اضغط للتعرف على صاحب "سينماتك" والإطلاع على كتبه في السينما وكل ما كتبه في الصحافة Our Logo
 

    حول الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار   

ملفات خاصة

رحيل العملاق يوسف شاهين

وداعاً شاهين

 

خاص

بـ"سينماتك"

كتبوا في السينما

أخبار ومحطات

سينماتك

ملتيميديا

إبحث

في سينماتك

إحصائيات

استخدام الموقع

 

... والمبدع نفسه كيف ينظر الى أفلامه وعلاقتها بحياته ومجتمعه؟

يوسف شاهين: سيرة ذاتية في أعمال اكتشف الآخرون أهميتها متأخرين

ابراهيم العريس

 
     
  

لم يكن المخرج الكبير الراحل يوسف شاهين من المبدعين الذين يستنكفون عن الإدلاء بأحاديث صحافية... بل كان هذا من هواياته، غير أن اللافت هو أن صاحب «الأرض» و«العصفور» الذي ودعه كبار مصر والعالم العربي والفنانون الذين عرفوه عن قرب وأحبوه وأحبوا سينماه، كان قليلاً ما يتحدث في الحوارات عن أفلامه، مفضلاً في أغلب الأحيان أن يخوض في أمور تدور من حول تلك الأفلام، ولا سيما حين تدنو سينماه من القضايا السياسية والاجتماعية. ومع هذا، إذ تحرى المرء نصف قرن من الحوارات مع شاهين، سيعثر على حوارات أساسية، حرص فيها هذا الفنان على التكلم عن أفلامه. وهذه الحوارات يمكن أن تشكل في مجموعها متناً يكاد يكوّن نظرة شاهينية الى سينما شاهين، متناً متكاملاً مترابطاً، تدهش قراءته مجتمعاً، كيف ان «جو» كان دائماً أقدر من كثر من الذين كتبوا عن أفلامه، تأييداً أو استهجاناً أو بين بين، على الغوص في تلك الأفلام، وليس دائماً من موقع المؤيد لها دون قيد أو شرط، فهو الذي كان، بحسب تعبيره «لا يتوقف عن انتقاد كل ما لا يراه مصيباً وحسناً في الحياة المصرية - والعربية  - «لم يكن في وسعه أن يمر من دون انتقاد على أعماله نفسها. وهنا في هذه الفقرات التي جمعناه من سلسلة طويلة من حوارات مع شاهين، أو من تصريحات له، نقرأ هذا الفنان يحدثنا عن بعض أفلامه ومراحله الأكثر دلالة، بوضوح وألفة. وأحياناً عبر مسافة تجعله يبدو وكأنه يتحدث عن أفلام حققها آخرون. وهذه الفقرات هي جزء من متن طويل، يشكل أحد فصول كتاب لكاتب هذه السطور عن سينما يوسف شاهين عنوانه «نظرة الطفل وقبضة المتمرد» سيصدر عن «دار الشروق» في مصر، خلال الأسابيع المقبلة.

* «بابا أمين» (1950)

