عندما تناولت وسائل الاعلام خبر رحيل السينمائية
اللبنانية رندا الشهال صباغ عن 55 عامًا (بعد صراع طويل مع مرض السرطان)،
تذكرت فجأة سينمائي لبناني رحل هو الآخر "بكير": مارون بغدادي.
لماذا
يرحلون هكذا فجأة وكأنهم اتموا المهمة وقالوا كلمتهم ومشوا... يتفاجأ المرء
برحيلهم. يأخذونك على حين غرّة... تلاحظ بأنّ عندك الكثير لتسألهم إيّاه.
وماذا لو قدّر لك أن تحصل على لقاء أخير معهم... لدقائق معدودة - تستدعيهم
مجددا- وكأنّك أمام وقت مستقطع في مباراة كرة السلّة أو كرة القدم وستعطى
فيها فرصة ثانية... لتطرح أسئلة، للأسف ستبقى دون إجابة. إنها أسئلة ترحل
بسرّها والاجابة عنها مع صاحبها.
رندا
الشهّال قالت مرّة: "تكتشف في أفلامي قاسمًا مشتركًا. ألم تلاحظ بأنّ حركة
الكاميرا هي فقط من اليمين إلى اليسار... تمامًا مثل الكتابة باللغة
العربيّة".
ربما كان
هناك أكثر من اللغة العربيّة في حركة كاميرتها – من اليمين الى اليسار - .
هل هناك إيديولوجيّة الالتزام اليساري (وهي اليسارية الملتزمة من بيت يساري
سياسي ملتزم وناشط). وهنا كنت أودّ لو أسألها: هل "تجنح" دائمًا حركة
الصورة أو حركة الكاميرا عندك نحو اليسار في تبيان للنضال والثورة والقضايا
الكبرى – قضايا الانسان المظلوم والمقهور وقضايا العالم العربي- التي
التزمتِ بها.
أسألك هذا
وكأنّ "المراهقة" التي سافرت يومًا إلى باريس لتدرس مادة السينما عام 1972
لم تستطع إزالة دمغة أو وشم أيّار 68 وتداعياته في سبعينات الايديولوجيّات
والحركات الطلابيّة وفيتنام ووترغيت وودستوك... وصولا إلى الحرب
اللبنانيّة.
ووددت
أيضا أن أسألك: "ترى هل رست حركة الكاميرا في أفلامك على نهج أراد أن يؤكّد
وأن يحرص على لغة سينمائيّة أردتها أنت باللغة "الام"، وهي مسيحيّة عراقيّة
حملت مشعل التزامها الشيوعي وكانت من أولى النساء الشيوعيّات في العالم
العربي؟
صفّق
الكثير لرندا الشهّال عندما فاز فيلمها "طيّارة ورق" بجائزة الأسد الفضّي
في مهرجان البندقيّة السينمائي. الدولة منحتها وسام الارز اللبناني من رتبة
فارس تقديرا لهذا العمل وكأنّها أرادت أن تقدّم لرندا الشهّال إعتذارًا جاء
متأخّرًا لمنع الرقابة اللبنانيّة فيلمها "متحضّرات" (1999) بذريعة بذاءة
تعابيره والحوارات. السواد الاعظم من النقّاد والجمهور رأوا في هذا الفيلم
"طيّارة من ورق" صرخة في وجه الاحتلال الاسرائيلي "والعدو الغاصب الصهيوني
الغادر" –نسبة إلى اللغة الخشبيّة- وربّما برّروا موقفهم هذا بالجملة التي
قلتِها في حفل "تتويجك" في البندقيّة: "أنا أتيت من بلد صغير إلى درجة أنكم
لا تجدونه على الخريطة... هل أنا أشكّل لكم مصدر تهديد... هل أنا أمثّل
محور الشر والرئيس بوش محور الخير" وعزوا موقفهم أيضا إلى حركة يدك
"النضاليّة" عندما هممّت بمغادرة المسرح.
أما أنا،
وهنا أعتذر منكم كلّكم، فقد شاهدت نضوج تلك "المراهقة الابديّة". فما
تناوله الفيلم خاصة كان الإنسان العربي الذي يبقى أوّلا وأخيرًا ضحيّة
التخلّف والجهل. عفوًا، وقتها لم أشاهد في فيلم رندا الشهّال "الاسرائيلي
الغاصب" الذي كان الغائب الأعظم (بقي خارج الصورة
Hors-champs
) وإن "حزرنا" وجوده من خلال الاسلاك الشائكة والالغام وأبراج المراقبة
والزي العسكري، وهو ما نراه بكثرة في الفيلم.
لقد
توقّفت وقتها عند قراءة تذهب أبعد من القراءة الاولى. وأنت أيضًا يا
رندا... فقد عبرت مع بطلة الفيلم إلى حقل الالغام... إلى تلك المساحة
المحرّمة عبر الاسلاك الشائكة... لقد عبرتي مع لميا- بطلة فيلمك- إبنة الـ
16 ربيعًا لا لملاقاة حتفها بل لتتحرّر من "العشيرة" (الكبرى؟)
ألم تقولي أيضًا في أحد الايّام: "في أفلامي تجدون دائما أحدهم يجتاز مساحة
ممنوعة، محرّمة"... وهذا أيضًا سؤال كنت أود لو أسألك إيّاه... للأسف سيبقى
أيضًا من دون جواب.
رندا
الشهّال (مارون بغدادي قبلها) حفظا وطبّقا بعناية فائقة درس كتابة
السيناريو والدراماتورجيا.
فعلم
السيناريو ينصح "بالخروج" من المشهد، من الصورة أو الكادرCadre
باكرًا جدًا... لإبقاء المشاهد على عطشه وشوقه وربما حسرته...
لقد قلتي
Cut
(إقطع) لحياتك قبل الاوان... وبذلك أردتِ أن تكوني مخرجة وسينمائيّة لحياتك
حتى آخر لحظة ورمق.
النهاية.
موقع "لبنان الآن" في 28
أغسطس 2008
|