اضغط للتعرف على صاحب "سينماتك" والإطلاع على كتبه في السينما وكل ما كتبه في الصحافة Our Logo
 

    حول الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار   

رحيل العملاق يوسف شاهين

 

وداعاً شاهين

 

خاص

بـ"سينماتك"

كتبوا في السينما

أخبار ومحطات

سينماتك

ملتيميديا

إبحث

في سينماتك

إحصائيات

استخدام الموقع

 

يوسـف شاهين وأفلامه ...

حياة في السينما ... وسينما في الحياة!

يوخنا دانيال

 
     
  

- 1 -

لم يتجرأ أي مخرج من قبل، أو من بعد، على طرح ذاته بهذه الجرأة والحدة في العالم العربي … مثلما فعل يوسف شاهين في معظم أفلامه. هذه الذات التي تغادر نفسها والعائلة والأصدقاء، فتحاول الأحاطة والأمساك بنكهة وإيقاع مدينة "كوسموبوليتانية" كبيرة مثل الاسكندرية في النصف الأول من القرن العشرين … وصولاً إلى احتضان وطن وشعب بأسرهِ في النصف الثاني من القرن العشرين. ويتفِّق معظم النقاد والمراقبون، بناءاً على تصريحات أو "تضليلات" شاهين، على ثلاثة أفلام كبيرة باعتبارها تمثل المرحلة الذاتية (النموذجية) في سينما شاهين؛ اسكندرية ليه (1978)، حدوته مصرية (1982)، اسكندرية كمان وكمان (1990) … متجاهلين أو متناسين تفجّر الذات الشاهينية أو (جو المجنون) وسط  أفلامه المختلفة مثل عفريت العلبة، منذ فلم باب الحديد (1958). حيث لا يكتفي شاهين بالإخراج والتمثيل، بل يُحمِّل (قناوي) بائع الجرائد "الكسيح" الكثير من عناصر شخصيته ... بما فيها الأشكاليات الجنسية والانبهار أمام الجمال، وكذلك الحسد أو الغيرة من النماذج الرجولية أو الذكورية المتطرفة Macho types ... إذ يبدو شاهين/ قناوي عالقاً في المثلث البشري الذي يتشكّل منه مع فريد شوقي وهند رستم. لكن هذا المثلث لا يسبح في الهواء بل يتجذّر في المكان : باب الحديد أو محطة القطارات المركزية في القاهرة التي تربط قلب مصر بالأقاليم والبحر والصعيد.

والحقيقة أن اختيار هند رستم "قنبلة الإغراء في السينما المصرية" وفريد شوقي "بطل الترسو او الطبقات الشعبية" لدوري البطولة … محمَّل بكل الدلالات والإيحاءات الجنسية الذكورية والانثوية الشعبوية. لكن هل كان من الممكن إيجاد أو اختيار أي ممثل "آخر" يستطيع تجسيد قناوي من بين نجوم السينما المصرية في ذلك الوقت غير شاهين نفسه؟ أشك في ذلك … وربما كان الفنان الكبير (محمد توفيق) مؤهلاً للدور إلى حدٍ ما، وخصوصاً أنه لعب دوراً مقارباً لدور قناوي في رائعة المخرج الكبير توفيق صالح (درب المهابيل) عام 1955. لكن بينما يهتم الفلم الأخير بكشف وتفكيك عالم أو مجتمع صغير Microcosm وفضح أخلاقياته المزدوجة تقاليده المنافقة الخاضعة للمال بشكل رئيسي، فإن "باب الحديد" ورغم كل تشعباته واهتماماته الانسانية والاجتماعية، يغوص عمودياً في قناوي وخيالاتهFantasies  ومركبات نقصه المختلفة او المتعددة وصولاً إلى نهايته التراجيدية.

ولأول مرة في فلم عربي، تصبح عوامل النقص الجسدي والعقلي مضافاً لها الهوس والوساوس الجنسية والرغبات والكوابت… ظاهرة أو مُعلنة إلى هذا الحد. وأحياناً، اتصوّر أن لعاب قناوي يسيل "فعلاً" لمرأى هنّومة (الأنثى السوبر) كتعبير عن حقيقة الصراع أو الشدّ الجنسي الذي يسود الفلم. بالطبع يبقى هناك عالم المحطة الخارجي والنقابة وصراعات العمال مع المستغلِّين، والتي تعمل جميعها على تخفيف حدّة الثيمات والوساوس الجنسية في الفلم وتضعها في اطارها المكاني/الزماني الواقعي. وبينما يفصل او يعزل توفيق صالح نفسه عن فلمه او أفلامه في معظم الاحيان، فإن شاهين يغرس نفسه بقوة وعمق في باب الحديد: المكان ... وقناوي: الإنسان.

