|
ما الذي يخلق الشعور بالفتور تجاه تجربة سينمائية من
المفترض أن مهمتها الإبداعية أن تولد قدرًا لا بأس به من المشاعر الحية
والمؤثرة في وجدان المتلقي؟
هل هو التوقع؟ أي سهولة إخضاع الأحداث إلى منطق يُفقدها
دهشة المفاجأة، وما يليه من سريان الفتور وهشاشة الأثر؟ ولكن ثمة أعمال
يسهل التنبؤ بمساراتها الدرامية، ورغم ذلك تظل تحظى بقدر لا بأس به من
الدهشة!
يبدو أن فيلم
«هابي
بيرث داي» أول
أفلام المخرجة سارة جوهر، وهو من كتابتها وزوجها محمد دياب عن قصة للأخوين
دياب، يقع ضمن تصنيفات النوع الأول من التجارب؛ الأفلام التي لا يسهل فقط
توقع أحداثها، بل وتفتقد أيضًا إلى سخونة المشاعر وحلاوة التأثير الوجداني
المفترض أن تولده رحلة فتاة صغيرة قادمة من عالم الفقراء للحصول على شمعة
عيد ميلاد تدعم حقها في أن تتمنى.
الفيلم الذي افتتح الدورة الثامنة لمهرجان الجونة السينمائي
هذا العام، وحاز عدة تكريمات أبرزها ثلاث جوائز رفيعة في مهرجان تريبيكا
ومنها جائزة السيناريو، هو فيلم محير جدًا. يلتزم بالمبادئ الدرامية، لكنه
– في الوقت نفسه- يفتقد للروح الحية. يتحرك ويتصاعد لكن بلا نبض. دراما
مبطنة بكاتم صوت شعوري غير مفهوم!
دراميًّا، يلتزم الفيلم بوحدة زمن ومكان وموضوع، حيث تدور
الأحداث في يوم واحد فقط هو يوم عيد ميلاد ابنة العائلة التي تعمل عندها
الطفلة توحة، في نطاق مدينة القاهرة المقسمة طبقيًّا ما بين كومباوندات
الأغنياء – حيث تسكن العائلة – ومساكن فقراء الهامش حيث تقيم عائلة توحة
التي تعمل في مهنة صيد السمك من الترع المحيطة بما تبقى من ظهير العاصمة
الأخضر المتآكل.
أما الموضوع فهو رغبة توحة في أن تطفئ شمعة عيد ميلاد كي
تحصل على أمنيتها الخاصة، والتي تتسع في المشهد الأخير من خلال عيني الطفلة
فلا نعود ندري طبيعة أو حجم الأمنية بالضبط.
كل هذا سليم دراميًّا، خصوصًا لو فككنا رحلة توحة عبر هذا
اليوم إلى عناصرها الأولية؛ فلدينا شخصية واضحة الأبعاد – طفلة في العاشرة
تقريبًا من عمرها، لديها طاقة حركة تفوق جسدها الصغير وذكاء لافت وأسئلة
كثيرة عن العالم. قادمة من بيئة شديدة الفقر وبيت مكتظ بالإخوة وأم تتحرك
كأنها جثة خشنة الصوت والروح والنظرة. هذه الفتاة / البطل يحركها هدف واضح
وهو الحصول على أمنية عيد الميلاد، لكنها تتعرض لأزمة تعترض حصولها على
الهدف، وهو استبعادها من منزل مخدومتها بسبب نفس المناسبة التي تنتظرها:
عيد ميلاد صغيرة العائلة الغنية المدللة، وحذر العائلة الثرية من أن تنكشف
استعانتها بطفلة صغيرة في الخدمة المنزلية الشاقة.
وبينما تحاول الطفلة أن تجتاز أزمة الاستبعاد مثل كل بطل
درامي، يستعرض لنا السيناريو بيئتها ومجال عيشها اليومي، مقدمًا لنا مقطعًا
من البنية الطبقية لمصر الحالية، حيث الفارق المرعب بين الكومباوند والعشش
العشوائية التي لا ندري كنهها، وبين المول والسوق الشعبي، وبين العربات
الفارهة ورمز الطبقة الشعبية في مصر الجديدة: التوك توك.
صحيح أن المقارنة تبدو نمطية ومدرسية وأشبه ببحث الحالة
الذي تقوم به الشؤون الاجتماعية، لكنه يظل ضمن إطار المنطق الدرامي فيما
يتعلق بتمزق توحة ما بين عالم مخدوميها ودنيا أسرتها، إلى أن تتعرض توحة في
محاولتها لتجاوز الأزمة إلى ما يطلق عليه الكارثة. فما كانت تظن أنه مؤامرة
من أسرتها لإبعادها عن منزل العائلة الذي تعيش فيه سعيدة وحالمة ترى ما لا
يخطر على قلب أي من أخوتها، وبعد أن تبذل كل ما في طاقتها الغضة لكي تعود
إلى الكومباوند عشية الحفلة، تكتشف أن المؤامرة الحقيقية لم تُحِكها أسرتها
ولكن رسمتها أسرة مخدوميها، وأنهم المتآمرون الأساسيون على استبعادها من
تحقيق هدفها البسيط والمهم: أمنية عيد الميلاد.
