اضغط للتعرف على صاحب "سينماتك" والإطلاع على كتبه في السينما وكل ما كتبه في الصحافة Our Logo
 

    حول الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار   

ملفات خاصة

رحيل العملاق يوسف شاهين

وداعاً شاهين

 

خاص

بـ"سينماتك"

كتبوا في السينما

أخبار ومحطات

سينماتك

ملتيميديا

إبحث

في سينماتك

إحصائيات

استخدام الموقع

 

يـوســف شـــاهــيــن فــي عــيـــون عـــارفــيـــه وأحــبـــائــه:

الأب الروحي الذي يراقص الأفـكار والآمال

هوفيك حبشيان

 
     
  

رحل المناضل صاحب الأعين الثلاث. هذه الأعين التي احداها تزيّن جبينه كحبة الألماس وترافقه ككاميرا مراقبة أينما حلّ. ذات يوم أحد عادي ومملّ أخذ يوسف شاهين (82 عاماً) إجازته النهائية، بعد نحو شهر من الغيبوبة. غيبوبة هي أيضاً حليفة الحال العربية التي كان لها دائماً في المرصاد، ماضياً وحاضراً. "استقال" شاهين في مرحلة لم تعد السينما المصرية في حاجة الى رواد وجبابرة يصدمون ويستفزون ويحرضون، انما الى مهرّجين يزرعون البهجة كيفما اتفق. هذا هو زمن ما بعد المعلّم الاسكندراني! على رغم التعب الذي كان بادياً على وجهه في الفترة الأخيرة، ظل شاهين هذا النرسيس الجميل المتعاظم. على مدار نصف قرن ونيف، كان الرجل كتاباً مفتوحاً، بل قاموساً متنقلاً حافلاً بالمواقف السياسية والفكرية والانسانية الحازمة. سواء في الشاشة أو خارجها. وكانت حياته ثرية، حافلة بالمحطات واللقاءات، بالنزق والترحال. والمجون كذلك. حياة تعبّر عن نصف قرن من تاريخ العرب. ليس العرب فحسب. بل تاريخ العالم برمته، مع أحلامه ومعاناته، الذي كان لشاهين القدرة على اختصاره في لقطة، في لحظة، في وجه، في لون... في كل شيء عبرت فيه كاميراه.

كان هذا الشيخ البهي رمزاً لـ"مدينة منوّرة بأهلها": الاسكندرية. شأنه شأن ثنائيات أخرى من مثل فيلليني - روما أو سكورسيزي - نيويورك، أو فاسبندر-المانيا. هذه المدينة أكثر ما ومن سيشتاق اليه. الى غضبه وعطفه وحنانه. كان شاهين بالاضافة الى هذا كله، سينمائياً سياسياً. كان لعدسته القدرة على استيعاب مكان وشعب من دون اللجوء الى منطق التعميم. أدرك منذ مقتبل تجربته الابداعية أن أمضى السلاح في وجه تسلط العالمية هو أن تكون محلياً. وأن الفنّ الذي له قضية فنية وانسانية، لا بد أن يجد طريقاً سالكة للمرور من شاطىء الاسكندرية - المدينة الكوزموبوليتية التي شرب من مياهها - الى ضفاف كانّ، حيث نال اعتراف الجميع باعتباره أكبر مخرج عربي على الاطلاق.

في كل جديد له، أفصح شاهين عما يجول في فكره. وتجرأ على الحكي في عالم (عربي) اعتدناه غوغائياً صامتاً. لم يلجأ مثل آخرين الى المواربة او الحياد. وعلى رغم الثرثرة والخطابية المباشرة والتطرف في استعداء قادة أميركا، الاّ انه ظل معلماً في تقنية ادارة الممثل واشاعة أجواء ميلودرامية في أعماله. كان شاهين طريفاً ولا يضبّ لسانه، اذ كان في استطاعته أن يشتم جورج دبليو بوش غداة 11 أيلول من دون أن يبدو ثقيلاً، رجعياً، مناضلاً بلا قضية. اعترف مراراً بتمسكه بمبدأ أن القوانين وجدت لتتحطم، وبأن مقابل كل سلطة لدولة وحكومة، هناك سلطة الشعب. وسلطة الفكر. وسلطة الارادة. كذلك، عرف كيف يخاطب النقاد، وكان له بينهم أصدقاء، ولا سيما في مجلة "دفاتر السينما" الفرنسية. خاطبهم على قدم المساواة. متحرراً من عقد ذاك الآتي من شرق محطم. تفهّموه، أحبّوه، وظلّوا الى جانبه حتى في أحلك الظروف. وغنّجوه بـ"جو"! اليوم، جو، هو جل ما يتذكرونه من سينما عربية، انكساراتها أكثر من أمجادها.

