ملفات خاصة

 
 
 

"مجتمع الثلج"... النجاة من كل هذا البياض

فينيسيا/ محمد هاشم عبد السلام

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثمانون

   
 
 
 
 
 
 

في فيلم "مجتمع الثلج" Society of the Snow، يسرد الإسباني خوان أنطونيو غارسيا بايونا (1975)، استناداً إلى وقائع حقيقية، قصة رائعة ومُدهشة عن التمسك بالحياة، وتحدّي الصعاب، رغم فقدان الأمل، واستحالة النجاة، وذلك في رحلة روحية، بمستويات عدّة، تُركّز أساساً على إرادة الإنسان في التغلّب على أسوأ الظروف وأكثرها استحالة، ثم تُطرح أسئلة كثيرة، أهمها: هل تستحق الحياة فعلاً مواجهة المستحيل والتمسّك بالأمل لأجلها، حتى آخر لحظة؟

"مجتمع الثلج" (نتفليكس)، المعروض في ختام الدورة الـ80 (30 أغسطس/ آب ـ 9 سبتمبر/ أيلول 2023) لمهرجان فينيسيا السينمائي، وكان خير ختام، أثار تساؤلات حول عدم اختياره في المسابقة الرئيسية، أو كفيلم افتتاح. رغم ذلك، يصعب جداً إدراجه، نظراً إلى جمالياته الفنية اللافتة في أكثر من مستوى، في الإنتاجات المعهودة للمنصّة. هذا يُحسَب لجهة الإنتاج طبعاً، وإنْ يصعب تخيّل كيفية عرض فيلمٍ كهذا، على قدر كبير من الجماليات المُتطلّبة لمُشاهدة سينمائية على شاشة كبيرة، في بثّ عاديّ على شاشات الأجهزة الصغيرة.

إنّه ليس أول فيلم يُنتَج عن واقعة تحطم طائرة فريق شباب الأوروغواي للرّغْبي، إذ سبق تناولها أكثر من مرة في أفلامٍ روائية طويلة ووثائقية. مع هذا، يُعتبر "مجتمع الثلج" أدقّ وأكثر مصداقية واحترافية وتفصيلاً وتدقيقاً وإقناعاً وإثارة، رغم طول مدّته (144 دقيقة).

فيه، يستند بايونا أساساً إلى كتاب بالعنوان نفسه (2009) للصحافي بابلو فيرسي (الأورغواي). تبدأ أحداثه بتعريفٍ سريع بشباب فريق الرغبي في "نادي المسيحيين القدامى"، وعلاقة الصداقة المتينة التي تجمع بينهم، قبل رحلتهم المشؤومة في أكتوبر/تشرين الأول 1972، على متن طائرة الخطوط الجوية الأوروغويانية رقم 571 التي أقعلت من مُونتيفيديو (الأوروغواي)، مُتوجّهة إلى سانتياغو (تشيلي)، للعب مباراة هناك. على متنها أعضاء الفريق، وأفراد من عائلات اللاعبين وأصدقائهم (45 شخصاً مع طاقم الطائرة، تتراوح أعمارهم بين 18 و50 عاماً).

لم تصل الطائرة إلى وجهتها، فبعد إقلاعها بوقتٍ قصير، اصطدمت بـ"وادي الدموع" (جبال الأنديز، الأرجنتين)، أبعد المناطق وأكثرها وعورة، ويصعب الوصول إليها. مات بعضهم فور انشطار الطائرة، بعد اصطدام ذيلها بقمّة جبل، وبمعجزة، نجا 29 فرداً.

بعد نصف ساعة تقريباً، تبدأ الأحداث في التعقيد والإثارة، مع متابعة ما حدث لهم في ظروفٍ مناخية متجمّدة ومُثلجة، وعواصف لا يُمكن تصوّرها. بعد توقّف البحث عنهم، واستبعاد أي أمل في نجاتهم، أُعلِن عن وفاتهم. لكنْ، بعد 75 يوماً، عُثِر على بعضهم، أواخر ديسمبر/ كانون الأول 1972.

