المدلل للسينما الفرنسية؟
فمن بين ثلاثة أفلام أخرجها، نال الثاني «التملص» أربع جوائز
سيزار منذ ثلاث سنوات، واعتبر الثالث «الكسكس بالسمك»، آخر أعماله الذي
يعرض حالياً في فرنسا، أفضل فيلم فرنسي لعام 2007. جائزة لويس دو لوك التي
منحته هذا التقدير، والتي يترأس لجنة التحكيم فيها جيل جاكوب مدير مهرجان
«كان»، جائزة مهمة لا تعتمد سوى المعيار الفني في تصنيفاتها.
حين التقينا قشيش بعد فوزه بجوائز السيزار (لقاء نشر في
«الحياة»)، أعلمنا عن نيته العمل على فيلم يدور حول حياة المهاجرين العرب
في فرنسا، أو كما أحب أن يقول «الفرنسيون من أصول مهاجرة»، وهو ما كان
أيضاً موضوع فيلميه «كل الحق على فولتير» و «التملص»، لقد بدا متمسكاً
بمعالجة مواضيع عن «الوسط الذي عاش فيه وعن هؤلاء الذين يعرفهم جيداً». كان
يبحث عن جهة منتجة وكان فوزه بالسيزار لا ريب سيفتح أمامه الأبواب أو بعضها
على الأقل. وهذا ما حصل. فها هو الفيلم الذي حدثنا عنه «الكسكس بالسمك»
(وليس «البذرة والبغل» كما ترجمه بعضهم!) يخرج إلى دور العرض الفرنسية
ويستقبله النقاد بحفاوة بالغة بعد أن نال قبلها ثلاث جوائز في مهرجان
البندقية الأخير. لقد اعتبر الفيلم «تحفة سينمائية» و «تحفة اجتماعية
وسياسية»، وقال البعض «إن فرنسا كانت في انتظاره». كما نال تغطية إعلامية
واسعة، أما الإحصاءات النهائية لمشاهدي هذا النوع من الأفلام، الذي هو بين
سينما المؤلف والسينما الجماهيرية، فلن نعرفها قبل أسابيع. وكان فيلمه
«التملص» قد استطاع أن يجذب ثلاثمئة ألف متفرج، لا سيما بعد نيله جوائز
السيزار. ومن هنا يمكن القول ان الجوائز الكبرى هي عامل جذب ودعم لهذه
النوعية من الأفلام التي قد لا تحصل على ما تستحقه من حضور بسبب مواضيعها
وموازنتها القليلة التي لا تسمح لها بدعاية واسعة.
وجبة
شهيرة
عبداللطيف قشيش من عائلة تونسية مهاجرة، وصلت فرنسا حين كان في
السادسة من العمر، عمل الأب في البناء، وقد أهدى قشيش عمله الأخير إلى ذكرى
والده. ينطلق الفيلم من واقع الحياة الاجتماعية في الضواحي الفرنسية مقدماً
أهلها من دون تنميط، وعارضاً واقع حياتهم بحلوه القليل ومرّه. سليمان عامل
مهاجر يعمل في ورش بناء وتصليح المراكب والسفن في مدينة ست قرب «مرسيليا»،
يفصل من عمله وهو الستيني لتراجع مردوده كما يدعي رئيسه. لا يريد أن يستسلم
أو أن يعود إلى البلاد كما يقترح عليه ابنه الشاب، وكأن دوره في حياتهم قد
انتهى. يقرر البدء من جديد وتحويل سفينة صدئة راسية في الميناء إلى مطعم
لتقديم وجبة فريدة «الكسكس بالسمك» اشتهرت بها طليقته التي حافظ على علاقة
ودية معها، ويشرك كل أسرته في مشروعه. تبدأ رحلة الإجراءات الإدارية بكل
جزئياتها، وهنا التقاط ذكي لدقائق الروتين الفرنسي حيث ان صعوبة نيل كم من
الموافقات (القرض، المراقبة الصحية، المحافظة...) قبل تحقيق أي مشروع قد
تحبط عزيمة أي كان. بيد أنه يحاول تجاوز كل العوائق بمساعدة ريم ابنة
صديقته التي يعتبرها كابنته (حفصية حرزي) ويعتزم إقامة افتتاح أولي ودعوة
كل الشخصيات المهمة ليبرهن لها عن جديته ويكون الحفل هو ختام الفيلم ومركز
ثقله.
