|
بعد أول عرض عالمي لـ"كولونيا (عطر أبي)" في مسابقة 1 – 2،
بالدورة
41 (10 ـ 19 أكتوبر/تشرين الأول 2025) لمهرجان وارسو السينمائي الدولي،
كان حوار مع مخرجه المصري محمد صيام، تناول تجربته الروائية الأولى، بعد
إنجازه وثائقيين مهمّين: "بلد مين؟" (2016)، و"أمل" (2017). كما أنّ عرضه
العربي الأول حصل في الدورة الثامنة (16 ـ 24 أكتوبر/تشرين الأول 2025)
لمهرجان الجونة السينمائي.
عبر دراما نفسية مشغولة جيداً بمستوياتها المختلفة، يتناول
"كولونيا" العلاقة الشائكة بين عمر (كامل الباشا) وابنه فاروق (أحمد مالك)،
في ليلة طويلة يُمضيانها معاً، بعد عودة الأب من المستشفى إثر غيبوبة
طويلة، وقبيل ساعات على وفاته.
·
(*)
بعد كتابتين، مشتركة وفردية، تعود إلى الكتابة المشتركة، مع
السيناريست أحمد عامر. أتفضّل الكتابة الفردية، أم المشاركة؟ أتترك مساحة
للسيناريست، خاصة في فيلمٍ شخصي مثل "كولونيا"؟
السينما عمل
جماعي. لكنّ الكتابة متعة ذاتية عندي. أعشقها كثيراً. أحياناً، تضجر من
سماع صوتك الداخلي. المشاركة في الكتابة متعة أكبر. تضيف إلى أفكارك
المسجون فيها، ووجهة نظرك الأحادية. لكن، في النهاية، لا بُدّ من وضع بصمتي
الخاصة.
في "كولونيا"، القصة والمعالجة والنسخ النهائية للتصوير لي.
لكن السيناريو مكتوبٌ بمشاركة عامر، الجيّد في صوغ بنية درامية وحوارية
مثالية. لذا، كانت الاستعانة بموهبته.
·
(*)
إقحام الموسيقى والأغاني وغيرهما في السياق الدرامي من المثالب المتكرّرة
في الأفلام المصرية، والعربية أيضاً. بينما اختيارك وتوظيفك لها أصيلان
وغير مُنفِّرين.
هذا مُلاحظٌ فعلاً في السينما العربية كثيراً، ومن دون
لزوم. طبعاً، هناك استثناءات. لن أخوض في الأمر. وفي رأيي، شريط الصوت
والموسيقى لا يتجزّآن عن عملية الكتابة. وضعتهما لخدمة الدراما. كأنهما جزء
ذاتي يمسّني شخصياً.
بعيداً عن الأغنيات، فكرة مشاهدة التلفزيون طقس
عائلي: الجلوس معاً، سيادة الصمت، بينما يغرق الجميع في عوالمهم أو صمتهم،
عند انقطاع الحوار والتواصل. هذا قصدته في "كولونيا". ولأنّ التلفزيون يعمل
الوقت كلّه.
·
(*) "كولونيا"،
وأيضاً "عطر أبي". لماذا الازدواجية في العنوان؟
لا أحب العناوين المتشاوفة أو المتقعّرة أو العربية
الفصيحة. "عطر أبي" صعبٌ على المشاهد. يشبه حوارات أفلام حديثة كثيرة،
مفصولة تماماً عن الواقع المصري، والطريقة العادية للكلام. رغبت في عنوان
يسهل أنْ ينطقه الناس جميعهم، ويتفاعلون معه، ويشبههم. لذا، كان "كولونيا"،
لأن وقعه أخفّ وأسهل على الجمهور العربي. هذا ليس ضد الفصحى أو النخبوية.
للاسم الآخر وقع وفهم مختلفان في الجمهور الأجنبي.
·
(*)
مشهد الافتتاح، الجذّاب والمُبهر تكويناً وفكرة وتنفيذاً وإحالات، يحمل
ألغازاً وإرباكاً وغموضاً، رغم شاعريته، والحلم فيه. كما أنّه يثير أسئلة
كثيرة.
في غالبية أفلامي، حتى الوثائقية،
يحضر الحلم دائماً. الافتتاح أكثر شيء استغرقني. إنّه مفتاح لفهم الشخصية
والتفكير فيها، وفي عوالمها المقبلة منها. الاستعارة والحصان والبانة
والشبح القادم، لكل منها علاقة أكثر بثيمات الفيلم وثنائياته. كالحياة
والموت، والصراع والغضب، وإعادة التجدّد والإيحاء.
مشهدا الافتتاح والختام قوسان، رغبت في تضمين البقية فيهما.
في الوقت نفسه، قصدت أنْ يكون الافتتاح جملة غير مكتملة، أرغب في أنْ
يتفاعل الجمهور معها ويُكملها، بالتقاط المعنى، أو بالإحساس.