إنّها معجزة حقيقية، بعد اتّخاذ ثلاثة أفراد منهم قراراً بتحدّي المستحيل، وارتقاء قمم الجبال الثلجية، والوصول إلى تشيلي سيراً على الأقدام، للحصول على المساعدة. رحلة "مستحيلة"، إذ لم يستطع أحدهم إكمالها، فعاد بعضهم بعد بلوغ منتصفها، ونجح اثنان، بعد 10 أيام، في إنجازها، ليُنقذا حياة 16 فرداً بقوا إلى جوار الحطام.

لم يكتفِ خوان أنطونيو غارسيا بايونا بسرد درامي عادي أو بسيط للأحداث، وكيفية بقاء هؤلاء أحياء، إذ يغوص بعمق واحترافية في استعراضه الشخصيات المُوجودة معاً في نصف الطائرة المشطورة؛ وكيف غمرهم يأس بالغ، بعد عدم رؤية طائرات الاستطلاع الباحثة عنهم، ثم الإعلان عبر الراديو عن وفاتهم جميعاً.

يتعمّق السرد، بالمستويات كلّها، بعد مرور أكثر من أسبوع من دون طعام، ومواجهتهم هلاكاً وشيكاً بعد تناولهم كلّ شيء، بما فيه لفافات التبغ. أخيراً، قرارهم المُستحيل، ولهم قدر كبير من الإيمان العميق والتديّن البالغ، بأكل جثث من ماتوا من أصدقائهم؛ في مقابل رفض البعض هذا في البداية، دينياً وإنسانياً، كونهم أصدقاء، بل بشراً، ثم كيفية انتهاء الأمر بهم إلى إعلان بعضهم، بإقرارٍ مكتوب، السماح للأحياء بأكل جثثه بعد وفاته.

هذا من المشاهد الأكثر درامية وتأثيراً، في فهم ماهية الموت والحياة، والحدّ البسيط الفارق بينهما. يُشير هذا الجانب (أكل لحوم البشر)، بالغ الأهمية والحيوية، إلى قصّة رعب مُروّعة، أحسن بايونا تصويرها واستغلالها درامياً من دون افتعال، مُبيّناً بفنيّة وعمق كيف أنّ الموتى يمنحون الحياة لغيرهم، فينقذونهم من موت وشيك.

في الفيلم، تجليّات أخرى كهذه، تُبرز مواقف الشخصيات وتفاوتها، النفسي والعصبي والجسدي، إزاء ما مرت به، لا سيما تجاه الأصدقاء والأشقاء ممن بدأوا يُفارقون الحياة أمام أعينهم. خاصة، بعد هبوب عاصفة مُباغتة، طمرت نصف الطائرة لـ4 أيام كابوسية، أودت بحياة البعض، واضطرّت الآخرين، بعد تردّد، إلى أكل أجزاء من الموتى، إلى أنْ تكاتفوا معاً للخروج أحياء من قبرهم الثلجي، ورؤية ضوء الشمس الباهت.

في "مجتمع الثلج"، أبدع بايونا وطاقمه في تصوير مشاهد ارتطام الطائرة وتحطّمها، وانبعاج كراسيها، وفي استخدام الصوت ببراعة، حتى استقرار الطائرة بين الثلوج. كما يُلاحظ توظيفه اللافت جداً للمونتاج في تحطّم الطائرة، والمشاهد في نصفها المشطور. كما أنّ حركة الكاميرا وزوايا اللقطات مُدهشٌ جداً في مشاهد كثيرة، بتصوير احترافي لمدير التصوير الموهوب بيدرو ليكو. وهذا يُلاحظ في نصف الطائرة المشطورة، حيث اللقطات المُقرّبة على الشخصيات، وتصوير حالات الانهيار النفسي والإعياء والمرض والموت؛ أو خارجه، حيث البياض الثلجي المُخيف، وهبوب العواصف الغادرة؛ أو المناظر العلوية للجبال المهيبة، وقممها الشاهقة المكسوّة بطبقات الجليد اللانهائية، ونصف الطائرة، وبقايا الحطام، وغيرها، وسط الوادي الجبلي.