وتجسيد شاهين لقناوي مُدهش إن لم نقل مذهل، ويستحق أعلى وأرقى الجوائز في العالم. لقد ترك لنفسه الحرية المطلقة داخل الفلم وخارجه، أمام الكاميرا وخلفها. وتفوّق في صنع فلم يمكن اعتباره واحداً من أهم أفلام شاهين، إن لم يكن واحداً من أهم الأفلام العربية والعالمية على الاطلاق. وعن شاهين الممثل، فقد شاهدنا بعضاً من هذا الأداء الشاهيني الرائع لاحقاً في فلم فجر يوم جديد (1964)، في دور زوج عابث من البرجوازية المصرية الكبيرة، وهو يفكِّك ويسخر من أخلاقيات ومظاهر هذه الطبقة في أيامها الأخيرة، خصوصاً في مشهد الحفل الخيري الزاخر بالنفاق والإيماءات الجنسية. لكن هذه الموهبة التمثيلية يبدو أنها تآكلت بمرور الوقت وعدم الاستعمال لصالح الاخراج، إذ شاهدنا أشباحاً أو بقايا منها في فلمه اسكندرية كمان وكمان الذاتي/التسجيلي (1990) وفي افلام اخرى بالطبع.

 أن الذات الشاهينية المهمومة بالجنس والجمال والسياسة والموقف من العالم والآخرين تستعرض أو تتظاهر من خلال نموذج المثقف المهزوز أو الممزّق في أفلام عديدة مثل العصفور (1972) وعودة الأبن الضال (1976) السياسييّن، وكذلك في فلم الاختيار (1970) بالطبع؛ المكرّس كلياً لتحليل أو دراسة ظاهرتي الانفصام والتخاذل في شخصية المثقف العربي في السنوات القليلة التي تسبق وتلي هزيمة 1967. والحقيقة أنّ موقف شاهين السلبي (سينمائياً) تجاه المثقفين في العالم العربي يبدو انعكاساً –  تعوزه الأصالة وكذلك الإبداع الى حد ما – لما ساد في تلك المرحلة من اتجاهات فكرية وسياسية تدين المثقفين العرب، وتحمِّلهم جانباً كبيراً من مسؤولية الهزيمة وفشل المشروع القومي/التحرري/الاشتراكي او "الناصري – البعثي" … وهذا واحد من أسباب الغموض والفوضى السرديّة التي تسود في هذه الأفلام. ويعتقد البعض أن هذا نموذجيٌ جداً في شخصية شاهين؛ الذي يبدو مهموماً بأشياء كثيرة في نفس الوقت، وهو يريد التعبير عنها دائماً في المساحة الزمنية لكل فلم من أفلامه، لكي يشعر بأنه صادق تماماً مع نفسه ومع رؤياه ومع الواقع المحيط. لكن النتيجة النهائية، رغم جمالها وجاذبيتها، تظل مليئة بالمشاكل والنواقص مما يحيلنا إلى مقولة النّفري العظيم (كلما أتسعت الرؤيا ضاقت العبارة) أو… تخربطت!

بالطبع لم يكن المخرج الكبير ذاتياً دائماً، إذ استطاع أن يُخرج أو ينفَّذ أفلاماً متقنة ومتماسكة كثيرة بمعزل عن الانغماس "الذاتي" فيها؛ مثل الأرض (1970)، جميلة (1958)، صراع في الوادي (1954)، الناصر صلاح الدين (1963) وكذلك فلمي الموسيقار فريد الأطرش؛ ودعتُ حبك (1956) وأنت حبيبي (1957) الغنائيَّين الرائعين … وهي أفلام خالدة ستبقى في الذاكرة والذائقة العربية لعشرات السنين.