كان شاهين روبيسبيير (المتوفى في مثل يوم وفاته) السينمائي، على طريقته المجنونة الفريدة. هذا الذي طالب في وصيته السينمائية، "هي فوضى؟"، بالديموقراطية حلاً وحيداً لمصر وشعبه، سعى الى أن يؤكد مراراً أحقية المصري في العيش بعيداً من الذل الذي يسكنه. على رغم انه لم يكن يؤمن لا بالاصلاح ولا بالعدالة (كان يقول: "مَن مِن قضاتنا العرب سيخضع للاصلاح؟"). من أجل هذا كله، لا نستطيع أن نفصل مساره عن مجمل المعركة التي خيضت ولا تزال تخاض ضد الفساد والرقابة والتوريث السياسي، في العالم العربي، منذ سالف الأيام. خلافاً لكثيرين، لم يمارس شاهين على أعماله رقابة ذاتية ("كل إنتاج فني فيه افكار جريئة مصيره المنع")، فلسينماه مخالب وتدافع عن نفسها بنفسها. فهذه السينما، التي ولدت نتيجة نمو الوعي القومي والآمال المعقودة عليه، لم تقوَ كل أشكال القمع التي تحاصر العقل العربي، على تدجينها واعادتها الى "النظام". في الآتي بعض الرسائل التي وصلتنا من بعض اصدقاء صفحة "أدب فكر فن" عن شاهين.

هـ. ح.  

فيه رغبة لم ألامسها لدى غيره

أعرف جو منذ 20 عاماً، وأظنني أحببته منذ لقائنا الأول، مع أني لم أكن أحب أفلامه كلها. كانت في داخله طاقة حيوية ورغبة في جمع الأفكار والآمال والاندفاعات الفردية والجماعية وجعلها ترقص وتقبّل بعضها بعضاً. هي رغبة لم الامسها لدى غيره. ويبدو لي أن سينماه ثابتة، على مرّ الحقبات والأساليب والأنواع والضغوط المالية والرقابية، وكذلك طاقته التي تتخطى الخير والشر، وهي طاقة أكّدتها شخصية الأحدب في "باب الحديد". جو، صديقنا جو، كان مريضاً منذ وقت طويل. أما السينمائي الكبير يوسف شاهين، فهو حيّ، كما نتمنى أن ينجح جميع البشر في أن يكونوا أحياء.

جان ميشال فرودون

(ناقد سينمائي، مدير مجلة "دفاتر السينما" - باريس)   

يملك فن "عدم الخضوع"

يوسف شاهين، هو ببساطة، هرم من أهرامات مصر الثقافية. انه أشهر مخرج مصري وعربي في العالم بأسره وأهمّهم. أفلامه هي كنز من كنوز مصر الثقافي السينمائي العريق. انه "بوابة" ثقافية عملاقة إلى تاريخ هذا البلد مصر، الذي أنجبنا، وحضارته. أفلامه في مجملها، تنضح عذوبة وحلاوة بحب هذا الوطن، الذي ينتمي اليه باعتزاز، وعشق أهله في بر مصر العامرة بالخلق. أعماله لا تقدّم أعظم "بانوراما"، أو مسحا دقيقا شاملا، لتاريخ مصر الثقافي والاجتماعي والسياسي، كذلك للتطورات والتغييرات التي طرأت عليه فحسب، بل ان أفلاما عملاقة من توقيعه، مثل "الأرض" و"حدوتة مصرية" و"العصفور" و"باب الحديد" و"اسكندرية... ليه؟" و"الناصر صلاح الدين" وغيرها، دخلت تاريخ السينما باقتدار من بابه الاوسع، وتعدّ الآن من كلاسيكيات السينما الكبيرة.