·
(*)
لجأت إلى تقنية "فلاش باك"، لاسترجاع الليلة السابقة على
وفاة الأب، وما دار فيها. لماذا فضّلت هذا الخيار الفني عوضاً عن السرد
الخطي؟
بالنسبة إلي، هذه الطريقة أنسب، فأنا مؤمن بأنه، لو أنّ
هناك دراما جيدة وقصة محبوكة، لن يهمّ كثيراً ما ستنتهي إليه، ولن يتسبّب
التقديم أو التأخير بحرقها. فكرة أني أقدم خاتمة في البداية ليست مربط
الفرس، لأني سأبنيها وأسردها بطريقة مختلفة ومغايرة، بعيداً عما انتهت
إليه. مثلاً: هل الابن متورّط في القتل، أمْ لا. هناك أفكار أخرى أيضاً،
مبنية بطريقة مختلفة، ستُعرف بالمُشاهدة، بعكس الطريقة التقليدية في التشويق،
الذي يجعلك تنتظر بلوغ الذروة في النهاية.
·
(*)
في سياقه العام، لم يبتعد "كولونيا" عن أفلامك السابقة: صراع أجيال،
اتهامات مبطنة أو علنية بين الجيلين القديم والجديد، فكرة قتل الأب، وغيرها.
فكرة قتل الأب حاضرة دائماً. ظلّت هاجساً يشغلني. فكرت فيها
كثيراً في الكتابة، ورغبت في تقديمها عبر شخصية فاروق. ربما لهذا مُحمّلة
بالغضب المتراكم والمكبوت فيها. أبرزتها أكثر بالتنابذ الذكوري، واستقواء
أحدهما على الآخر، وتحطيم أحدهما ذكورة الآخر. في حين أنهما يعانيان
انكسارات وهزائم وأوجاعاً داخلية، لها علاقة برجولتهما الجريحة.
·
(*)
أيضاً، هناك عراك واشتباك وتنابذ بينهما. كي لا يكون هذا بالمستوى والنبرة
نفسيهما، قَلَبتَ الأدوار، وتنقّلت بين الصمت والهدوء، فالمصارحة
والمصاحبة، ثم سهولة تقبّل الصدمات والمفاجآت والعنف اللفظي بينهما. من
ناحية أخرى، تعمّدت عدم الغوص في تحديد ماهية الاضطراب النفسي، أو التركيبة
النفسية لفاروق. لكن شخصيته مضطربة نفسياً، أو ليست سوية.
لست من المخرجين أصحاب الأفكار المسبقة. لا أقحم ما لا
يتناسب مع الشخصية والدراما. ما أقدّمه ينبع ويتّسق تماماً مع الشخصيات
التي لا يمكن لسلوكاتها وحواراتها إلّا أن تكون هكذا، وليس لأجندات وأغراض،
أو لاستعراض قدرات.
في الوقت نفسه، حاولت صنع فيلم ممتع
ومشوق. صحيح أنّه عن الكآبة والملل والعنف الذكوري، لكن من دون أن أشعرك
بالكآبة، أو أجعلك تملّ من الفيلم والشخصية، أو تكرههما، أو تضجر من العمل
برمته.
·
(*)
كثرة الحوارات مزعجة سينمائياً، خاصة في السينما العربية والمصرية. تحديداً
لأنها تُكتب بفجاجة ورداءة وافتعال. لكن هذا ليس بفيلمك، الذي اتّسم
بواقعية وصدق شديدين.
أنا أيضاً لا أحب الحوارات،
ولا كثرتها. اختزلتها قدر الإمكان. لكن الفيلم في النهاية حواريٌّ، إن جاز
التعبير، ويقوم أساساً على المبارزة الكلامية بين الابن والأب، للإيذاء
النفسي لا الجسدي، وللرغبة في التحطيم والإذلال وكسب النقاط، وإبراز
التفوّق الذكوري، والتفضّل على الآخر. رغم هذا، اختزلت كثيراً. حتى في
التصوير. مردّ هذا ربما إلى أني قادمٌ أصلاً من السينما الوثائقية.
ينقلنا هذا إلى التصوير، والشغل السينمائي عامة. ربما يبدو
الأمر غريباً للبعض، لكني أراه كالتالي: إن لم تتمكن من تصوير ما ينطوي على
قيمة وهدف وأهمية، الأفضل تخصيص الأموال لمشاريع أخرى تهدف إلى معالجة
الأطفال، مثلاً. تفكير ربما يبدو شيوعياً أو غير سينمائي، لكني أفكر بهذه
الطريقة.
الفكرة كامنةٌ في سيناريو وحوار خاليين من الزوائد. نادراً
ما كرّرت تصوير مشاهد، أو ما سأتخلّص منه لاحقاً. أعرف جيداً ما أريده وما
لا أريده. لهذا علاقة بالسينما الوثائقية أيضاً. لذا، كل مشهد محسوبٌ بدقة.
حتى قبل بدء التصوير، كانت مدة الفيلم معروفة: 90 دقيقة.