نحن إذن أمام تجربة مهندسة دراميًا بشكل صحيح، رغم أن الفن
لا يوجد فيه صحيح وخاطئ، ولكننا نتحدث عن الالتزام بمبادئ البناء الدرامي
الأقرب لخلق عمارة قصصية مدعومة بالمنطق والسلامة الإنشائية.
لكن يظل هناك مسألة أن الدراما ليست بناية ثابتة الأركان
بواجهة زجاجية لامعة، بل هي حالة متحركة مطالبة بالتأثير، وطاقة مهمتها أن
تولد شحنة شعورية هدفها أن نتجاوز الملموس والمفهوم إلى المحسوس والنابض
والمختلف في تأثيره.
تبدو رحلة توحة متوقعة كما سبق وأشرنا. لكن أزمة الشعور لا
علاقة لها بإحباط المتلقي وفقدان شهية المفاجآت، فالفيلم تقريبًا بلا أي
مفاجآت من أي نوع، أي دون منحنيات أو انقلابات درامية قوية أو قابلة لبث
الهزات في نفسية المشاهد. المعلومات في البداية تأتي سهلة وخاملة بسبب
اعتماد السرد على الحوار، خصوصًا في الفصل الأول الذي نتعرف فيه على وضع
عائلة نيللي الصغيرة – المقابل الطبقي لتوحة – وكيف أن أمها انفصلت مؤخرًا
عن أبيها وتسعى لأن تستعيده مستغلة عيد ميلاد ابنتهما.
هذا التوافر المعلوماتي وسهولة الترتيبات: خروج الأم مع
توحة لشراء مستلزمات عيد الميلاد، ولضمان تقديم بحث الحالة الاجتماعية
المشار إليه، مع قليل من إبراء الذمة الطبقي من قبل الأم التي تحاول إنصاف
خادمتها الصغيرة ظاهريًا بجعلها تبدو مثل ابنتها. لكن المقصود بالطبع هو أن
ترفع عن نفسها تهمة عمالة الأطفال التي تهددها بها واحدة من بائعات الملابس
التي ترفض أن تقيس توحة فستان عيد الميلاد بدلًا من نيللي الموجودة في
مدرستها.
ربما يقل العرض الحواري للمعلومات والخلفيات في الفصل
الثاني لصالح عرض وضع وطبيعة أسرة توحة، في مشاهد البحث عن وعاء بلاستيكي
لجمع السمك، أو مشاهد الصيد البدائي في الترعة أو الريَّاح الذي تسترزق منه
أسرتها. إلى أن نأتي إلى مشهد حشو جلباب قديم للأب بالقش لصناعة خيال
مآتة/فزاعة – لا ندري على وجه التحديد فيم تستخدمها الأسرة التي تعتاش على
صيد السمك، ولكن على ما يبدو أنها تُصنع من أجل تخويف الطيور كي لا تلتقط
الأسماك المحفوظة في الماء تمهيدًا لبيعها. وهو استنتاج تقديري لأن
التفصيلة مهمة لكنها لم تُقدم بخلفية واضحة للمشاهد غير الملم بطبيعة حياة
الأسرة أو مهنتها.
أهمية التفصيلة هي أنها تعطي هذا الانطباع باليتم الذي
يُفترض أن توحة تشعر به، رغم أن السرد لم يوضح لنا في أي محطة من الرحلة أن
يتمها الأبوي يمثل لديها علامة فارقة.
بدت مسألة الأب الغائب المستبدل بفزاعة محشوة بالقش تفصيلة
شعورية دخيلة على نفسية وعالم توحة الخيالي النابض بحركة مستمرة تجاه عائلة
نيللي، وهي عائلة بلا أب هي الأخرى بسبب الانفصال الذي لا تعيه لا توحة ولا
نيللي نفسها. وكأنها حلية شعورية أو زخرف نفسية أراد الصناع أن يعمقوا به
من وضعها المأساوي عبر استحضار أحد أبرز عناصر الميلودراما الشعبوية
المصرية: اليتم بفقدان الأب.
