ليست كل السياسة سينما، إلا أنه من الصحيح تماماً أن كل
السينما سياسة، بما في ذلك أنواع الأفلام التي يعتقد البعض أنها لا يمكن أن
يكون لها صلة بالسياسة. والسينما السياسية لم تكن يوماً هازلة أو عابثة، بل
كانت معنية دوماً بقضايا الناس وهمومهم، في قراءتها وتحليلها ومناقشاتها
والمساهمة في الكشف عن جوانبها الملتبسة وتأثيراتها.
والحديث عن العلاقة بين السينما والسياسة هو ما يخوض فيه
الكثير من النقاد والمحللين، بين مؤيد ورافض، بين متردد ومشكك، نظراً
لدورها الخطير والفعال في رسم أو تعرية سياسات الدول. ومنذ الأيام الأولى
للسينما أصبحت رقابة الدولة، بأشكال وتكوينات مختلفة ودرجات متباينة، في
معظم بلاد العالم، ضرورة مسلما بها، من أجل السيطرة على السينما، باعتبارها
وسيطا تحول من مجرد اختراع قائم على خدعة بصرية، إلى أحد أهم وسائل التعبير
ذي الانتشار الواسع، والأكثر تأثيراً في الجمهور، وبالتالي الأشد خطراً من
وجهة نظر السلطات، في كل ما يتعلق بالسياسة وممارساتها، أو القيم
الاجتماعية أو الأخلاقية وغيرها.
واعترف صناع الأفلام أنهم أفلتوا أحياناً من مقص الرقيب ـ
بالتحايل أو برغبة النظام ـ أعمالاً حددت ملامح تاريخ دولهم في مراحل
معينة، ورصدت التغيرات التي تعرضت لها مجتمعاتهم، وعكست في بعضها أحلامهم
وأمانيهم وتطلعاتهم لمستقبل مفتوح حر بلا قيود أو رقابة.
«إن الشعب
الذي لم يعد يصنع صوراً عن ذاته محكوم عليه بالانقراض» مقولة لكاتب
السيناريو جان كلود كاريير، لكنها تدعونا إلى غربلة أفلامنا العربية في
تاريخها السينمائي من أجل «رصد، ضبط، معرفة، حدود التعامل، آليات التفكير»،
للشخصية العربية في انفعالاتها، وفي أيام سعادتها القليلة، وفي أحزانها
المستمرة والمعبرة.
وأمام لائحة المحرمات الطويلة التي هي مفروضة قسراً أو غير
مصرح بها، تقف سينمانا متأرجحة، بين روائع أحرجت النظام السياسي، وأعمالاً،
مجدته، وأفلاما اختصرت الطريق إلى شباك التذاكر. «البيان» في السطور
التالية، تفتح ملف السينما السياسية في عالمنا العربي، باعتبارها أداة
اتصال جماهيرية واسعة المدى، عميقة التأثير، ذات جرأة وقوة في القول، راصدة
أهم وأبرز انجازاتها، عاكسة اصطدامها بالسلطة السياسية، التي لم تعد وحدها
تواجه الفنان والمثقف «إنما تشاركها سلطة رأس المال وشركات الإنتاج، والأهم
إحباط ولا مبالاة الشارع العربي، الذي لم يعد يحاسب ويطالب بأفلام هادفة
تعبر عن مأساته اليومية، بل يكتفي للأسف بأفلام ترفيهية تضحكه وتمتص غضبه.
بالفعل تتعدد الخطوط الحمراء وتتقاطع، ويجد فيها المخرج
السينمائي فيلمه ملزماً إما إلى الالتجاء بالرمز أو الهروب إلى الخيال، حتى
لا يقع في صور المنع، فيمارس على نفسه رقابة ذاتية، أحياناً تخنقه أو تضيق
عليه الحصار خلال كتابة السيناريو خصوصاً إذا كان موضوع عمله يمس الحالة
السياسية للبلاد.
الأفلام
المغربية
أمام ضيق الحريات العامة، طوال عقود سابقة في المغرب لجأ
المخرج إلى إفراغ حمولته في صورة، الفلاح البدوي، والعراك الدائم على
الميراث، ثم في صورة الطفلة الخادمة المنهمكة في أشغال البيت التي تعبث بها
الأقدار.