إن جو هو الأب الروحي للسينما العربية الحديثة، بأسلوبه السينمائي الذي استحدثه. وهو المؤسس لهذه "السينما الحديثة" منذ بداية الستينات من القرن الفائت، في أفلام مثل "الاختيار" و"عودة الابن الضال" التي تتجاوز حدود الوطن، وتستشرف - بعد هضم وتمثل - انجازات السينما الحديثة على مستوى المضمون، في أعمال فيلليني وانطونيوني من ايطاليا، وجان - لوك غودار من فرنسا، ورواد "الموجة الجديدة الفرنسية" في أواخر الخمسينات. سينما تستشرف آفاق المستقبل وتتجاوز الحكاية التقليدية المكررة المعادة، لكي تبحر في "سينما الحداثة"، وتدلف الى داخل المياه من دون خوف او وجل.

شاهين المتمرد على كل أشكال القهر والرقابة وظلم السلطة - هذه السلطة التي لم تنجح قط في تدجينه لكي يشتغل لحسابها، هو أيضاً مؤسس تيار "المكاشفة وسؤال الذات"؛ سينما الأنا في "اسكندرية... ليه؟" و"اسكندرية كمان وكمان" ثم في "اسكندرية - نيويورك"، التي تطرح مشاكلها الذاتية والفردية، وتتواصل من خلال هذه المكاشفة تواصلاً جريئاً مع الآخر، وتعانق- حين تنطلق من أسرها - الوجود كله.

سينما المتناقضات هذه، التي يمثلها شاهين، هي سينما سياسية في الدرجة الأولى، لأنها تكشف من خلال أزمة الذات والوطن، بحثا متواصلا عن "هوية"، وهي تستكشف تناقضات المجتمع المصري، في مناخات القمع السياسي والفكري، والديموقراطية المجهضة وغياب المشروع القومي. لذلك، نستطيع القول إن شاهين هو رفاعة الطهطاوي السينما، ليس في مصر وحدها بل في كل أنحاء العالم العربي. ففي حين يعتبر الطهطاوي (1801 - 1873) رائد نهضة مصر الحديثة، يجيء حفيده شاهين من بعده، ليؤسس لـ"رفاعة مصري سينمائي جديد". فبعدما سافر شاهين الى الولايات المتحدة، وعاد منها حاملاً حلم التغيير والنهضة، مثل جده الطهطاوي العظيم، وفرش بساط السينما الحديثة في مصر، وساهم بأفلامه - كما حقق الطهطاوي بنضاله وكتبه وأفكاره وتشييده "صرح" مدرسة الالسن - في دخول السينما المصرية الى عالم جديد، وعصر جديد، وجعلها تتواصل مع العالم.

جرّب شاهين الأنواع السينمائية كلها، وحقق أفلاماً ممتازة ضمن كل نوع، كما كانت الحال مع فيلمه "جميلة" (النوع السياسي المناهض للاستعمار) وفي "بياع الخواتم" و"سكوت... ح نصور" (الكوميديا الموسيقية)، والفيلم الذي انتجته الفنانة آسيا "الناصر صلاح الدين"، وأيضاً "وداعاً بونابرت" و"المهاجر" (النوع التاريخي)، وكلها أفلام شامخة في صنفها. علماً أن سينماه صارت في ما بعد، هاربة من حدود النوع، وأكثر انفتاحاً على كل التصورات والاحتمالات والرؤى، وتالياً أكثر اثارة للمناقشة والجدال.

لم يهدأ شاهين البتة. كانت ماكينته السينمائية مثل الساقية تدور على طول، وكأنها الرئة التي يتنفس منها، وحرمانه منها كان يعني الحكم عليه بالموت. لذلك كان شاهين مشغولا ومهموما دوماً بصنع الافلام، ولم يتوانَ عن النفخ من روحه في نفس تلك الأجيال الجديدة التي نهلت من دروسه وتجاربه وخبراته، من أمثال يسري نصر الله ("مرسيدس")، ورضوان الكاشف ("عرق البلح") وعاطف حتاتة ("الأبواب المغلقة"). هذا الجيل وعى درسه الحداثي وتعلم منه ومن ذكائه. وكانت أفلام شاهين، حتى من دون ان تلتقيه، "كائنات حية" أو "كيانات حية"، مشحونة بالتأمل والفكر، ومعجونة أو بالاحرى مخبوزة في فرن شاهين، هذا الاسكندراني المشبع بالأسى والهم والفن والضجر والتهكم والتمرد. سينماه حملت "هوية" مصر الجديدة، الآن في اللحظة، أساها وهمها، ضياعها وحزنها، كذلك تمردها على اليأس والظلم والقهر. ثم راحت تطوف العالم، فأصبحت سفيرة لنا في أنحاء الدنيا، ومنحت دور الريادة في الفن السينمائي لمصر، وهي تشمخ بـ"الفن" الشاهيني، ومن دون ان يستطيع احد ان ينتزع من مصر هذا الشرف، لأن قدر مصر كان هكذا وسيبقى هكذا.