حين عدت الى مصر (من الولايات المتحدة)، كان في مصر سينمائي ايطالي يدعى جياني فرنوتشي، يحاول أن يحقق فيلماً فيه شيء من «الواقعية الجديدة». في ذلك الحين لم أكن أعرف عن هذه الواقعية شيئاً لذلك اكتفيت بمراقبته خلال عمله. وفي يوم من الأيام تشاجر هذا السينمائي مع المنتج الذي طلب مني أن أكمل العمل مكانه، لكنني اقترحت على المنتج أن أعمل معه ما ان ينتهي من ذلك الفيلم. كنت يومها في الحادية والعشرين. ومن الواضح أنني كنت سخيفاً تماماً. كان لي أنف طوله ستة أمتار وأذنان مثل شراع المركب. وقال لي أحد المنتجين انهم لا يستطيعون أخذي مأخذ الجدية، ونصحني بأن أزيد من وزني بعض الشيء وأن أعتني بمظهري. فلو فعلت ربما يتنبه إليّ أحد. إذ حتى كمخرج كان لا بد للناس من أن يهتموا بمظهري. وكانت المرحلة شديدة الثراء في مصر في ذلك الحين، إذ كانت مصر تنتج ما لا يقل عن 120 فيلماً في السنة. وحدث ذات يوم أن نظر اليّ أحدهم بكل جدية وسألني عما أنوي فعله، فقلت: فيلم «ابن النيل». وكان الموضوع عن الفلاحين. وكان لدي السيناريو جاهزاً بل ومقطعاً. وكذلك كان لدي تقطيع سيناريو «بابا أمين» الذي سرعان ما صار هو فيلمي الأول. والحقيقة أن هذا الفيلم الذي يمكن أن نصفه بأنه «كوميديا موسيقية»، لم يكن كوميدياً ولا درامياً. بل كان أشبه برصد واقعي لحياة عائلة تنتمي الى البورجوازية الصغيرة. وكان رب هذه العائلة يشبه والدي نفسه. والمهم أنني أنا في حياتي الشخصية لم أكن أبداً منجذباً الى هذا النوع من الناس الجيدين. ولكن بما أن زمن السينما المصرية في ذلك الحين كان العصر الذهبي للميلودراما وللكوميديا، اخترت الكوميديا الخفيفة مع قسط وافر من الانفعال العاطفي.

* «صراع في الوادي» (1953)

لقد رسخ «صراع في الوادي» قدميّ في صناعة كان معظم أساتذتها في ضعف سني. وكانت تجربة إطلاق وجه جديد (عمر الشريف) مثيرة للغاية. كذلك كان التصوير وسط المعابد البديعة واستعمال هندستها عنصراً درامياً في البناء الشكلي لمشاهدة المطاردة الأخيرة. ولا بد من ان أذكر هنا أنني خلال الفترة السابقة على تحقيقي هذا الفيلم، كنت قد بدأت أشعر بشيء من القلق والتوتر الغامضين. وحتى الآن لست أدري سر ذلك. فأنا لم أكن منتمياً الى أي حزب، لكنني كنت أحدس بحدوث أمر ما. والحال أنني كنت كتبت «صراع في الوادي» مع علي الزرقاني في وقت كان الملك فاروق لا يزال في الحكم. والفيلم جاء يحكي نضال مهندس شاب (عمر الشريف في دوره السينمائي الأول)، هو ابن فلاح، ضد الباشا الإقطاعي وزبانيته. كان فيلماً موجهاً ضد طبقة الإقطاعيين. وعندما كتبت السيناريو كانت أيدينا على قلوبنا خوفاً من الرقابة. ولكن فجأة قامت الثورة وصار في وسعنا أن نعبّر عن أنفسنا في شكل أوضح بعض الشيء.

* «باب الحديد» (1958)

كان جيداً بالنسبة إلي أن أحقق هذا الفيلم بعد تجربتيّ مع فريد الأطرش والكوميديا الغنائية على طريقته. ذلك أننا في هذا الفيلم لم نعد أمام الشاب الطيب الساحر ذي القلب الجريء، بل نجدنا أمام شخص يعاني، وفي الوقت نفسه لأسباب اجتماعية وسيكولوجية. وأعتقد اليوم أنني في «باب الحديد» تمكنت، وفي شكل جيد، من أن أحدد الشخصيات وبيئتها الاجتماعية. هذا الفيلم يعني لي الكثير. وأرى أنني عبرت في هذا الفيلم عن قناعتي بأن العلاقات بين الفرد والمجتمع غالباً ما تزيف بفعل الدور الذي يجبر المجتمع الفرد على لعبه. ومع هذا لا بد من أن أقول انني مع «باب الحديد» واجهت أزمة كبيرة. ارتكبت خطأ في طريقة الدعاية للفيلم، إذ ركزت على بطلي الفيلم فريد شوقي وهند رستم، وكان لكل منهما أسلوبه الذاتي، في حين انهما ظهرا في الفيلم بأسلوب مغاير تماماً. فلم يتقبلهما الجمهور. وفي مطلق الأحوال كان «باب الحديد» جديداً في أسلوبه. أو لنقل كان مختلفاً. أما رد فعل الجمهور فكان عنيفاً. وتضايقت جداً ووصل بي الأمر الى حد الإعياء. «باب الحديد» كان، في هذا المعنى، صدمة شديدة. شتموني عند عرض الفيلم. وأعتقد أنهم ظلموني لأن الفيلم كان جيداً فعلاً. وكان من أفضل أفلامي لحد اليوم.