وفي الأفلام المغربية انطلاقاً من «وشمه»، «حلاقة درب
الفقراء»، «شاطئ الأطفال الضائعين»، وأفلاماً أخرى نجد صوراً للفقر واليأس
والإحباط والاضطهاد بالمعنى المعنوي واللفظي للكلمة.
وبالتالي فإن السيناريو ودرجة حساسيته مع الواقع الاجتماعي
والسياسي، هو الذي يحدد رفضه أو قبوله للخروج إلى التجسيد سينمائيا، وهذا
ما جعل المخرج عبدالقادر لقطع صاحب «حب في الدار البيضاء»، و«بيضاوة» يصرح
أن شخصيات السينما المغربية لا جنسية ولا سياسية.
من هنا يمكن أن نلخص العديد من العراقيل الموضوعية أو الذاتية
في عدم قيام سينما وطنية مغربية، ما أدى بالعديد من المخرجين في فترات
معينة لطرح أفكار بعيدة عن الواقع المعاش مثل التجاء سهيل بن بركه في فيلمه
«أموك» لطرح قضية التمييز العنصري، وجعل من أفلام نبيل لحلو، ومصطفى
الدرقاوي تنغمس في الذاتية، والأشياء الغريبة، وترجمة وقائع المجتمع
المغربي بمدلولات حسب تصوراتهما، مما جعل النقاد يضعونهم موضع اتهام في
الإبحار في الغموض.
إن السينما السياسية تلتزم طرح القضايا الحساسة وكشفها، ولقيت
عينة من الأفلام المغربية طريقها للمضي على استحياء في فضح الفساد الإداري
والمحسوبية واستغلال النفوذ، كما في فيلم «مكتوب» لنبيل عيوش، والاعتقال
والفضائح السياسية في «أيام من حياة عادية» و«نساء ونساء» لسعد الشرايبي.
مشهد آخر يتكرر في الفيلم المغربي منذ سنوات طويلة، صورة
«الأحمق» أو «التائه» في البراري والصحراء والسهول، مدعياً الدراويش،
وأحياناً جوالاً كما هو شأن عبدالرحمن المجدوب في حكمه وأقواله، وهو يقطع
المغرب طولاً وعرضاً. إن التجاء المخرج لهذه الشخصية الهامشية إجابة بسيطة
على هامش الحرية الممنوح.
السينما
الجزائرية
ساهمت السينما الجزائرية عبر تاريخها بعد الاستقلال في تقديم
أفلام سياسية مهمة ارتقت إلى العالمية، ويجب ان نشير إلى أفلام صنعها
مخرجون من خارج الجزائر، مثل «جميلة بوحريد» ليوسف شاهين، و«زد» للمخرج
كوستا جافراس، وعلى الرغم من نجاح أفلام مثل «السكان الأصليون» لرشيد بو
شارب، و«رشيدة» ليمينة شويخ و«اغتيال الشمس» لعبد الكريم بهلول، و«بركات»
لجميلة صحراوي، إلا أنها تعتبر حالات فردية خرجت من عباءة واقع صعب، وظروف
متردية أعاقت سينما كانت لها صولات وجولات وحصدت جوائز في محافل ومهرجانات
عالمية.
عبرت أغلب نتاجات السينما الجزائرية القديمة عن الارتباط
الوثيق بين السينما الجزائرية والثورة، وذلك منذ إنتاجها الأول عام 1961،
ساقية سيدي يوسف، عمري ثماني سنوات، ونصير الثورة، ثم فيلم ياسمينه الذي
يعتبر أول عمل للمخرج محمد الأخضر حامينا، وازدهرت البدايات في ظل استقرار
واستقلال الجزائر، حيث بلغ عدد الأفلام المنتجة، خلال عشر سنوات أكثر من 24
فيلماً روائياً طويلاً، إلى جانب الأفلام القصيرة.
ويمكن القول إن السينما الجزائرية حتى منتصف السبعينات، كانت
أهم سينما عرفها المجتمع العربي، خصوصاً عندما حصل الأخضر حامينا، على
السعفة الذهبية من مهرجان كان السينمائي عام 1975 عن فيلمه «وقائع سنوات
الجمر»، الذي اعتبر بمثابة إعلان شرعي عالمي بمولد سينما جزائرية متميزة.