قدر مصر أن تكون في مقدمة المسيرة، من خلال فنانيها السينمائيين والكتاب والمبدعين. وأن تكون في طليعة النهضة والثورة والتمرد على الظلم، أي في طليعة العطاء والكرم المصريين الاصيلين. وقد كانت مصر منذ أقدم العصور، ومن دون شوفينية مغرضة "ضمير العالم"، كما يذكر بريستيد. مصر تلك الساهرة على إنسانيتنا، وكانت أول من فتح حضنه للمشردين والمنفيين والمعذبين والغرباء في اوطانهم، وحتى داخل جلودهم، وهي تقول لهم أهلاً ومرحباً، وكان ولا يزال هذا دورها وقدرها: أم الدنيا...

تحتاج أفلام شاهين (بالذات) الى أكثر من مشاهدة، ذلك لأنها أفلام تحرض. بعد استمتاعنا بقيمتها الفنية وجمالياتها الخاصة (انظر مثلاً الى تكوين الكادر في أفلامه الذي يحتاج وحده الى رؤية معمقة وتحليل ودراسة مستقلة لا يتسع المجال لها هنا). سينماه تحرض على التفكير، وتحضّنا على التعبير بجرأة مذهلة، بل ولا تستنكف عن الوقاحة في بعض الاحيان، وأيضاً العنف. لكن أليس العنف الواقع علينا، من طرف السلطات والحكومات أكثر قسوة وعنفاً وتوحشاً ودموية من عنف السينما ووقاحتها؟ سينماه علّمتنا منظومة من القيم، لعل أهمها التسامح. أفلام شاهين كانت وستبقى "مدرسة"، مدرسة تشرّع أبوابها لأجيال السينما العربية الجديدة، لكي يتعلموا فيها أبجدية الفن السينمائي، ورهافة الصنعة. يتعلموا فيها ليس فن السينما فحسب، انما "فن عدم الخضوع" أيضاً.

وداعاً شاهين، وداعاً لقطعة شامخة وعملاقة من هذه البلاد التي نعشق، ومؤسسة فنية وسينمائية راسخة، ومتوهجة و"منورة بأهلها"، ومتجددة دوماً بالنماء والعطاء والمعارف الجديدة.

صلاح هاشم

( مخرج وناقد سينمائي - باريس)

المخرج تجاوز شخصه أهمية

هناك شاهين السينمائي وشاهين الرجل. انه شخصية "صوفية" أو "اسطورية" في السينما العربية. أهميته تجاوزت شخصه. كان نجماً بكل ما في الكلمة من معنى. من المصادفة الغريبة أني عندما سمعت بخبر نقله من القاهرة الى باريس اثر الوعكة الصحية التي تعرض لها، كنت قد عدت للتوّ من العاصمة المصرية. خلال وجودي هناك، حاولت أن التقيه. كان ذلك عشية نكسته الصحية. كان ذلك يوم جمعة، وجاء خبر مرضه يوم السبت. كنت برفقة كاتب سيناريو سوري، وقلت له "هيا بنا نذهب نحيي جو". وكان دهمنا الوقت في انشغالاتنا ولم نذهب. الآن أشعر بالندم...

صداقتنا تعود الى بداية الثمانينات. منذ لقائنا الاول تعاطفت معه. اصطحبني الى منزله وكان جد لطيفاً. احببت فيه الرجل الحنون والدافىء والانساني. لطالما دافعت عن سينماه واعتبرته سينمائياً كبيراً. لا شك في أن شريطه الأهم هو "باب الحديد". أنجز الكثير من بعده. وبصراحة لم أتعاطف مع أفلامه الأخيرة. تقنياً، كان بارعاً، ولا سيما في ما يتعلق بإدارة ممثليه. لكن خياراته في مجال القصص لم تلق اهتمامي البتة. على رغم ذلك، يوسف شاهين شأنه شأن نجيب محفوظ لا يمس. قلت سابقاً ان أهمية المخرج شاهين تجاوزت أهميته انساناً. والآن، أقول ان أهميته مناضلاً تجاوزت اهميته مخرجاً. وكان الوحيد بين المخرجين العرب تحول نجماً!