التكريس السردي كله يذهب باتجاه أن توحة تعاني من شعور هائل
بالتلاشي الطبقي في مقابل حياة نيللي التي تماثلها في العمر، وتطعيم هدفها
بمسألة اليتم لم يكن مفيدًا بالمناسبة، بل بدا نوعًا من المزايدة
الميلودرامية وخلق المزيد من التقابل والتضاد ما بين عالمها وعالم نيللي –
الذي هو بالمناسبة فاقد للأب هو الآخر، إلا إذا كان صُناع العمل يرون أن
مجرد هدية غالية من الأب تُمنح لنيللي يعني أن أباها موجود، فكل من نيللي
وتوحة تعانيان من درجة من درجات اليتم؛ واحدة بسبب الموت والثانية بسبب
الانفصال، وكلتاهما لا تدركان معنى هذا اليتم في سنهما المبكرة هذه.
وتقودنا مسألة النمط أو السهولة الميلودرامية إلى توقع رد
فعل عائلة نيللي عندما يكتشفون عودة توحة وانضمامها إلى مجموعة الأطفال
المحتفلين بنيللي، مع إشارة طبقية إلى أن نيللي ترفض ارتداء توحة للفستان
القديم الذي كان هدية من أبيها المتغيب عن المنزل مؤخرًا، وهو رد فعل طبيعي
بالنسبة لطبقية العائلة وعادي ومتوقع وبلا أي مفاجآت أو انقلابات.
هذه العادية الهندسية تفتقد إلى أي ذروة شعورية مغايرة،
تحيل الأمر إلى مجرد التأسِّي ومصمصة الشفاه تعاطفًا مع البنت الصغيرة
المنسحقة طبقيًا بسبب ظروف لم تخترها. وعندما نراها تعيد ارتداء إيشارب
الخادمة لتعود إلى موقعها الطبقي إما لرغبتها في أن تستمر في العيش مع
العائلة لترى وتسمع وتأكل وتعيش حياتهم المستحيلة بالنسبة لها! أو لأنها
رغبت في تحقيق انتقام طفولي من الأم والجدة اللتان وبختاها على العودة
فقررت أن تظهر كخادمة أمام الأب، لأنها تعرف بشكل ما أنه سوف يرفض وجودها
بعد ما سمعته من الأم والجدة في الصباح.
هنا تحديدًا تجلت أزمة الفتور الشعوري لهذه التجربة. كل
العناصر تجبر المتفرج على أن يشعر بما يجب أن يشعر به: التعاطف، الشفقة،
العجز أمام القدرة على تغيير حال البنت وأمثالها، كراهية الطبقية، وذم
الفوارق الاقتصادية الهائلة. وكأننا أمام فيلم تنموي يستعدي الجمهور ضد
عمالة الأطفال أو يؤنّب ضميرهم تجاه وضع توحة المذري. وهو ما يصلح كمقطع
دعائي لصالح صندوق دعم الفقراء وليس كحالة سينمائية ذات توجه أكبر من مجرد
الذم والتعاطف.
ما فعله الفيلم أنه فسر الماء بعد الجهد بالماء، فمن
البداية ونحن متعاطفون ومشفقون ومنحازون لتوحة ولائمون لوضعها الأسري،
وكارهون للفارق الطبقي الهائل عن نيللي. وفي النهاية لم يتغير موقفنا ولم
نكتشف أي جديد ولم تتوالد بداخلنا أي تناقضات أو صدمات أو هزات شعورية
وذهنية تفيد إعادة النظر إلى كامل القضية أو تكشف لنا عن جوانب شعورية
جديدة في دواخلنا، أو تحقق نوعًا من الانتصار الطبقي – ولو بسيطًا- لصالح
إعادة شحن حالتنا المزاجية بالأمل الذي لن يتجلى في الواقع، كما هو الحال
في أفلام انتصار البطل الضعيف على قوى الشر المستحكمة لصالح تبطين قلب
الجمهور ببرد الحلم المستحيل.
بدأ الفيلم بهدف لتوحة أن تحصل على شمعة عيد الميلاد من أجل
أمنيتها وانتهى بحصولها على الشمعة دون أن ندرك ماهية الأمنية، ودون حاجتنا
لذلك. فهل كان هذا كافيًا لكي نتابع الرحلة شعوريًا؟ ومن قال إن تحقق الهدف
في مثل هذه الرحلات الدرامية هو المنتهى المنشود؟ خاصة لو كانت الرحلة
نفسها مكررة وبلا جد ولا جديد.
تجربة “هابي بيرث داي” تعتبر نموذجًا تحذيريًا من إعادة
إنتاج النمط دون طزاجة شعورية أو انقلابات حارة وجارفة تغير من النظرة
النفسية المقولبة لدى المتلقي، تجربة أخلصت للميلودراما التقليدية ففقدت
إمكانيات فتح قنوات تواصل بين قلب المتفرج وتفاصيل الحكاية، وبين وعيه ولا
وعيه، وبين المعلوم والمخفي في رحلة الفتاة الصغيرة.
فتأكيد المعلوم هو إخفاق إبداعي وغموض المخفي أو غيابه هو
الخسارة الفنية بعينها. |