·
(*)
أكان سهلاً إدارة الممثلين، وخلق التناغم بين أحمد مالك
وكامل الباشا ومايان السيد، خاصة أنهم من أجيال وخبرات مختلفة، وأنها المرة
الأولى التي يعملون فيها معاً؟
طبعاً كانت هناك مخاوف من البعض، نظراً إلى أني قادم من الوثائقي.
مثلاً، هل سأقدر على إخراج روائي؟ هل أقدر على إدارة الممثلين وتوجيههم؟
إلى مخاوف أخرى. لكنّ الأمر لي ممتعٌ تماماً، خاصة التحدّث إلى الممثلين،
وخلق الحالة. كما أنّ اختياري فريق التمثيل مريح جداً لي، لأنه ساعدني على
عدم بذل الكثير، وتلقينهم ما سيقولونه ويفعلونه. هذا ينطبق مثلاً على مايان
السيد، التي اختيرت من بين كثيرات. اختيارها لبّى رؤيتي عن شخصية متقلّبة
المزاج، وعفوية ومجنونة. تركيبة أظنّها جديدة وفارقة.
حسن الاختيار هذا ساهم أيضاً في خلق حالة تناغم وانسجام
بينهم، وسهّل أموراً كثيرة.
·
(*)
أجواء الإسكندرية وفصل الشتاء وهطل الأمطار، إلى الشوارع
والبحر وغيرها. ألم تخشَ من اتهامك بتكرار مثل هذه الأجواء، أو إعادة
تدويرها، خاصة أنها ليست جديدة في السينما المصرية؟
كلا. حتى بالنسبة إلى فيلم أعشقه، "رسائل البحر" لداود عبد
السيد، تجنّبت تماماً كل ما يربطني به. بالعكس، لم أهتمّ بإظهار الإسكندرية
بحدّ ذاتها، أو تكرار مشاهد وأجواء بعينها. حتى المشاهد تظهر على نحو مختلف
في فيلمي، لم تظهر به قبلاً. همّي الأساسي أن تكون طبيعة الشتاء متطابقة
والشخصية، لا لأني أحب الشتاء والإسكندرية، أو هذه الأجواء. لذا، نجد ثيمة
المياه أو مشاهد المياه، بكافة أشكالها، موجودة في الفيلم،
لا تساقط المطر فقط.
·
(*)
الرؤية البصرية في "كولونيا" مميّزة جداً بتفاصيلها
المختلفة. هل نفّذها المساعدون بالشكل الأمثل؟ هل هناك اقتراحات تبنّيتها؟
بالنسبة إلي، المخرج، أو تلك المهنة تحديداً، حصيلة
اختيارات. أنت من يسأل كل لحظة عن تفاصيل مختلفة، وعليك دائماً أن تكون
حاضراً بإجابات، وأن تكون اختياراتك واضحة منذ البداية. إن لم يكن الأمر
كذلك، فسيتصرف الجميع وفقاً لأهوائهم. لدي أجوبة كل الوقت. هذا دوري أصلاً.
الأمر نفسه بالنسبة إلي: للمخرج اختيارات ورؤية وتصوّر
وألوان وحركة وإيقاع وشكل وصورة، أي إنه يرى الفيلم قبل تنفيذه أصلاً. مع
ذلك، هناك حرية في طرح اقتراحات من الفريق المعاون: عاصم علي، فنان الديكور
الموهوب، وفريقه في تنفيذ ديكورات الشقة، غير الحقيقية بعكس المتوقع. نيرة
الدهشوري، باختيارها ملابس كل مشهد، رغم أن الأزياء ستكون
نفسها تقريباً الفيلم كله. وطبعاً فريق التصوير.
·
(*)
سؤال تقليدي ضروري ومستهلك: أهناك عودة إلى الوثائقي؟ أخبرتني عن تجهيز
روائي آخر بعنوان "في انتظار الجنة"، من كتابتك.
أعمل على فيلمين روائيين حالياً. وتقريباً سيُصوّران
وثائقياً. لذا، لست بعيداً تماماً عن الوثائقي. سيكون تنفيذهما بنَفَسٍ
واشتغال في قالب روائي. لكنْ، يصعب الفصل التام بين الروائي والوثائقي. في
الوقت نفسه، لم أبتعد كلّياً عن الوثائقي، فأنا أكتب وأشرف على تمويل
وإنتاج ومساعدة في وثائقيات. أمّا الشكل الذي أفضّله، فيستغرق وقتاً طويلاً
من عمري، ويحتاج إلى سنوات لإنجازه. في النهاية، كل فيلم يفرض عليك شكله
وطبيعته وطريقة تنفيذه.
لدي أفكار وثائقية عدّة لتنفيذها. لكن إنتاج الوثائقي في
مصر ليس سهلاً. هناك مشكلات تخصّ الوقت والتفرّغ التام والتمويل، وعقبات
أخرى تعوق إنتاجه مقارنة بالروائي. لا أعرف من يمكنه المغامرة معي بإنتاج
ثلاثة أفكار لدي الآن، أرغب في تنيفذها.
أتمنى فعلاً إنجاز الوثائقي الذي بدأته قبل فترة، عن رحلة
سيزيفية لسائق حافلة نقل عام. |