|
في نهاية فيلم كولونيا أو
“رائحة
أبي”
كما تُرجِم للإنجليزية، يهدي صانع الفيلم الكاتب والمخرج والمنتج المصري
محمد صيام أول أفلامه الروائية الطويلة إلى “كل الآباء”. وهو إهداء يحاول
أن يمنح ذروة الفيلم عمقًا شعوريًا لا يتسق وبنية الفيلم أو شخصية الأب فيه
التي جاءت مُنفِّرة وغير مفهومة وخشنة بلا مبرر.
لكن الإهداء نفسه عن دون قصد، جاء منسجمًا مع تيمة محاكمة
الأب التي تتجلى بوضوح في الأفلام المصرية المشاركة في مختلف برامج
ومسابقات الدورة الثامنة لمهرجان الجونة المقام بين يومي 16 و24 من أكتوبر
الجاري. فمن الأسئلة المعلقة حول رحيل الأب الغامض في فيلم “المستعمرة” أول
الأفلام الروائية لمحمد رشاد، إلى محاولة استيعاب وجودية لمشاعر الخوف من
غياب الأب التي تطلقها المخرجة يمنى خطاب في الوثائقي الأول لها “50 متر”
عبر حوارها الطويل مع أبيها، وإعادة إنتاج حكايات الأم الراحلة عبر محاصرة
الأب في زاوية الذاكرة والتاريخ، وإعادة اكتشافه ككيان مستقل عاش طويلاً في
ظل الأم حتى انكشف عنه رعب الواقع المؤلم بعد غيابها وذلك في الوثائقي
الثاني ضمن مشروع “الهوية والذات” للمخرج نمير عبد المسيح، وصولاً للفزاعة
التي ترتدي جلباب الأب المتوفى المحشو بالقش في استعادة تحاول أن تذهب
باتجاه الشعر قليلًا في
“هابي
بيرث داي“.
نحن إذن في اجتماع مجلس آباء سينمائي لا يمكن تجاهله،
وبالتالي يسهل استعارة إهداء صيام “إلى كل الآباء”، ليكون أقرب لمظلة يصطف
تحتها كل آباء التجارب الأخرى التي تشاركه عروض الفعالية، خاصة وأن هذا
“كولونيا”
هو الفيلم الخامس في سياق محاكمة الأب.
اليوم السابق
بعد أن يبدأ الفيلم بحلم أو رؤيا يرى فيها البطل فاروق
(أحمد مالك) نفسه ملقى على شاطئ البحر وسط أجواء كابوسية زرقاء، يستيقظ على
وجه أخيه الأكبر وهو يسأله (أبوك فين؟) وبعد رحلة بحث قصيرة نكتشف أن الأب
ميت بكامل ملابسه في سيارته التي نعرف فيما بعد أن الابن ولد بها؛ ليبدأ
السؤال الذي تستند إليه الحكاية: ماذا حدث في الليلة الأخيرة بين الأب
وابنه؟
ربما كانت واحدة من مشكلات هذه التجربة الأساسية هو عنوان
“اليوم السابق” الذي يؤطر كامل الزمن الفيلمي تقريبًا بعد الافتتاحية التي
أرادت أن تكون مشوقة وجاذبة، ونعني به (في اليوم السابق)؛ فالسرد في
محاولته للحفاظ على وحدة الزمان: اليوم الأخير في حياة الأب، والمكان:
المدينة الساحلية/ بيت العائلة، يضطر إلى أن يخنق الموضوع بكم كبير من
التفاصيل المنقولة حواريًا بشكل مسرحي جدًا، كي يتمكن المتفرج من التعرف،
ليس فقط على تاريخ الشخصيات المشترك، ولكن أيضًا على أزمة البطل المبهمة
وأسباب الكراهية الغامضة والمريبة التي يكنها له الأب.
والمواجهات الحوارية التي تكثر في أي تجربة من المفترض أنها
تعتمد بالأساس على السرد البصري القائم على توظيف مكونات وعناصر الصورة قبل
أن كلمة تخرج من أفواه الممثلين، يظل قاصرًا عن التعبير الشعوري المنفتح
على ما هو أكثر من مجرد المعلومة المنطوقة أو السؤال الصريح والجواب
المراوغ.
يعود الأب بعد ستة أشهر في غيبوبته، فنجده يعامل ابنه
الأصغر بشكل خشن وفج، بينما لا يخفي الابن ضيقه ونفوره من تلك العودة وكأنه
كان يتمنى ألا تحدث.
