خطوة جديدة للسينما المصرية يلمسها المشاهد لفيلم "الجزيرة"،
للمخرج المتميز "شريف عرفة"، ومن بطولة "أحمد السقا" والفنان الكبير "محمود
ياسين" و"هند صبري"، فالفيلم يغوص في قلب صعيد مصر في تعمق في المحلية
المصرية، هذا التعمق الذي غاب طويلاً، ويعود للظهور في فيلم يتميز بخروجه
على السائد من ثيمات، ليبحر في عالم تجارة الأفيون والسلاح، والعلاقات
المشبوهة بين رجال الأمن ومافيات زراعة وتجارة الأفيون في الصعيد، بهدف
التعاون ضد التطرف الأصولي الذي كان الصعيد بيئته الخصبة في تسعينيات القرن
الماضي، وما أفرزه ذلك من تعاظم قوة ونفوذ العائلات المسيطرة على تجارة
الأفيون هناك.
فيلم مجدّد، يطرح عدة قضايا شائكة، بجرأة وذكاء، ويغوص في
عوالم خفية عن مناطق مهمشة في السينما المصرية، فيُغرق في المحلية
الإيجابية التي هي أساس العالمية، في عمل فني متكامل ومشغول بحرفية، يقوده
مخرج متمكن من أدواته يحاول أن يجمع بين الإمتاع والترفيه التي هي عناصر
أساسية، والعمق في طرح مواضيع سينمائية جديدة، تأخذنا إلى جوانب مخبأة في
عالم مصر الغني بالطروحات، والذي يشكل معيناً خصباً لصناعة سينمائية مصرية
وعربية أثرى مما نشاهده حالياً بكثير ولكنه غير مستغل للأسف.
كانت السينما المصرية في الماضي غنية في تنوعها من حيث
المواضيع، فكان أن شاهدنا مواضيع تتناول مناطق الصعيد، ولكن ثيماتها في
الغالب كانت تتكرر، ولكن فيلم "الجزيرة" فيلم مختلف، فيلم معجون بالتفاصيل
والتلميحات والإسقاطات على واقع مصري وعربي معاصر تحكمه ظروف كثيرة فتفرز
نقاط نفوذ كنتيجة طبيعية لاستشراء الفساد في المجتمع وفي الدولة.
احترت من أين أبدأ الحديث عن الفيلم فنياً، ولكنني وجدت بأن
الأداء التمثيلي الخلاب يجدر أن يكون اول ما أتحدث عنه، فقد كان ما شاهدته
في هذا الفيلم وكالعادة في أفلام "شريف عرفة" مباراة في الأداء بين مجموعة
من الممثلين الكبار، وبعيداً عن أداء النجم الشاب "أحمد السقا" بطل الفيلم
والذي سأعود إليه، فقد شهدت الأدوار المساندة تألقاً منقطع النظير، فكان
أداء "الأستاذ" "محمود ياسين" أداءً راقياً أثبت بأنك عندما تمنح الدور
المناسب لأحد النجوم الكبار من الجيل السابق فإنه سيمنح الفيلم إضافة كبيرة
بأدائه، كذلك تألق كل من محمود عبد المغني وخالد الصاوي في دوريهما كرجال
شرطة، وكالعادة كان باسم سمرة بحجم الدور الذي أوكل إليه، وقدم شخصية
الصعيدي العنيف والساذج بطريقة تؤكد علو كعب هذا الممثل وقامة أدائه، دور
مساند آخر لفت انتباهي، لممثل كبير بحق ومظلوم هو القدير عبد الرحمن أبو
زهرة، والذي ترك بصمته في الفيلم رغم مشاهده القليلة فكان اختياراً موفقاً
للغاية، نعود لبطلي الفيلم الأساسيين، هند صبري وكما دائماً أدت المطلوب،
وأراها اليوم من أهم الممثلات العربيات على الإطلاق، أما أحمد السقا فواصل
في هذا الفيلم استعادة بريقه الذي بدأه في "تيمور وشفيقة"، أفلتت منه
اللهجة الصعيدية في بعض المشاهد، لكنه كأداء قدم أداء لافتاً للغاية، وفي
بعض المشاهد أعاد إلى ذهني أحمد السقا في بداياته الجميلة، فكان تركيزه في
الأداء كبيراً، وقدم مشاهد عالية، ورغم صعوبة أداء شخصية "منصور الحفني"
وتقلبها ونموها على امتداد الفيلم، إلا أن السقا نجح في السيطرة عليها
بنسبة كبيرة.
