عندما يكون لديك في فيلم واحد نجمان كبيران من هوليوود لكل
منهما اسمه واستقلالية وجوده... ما الذي يمكنك توقعه منذ بداية الفيلم؟
بالتأكيد ان يلتقيا في مشهد من مشاهد هذا الفيلم وأن يكون اللقاء حاسماً
وأساسياً يبنى عليه جزء أساسي من أحداث الفيلم. ينطبق هذا على فيلم «رجل
العصابات الأميركي»، أحدث أعمال المخرج الانكليزي الأصل سير ردلي سكوت،
الذي جمع في بطولته صديقه ونجمه المفضل راسل كراو، والنجم الأسود دنزل
واشنطن، الذي يعمل هنا تحت ادارته للمرة الأولى، بعد ان كان نجم عدد من
أفلام أخيه طوني سكوت (ولا سيما فيلم هذا الأخير «سبق رؤيته»). والحقيقة ان
جمع هذين النجمين هنا لم يكن عشوائياً... أو هذا – على الأقل – ما سنحس به
طوال أكثر من ساعتين ونصف الساعة، هي زمن عرض هذا الفيلم. اذ تحت ادارة
سكوت، وحتى إن لم ننس لحظة حضور كل من النجمين، كان الأداء مقنعاً، مرة من
ناحية واشنطن في دور فرانك لوكاس، ومرة من ناحية كراو في دور ريتشي. الأول
مهرب وتاجر مخدرات. والثاني شرطي أخذ على عاتقه كشف الأول ووضع حد
لنشاطاته.
في هذا السياق يبدو «رجل العصابات الأميركي» فيلماً كلاسيكياً
من النوع الذي تكثر هوليوود انتاجه، حول ساعتي مطاردة بين شرطي وخارج على
القانون. غير ان ما يجعل لهذا الفيلم خصوصيته، هو أنه لم يأتِ فيلماً
عادياً في هذا المجال. وليس فقط لأنه مبني على أحداث حقيقية، طالما اننا
نعرف أن معظم أفلام هذا النوع يبنى على أحداث حقيقية، بل خصوصاً لأن ردلي
سكوت (وكاتب السيناريو ستيفن زاليان) حوّلا الأحداث الحقيقية الى عمل ملحمي
يضاف الى أفلام شديدة النجاح تنتمي الى هذا النوع نفسه، وأثبتت جدواها على
طول تاريخ السينما الأميركية، من «سكيرفاس» (مرة من اخراج هاوارد هاوكس،
وثانية من اخراج بريان دي بالما) الى «العراب» (بأجزائه الثلاثة لفرانسيس
فورد كوبولا)...
والحقيقة ان في وسعنا، لدى مشاهدة «رجل العصابات الأميركي»، أن
نمد لائحة الأفلام المرجعية كي تشمل نجاحات سينمائية أخرى وقعها مارتن
سكورسيزي ومايكل مان وويليام فردكين... غير ان هذا، لن يكون مجدياً وإن كان
صحيحاً. المجدي هو أن نقول ان سكوت تمكن هنا من أن يضع ما يشبه الخلاصة
لتجربة سينمائية متنوعة، انما – أيضاً – عبر فتح طريق واسع أمام تنويع
حقيقي وجديد على هذا اللون السينمائي. وكذلك أمام لعبة الترميز والكناية،
التي سرعان ما توجد لـ «رجل العصابات الأميركي» مكانة حتى على خريطة
السينما السياسية. ذلك أن التأشير السياسي طوال فيلم تمتد أحداثه من 1968
حتى 1975، ليس مجرد دالٍّ يحدد تواريخ الأحداث الخاصة المتعلقة بـ «الصراع»
بين المهرب والشرطي، بل هو جزء أساس من الفيلم. فإذا كانت حرب فييتنام
وهزيمة الأميركيين فيها حاضرة، وكذلك ادانة ريتشارد نيكسون بسبب ووترغيت،
فلا شك في ان هذا كله يلعب دوراً أساسياً في فيلم جعل لنفسه هذا العنوان
الدالّ، وجعل نهايته هزيمة ألحقها الشرطي بالمسؤولين عن مكافحة المخدرات في
نيويورك، أكثر منها هزيمة للمهرب نفسه.
صعود
الرأسمالية الأميركية
والحقيقة ان هذا يعيدنا مباشرة الى ما تحدثنا عنه أول هذا
المقال: مشهد اللقاء بين لوكاس وريتشي. اذ حتى لو سلمنا بأنه واحد من أضعف
مشاهد «رجل العصابات الأميركي» وأقلها اقناعاً، فإنه يبقى مشهداً مفتاحاً.
فهذا المشهد الذي قدم الينا عبر توليف متوازٍ، مع مشاهد محاكمة لوكاس بعد
القبض عليه، أسفر عن تعاطف بين لوكاس وريتشي كان هو الذي أدى الى فضح تورط
رجال الشرطة المرتشين في تهريب المخدرات والمتاجرة بها، وبالتالي إلقاء
القبض عليهم.