فيليب جالادو

 ( مدير مهرجان "القارات الثلاث" - نانت)   

 

 

3 أسئلة الى...

تعلّم تييري جوس كيف ينجز افلاماً من خلال مشاهدة عشرات المئات منها، حين كان رئيساً للتحرير في مجلة "دفاتر السينما" في تسعينات القرن الماضي. وحين رغب في ترك تجربته النقدية خلفه واجتياز المسافة الى ما وراء الكاميرا، لينجز شريطاً يعكس هواجسه الفنية وطموحاته الابداعية، حمل المولود اسم "اللامرئيات" وجاء من رغبة جوس في وضع عنصر الصوت في مجابهة الصورة. اليوم، لا يعتبر جوس أن الناقد سينمائي مكبوت، اذ يرى أن هذه المهنة حوار مفتوح بين طرفين، صاحب العمل من جهة ومَن يرمي عليه نظرته من جانب آخر.

* هل النقد أفضل مدرسة لتعلّم إنجاز الأفلام؟

- لا أعرف إن كان النقد مدرسة. انه وسيلة بين اخريات. ولكنها ليست الأسوأ. انا من الذين كانوا يرغبون في العمل في السينما قبل الانطلاق في الصحافة المتخصصة. النقد والسينما متكاملان. فليس من سينما من دون نقد وليس من نقد من دون سينما. من المؤكد أن على السينمائي ان يطلع قليلاً على تاريخ هذا الفن. منذ الستينات، دخلنا مرحلة كان السينمائيون فيها سينيفيليين ايضاً. اليوم في فرنسا، ألاحظ ان العديد من السينمائيين ليسوا نقاداً ولكنهم يعرفون جيداً تاريخ السينما. أحب عبارة كان يرددها أريك رومير: "دور المتاحف هو في تجنّب تكرار ما سبق". ولعل ذلك من المفيد ايضاً في السينما لكي لا تكرر الاعمال التي انجزت من قبل. تعتمد السينما على التكرار. وأظن ان الاستلهام من مخرج آخر جزء من تاريخ السينما والفن عموماً.

* انطلقت في النقد من خلال "دفاتر السينما". كيف تقوّم مستوى هذه المجلة العريقة الآن؟

- بدأت عملي عام 1988 على نحو محترف. واصبحت بعد مرور 3 سنوات رئيسا لتحرير المجلة. عندما انتسبت الى هذه المجلة العريقة، كانت مرحلة تغيير اجيال، وكانوا في حاجة الى محررين جدد. لم أكن اصغرهم سناً، ولم اكن متقدّما في السن كذلك. كانت المجلة مكاناً للتعلّم اذ لا ينضم اليها محترفون فحسب. من حسن حظي انني وقعت في مرحلة بدأ فيها الجيل القديم يرحل. في "الدفاتر" جرى تغيير حديثاً. تبدلت الأوضاع بعض الشيء بعدما تولى جان ميشال فرودون ادارتها. لم يعجبني ما حصل في ذلك الوقت، ولا الطريقة التي عولجت بها المسألة. ثم اتى فريق جديد. وكان هناك مرحلة انتقال مؤلمة. ولكن ذلك اصبح من الماضي. فقد مرّت سنوات على ذلك، وقد استقرّت الامور. اليوم، اجد من الصعب اطلاق مجلة للسينما، وقد قلّ عدد القراء المهتمين. لست متيقناً من ان المجلة ستبقى كما كانت، علماً اني لا ارغب في اعطاء الدروس الى نقادها الآن.