الأب الذي يقوم بدوره الممثل الفلسطيني كامل
الباشا في
خيار فني غير موفق إطلاقًا على مستوى اللهجة والصوت والأداء الميلودرامي
المفتعل، يبدو ظاهريًا كارهًا لكل خيارات ابنه الأصغر؛ سواء تركه لدراسته
أو إدمانه للمخدرات. يبلغنا الحوار أنه سبق وأن قُبض على الابن في قضية
تعاطي أخرجها منه الأب، ورفض الأب للفتاة التي ترتبط بابنه في علاقة
عاطفية/جنسية – أو على حد تعبير الأب (بنت شِمال). بينما يبادله الابن نفس
مشاعر النفور لسبب سوف تفصح عنه المواجهة الحوارية أيضًا في مرحلة متقدمة،
وهي أن الأب حرمه من وداع أمه في مرضها الأخير، وكذب عليه بشأن موتها، ثم
مزقه بقسوته الدائمة عقب الرحيل.
ونشير هنا إلى نمطية الصراع بشكل كبير، خصوصًا أن تيمة
محاكمة الأب سبق لها وأن تناولت هذا النوع من سياقات العلاقة المشوهة بين
أب قاس وابن نافر غير مستوعب. وحقيقة لم يأت الفيلم بجديد على مستوى معالجة
التيمة أو العلاقة المعقدة. وهي إشارة تُضاف إلى عناصر البناء الشكلي
والموضوعي التي تأثرت بمنطق الليلة الواحدة. فضيق المساحة الزمنية التي
انحشرت فيها الحكاية لم يسمح للمعالجة أن تتحرر من أسر الطرح التقليدي.
أضف إلى هذا وحدة المكان؛ فغالبية مشاهد المواجهة داخل
البيت – نظرًا لمرض الأب- باستثناء مشهد مصارحة الابن بخيانة أمه الذي قُدم
في كازينو على البحر. أضفى هذا على الفيلم شكلًا مسرحيًا واضحًا، خصوصًا
الصورة التي حاول المخرج توظيف أدواتها مثل الضوء الأزرق القادم من الخارج
– رغم أننا ليلة عيد الأضحى والقمر لم يكتمل بعد- أو صوت وقطرات المطر التي
تشي بعاصفة عاتية، أو كركبة الديكور دلالة على القدم والإهمال وتراكم الوقت
بلا طائل، وانفصال الشخصيات في الكادرات أثناء التراشق الحواري (أي كل
شخصية تنفرد بالكادر أثناء التراشق لبيان أن كل منهم مُصر على موقفه). كل
هذا لم يفلح في انتشال الإيقاع من الرتابة الحوارية البغيضة، ولا الشكل
المسرحي غير المبهج سينمائيًا.
ناهيك عن الأداء المفتعل لكامل
الباشا،
والتأرجح الأدائي – غالبًا بسبب التوجيه الإخراجي- لأحمد مالك رغم كونه
صاحب طاقة عالية في التشخيص.
خلاصة القول فيما يتعلق باختيار شكل الزمن هو أن الإصرار
على أن تكون الليلة الأخيرة هي بيئة الوقت الممنوحة للسؤال/المحاكمة من
أولها لآخرها، أضرت كثيرًا ببقية العناصر الدرامية لأنها منحت الحوار
والمواجهات المفتعلة مساحة أوسع مما تستحق، ولم تسمح لعناصر وأدوات أخرى أن
تعيد تقديم واكتشاف الحكاية بصورة طازجة على مستوى المشاعر والوجدان.
ويكفي أن نضع منتج الحكاية أو المحاكمة الشعوري في ميزان
الزمن، فهل كان نتاج المواجهة أو المحاكمة سيتغير لو أن البطل واجه أباه
على مدار أسبوع كامل مثلًا وليس ليلة واحدة؟ الإجابة غالبًا هي لا. أولًا
لأن كلاهما لا يعرف على وجه اليقين أنها الليلة الأخيرة، كما أن حجم
الأحقاد التي يكنها كل منهم للآخر أكبر من أن تحتويها مساجلاتهما الكلامية.
وبالتالي كان ضيق الوقت عاملًا ضد وليس مع الحكاية.
النقاب
في مشهد يختصر البعد الاجتماعي والنفسي لشخصية سارة التي من
المفترض أنها حبيبة/عشيقة فاروق، نراها وهي ترتدي النقاب في السيارة على
ملابسها الملونة القصيرة بعد أن مسحت المكياج الكثيف التي تضعه، ثم تهبط من
المركبة وهي فتاة أخرى تمامًا على مستوى الشكل. بالطبع لا يحتاج هذا التحول
إلى شرح، بل على العكس يُحسب على مستويات كثيرة لمبدأ التكثيف البصري لغرض
درامي واضح وهو الوقوف على حقيقة الحياة المزدوجة التي تضطر هذه الفتاة لأن
تحياها نظرًا لواقعها الاجتماعي.