تبدو القصة بسيطة في محتواها العام، لكن تفرعاتها حيث لكل فرد
حكايته، ولكل مشهد تفصيلاته المشغولة بعناية فائقة، أضفت فرادة على العمل.
لقد أفرد قشيش مكاناً للجميع، فقرب سليمان (حبيب بو فارس) الصامت والمعبّر
بنظرته العميقة، تداخلت قصص الجميع، وعلا صراخهم المستمر. الابن «الدون
جوان»، والزوجة المجروحة (أليس حوري)، وبقية أفراد العائلة، كل شخصية أغنت
العمل على طريقتها. وعلى رغم أن معظم الممثلين ليسوا ممثلين، كسليمان الذي
كان عامل بناء وكان صديقاً لوالد المخرج، أتى أداء الجميع لافتاً وتميز
قشيش مرة أخرى بإدارته البارعة للممثلين.
لكن في بعض مشاهد الفيلم التي بدت كأنها وثائقية، حلت الكاميرا
كرقيب أو كضيف ثقيل، ضيف لم يتم التعود عليه. ففي مشهد وجبة الغداء الذي
طال وطال بدا بعض أفراد الأسرة مرتبكاً إزاء العدسة المسلطة عليه، لا سيما
مع استعمال العدسة المقربة (gros
plan)
وبرودة الحوار، كان ثمة كلام كثير وثرثرة فارغة. هذا التطويل تكرر مع مشاهد
أخرى، فالسيناريو كان «لحوحاً» في أجزاء منه، بحيث بدت معه بعض المشاهد
وكأن لا نهاية لها، كمشهد الصغيرة على «النونية» وحوار الأم معها وتأنيبها.
وكان السيناريو في فصول منه يستلهم الحقيقة الروائية، فثمة قصة واقعية،
لكنها مصوّرة بأسلوب وثائقي (مشابه لطريقة المخرجة الفرنسية أنييس فاردا)،
وأخرى بأسلوب روائي محض. الانتقال أحياناً بين أسلوبين في السرد كان يثير
إحساسا بالتململ و بعدم الراحة. تدخل المشهد بعمق لتعود وتخرج منه في مشهد
آخر وكأنك في أثناء طريقك نحو القمة تتلقفك فجوة مفاجئة تعوق استغراقك
وتوجه أحاسيسك نحو منحى آخر.
عتاب
لقد بدا بعض المشاهد المحققة بأسلوب شبه وثائقي طويلاً مملاً
أحياناً، فيما قدم السيناريو والإخراج مشاهد أخرى بلغت «الكمال» في
إتقانها. كالمشهد الأخير الذي تنقل بين سليمان الذي كان يهرول للحاق
بالمراهقين لاستعادة دراجته النارية التي سلبوها من أجل لهوهم، وريم التي
كانت تؤدي الرقص الشرقي في المطعم. ريم التي أعطت الفيلم أفضل مشاهده حين
كانت تعاتب أمها لعدم رغبتها في الذهاب إلى الحفل الأولي الذي دعا إليه
سليمان، وقد أدته (حفصية حرزي) بحساسية مرهفة، فكانت تنتقل بروعة بين مشاعر
الغيظ والاستكانة، التوسل والطلب، الحنان والتعنيف. وبالتأكيد اتخذ دور ريم
أبعاداً أكثر عمقاً وتأثيراً بفضل أداء حرزي التي فرضت حضورها القوي على
هذا العمل المتميز.
الحياة اللندنية في 11
يناير 2008
|