أما لوكاس فصحيح انه اعتقل وصودرت أمواله، لكنه سيخرج من السجن
معافى ليبدأ حياة جديدة في عام 1991. وهذا يحدث في لقطة أخيرة من الفيلم،
لا شك في أن وجودها يريح المتفرج بقدر ما يريحه – وإن كان لا يطمئنه – ما
تقوله لوحة على الشاشة من أن ريتشي ترك سلك الشرطة ليصبح محامياً. والمؤكد
ان لقطة لوكاس خارجاً من السجن تريح المتفرج، لأنها تفهمه أخيراً ان تعاطفه
طوال الفيلم مع لوكاس (واشنطن تحديداً) لم يكن خطيئة لا تغتفر، ونزوعاً
جوّانياً نحو الشر، بل كان حدساً بما سيحدث لاحقاً من قلبة في شخصية لوكاس
تحت تأثير قبض ريتشي عليه و «اقناعه» بكشف الفاسدين.
طبعاً، لا بد من العودة هنا الى التذكير بأن الفيلم مأخوذ من
أحداث حقيقية كان صحافي بنى عليها تحقيقاً طويلاً جاء في نهاية الأمر
متعاطفاً مع الشخصيتين الرئيستين. غير ان قوة السيناريو والاخراج، كمنت
ومنذ البداية في تمكين المتفرج من تناسي حقيقة الأحداث، ليعيش هذه الملحمة
الشخصية. فالفيلم، وعلى الأقل خلال ثلاثة أرباعه الأولى، أتى على شكل سرد
متوازٍ لحياة ونشاط وتطور أفكار وممارسات كل من شخصيتيه الرئيستين. فهو في
البداية، وبعدما صوّر لنا بطريقة شديدة العنف قسوة فرانك لوكاس الذي انطلق
مساعداً لمهرب كبير آخر هو بمبي الذي يموت فيرثه لوكاس، يصوّر من ناحية
أخرى، حياة ريتشي ومعاناته، الشرطي النزيه الذي يتعين عليه أن يخوض معارك
عدة على جبهات شخصية (طلاقه من زوجته وصراعه للاحتفاظ بطفله منها) ومهنية (اصراره
على النزاهة وسط عالم شرطة فاسدة، وصولاً الى إلحاق الأذى بسمعته لمجرد أنه
سلّم دائرة الشرطة مليون دولار صادرها من سيارة مهرب وكان رفاقه يتوقعون
تقاسمها) وعنصرية أيضاً: فهو كيهودي يعيَّر دائماً بهذا... وهنا في هذا
الاطار ثمة أيضاً توازٍ بينه وبين لوكاس، حيث ان هذا يضطهد بسبب زنجيته وسط
عالم عصابات كان، حتى ذلك الحين مقصوراً على البيض، ايطاليي الأصل كانوا أو
ايرلندييه. وهذا الواقع العنصري لعله يكمن في خلفية تلك العزلة الظاهرة
التي يعيشها كل من لوكاس وريتشي. انها هنا، عزلة «استثنائية» في عالم هذا
النوع من السينما. لكنها من ناحية أخرى تبدو ملحمية بالنظر الى انها سرعان
ما تبدو مرتبطة بأمر جوهري في الفيلم آن الأوان هنا للتحدث عنه: الحلم
الأميركي. فمثلاً حين يصرخ فرانك لوكاس وهو يصعد الى قمة نجاحه، أمام
أقربائه متحدثاً عن عمله وأخلاقية هذا العمل: «هذه هي أميركا»، يكون الفيلم
قد وضعنا في قلب موضوعه. فنحن هنا أمام الرأسمالية الأميركية في ارتباطها
بهذا الحلم، انها رأسمالية الصعود الفردي العصامي من العدم. ورأسمالية
النجاح انطلاقاً من الصفر ومن المغامرة الفردية، ولكن أيضاً من قيم أخلاقية
محددة. والحقيقة ان ردلي سكوت (وكاتبه ستيفن زاليان) لا يبدوان مازحين
أبداً حين يرسمان لفرانك لوكاس – المسؤول بسبب ترويج الهيرويين عن مقتل
الألوف وتدمير حيوات الناس ومستقبلهم، بمن فيهم الجنود الأميركيون – صورة
الإنسان النزيه المتمسك بالقيم الأخلاقية والداعي أخوته وأبناء عمومته
للتمسك بها، وصولاً الى ضربهم أو قتلهم، إن هم حادوا عنها.