* «جميلة الجزائرية» (1958)

هذا الفيلم (الذي بني على فكرة ليوسف السباعي، وشارك في كتابة السيناريو له نجيب محفوظ وعبدالرحمن الشرقاوي وعلي الزرقاني) كان بداية تعاملي المباشر مع موضوع سياسي في جوهره... لقد عاب الجزائريون على الفيلم أنه اهتم بشخصية بطولية، بينما حرب الجزائر كانت ثورة الملايين. هذا الفيلم لو حققته ثانية اليوم سيأتي بالطبع مختلفاً، لكنني مقتنع بأنه كان يحمل في ذلك الحين شحنة لا بأس بها من اتهام لقمع الاستعمار ووحشيته. كان صرخة تنادي بحق الشعوب في حريتها

* «الناصر صلاح الدين» (1963)

الحقيقة انني إذ كنت بداية الستينات من القرن الماضي قد تمكنت من تجاوز المرحلة السوداء في حياتي، فإن الفضل يعود في ذلك الى المخرج المرحوم عز الدين ذو الفقار. فهو كان من المفروض أن يقوم بإخراج فيلم عن صلاح الدين، إلا أنه تعرض لأزمة صحية فطلب مني أن أُخرج الفيلم مكانه. في البداية رفضت الفكرة تماماً. فعز الدين كان يعمل على إعداد الفيلم منذ سنوات، فكيف أحل محله؟ إلا انه أصرّ قائلاً لي ان هناك الكثير من المخرجين الذين يتطلعون الى إخراج الفيلم، ولكنه هو لا يريد أحداً غيري. فوافقت وبدأت العمل في «صلاح الدين». ولا بد ان من أذكر هنا أن الدولة المصرية أنشأت القطاع العام في السينما خصيصاً من أجل صلاح الدين. وبالنسبة إليّ ساعدني هذا الفيلم تماماً على الخروج من الحقبة السوداء التي كنت غرقت فيها. ومن الناحية الفكرية والسياسية رغبت من خلال هذا الفيلم أن أؤكد مبدأ التسامح المطلق الذي يحكم تعامل العرب مع بقية الأديان.

* «بياع الخواتم» (1956) ثم «رمال من ذهب» (1966)

بعد إنجاز «فجر يوم جديد» وعرضه، شعرت أن البيروقراطية الناصرية بدأت تثبط من عزيمتي، إذ راحت تسيطر تماماً، من طريق القطاع العام على المؤسسة العامة للسينما وعلى ما ينتج في مصر بالتالي. وكانت تلك هي الفترة التي دعيت فيها الى بيروت لحضور العرض العالمي الأول لـ «فجر يوم جديد» ضمن إطار مهرجان بيروت السينمائي الدولي، في خريف 1964. وهناك في بيروت التقيت الأخوين عاصي ومنصور الرحباني اللذين عرضا عليّ أن أخرج أول فيلم سينمائي تقوم ببطولته فيروز. وكان الفيلم عن مسرحية «بياع الخواتم». ولما كنت، أنا، في وضع سيئ جداً، كان لا بد من أن يظهر هذا الوضع على الفيلمين اللذين حققتهما خارج مصر («بياع الخواتم» و «رمال من ذهب»)، لكن «بياع الخواتم» يبقى فيلماً دافئاً. وفيروز شخصية فنية جبارة. وموسيقى الأخوين رحباني جميلة جداً. أما «رمال من ذهب» الذي صورته في إسبانيا والمغرب، فأعتقد أنه أسوأ فيلم صنعته في حياتي. وقد خرجت من هذه التجربة الأخيرة باقتناع راسخ: أنا لا اصلح لما يسمى بـ«كومبينات السينما»، وهكذا عدت الى مصر... بعد عامين من الغياب.