- 2 -

ان تغلّب الذاتي على الموضوعي في سينما شاهين يترافق تماماً مع تخلّي شاهين عن الأسلوب الأمريكي أو الهوليودي في صناعة الأفلام لصالح الانحياز لطرائق اخراجية اوروبية او فرنسية بالتحديد. وهذا الانحياز الأسلوبي أو حتى الجمالي يتأسس فكرياً وسياسياً على الانغماس العميق في مشكلات المجتمع المصري وصراعاته السياسية ضد ثالوث (الاستعمار والصهيونية والرجعية) التي تبرز بشكل سافر او "كيتشي" أحياناً في معظم أفلامه السياسية الطابع. لكن شاهين، في مشاهد الانتفاض الشعبي او الجماهيري، يُفارق الكيتش المصري التقليدي (الهلال والصليب) الذي أرساه سينمائياً في أذهاننا أحد كبار السينمائيين المصريين : ونقصد المخرج الراحل الأستاذ حسن الأمام. أنّ شاهين يستدعي مصر الأم البهية، الشابة العربية العصرية، التي تضم الهلال والصليب والتاريخ الفرعوني والطبقات الشعبية المحرومة والمثقفين والفنانين جميعاً.

ويبدو أن كل هذه التحوّلات الداخلية والخارجية في ذات شاهين وتظاهراتها السينمائية، أقلقت أفلامه وأفقدتها توازنها السردي والتنفيذي أحياناً، بحيث يمكن اعتبار باب الحديد (1958) فلمه الذاتي الأول والوحيد المصنوع بصورة (موضوعية) بتقنيات إخراجية هوليودية "مُقنعة". لاحقاً، ترك شاهين لنفسه الحرية الاخراجية (الذاتية) ليتلاعب بممثليه ومتفرجيه، وحتى بموهبته في القصّ والاقناع للوصول إلى أعلى درجات الحرية التعبيرية والفكرية، خصوصاً في أفلام الاختيار والعصفور وعودة الابن الضال ثم في سلسلة أفلامه (الذاتية) النموذجية المستوحاة من حياته الشخصية وذكرياته الاسكندرانية.

أنّ هذا الطغيان الذاتي الشاهيني، يبدو مهماً جداً واستثنائياً في تاريخ السينما العربية، من أجل ولادة أو ظهور المخرج "المخرج" أو المخرج "الفنان" … وليس المخرج الحرفي او المنفِّذ. صحيح أن هناك أسماء كبيرة في السينما العربية مثل صلاح أبو سيف وتوفيق صالح وآخرين بين التقدميين، وبركات وحسن الأمام وآخرين بين الواقعيين والتقليديين … إلاّ أنّ شاهين، وبمرور الوقت، يتحول إلى صانع أفلام مفكر أو كاتب Auteur  لأول مرة في السينما العربية، ( ربما مثل أدونيس في الشعر العربي الحديث). أنه يفعل ما يحلو أو يتراءى له مثل المخرجين الفرنسيين، وليس مثلما تريد رؤوس الأموال والشركات في هوليود أو مثلما تريد السلطات الحكومية في معظم دول العالم مثلاً.

هذا هو إذن يوسف شاهين؛ مخرج حُر يريد إرضاء نفسه أولاً وأخيراً. لكنه ليس بعيداً عن معاناة الجماهير وتطلّعاتها السياسية والاجتماعية أبداً. في ذاته يتحقّق هذا الاتحاد بين الفرد والمجتمع نظريا او سينمائيا على الأقل. في فرنسا أو أمريكا مثلاً، يحتل المخرج السينمائي المبدع قمة الهرم الثقافي/الاستعراضي في المجتمع، وهذا ما حصل فعلاً مع شاهين، الذي تحوّل إلى أيقونة للسينما العربية في الحياة الثقافية. وللحق، فانه بمرور الوقت أصبح أهم وأكبر من أفلامه. ومنذ أكثر من ربع قرن هو يجول الدول العربية والأوروبية (الجزائر، سوريا، العراق، لبنان، تونس، فرنسا وغيرها) ويورّطها في إنتاج وتوزيع وتمويل أفلامه المثيرة للجدل بمواضيعها السياسية والاجتماعية والجنسية الجريئة جداً.

في فلم (العصفور) أخذ شاهين الهزيمة على محمل شخصي، لذا كان الفلم دفاعاً حقيقياً عن مصر وشعبها ومثقفيها وفنانيها، فارتفع شعار مواصلة الحرب مترافقاً مع شعار عودة عبد الناصر إلى السلطة. ونستطيع القول أنه نجح في "تأويل" الخروج الجماهيري الكبير في أعقاب الهزيمة لصالح إزالة العدوان وإعادة الثقة والقوة للشعب، وليس لصالح الأفراد والحركات السياسية المسؤولة عن الهزيمة. ورغم أن اهتمامات شاهين السياسية تبرز بوضوح في بعض أفلامه السابقة، وخصوصاً في فلم (فجر يوم جديد) الذي امتاز بنزعة نقدية تقدمية واضحة جداً، فانّ فلم العصفور شكلّ نقطة الطلاق أو المقاطعة مع النظام السياسي الناصري القائم. هذا الطلاق الذي يصل إلى ذروته في فلم (عودة الابن الضال) الذي يتضمّن الأدانة الكاملة والنهائية للنظام الناصري وخلفائه، خصوصاً في مشهد العرس/الدموي/العائلي في نهاية الفلم.

