اضغط للتعرف على صاحب "سينماتك" والإطلاع على كتبه في السينما وكل ما كتبه في الصحافة Our Logo
 

    حول الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار   

رحيل العملاق يوسف شاهين

 

وداعاً شاهين

 

خاص

بـ"سينماتك"

كتبوا في السينما

أخبار ومحطات

سينماتك

ملتيميديا

إبحث

في سينماتك

إحصائيات

استخدام الموقع

 

يوسف شاهين..!!

بقلم: حسن خضر

 
     
  

1-

يحضرني الآن مشهدان من فلمين ليوسف شاهين. في "وداعا بونابرت" يهرع فرسان المماليك لملاقاة الفرنسيين الغزاة: ثيابهم مزركشة، سيوفهم لامعة، خيولهم أصيلة، وحماستهم واضحة، لكن ثمة ما يعكر صفو المشهد، ففي الخلفية بيوت مهدمة وخرائب، في الجو فوضى أكثر مما تحتمل الحرب، وفي سلوك الفرسان، وبعضهم قصير القامة، ومترهل الأطراف، ما يوحي بأن المفارقة تحتمل، أيضا، كوميديا سوداء.

المفردات البصرية التي تكوّن المشهد تفصح، أيضا، عن لغة يوسف شاهين السينمائية، وعن رسالة يصعب تجاهلها: بالرغم من مهابة خارجية مفتعلة إلا أن عالم المماليك ميت، ومشهد الحرب جنازة غير مهيبة لعالم في طور الانقراض. وفي المقابل ينم مشهد الطوابير الفرنسية عن ضبط وانضباط، وتعلن مدفعيتهم ميلاد الأزمنة الحديثة، على الأقل بقدر ما يتعلّق الأمر بعالم ميّت.

أما المشهد الثاني في "اسكندرية ليه" فيتمثل في شبح تمثال الحرية الأميركي، أوّل ما يراه المهاجرون إلى العالم الجديد، والذي أهداه الفرنسيون للأميركيين تكريسا لقيم الحرية والإخاء والمساواة. نرى الشبح من جهة الماء، يبدو غامضا وطافحا بالوعود، على صفحة مياه داكنة، في مشهد معتم. وكلمنا اقتربنا (اقترب المهاجرون، والباحثون عن الحرية في العالم الجديد) من الشبح في ما يشبه السرد البصري، تزداد ملامح التمثال وضوحا ليتحوّل في النهاية إلى وجه لامرأة متصابية تنفرج شفتاها عن ابتسامة يمتزج فيها الفجور بالسخرية.

مرّة أخرى، لا نملك سوى التوّقف أمام المفردات البصرية، فالعالم الجديد ليس جديدا تماما، وخيبة الأمل هي ما ينتظر الباحث عن الحرية على شواطئ بعيدة. أو، على الأقل، هذا ما يبدو في نظر مخرج عربي في العقود الأخيرة من القرن العشرين.

2-

بين المشهدين قاسم مشترك يتمثل في استعادة حوادث تاريخية، واستنطاقها بطريقة جديدة. فالحملة الفرنسية كانت غزوا من وراء البحر، لكنها كانت مجابهة بين عالمين أحدهما في طور الركود والآخر في طور الصعود. وهي، بهذا المعنى، لا تقبل الاختزال بطريقة متعالية تحوّل التحديث القسري إلى مديح للحضارة (أي تتبنى خطاب الرجل الأبيض) ولا تتجاهل الركود احتراما (أو ابتزازا) لمشاعر الضحية (وهذا خطاب القوميات الرومانسية). وبالتالي التعامل مع الحملة الفرنسية من خلال مفاهيم الخير والشر، والجلاّد والضحية، يقلل من القيمة التاريخية للحدث، ويُسطّح التاريخ.

وبالقدر نفسه، فإن خيبة الأمل التي تصيب الباحث عن الحرية على شواطئ بعيدة، لا تنفي حقيقة أن أميركا نفسها ظاهرة متعددة الطبقات ومعقدة، أضافت الكثير إلى ثقافة العالم وصناعته وتجارته وفنونه، ومثلت تجربة فريدة في السياسة والحكم. وهذا، أيضا، بعض ما رآه يوسف شاهين في التجربة الأميركية التي لم يتحوّل بفضل انتقادها إلى عدو في صفوف أعدائها. وبدرجة أكبر لم تزرع خيبة الأمل في ذهنه وهم العودة إلى الجذور.