* هل في امكانك ترتيب لائحة بأفلامك العشرة المفضلة؟

- من الصعب الاجابة عن هذا السؤال. أظن ان لائحة أفلامي العشرة المفضلة تتغيّر كل 10 دقائق. لكني سأعدد لك بعضها: North By Northwest لهيتشكوك و"قانون اللعبة" لرونوار، و"بيارو المجنون" لغودار. أحب كوبريك ولكنه ليس من السينمائيين المفضلين عندي. ايستوود اميل اليه كثيراً، ولو طلبت مني ان اعطي فيلماً من السنوات الـ20 او الـ30 الماضية، لكنت سأذكر فيلماً لايستوود، فضلاً عن Eyes Wide Shut لكوبريك وفيلم لديفيد لينش وفيلم لفيليب غاريل وغودار. أحب بازوليني ايضاً ولكني لم اكن لأعطي اسمه اولاً. تأثرت في مرحلة ما بأنطونيوني، مع انني تخطيته قليلاً الآن. من اعماله احب "المغامرة" الذي اجده فيلماً مهماً. أحب "بلو أوت" لدو بالما واعتبره واحداً من أجمل اعماله لأنه يعمل فيه على مسألة الحزن وعلى أمور عميقة تتخطى الموهبة. أعشق العديد من افلام دو بالما ولكنه ليس في الضرورة مخرجي المفضل. هناك أفلام قاتمة أحبها كتلك التي انجزها جاك تورنور. يصعب احياناً الربط بين تاريخ السينما والحاضر، على رغم أنه قد يكون هناك علاقة بينهما. هناك مخرجون كبار لا أتأثر بهم مثل تاركوفسكي، ولكني أحب بعض أفلامه ولا أستطيع أن أقول انه ليس مخرجاً كبيراً. لا أحب ايضاً جان - بيار جينيه. لست متعاطفاً مع اسلوبه ويضجرني قليلاً، واشعر انه جامد. وهو مختلف عما احبّه في السينما. أما بيلي وايلدر فليس مخرجي المفضل ولكني أحب فيلمه "حياة تشرلوك هولمز الخاصة" الذي أجده رائعاً وينطلق من مظهر كوميدي ويتجه نحو الحزن. وافضّل الافلام التي صوّرها وايلدر بعد الستينات. اما "فيدورا" فهو فيلم غريب، لم اره سوى مرة، لدى صدوره. ولم احب كثيراً الافلام التي انجزها قبل الستينات لأنها كانت ترتكز كثيراً على الحوارات، ما لم يكن يستهويني في السينما.

تييري جوس  

خارج الكادر

ملك المغرب سينيفيلياً

ومطار اسطنبول سجناً

في كل مرّة تقلع الطائرة من مطار محمد الخامس، أشعر بنكسة. وبحرج شديد. أكاد أغصّ. انه حرج يقيم في داخلي. حرج ينم عن عدم القدرة على البوح. البوح بما رأيته وعشته وكنت شاهداً حياً عليه. بوح بعدم القدرة على ايجاد الكلمات المناسبة لأقول غضبي ودهشتي ومشاعري المتناقضة (وإن وجدتها، يبقى هناك الخوف من أن لا يصدقني أحد). لأقول، أيضاً وخصوصاً، حبي، الذي ما ان ينتهي حتى يبدأ من جديد، أقوى مما كان عليه من قبل. حبّ لأماكن ووجوه وأنامل وروائح. بدءاً من رائحة المنشفة في غرفتي، وصولاً الى رائحة الخس المغروس في أرض افريقيا الخصبة. أرض تجرحني عزلتها ونفيها الى ايقاع آخر.

ليس المغرب بالنسبة اليّ مراكش أو "كازا" أو الرباط. انما طنجة وطنجة فقط. وليس كل طنجة. بل الواجهة البحرية المطلة على مضيق جبل طارق، حيث يخيل الينا أننا على حافة العالم. وأيضاً بعض الملاذات الآمنة التي أذهب اليها ولن أكشف عن عناوينها لئلا يسبقني اليها أحد. وفي طنجة مهرجانان سينمائيان، وهو عدد المهرجانات التي تعقد في بيروت، أو أقل لأن "أيام بيروت السينمائية" لا يعقد الاّ مرّة كل سنتين. أحد هذين المهرجانين تيمته الفيلم المتوسطي القصير، والثاني يعنى فقط بالفيلم الوطني. مهرجانان في مكان فيه درجة عالية من الفقر والأمية. لكن، كل مكان فيه هذا الاهتمام بالسينما لا يمكن أن يكون فقيراً وأمياً الى هذا الحد. لا أعرف أين قرأت أن ملك المغرب محمد السادس اختير واحداً من أهم الشخصيات السينمائية لعام 2007. في البداية، ضحكت ولا أزال أضحك، ذلك لأني لا أؤمن بزواج المصلحة بين السلطة والحرية. فآخرها الطلاق أو الهجرة. لكن، في حال المغرب، وفي ظل الجهود التي يبذلها المركز السينمائي المغربي، فهذا استنتاج متسرع. لأن هذا البلد لديه اليوم حاكم سينيفيلي. ونحسده على ذلك.  