* «الأرض» (1968)

بعد «الناس والنيل»، وبعد فيلم قصير عن الكنيسة القبطية هو «عيد الميرون»، عدت الى مشروع قديم كان يعتمل في ذهني منذ ثماني سنوات على الأقل: تحقيق فيلم عن رواية «الأرض» لعبدالرحمن الشرقاوي، والتي كانت قد نشرت للمرة الأولى مسلسلة قبل العام 1952. وفي هذه الرواية كان الروائي يتحدث عما يعرفه أكثر من أي شيء آخر، ذلك انه كان هو نفسه فلاحاً. وكنت اشتغلت على السيناريو مع حسن فؤاد واضطررنا الى اختصار مشاهد كثيرة من عمل يزيد عدد صفحاته عن 600 صفحة. وفي البداية كان يفترض أن يكون «الأرض» أول فيلم أحققه بعد عودتي. لكن الحظ جعل «الناس والنيل» يحقق قبله... وكان ما يهمني أكثر من أي شيء آخر لديه طريقته في رسم لعبة التناقضات الاجتماعية وسط عالم مصغر. و «الأرض» هو في نهاية الأمر فيلم عن الصراع الطبقي داخل قرية مصرية. وفيه رغبت ان أبرهن ان الناس غالباً ما يكونون تحت تأثير وضعهم الاجتماعي والاقتصادي. صحيح ان أحداث الرواية (والفيلم) تدور في العام 1933، غير ان هذا التحديد التاريخي لم يكن مهماً على الإطلاق. وأذكر هنا أنني كنت تعاونت مع عبدالرحمن الشرقاوي في فيلم «جميلة الجزائرية» كما في بعض أفلامي الأخرى. و «الأرض» كان يحتوي، في صيغته كرواية الكثير من الطروحات المشتتة. كما ان الفعل فيه لم يكن ذا بعد درامي. وهكذا وجدت نفسي مضطراً الى الاختصار، والى تكثيف الخطاب الذي أريد التعبير عنه، بالاستناد الى إشارات مخبوءة أعدت هيكلتها. وقد سعيت الى الوصول الى توليفة من طريق الصورة، ان أعطي حساً للمتفرج بأنني أرسم الشخصيات رسماً. كما أردت أن أربط بين أحداث ليس ثمة، في الأصل رابط حقيقي بينها. وكنت أريد أن أعبر عن مبرر وجود بعض الأحداث ودلالاتها. في «الأرض» كانت المرة الأولى في حياتي التي آخذ وقتي بكل صبر وأناة من أجل عرض فكرة من الأفكار أو أمر من الأمور. وأنا أعتقد على أي حال أن «الأرض» هو أحد أهم الأفلام المصرية التي أعطت الكلمة للشعب.