إضافة إلى هذا، يُحسَب له اختياره وإدارته البارعان جداً لممثلين شباب غير محترفين، من الأوروغواي وتشيلي والأرجنتين، والأداء الباهر والمقنع والمميّز لغالبيتهم.

 

العربي الجديد اللندنية في

16.09.2023

 
 
 
 
 

يوم أحد أبدي”.. هل نحن مرحب بنا في هذا العالم؟

رامي عبد الرازق- فينيسيا

حين أراد بطلنا المراهق كيفين أن يكسر حصار التهميش الذي تفرضه حوله روما/ المدينة/ الأم، دون سبب واضح، رغم انها من أحضرته- مجازأً- إلى هذه الحياة، قرر أن يترك أثرا لا يُمحي من ذاكرتها؛ أن يقتل البابا/ الأب.

هكذا يمكن ان نقرأ المشهد الأخير من فيلم “يوم أحد أبدي” An Endless Sunday للمخرج الإيطالي الشاب آلان باروني Alain Parroni والحائز على جائزة اتحاد النقاد الدوليين الفيبريسي كأفضل عمل أول وجائزة لجنة التحكيم الخاصة ضمن فعاليات مسابقة آفاق بالدورة الـ80 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي.

في ضوء المشهد الأخير لإطلاق الرصاص على البابا من فوق أحد الجسور المسوّرة بقضبان تجعل الواقف عليها اقرب للواقف داخل قفص– ضمن حالة الحصار والتهميش المفروضة على المراهقين الثلاثة أبطال الفيلم- في ضوء هذا المشهد يمكن ان نتأمل الكثير من التفاصيل التي تناثرت هنا وهناك في سياق يبدو تشظيا غير مرتب بدقة لكنه خلاق ومؤثر بقدر ما هو صادم وفوضوي.

 هل هو يوم القيامة؟

اختيار يوم الأحد في عنوان الفيلم لا يمكن فصل دلالاته عن كامل السياق، أو عن المشهد الاخير، فالأحد هو يوم مقدس لدى المسحيين في بلد يحتوي على قلب المذهب الكاثوليكي النابض بالحب والسلام (الفاتيكان). وهو اليوم الذي يخرج فيه البابا عقب القداس لتحية شعب الكنيسة البطرسية الذي يأتي بعضهم من آخر الدنيا من أجل أن يتبرك برؤية الحبر الأعظموهو يوم الإجازة الرسمية في الدولة، واليوم الذي قام فيه يسوع حسب المعتقد المسيحي بمختلف مذاهبه.

هذا عنوان يذكرنا بعناوين افلام صاحب “الأبدية ويوم” (أنجلوبولوس)- فالفيلم كله يبدو وكأنه يدور في يوم واحد طويل بلا نهاية محددة او منتظرة. وكأن أعمار المراهقين الثلاثة تحولت إلى يوم عطلة رسمية مقدسة، لكنه لا ينتهي ليبدأ أسبوع العمل، وتبدأ معه حياتهم المتوقفة عند حدود العبث والضياع وفقدان الهوية والأمل.

الحياة تشبه طفلا متعثر الولادة – كما الجنين الذي تحمله الفتاة في المشهد الأخير وتتعذب وهي تحاول أن تحضره إلى الحياة لكنها محتجزة في إشارة مرور بلا مساعدة، وهو ما سنعود إليه لاحقا.