في اليومين الماضيين، وبعدما شاع خبر وفاته، أعادت وكالات الأنباء والصحف بعبارات متشابهة تقريبا نشر معلومات مفصلة عن حياة يوسف إدريس ومشروعه الإبداعي الكبير. وليس ثمة ما يبرر إعادة تلك العبارات، أو حتى المعلومات الأساسية حول أفلامه ومواقفه السياسية، وذائقته الفنية، وما أثار من قضايا وخلافات كانت أبرزها مع الأصولية والأصوليين. فلن يعدو الأمر في حالة كهذه النقل عن الآخرين. المهم أن نفكر في ظاهرة يوسف شاهين الإبداعية، ومواقفه الفنية والسياسية (وهو ظاهرة فريدة في تاريخ السينما العربية) بطريقة جديدة.

3-

وأعتقد أن العودة إلى إدوارد سعيد قد تساعدنا على التفكير في ظاهرة يوسف شاهين. في "خارج المكان" يتكلّم سعيد عن عالم القاهرة، والإسكندرية، الكوزموبوليتي، المتعدد الثقافات والأعراق، الذي أطاحت به الناصرية، ضمن عوامل أخرى كثيرة، في النصف الثاني من القرن العشرين. وقد نشأ يوسف شاهين في إطار ذلك العالم، وكان بكثير من المعاني نتيجة إبداعية لامتزاج أعراق وثقافات مختلفة (كما هو الأمر بالنسبة لسعيد نفسه).

لا شك بأن ذلك العالم أثار وما زال حفيظة القوميين والأصوليين. ولا شك، أيضا، بأنه انطوى على مظالم كثيرة، وعلى تفاوت في توزيع الثروة والحظوظ، ولا شك، ثالثا، بأن نهايته كانت حتمية في سياق صعود الحركات القومية الرومانسية، وحركات التحرر القومي المعادية للكولونيالية. ومع ذلك، فقد ظُلم هذا العالم إلى حد كبير أولا لأنه كان جزءا من تقاليد متوسطية وشرقية أبعد بالمعنى التاريخي من الكولونيالية نفسها، وثانيا لأن القضاء عليه وبطريقة قسرية في أغلب الأحيان حرّم المجتمعات المعنية من ديناميات ثقافية كانت مصدرا لحيويتها الثقافية والفكرية، وجزءا عضويا من نسيجها الاجتماعي.

المهم أن يوسف شاهين (الذي انحدر من أبوين جاءا من مكانين مختلفين، وتعلّم أكثر من لغة، وتأثر بأكثر من ثقافة، وانتسب إلى أكثر من مكان) كان نتاجا إبداعيا إذا صحت العبارة لهجنة طبيعية وعضوية في ما أطلق عليه ألبرت حوراني في وقت لاحق تسمية "العصر الليبرالي العربي"، الذي كان يبّشر بانخراط العرب (أو الحواضر) في الأزمنة الحديثة بأقل قدر من الألم.

والمهم، أيضا، أن المثقف العلماني في النسق الثقافي والسياسي العربيين وُلد في سياق تلك الهجنة، وولدت معه الحركات القومية الرومانسية، بفرعيها اليساري والمحافظ، أي كل ما شكّل المخيال السياسي والثقافي (وخارطة الطريق الحضارية، إذا شئت) للحواضر العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى العقود الأخيرة من القرن العشرين. وفيها ومعها وبفضلها تبلورت ملامح الثقافة العربية الحديثة.

4-

ولا يعنينا، الآن، كيف وصلت الحركات القومية الرومانسية إلى طريق مسدودة، وكيف انهارت الحواضر، بل الانتباه إلى حقيقة أن الأصولية نشأت، أيضا، في السياق نفسه، ومثّلت اقتراحا مغايرا ومعاديا لما أسمته بالجاهلية الجديدة.

لهذا السبب، ومع وصول الحواضر إلى طريق مسدودة في الثلث الأخير من القرن العشرين، وصعود الأصولية، تحوّل يوسف شاهين إلى أفلام السيرة الذاتية، وانسحبت واقعيته الاشتراكية إلى المقاعد الخلفية. في تلك الأفلام عاد صاحب "الأرض" و"سكة الحديد" إلى مساءلة التاريخ والنبش في الذاكرة، في محاولة لانتهاك ما لم يُنتهك من قبل، واكتشاف ظلال في مناطق تبدو ساطعة الضوء، وعتمة في رابعة النهار. وهذا ما جعل وما سيجعل منه (على غرار إدوارد سعيد) نموذجا للمثقف والفنان العلماني، العربي، المهجّن، في زمن كثرت فيه الإجابات وقلّت الأسئلة.

* كاتب فلسطيني يقيم في برلين

Khaderhas1@hotmail.com 

شبكة الإنترنت للإعلام العربي في 28 يوليو 2008

 
     
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2008)