* «الاختيار» (1970)

كان «الاختيار» فيلمي التالي بعد «الأرض». وقد حققته خلال مرحلة سياسية شديدة الغرابة. إذ إننا في مصر كنا في حالة أطلق عليها اسم «اللاحرب واللاسلم»: كنا نعيش وسط اللايقين. وكشعب لم نكن نحظى بأي احترام. كانت الكبرياء منتشرة والحاسدون في كل مكان. وكان من الضروري وصف تلك الوضعية التي لا يمكن احتمالها. يومها لفت أحدهم نظري الى حكاية عن الانفصام كان نجيب محفوظ قد كتبها. إنها حكاية أخوين توأمين يختفي واحد منهما. فمن الذي قتل الآخر: هل القاتل هو «الأزعر» ذو القلب الطيب، أم المتعلم ذو الصفات الحسنة والذي يمثلنا في منظمة الأمم المتحدة؟ كان «الاختيار» يريد ان يبني أنه بات من الملحّ أن نتحرك، وإلا فإننا سنعيش جميعاً وسط انفصام تام. ففي ذلك الحين لم يكن أحد ليجرؤ على اتخاذ أي قرار. ولم نكن لنعرف من سيسيطر على من. إزاء هذا كله وجدت الفكرة مهمة للغاية. ورأيت أنه بات في إمكاني أن أعبر عن نفسي في شكل أكثر انفتاحاً، مع شيء من الجرأة الزائدة.

* «اسكندرية ليه؟» (1978)

بدءاً من فترة «عودة الابن الضال» أدركت في أعماقي كم أن التحركات التاريخية التي نعيشها موقتة وغير ثابتة. وتساءلت:... وبعد عبدالناصر ما هي القوة التي تمنعنا من الاستمرار في التدهور وفي التفتت؟ هناك قطيعة في العالم العربي تلزمها قوة كبيرة تعيد التوحيد. ولا يبدو لي أن هناك قوة أخرى في هذا الحجم غير الثورة الفلسطينية. فهي هدفها إنشاء دولة ديموقراطية علمانية. الثورة الفلسطينية كانت القوة التي في وسعها جمع الشمل. وفجأة بدت وكأنها لم تعد تناسب مصالح الأطراف. يبدون جميعاً وكأن فكرة الدولة الديموقراطية العلمانية لم تعد تناسبهم. من هنا، فإن «إسكندرية ليه؟» نافذة صغيرة مفتوحة على هذه الدولة التي يحلم بها الفلسطينيون. لكن الفيلم جاء في فترة يريد فيها كل واحد تفسير ما هي الثورة الفلسطينية بحسب حاجاته الخاصة. من ناحية أخرى يتحدث الفيلم عن يحيى (ابن السابعة عشرة). يوسف شاهين يروي حكاية يحيى كجزء من فترة. وإذا كان «اسكندرية ليه؟» بعد كل شيء فيلماً عن التسامح، فإن هذا نابع من مدينة الإسكندرية نفسها. الاسكندرانيون متسامحون في شكل خاص لأنهم طوال عمرهم عاشوا مع ناس من مختلف الطوائف والجنسيات: مع يهود وطليان ويونانيين وغيرهم. واليهود كانوا عندنا طائفة مثل غيرهم. موضوعهم بدأ يهمنا بسبب قضية فلسطين. أخذ لوناً آخر. ولكن هذا جاء في ما بعد.

* «حدوتة مصرية» (1982)

إن القاسم المشترك بين «إسكندرية ليه؟» و «حدوتة مصرية» هو يحيى، الذي هو يوسف، أي أنا. ومسار هذه الشخصية هو المسار الذي أحكي عنه في الفيلمين. ويحيى/ يوسف هو شخص آلى على نفسه أن يفهم. وأنا فهمت منذ كنت، بعد، يافعاً، انه لا يمكنني في حياتي أن أكتفي برواية الحكايات. كنت أعرف انني ألماني، وكنت أدرك أنني راغب في ان اصرخ، أن أقول لأحد ما انني أعاني. ولعل هذا كان السبب الأول الذي حرك لدي حبي للسينما. ولاحقاً أدركت أن من المفيد أن أقول أيضاً «لماذا» أعاني «ومن ذا» الذي يجعلني أعاني. وبالنسبة الى «حدوتة مصرية» تحديداً، ولدت لدي فكرة الفيلم بعدما اكتشفت أن علي أن أجري عملية قلب مفتوح. وأدركت انني بت على أبواب الموت وراحت تراودني كل تلك الأسئلة: ما الذي فعلته في حياتي حتى اليوم؟ والسينمائي لا يحب، عادة، أن يترك هذا العالم من دون ان يترك وراءه إمارة أخيرة. تماماً مثل خوفو الذي بنى أهراماً لتخليد ذكراه، أو مثل الجار الذي يؤمن بالمثل القائل «من خلّف لم يمت». أنا لم يكن لدي ابن ولا أستطيع أن ابني اهراماً. فماذا أترك ورائي؟ بضعة أفلام.