وفي هذا السياق يبدو لوكاس واضحاً كل الوضوح. انه يدير مؤسسة
التهريب، كما تدار شركة «جنرال موتورز» أو شركة «بيبسي»: الأسس الأخلاقية
ذاتها، العناصر نفسها المكونة للرأسمال المجددة له. ومن هنا لئن كانت زنجية
فرانك لوكاس جعلته يعمل وحده، خارج منظومة المافيا التي ما كان يمكنها أن
تتسع له إلا كخادم أو سائق، فإن هذه الزنجية مرتبطة بالحلم الأميركي، برغبة
الصعود، هي التي قادته الى الهند الصينية، ليشتري – من طريق ابن عم له
هناك، جندي من القوات الأميركية المحاربة في فييتنام – أول مئة كيلوغرام من
الهيرويين النقي، ليبيعها – محافظاً على سلامة البضاعة ونقائها – بأسعار
تنافسية تسببت في افلاس العصابات الأخرى التي - هي - لم تفهم القوانين
الرأسمالية الأميركية تماماً.
التباس
ما...
هنا، في هذه النقطة بالذات، يكمن جوهر هذا الفيلم، ويميزه عن «العراب»
و«سكيرفاس» وحتى عن «فتية طيبون» لمارتن سكورسيزي. فإذا كانت هذه الأفلام
الثلاثة – التي ذكّرت بأقلام كثر من النقاد كنقاط مرجعية للحديث عن «رجل
العصابات الأميركي» – قد دنت في جوهر موضوعها، من الحلم الأميركي، فإنها
دنت منه بطرق مواربة: من خلال مفهوم العائلة في «العراب»، والصعود الفردي
المشرعة أبوابه في أميركا في «سكيرفاس»، ومن خلال مفهوم الصداقة في فيلم
سكورسيزي. لا شك في أن فيلم ردلي سكوت عبر ذلك كله ليصل الى الجوهر... الى
ان يقول لنا: هكذا، اذاً، تشتغل الرأسمالية الأميركية. وهنا في هذا الإطار
يصبح حتى مشهد «التعاطف والتعاون» بين لوكاس وريتشي، جزءاً من النمط الأبوي
لرأسمالية تصر، في الظاهر على قيم أخلاقية وتقشف (تعبر عنه مواقف عدة
للوكاس، في علاقته مع بذخ أفراد عائلته، واحراقه معطف فرو تهديه اليه زوجته
أيضاً، لأن ارتداءه سيكشفه ويكشف ثروته)، من دون أن تهتم بمن قد يقع ضحية
لنجاحها. ثم لاحقاً، حين تتعاون مع الشرطة لكشف الفاسدين لا تفعل هذا
بالتناسق مع الموقف الأخلاقي، بل لأنها ضبطت وبات عليها أن تختار طريقاً
آخر.
دلالات
من المؤكد ان الجزء الأكبر من قيمة «رجل العصابات الأميركي»
يكمن هنا. ولا شك أيضاً في أن هذا البعد هو الذي يضفي وضوحاً على لعبة
التوازي التي رسمها السيناريو منذ البداية، بين عالمين كان لا بد لهما من
ان يلتقيا. ولعله لم يكن من قبيل الصدفة هنا ان يكون اللقاء الأول – من دون
تعارف – بين ريتشي وفرانك لوكاس، خلال مباراة محمد علي كلاي – جو فريزر، في
الملاكمة التي اعتبرت، لفوز كلاي فيها، أول مصالحة حقيقية بين أميركا
البيضاء وأميركا السوداء أتت على خلفية الهزيمة الأميركية في فييتنام،
والتي كان من أهم سماتها كثرة عدد الجنود الأميركيين السود القتلى في
الحرب، ما جعل أميركيين بيضاً كثراً يرون في الأمر اشارة الى حضور الأسود
في الوطن الأميركي. وهو حضور لم يكن شديد الوضوح في الحروب السابقة.
أمام هذا تصبح ثانوية الدلالة، بعض التفاصيل التي ملأ بها ردلي
سكوت فيلمه، حتى وان كانت تبدو محملة بالدلالات السياسية، كأن تكون توابيت
الجنود القتلى العائدين، وسيلة لتهريب المخدرات وما الى ذلك. اذ لا ننسين
هنا ان الفيلم نفسه منطلق من أحداث حقيقية... ووسيلة التهريب هذه كانت
متبعة كما يبدو... لا أكثر ولا أقل.
مهما يكن من أمر، في هذا الفيلم الكبير والمشوق... لن يكون
بعيداً من المنطق ان نجد أنفسنا أمام مرآة ضخمة وضعت مرة أخرى أمام أميركا
معينة لترى فيها نفسها وصورتها. وصورة لنجاحها وصعوده، مهما كان من شأن هذه
الصورة ان تكون: سلبية، ايجابية أو ملتبسة. وفي يقيننا هنا ان الصورة
الأقرب الى المنطق هي صورة الالتباس... ويبدو ان ذروة نجاح ردلي سكوت في
هذا الفيلم كمنت في رسمه هذا الالتباس في شكل خلاق.
الحياة اللندنية في 11
يناير 2008
|