 يوم الأحد هو نفس اليوم الذي يقرر فيه المراهقون الثلاثة – الولدان والبنت – أن يحتفلوا بعيد ميلاد أحدهم عبر اختراق طرقات المدينة بسرعة خارقة كأنهم يريدون أن يبثوا الروح في شرايينها/ شوارعها الميتة من وجهة نظرهم.

هكذا نراهم في البداية كأنهم انبثقوا من الفراغ، لا نعلم عنهم أي معلومات تخص خلفياتهم الأسرية، ولا نرى لهم آباء ولا امهات باستثناء جدة المراهقة الصغيرة التي تستضيفهم في منزلها من أجل أن تتأكد الفتاة ما إذا كانت حاملا أم لا من صديقها – أو صديقيها كما سنشك فيما بعد!

 تبدو الجدة التي تعيش في ضاحية بعيدة نسبيا عن المدينة كأنها ما تبقى من أسرهم الغائبة عن قصد، تحمل تراث الجدات الدافئات اللائي لا يملكن سوى محبة مطلقة لأحفادهن، وعصير خبرات شعبية وإنسانية تبخر من ذاكرة المدينة بحجة الحداثة ومرور الوقت.

 مع فجر يوم الأحد الذي لا ينتهي، ينفجر إطار السيارة التي تصرخ من سقفها المفتوح حناجر المراهقين الثلاثة كأنهم يريدون إيقاظ سكان المدينة، هذا الانفجار هو إرهاصة واضحة لما سوف يصيبهم فيما بعد من عثرات وهزائم، وكأن القدر والمدينة والحياة نفسها متآمرين عليهم.

 أطفال المدينة

تجدر هنا الإشارة إلى سيطرة تيمة البلوغ (Coming of age) على غالبية أفلام مسابقة آفاق بموسترا 80 سواء الأعمال الأولى او غيرها، وهو ما يفتح طاقة تأمل ذهبية للاستغراق والتورط في السؤال الأهم الذي طرحته مجموعة التجارب السينمائية القادمة من اركان الكوكب (هل يشعر أبناء الزمن الحالي بأنهم مرحب بهم في هذا العالم؟)

يطرح فيلم “يوم أحد أبدي” هذا السؤال بمنتهى الوضوح، والقسوة في قصف وعي المتلقي بعلامة استفهام ليس من السهل الاجابة عليها.

حين تشعر البنت بأنها حامل، تصارح حبيبها الصغير الذي يقرر أن يبدأ في ممارسة أي عمل من اجل الاستعداد لتكوين أسرة محكوم عليها بالهشاشة من قبل أن تشكل، يعمل فيما يشبه المزرعة، يخرج بمجموعة من الغنم كل يوم لكى ترعى في سهول الضواحي، هذه المزرعة الغريبة يملكها رجل (مافيوزي) غريب الأطوار، يبدو كأنه زعيم عصابة لسرقة السيارات وتفكيكها تحت ستار مزرعة الحيوانات البدائية التي يديرها والذي يعثر عليه مقتولا في النهاية- داخل لقطة سريعة- في قاع السلم بمنزل الجدة المقابل للمزرعة الغريبة.

 أين تبدأ الأزمة تحديدا؟  ونعني بها الأزمة الدرامية التي تشكل كتلة الحبكة وتدحرجها باتجاه الذروة!

في الحقيقة لا توجد أزمة درامية بالمفهوم التقليد، فالفيلم كله عبارة عن أزمة وجودية واجتماعية وإنسانية ضخمة تلقي بظلالها على الشخصيات الثلاث. صحيح أننا يمكن أن نعتبر أن الشكوك التي يبثها الفتى الثالث في قلب صديقه، بداية للأزمة والانشقاق بينهما – حين لطمه بسؤال حاد قائلا ومن أدارك أن الذي في رحم حبيبتك هو ابنك انت؟

لكن هذا السؤال الذي يخلق مشكلة بين الاطراف الثلاثة الغضة لا يمكن اعتباره أزمة بقدر ما هو جزء من عملية الطرح المجازية لفكرة أطفال المدينة الأيتام.