هذا التعبير البصري المكثف – للأسف- لا نراه يتجلى بشكل
مبهج إبداعيًا في بقية فصول الفيلم. ليس فقط على مستوى المواجهات كما
أشرنا، ولكن على مستوى الكشف عن حقيقة ما يعتمل في دواخل الثنائي المقدس
(الأب والابن). في البيت الابن يصارح أباه حواريًا بحقيقة أنه كان يمول
علاج غيبوبته، وفي الكازينو يصارح الأب ابنه بأن أمه كانت امرأة خائنة، في
لي عنق واضح للنقاش بينهما من أجل أن تتوافر المعلومة حواريًا على لسان
الأب مع اقتراب الليلة من نهايتها.
على ما يبدو أن السرد حاول أن يحافظ على مبدأ أن لكل شخصية
وجهان من المنطق أو التبرير، الابن لديه منطق النفور بسبب معاملة الأب
الخشنة، ووجه آخر هو المحبة الخالصة بحكم رابطة الدم والتي لا تسمح له أن
يترك أباه دون علاج حتى لو كان من أرباح المخدرات. والأب يملك منطقًا
ظاهريًا لكراهية الابن سببه أن الابن منحرف ومدمن وفاشل دراسيًا
واجتماعيًا، ووجه آخر هو شكه في أن ابنه الأصغر ليس من صلبه لأن الأم كانت
خائنة – بسبب خيانة الأب لها فيما قبل- وبالتالي يصبح هذا الشك غير المعلن
هو السبب في الكراهية المتجددة تجاه الابن عبر ساعات الليلة الأخيرة.
وعلى نفس القياس لدينا وجه سارة العشيقة المنطلقة المنفلتة
القادرة على أن تسيطر كلاميًا وشعوريًا على فاروق – بادعائها أنها حامل منه
رغبة في أن تتزوجه- وفي نفس الوقت لدينا وجهها الاجتماعي الذي يرتدي النقاب
لضمان أمنها الجسدي والنفسي أمام عائلتها.
حتى تاجر المخدرات الذي يتعامل معه فاروق نكتشف أنه رجل
عابر جنسيًا (ماجد/ماجي) أي يملك هو الآخر وجهان أو منطقان أو حقيقتان،
يجتهد لإخفاء واحدة وإبراز الأخرى.
ربما كان هذا الفيلم محاولة حسنة النية للوقوف على جانب
مختلف من تيمة محاكمة الأب، لكن لم تتوفر لها السياقات الجمالية التي
تمنحها رونقًا إبداعيًا يسهل اكتشافه أو التأثر به، أو يوفر لحساسية
المتفرج كم التواصل الشعوري والفكري المطلوب من أجل الفهم والاستمتاع.
ثم هل يمكن ربط كل ما سبق بعنوان الفيلم باللغة العربية
“كولونيا”؟ أي رائحة العطر التي يرشها الابن للتخلص من رائحة الأب الثقيلة
عقب عودته من الغيبوبة.
من الممكن بالفعل. ولكن نتيجة لازدحام الزمن الفيلمي
بالثرثرة الحوارية، لا شك أن مثل هذه الإشارات الشعرية تاهت في وسط بحر
الكلام. خاصة لو نظرنا إلى العنوان الإنجليزي “رائحة أبي” الذي يعطي معنى
يتردد بين السلب (أي كراهة تلك الرائحة) أو الإيجاب (افتقادها بعد الرحيل)،
رغم أن فاروق يغسل السيارة في اليوم التالي للوفاة لكي يتخلص من الرائحة
ظاهريًا، وإن كانت على ما يبدو سوف تظل عالقة في ذاكرته لأنه لم يكن سعيدًا
بذلك ولأنه توقف موليًا السيارة ظهره وبكى حتى نزول تتر النهاية.
يمكن القول أن تجربة كولونيا ربما كانت غير موفقة شعوريًا
بالقدر الذي يوفر حميمية الاستغراق النفسي والذهني في معالجة جديدة لتيمة
تكرر طرحها كثيرًا، وتحتوي، مثل كل التجارب الأولى، على شكوك في أدوات
التوصيل. وهو ربما ما دعى صانع الفيلم للتفسير بأضعف الأدوات: الحوار، كأنه
واجب مدرسي يجب إنجازه.
لكن – للإنصاف – فالتجربة تحاول أن تعبر عن اختبار صانعها
لإمكانياته، وتكشف عن بعض من جوانب رؤيته التي لا تزال في طور التشكل،
وبالتالي يمكن اعتبارها مغامرة على الطريق لأن تصبح الكاميرا قلمًا تشغله
حميمية الصورة في مقابل ضوضاء الكلام. |