***

كان ينبغي لهذه الزاوية ان تروي اعادة اكتشافنا للسينما التركية. تكملة لرحلة البحث عن مذاقات سينمائية مختلفة، عبر قارات ثلاث: أوروبا (تشيكيا، الاسبوع الماضي)، أفريقيا وآسيا. ثلاثة أمكنة جاءتنا منها اشارات الى احتمالات سينمائية. لكن رحلتنا توقفت عند الحدود التركية، ذلك ان خطأ سخيفا يتعلق بالتأشيرة حال دون دخولنا الى اسطنبول ومن هناك الى أضنة، حيث المهرجان الذي كنت قد دعيت اليه. لم ترد الشرطة ان تفهم أني في هذا البلد، من أجل ان أحكي عن ثقافته وأنسى الباقي. ولم يشفع بي لا كتاب أورهان باموق ("أحمر") الذي كنت أحمله في حقيبتي ولا كتالوغ المهرجان وعليه صور لأهم عشرة أفلام تركية كان المهرجان سيستعيد عرضها. لا أستطيع أن أقول إني عوملت كما عومل المهرّب الأميركي في فيلم آلن باركر الشهير، "قطار منتصف الليل". لسبب بسيط: بدلاً من المخدرات، كنت أحمل معي صوراً لأفلام، معتقداً أن الاطلاع الجيد عليها يعفيني من الواجب الرسمي والاداري. لكن كان يمكن هؤلاء أن يكونوا أكثر انتباهاً الى ما كنت أريد قوله، لأنه كان مهماً على ما أعتقد. في النهاية، لم أندم على هذا الخطأ. ورب ضارة نافعة. فخلال الساعات العشر التي أمضيتها في سجن المطار، تعرفت الى مهاجرين من نيجيريا، حط رحالهم هنا، لسبب أيضاً تافه ليس بعيداً عن السبب الذي تم توقيفي من أجله. فكان مصيرهم مثل مصيري، انتظار الرحلة المقبلة لتحويلنا الى المكان الذي جئنا منه. تعرفت أيضاً الى برتغالي زجّته الشرطة التركية في زنزانة لأن تأشيرته قد انتهى تاريخ صلاحيتها، على رغم أن الرجل كان خارجاً من البلاد. ما أدهشني أنه يعمل ميكانيكيا في سلاح الجوي التركي. وجعلني أرى الصور التي تثبت ما يقوله على حاسوبه الآلي المحمول.

انتظرت أكثر من شهر قبل أن أقرر أن أكتب عن هذه الحادثة. أنتظرت كي يهدأ غضبي. ولكن، لا أعرف كيف كنت عوملت لو أن الحادثة نفسها جرت في فرنسا أو في بلد أوروبي آخر. طبعاً، كنت أعرف حقوقي، ولم أتوان عن الاستنكار والاحتجاج، وأحياناً بصوت عال. وأعلم أن الرد كان سيكون عنيفاً، لو لم أتراجع وأعد حتى المئة لا بل حتى الألف، في ذلك اليوم، في مطار اسطنبول. في المحصلة، وضع اسمي على اللائحة السوداء ولن استطيع زيارة تركيا أبداً. الا اذا دخلت يوماً الاتحاد الاوروبي، وهذا ما يأمله الاتراك بشدة. وهي ربما لن تدخله أبداً، علماً أن سينماها دخلت في أحايين كثيرة، لغة وأفكاراً وتجديداً للتيمات واسلوباً في المعالجة. أحياناً يكفي اسم أو اسمين كي تخرج سينما احد البلدان من البيئة التي هي فيها الى بيئة أكثر تقدماً وأكثر اهتماماً بالحداثة وما بعدها. ويكفي مشاهدة فيلمين، أحدهما "ثلاثة قرود" والآخر "حافة الجنة" لتدارك ذلك. أما الفيلم الذي عشته أنا في تركيا، فكان تركياً قلباً وقالباً.

هوفيك حبشيان

(hauvick.habechian@annahar.com.lb)

النهار اللبنانية في 1 أغسطس 2008

 
     
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2008)