أن كلا الولدين هما وجهان لعملة واحدة، كأنهما كائن واحد برأسين، الأول يريد أن يكون أسرة لأنه يفتقد هذا الشعور الجامع الدافئ ولهذا يفرح بحمل رحم حبيبته الصغير لجنين من صلبه، ويسعى للعمل وتأمين المال، والثاني متمرد شبق لكل ما هو عبثي وفوضوي وطفولي، فهو لا يترك جدارا ولا سطحا ولا قائما ولا نائما إلا وعبث به ولوثه بالكتابة او السب أو الرسم، كأنه يريد أن يترك أثره على بشرة المدينة – تماما مثل صديقه في المشهد الأخير حين قرر ان يغتال البابا.

السؤال الحاد الذي مزق خاصرة الحبيب ليس سوى إشارة إلى أن الفتاة ربما تكون حاملا من كلا الولدين، لأنهما كما اشرنا كائن واحد، بل إنها حين تقرر التمرد على حبيبها بشكل غير مباشر تخرج مع الصديق ويقرران أن يكسرا جمود التهميش الذي يعيشانه بأن يتركا أثرهما في خلفية صور السواح الذي تكتظ بهم شرايين المدينة ونوافيرها وميادينها الشهيرة، فنرى في تتابع لاهث كيف أنهما يتخيرون خلفيات صور السواح ويقفان ليقبلا بعضهما في عنف وشهوانية وشبق لترك الأثر.

إنهما نموذج لأطفال المدينة الذين يرون في أنفسهم أحق الناس بالعيش بها والاستمتاع بكل ما تقدمه للغرباء والعابرين في مقابل حرمانهم منه، وبالتالي يقرران بلا ثرثرة أن يتركا أثرهما بأسهل وأسرع طريقة يعرفانها؛ القُبل.

 قلم ومدية وجنين

بجانب شفاههم التي تلتقي في قبلات لا تعد ولا تحصى في الشوارع وعلى الشاطئ وفي السيارة، فإن لأطفال المدينة أدواتهم الاخرى من أجل ترك الأثر؛ أي القلم الذي يقومون باستخدامه لرسم والإمضاء على الجدران والمدية التي يحملها الصديق والتي تجرح مسام السيارات والحوائط والاسوار، كأنه ثمة تعمد لان تنزف المدينة كما ينزفون هم ارواحهم الضائعة ولكن لأن جلدها سميك فهي لا تشعر بأي من تلك الندوب الباهتة.

ومع نهاية الشهور التعسة وفي يوم أحد أيضا – ربما هو نفسه يوم الأحد الذي بدأ فيه الفيلم ولم ينتهي- يأتي مخاض البنت الصغيرة بينما يكون حبيبها قد ذهب لترك الأثر الأكبر وهو قراره العشوائي باغتيال البابا.

ونتيجة لحالة الفوضى التي تعم المدينة يتم اغلاق الشوارع أمام حركة المرور وبالتالي، يتعطل الصديق ومعه الحامل الصديقة في طريقهم للمستشفى، ساعتها يهبط من السيارة وترتد إليه طفولته المفتقدة والمفقودة فيصرخ مستنجدا بركاب السيارات المتوقفة (أرجوكم أريد المساعدة! ساعدوني) ولما لا يستجيب له أحد يقرر أن يعترف ولأول مرة بالحقيقة المرة التي كانوا يحاولون دائما أن ينكرونها (عمري 16 سنة فقط واحتاج إلى المساعدة).

هذه العبارة هي استغاثة جيل بأكمله، بل استغاثة طبقة كاملة من المراهقين حول العالم في هذه اللحظة الزمنية المضنية بالألم.