* «اليوم السادس» (1986)

حققت «اليوم السادس» عن رواية اندريه شديد، أولاً، لأن هذه الرواية كانت تعجبني جداً. وكنت منذ سنوات طويلة أرغب في تحويلها الى فيلم. لفتت الرواية نظري منذ كنت أصور «باب الحديد». ولهذه الرواية على أية حال مدلولاتها لجهة السياسات الخطأ. صحيح ان الاحتلال البريطاني صار جزءاً من الماضي، لكن اليوم هناك الاحتلال الاقتصادي، طالما أننا لم نفهم بعد ما هو الاقتصاد. في كلا الحالين أنت تحت رحمة الآخرين. عندما حققت «اليوم السادس» شعرت بأنه كان عليّ أن اذكّر بالحقوق الأساسية للإنسان. وقد قالت لي أندريه شديد بعد مشاهدتها الفيلم: ليتني كنت كتبت الرواية بعد أن شاهدت الفيلم. أجل ان ما يجمع بين صديقة (داليدا) وتحفة (محسن محيى الدين) في الفيلم هو حبهما معاً للسينما ومشاهدة الآلام. كلنا تربينا على السينما وتعلمنا أشياء كثيرة من خلالها. أنا استغرب جداً كيف أن رؤساء وقادة بلدان يحتلون أعلى المناصب يقللون من شأن السينما، بل حتى يستخفون بها.

* «المهاجر» (1994)

لقد حاول البعض أن يقول ان قصة فيلم «المهاجر» هي نفسها قصة يوسف وأخواته، لكن هذا ليس صحيحاً. لا أقول ان ليس ثمة نوع من التشابه. ومع هذا أؤكد ان «المهاجر» هو بالنسبة إلي استكمال لسيرتي الذاتية. إن المهم في هذا الفيلم، بالنسبة إليّ، هو القرار الذي يتخذه رام، بطل الفيلم، بترك الصحراء التي يعيش فيها، للبحث عن العلم حيث يجده. قرر رام أن يعمل المستحيل لكي يحصل على العلم. وهذا ما حصل معي حين سافرت الى أميركا. أنا تعلمت في أميركا، ولكنني لم أبق في أميركا. عرضوا علي أن أبقى هناك وأعلم، وكنت في تلك الفترة في الثانية والعشرين من عمري، وبالتالي كان في إمكاني أن أبقى هناك وأبدأ حياتي من جديد. ولكنني لم أفعل. قراري كان ان اذهب الى أميركا وأتعلم شيئاً وأعود الى بلادي وأحاول ان أكون مفيداً لشعبي أولاً. لقد كان على الذين زعموا أن ما في الفيلم هو قصة يوسف، ان يتذكروا الفارق الجوهري بين رام ويوسف: فيوسف يهاجر الى مصر ويبقى فيها. لقد قالوا ان هناك تشابهاً بين هذا المشهد في الفيلم، وذاك في حياة نبي من الأنبياء. والحقيقة أن صفع أب لابنه أمر موجود منذ فجر التاريخ!