 إن أفلامه هذه، كانت دائماً تترافق مع حملات وجولات دعائية/سياسية في العديد من الأقطار العربية. فهو لم يكتفِ بتحوله إلى أيقونة سينمائية عربية وعالمية، بل انغمس في نشاطات وتظاهرات سياسية مناوئة لأمريكا وإسرائيل والعولمة لاحقاً، رغم حالته الصحية المتردية وعلى حساب إبداعه الفني أحياناً. وبالضد من ارتماء مصر (الدولة) في الأحضان الأمريكية/الإسرائيلية بعد كامب ديفد، حاول شاهين أن يؤصِّل لعلاقة خاصة بين مصر وفرنسا من خلال فلمه الكبير وداعاً بونابرت (1985)؛ مُسبغاً جمالية خاصة على بعض رجال الحملة الفرنسية من العلماء المتنورّين الذين يكتشفون عظمة مصر وشعبها وتاريخها وثقافتها. إنّ الفلم ليس مجرد وداع (أو رَكلة) لبونابرت الباحث عن الانتصارات والأمجاد العسكرية الاستعمارية، لكنه يصبح ترحيباً بفرنسا الواقعية التي نستطيع أن نتعاون ونتعامل معها بنديّة بعيداً عن روح الهيمنة.

 وفي عقد التسعينات حقّق شاهين ثلاثة أفلام متميّزة ونقصد؛ المهاجر، المصير، الآخر. كما حصل على واحدة من أرفع الجوائز العالمية في تاريخ السينما؛ وهي خمسينية مهرجان (كان) عام 1997 عن مجمل تاريخه وإنجازه السينمائي. وبينما كان فلم المهاجر أغنية حب سينمائية لمصر تستعير من قصص الأنبياء بعضاً من الملامح والثيمات لتمجيد مصر ودورها الحضاري والروحي في التاريخ الإنساني، فإنّ فلم (المصير) الذي يستعير حياة واحد من أكبر التنويريين في العالم من العصور الوسطى؛ الفيلسوف ابن رشد… كان دفاعاً متقناً، عالي الصوت واللهجة، عن خيارات الحداثة والفكر والفن في مصر الواقعية ضد الهجمات الأصولية والردّة الفكرية التي تعصف بالعالم العربي. إن يوسف شاهين يُدين النظام السياسي العربي – القائم – المتردِّد في خطواته والمتشبِّث بمواقعه وكراسيه الأزلية، لأنه يصبح في النهاية حليفاً للقوى الرجعية والمتطرفة دينيا ضد قوى الحداثة والإبداع والثقافة.

في فلم (الآخر) بدا شاهين قلقاً جداً من العلاقة (الخاصة) بين مصر وأمريكا، إذ يربط الخطر الأمريكي/الإسرائيلي الخارجي بالخطر الأصولي/الإرهابي الداخلي، باعتبارهما تهديداً مباشراً لمصر المعاصرة ومسؤولياتها العربية والإنسانية. لقد أراد أن يقول الكثير في هذا الفلم – كالعادة – دون أن يهتم كثيراً للحبكة والسرد وتسلسل الأحداث والوقت السينمائي المتاح … مثلما وزّع الاتهامات يميناً وشمالاً، دون أن يهتم باقناع أو استرضاء المشاهدين والنقّاد المتخصِّصين ... ومع كل هذا، فقد نجح الفلم جماهيرياً إلى حد بعيد. ويُحسب لشاهين أنه جرّ أحد المفكرين الكبار في العالم للمشاركة في مشهده الافتتاحي؛ ونقصد الأكاديمي الأمريكي/الفلسطيني ادوارد سعيد، للحديث عن دور العرب التاريخي ومساهمتهم في الحضارة العالمية. هذا هو شاهين؛ الرمز الحي للسينما العربية بكل تناقضاتها وتحدياتها، بكل خيباتها وطموحاتها. ولعلّ الأجانب محقون عندما يقولون : "كلما ذُكرت السينما العربية، تذكرنا يوسف شاهين".

سينماتك في 15 أغسطس 2008

 
     
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2008)