ومن الأفلام المهمة أيضاً «فجر المعذبين» للمخرج أحمد راشدي،
«القلعة» لمحمد شويخ، وهو فيلم قديم عام 1988، ويعتبر شديد التميز في
معالجته للتقاليد التي تحكم مجتمع النساء ومجتمع الرجال والجدران التي تفصل
بينهما.
السينما الجزائرية سينما خاصة جداً، تحمل بصمات مبدعين من طراز
فريد، وراح هذا الإبداع ضحية لظروف سياسية متشابكة، لذلك جاء الإنتاج
الجديد، يعكس هموم شعب فرضت عليه ظروفه والمجازر التي يتعرض لها أن يهاجر
مبدعوه بعيداً عن الوطن الجريح، ويقدمون سينما غريبة عن مشاكل وعوائق أهل
المهجر.
الهوية
التونسية
بدأت السينما التونسية تاريخياً في عام 1964، ومرت بمراحل ثلاث
رئيسية، الأولى هي أفلام التحرير الوطني التي جسدها المخرج عمار الخليفي من
خلال أفلام الفجر، صراخ وسجناء، وظل الأرض، وهي أفلام اهتمت بتقديم صورة
الكفاح ضد فرنسا المستعمرة.
المرحلة الثانية ركزت على مشاكل مجتمع الاستقلال، كما في فيلم
«السفراء» للناصري القطاري، الذي يتحدث عن الهجرة، وفيلم «عزيزة» لعبد
اللطيف بن عمار، الذي تناول تحولات المدينة التونسية وظهور الأحياء
الجديدة، وما خلقته من تحول في الأخلاق والقيم.
أما المرحلة الثالثة فتتميز بأنها مرحلة مراجعة الذاكرة
الوطنية، كما في فيلم «صفايح الذهب» لنوري بوزيد، و«صمت القصور» لمفيدة
التلاتلي، وفيلم «الرديف 54» لعلي العبيدي. وهذه المرحلة الأخيرة هي محل
جدل بين النقاد، لما تتميز به من إظهار للصور والمشاهد العادية، كما حدث في
فيلم «الحلفاوين» لفريد بوغدير، وهكذا فإن مسألة الإنتاج السينمائي التونسي
في عمقها تمثل هوية الأفلام التونسية، لأن هدفها تسويقي، لإرضاء المنتج
والموزع في الخارج، لذلك فهي تسعى إلى الإثارة ولا تقترب من روح الثقافة
والفلكلور التونسي.
هموم
سورية
استطاع القطاع السينمائي السوري الخاص، إنتاج العديد من
الأفلام التجارية التي بقيت، وللأسف، أسيرة شباك التذاكر، مما جعلها فقيرة
فكرياً وفنياً، علماً بأنها استطاعت إيصال أسماء كوميدية سورية مهمة مثل
«دريد لحام» و«نهاد قلعي» وإدخالها في الذاكرة السينمائية العربية.
أما المؤسسة العامة للسينما السورية فكان لها مع التاريخ شأن
آخر مختلف، بعيداً عن هموم شباك التذاكر، وصب كامل اهتمامها على الجانب
الفكري والاجتماعي والسياسي، الذي يكرس للاتجاه الواحد، والفكر الواحد،
والحزب الواحد.
ومن بواكير إنتاج المؤسسة فيلم «المخدوعون» للمخرج توفيق صالح،
المقتبس عن رواية رجال تحت الشمس للكاتب الكبير غسان كنفاني، وفيلم «الفهد»
للمخرج المتميز نبيل المالح، وتميزت فترة السبعينات بتصاعد التنافس بين
الإنتاج الخاص، والإنتاج العام، ورغم الرقابة الشديدة الممارسة من قبل
الدولة الممولة نفسها، إلا أن كثيراً من المخرجين اندفع مجبراً على استخدام
لغة رمزية تصل أحياناً إلى درجة السريالية لتمرير أفلامهم وخروجها إلى شاشة
العرض.
في الثمانينات برزت أسماء جديدة مثل سمير ذكري ومحمد ملص
وأسامة محمد الذين أبدعوا أفلاماً حصدت العديد من الجوائز العالمية
والعربية، ومن أسماء الأفلام المهمة، «أحلام المدينة» وفيلم «حادث النصف
متر».
البيان الإماراتية في 6
يناير 2008
|