سيناريو الفيلم كان من أفضل السيناريوهات العربية التي شاهدتها
بالمطلق، فدرجة الإتقان والإحكام كانت ممتازة، والتنقلات الزمنية كانت
مبنية بإحكام، واستطاع السيناريست "محمد دياب" ان يقدم فيلماً كبيراً بنكهة
مصرية، الحوارات جاءت ذكية وعميقة ومليئة بالإسقاطات، والموضوع نفسه جاء
خصباً للخوض في الكثير من تفصيلات المجتمع المصري والصعيدي بالتحديد، رسم
الشخصيات جاء واقعياً، وأضفى دياب لمسات ساعدت في بث الحياة فيها، وربما
ساعده في ذلك استلهام القصة من قصة حقيقية لا أدري مدى تداخلها مع ما ظهر
على الشاشة، السلاسة التي تفاعلت فيها الشخوص مع بعضها البعض قلما شاهدتها
في فيلم عربي، وكذلك ذكاء الحوارات وإسقاطاتها واللمسات الإنسانية في
الفيلم.
تصوير الفيلم كان جيداً، وأداره "أيمن أبو المكارم"، وما
أعجبني فيه هو درجات اللون والإضاءة في الفيلم، والتي كان اختيارها موفقاً،
فجاءت الصورة تقنياً صافية وعلى درجة عالية من الجودة، وكانت الألوان
ودرجات الظل والضوء متناسبة مع الرؤية الفنية للمشاهد، لكن ما رأيته هو ان
فيلماً كهذا كان من الممكن ان يكون أغنى بصرياً على صعيد المشهدية، والتي
رغم خصوبتها إلا أنها جاءت محدودة ولم تستغل البيئة وأماكن التصوير في
ابتكارات بصرية، خصوصاً مع غنى مناطق الصعيد بالمناظر الطبيعية التي كان
يمكن ان تستغل بشكل أكبر دون مبالغة، وقد تم ذلك في بعض المشاهد، ولكنه جاء
أقل من المطلوب والممكن في هكذا فيلم من وجهة نظري.
الديكور الذي تولاه "فوزي العوامري" جاء متميزاً جداً، وساهم
في نقل الروح المطلوبة عن أجواء الصعيد، وجاء ديكور منزل "منصور الحفني"
غاية في الإتقان، وكان من العناصر الهامة جداً في الفيلم، أما تصميم
الملابس الذي تولته المصممة الشهيرة "ناهد نصرالله" فكان متناسباً تماماً
مع أجواء الفيلم والصعيد وتنوع الشخصيات بمستوياتها المختلفة.
الموسيقى كانت جزءاً من روح الفيلم، وكعادته أضفى الموسيقار
الكبير "عمر خيرت" الروح المصرية على العمل من خلال موسيقاه المتفاعلة
والرائعة، والتي منحت الفيلم بعداً صوتياً محسوساً، ببراعة كبيرة. المونتاج
كان جيداً، وكالعادة حاول "شريف عرفة" بالتعاون مع المونتيرة "داليا
الناصر" البعد عن الكلاسيكية فيه فجاءت بعض القطعات ثقيلة.
إخراج الفيلم وكعادة "شريف عرفة" جاء ممتازاً، فجاءت إدارته
للممثلين مميزة، وسيطرته على مسار الفيلم جيدة جداً، إخراج مشاهد الآكشن
التي تم التركيز عليها في الإعلان عن الفيلم، مع أن الفيلم أعمق من كونه
مجرد فيلم آكشن، هذه المشاهد جاءت ممتازة جداً لفيلم عربي، رغم أنها لا
زالت تحتاج المزيد من الإتقان، إلا أنها بشكل عام جاءت مقبولة جداً، ولم
تنتقص من قيمة الفيلم بل تناغمت مع مستواه الفني الجيد.
"الجزيرة"، فيلم يشكل علامة جديدة من علامات السينما المصرية
على مستوى الحرفية والعمق في التناول، فيلم يذهب بك بعيداً ونائياً في قلب
صعيد مصر ويعود بك وقد فهمت الكثير الكثير بعد أن مس فيك مشاعر إنسانية
"عالمية" لا تقتصر على شعب بعينه، فينطلق من الخاص ليثير العام، وما بين
السياسة والفساد والإرهاب وتجارة المخدرات والسلاح، يترك مساحات للحب،
وللكثير من المشاعر أن تتسلل بهدوء إلى عقلك الباطن، فتنسى أحكامك المسبقة
عن السينما العربية الحديثة وتبدأ معها صفحة جديدة.
* شاعر
ومخرج أردني
موقع "إيلاف" في 2
يناير 2008
|