* «المصير» (1997)

فيلم «المصير» الذي أتى بعد «المهاجر» حققته كما كنت أريد تماماً. لقد قلت لهم منذ البداية انه إذا كانت لدى الرقابة أسئلة تود طرحها عليّ بسببه فلتفعل. فلتقل لي أين تكمن المشكلة؟ إن المثقفين في شكل عام يحاولون دائماً تمرير رسالة تختلف عن رسالة المتشددين. ومصر أمة فيها تنويعة كبيرة من الناس. ومعنى هذا أن المسألة تقوم أولاً وأخيراً في معرفة كيفية تعبئتهم. لكنني خلال المحاكمة التي خضع لها «المصير» خاب أملي كثيراً إزاء موقف بعض السينمائيين الذين لم ألحظ لهم حضوراً خلال المحاكمة. ومع هذا لا بد من أن اذكر أن هناك كتاباً وشعراء وقفوا الى جانبنا. وهذا الأمر كان له تأثير فيّ. وتمكنت حقاً من ان اعكس هذا التأثير في «المصير». لقد أردت في «المصير» أن أذكر بأن الفكر ينبع من الإنسان. ومناقشة ما هي الحضارة أو كيف يتم التواصل بين الناس، أمور تجعلنا نتذكر مسائل قد يحدث أننا ننساها في بعض الأحيان.

* «الآخر» (1999)

لقد فكرت بهذا الفيلم وموضوعه خلال السنوات الثلاث السابقة على تصويره. ورحت أبحث عن كل المعطيات التي يمكن توافرها حول موضوعه. والموضوع هو العولمة التي كنت توقعت سلفاً أنها لن تمر إذا ما بقيت من دون ضوابط. بل ستشكل خطراً كبيراً حتى على الأجيال المقبلة، ويمكن ان تقضي عليها. وهذا ما أردت قوله في الفيلم. وهو نفس ما تعبر عنه التظاهرات الكثيرة التي يشهدها العالم ضد العولمة والتي يقوم بها أناس يفكرون بالأمر كما أفكر أنا. لقد سررت بهذه التظاهرات لأنها كشفت لي انني لست وحدي.

* «الاسكندرية - نيويورك» (2004)

الى حد ما، يتطابق الحلم الأميركي لديّ مع حلم حياتي. كنت في التاسعة من عمري حين اصطحبتني جدتي الى صالة بائسة في الحي الذي كنا نقطنه: كان هناك ثلاثون كرسياً مخلعة من القصب، وفي صدر المكان شاشة صغيرة يبث عبرها عدد من المشعوذين خيالات صينية. هناك، فجأة ومن دون أي استعداد مسبق، حدثت لدي تلك الخبطة العاطفية القوية: اتخذت بيني وبين نفسي القرار بأن أقلدهم وأن أدهش جمهوراً ما. بعد ذلك دخل حياتي عدد لا بأس به من أفلام الكوميديا الموسيقية، الفرنسية أولاً مثل أعمال هنري غارا وليليان هارفي. بعد ذلك جاءت الحرب العالمية الثانية ووصلت معها الكوميديا الموسيقية الأميركية. ذلك أن أوروبا كانت في ذلك الحين معزولة وغير قادرة على ان توصل الينا أفلامها. ومع هذا لا بد من أن أقول بكل تأكيد ان فيلم «الفأس الكبير» لجوليان دوفيفييه، الذي شاهدته أكثر من أربعين مرة، كان هو الفيلم الذي جعلني أتخذ قراري النهائي من دون تراجع. ومنذ ذلك الحين انطلقت، ولم أتوقف بعد ذلك عن الانطلاق أبداً(...). حين كنت أصور في نيويورك، كنت أشعر بسعادة مطلقة. لكنني كنت في الوقت نفسه مأخوذاً بالشخصيات التي أصورها اكثر مما كنت مأخوذاً بالأمكنة.
هذه التوليفة من تصريحات شاهين حول أفلامه، جرى اقتباسها وربطها، بالاستناد الى حوارات طويلة أجريت مع الفنان، ونشرت في كتب أو في مجلات عربية أو فرنسية أو إنكليزية.

الحياة اللندنية في 1 أغسطس 2008

 
     
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2008)