أما الجنين المتعثر في الولادة فهو أداة أخرى من أدوات ترك الأثر، وهو أيضا جزء من استمرارية السؤال الذي سبق وأن أشرنا إليه – سؤال الترحيب الغامض. إن احتفاظ الحبيبين الصغيرين بالجنين القادم داخل رحم البنت الجديد هو أيضا جزء من رغبتهم في أن يتركوا أثرا على وجه المدينة أو في ذاكرته، إنه جزء من محاولتهم الاجابة على سؤال: هل نحن ومن بعدنا مرحب بنا في هذه الحياة وذلك العالم؟

ولأن علامة الاستفهام مفتوحة، فإن اللقطة الأخيرة ليست سوى نظرة علوية من عين الإله، حيث المدينة المصابة بعسر مروري خارق، وفوضى غامضة بعد محاولة اغتيال الأب/ رمز الدين المتعالي الملوح دون أثر يذكر على أنفسهم، هكذا تبقى اللقطة تصعد وتصعد كأنه التخلي السماوي او الوجودي وكأن ما يحدث في الأسفل لا يخص احدا! رغم أنه في الحقيقة، يخص الجميع.

 

موقع "عين على السينما" في

19.09.2023

 
 
 
 
 

أشياء فقيرة” لليوناني لانتيموس: السينما الخالِصَة

محمد هاشم عبد السلام

في جديدهأشياء فقيرة لا يبتعد اليوناني يورغوس لانتيموس، كثيراً، عن مفهوم السينما الخالصة، بعناصره كلّها: تمثيل وسيناريو وتصوير وديكور ومونتاج وتصميم مناظر وملابس، وغيرها. كذلك يُلاحَظ تكامل هذه العناصر/المكوّنات، وتناغمها وعملها، بانسجامٍ أسلوبي بارع ولافت للانتباه، طول مدّته (141دقيقة). هذا رغم المزج الواضح لأنواع وثيمات سينمائية مختلفة، نادراً ما تجتمع معاً: خيال علمي ورومانسية ومغامرات وكوميديا سوداء وفانتازيا وتمرّد، وإحالات على أعمال في تاريخ السينما، بشكلٍ غير مباشر.

لكنْ، تصعب ترجمة العنوان الإنكليزي للفيلم، Poor Things، إلى “أشياء بائسة”، لأنّه لا توجد أشياء ولا كائنات/مخلوقات بائسة، بل على عكس ذلك، هناك تمرّد وانقلاب مصائر. لا يوجد فقر، ولا مفردة “مسكينة”، كأنْ يُقال مثلاً: “كائنات مسكينة”. هذا كلّه غير موجود. لذا، يبدو الأنسب أنْ يُترجَم العنوان حَرفياً ومُبَاشَرةً: “أشياء فقيرة”.

أياً يكن، فإنّ أيّ مُتابعٍ لمسيرة لانتيموس، منذ أفلامه اليونانية الباكرة ذات الميزانيات المُنخفضة، يتعجّب ليس فقط من العوالم الغريبة والجريئة التي يتناولها، بل من ابتعاد فيلميه الأخيرين، “المُفضّلة” (2018) و”أشياء فقيرة” (2023) كلّياً عن الزُّهد والتقشّف، وعن الأسلوب المميّز والطاغي في أفلامه السابقة، رغم تشابه الأفكار والطروحات، وعوالم الشخصيات وهمومها، وما يؤرقها، في جُلّ أعماله.

قياساً إلى مواضيع أفلامه السابقة، وأساليبه المتنوّعة والاستفزازية في طرح أفكاره ومعالجتها، يُعتَبرأشياء فقيرة فيلماً جدّياً للغاية، رغم أنه الأكثر ترفيهاً في مسيرته، ومع ذلك، الأكثر وحشية وغرابةً وطموحاً من “المُفضّلة”، رغم الاستعانة بكاتب السيناريو نفسه، توني مَكْنامارا. ففي “أشياء فقيرة”، يكسر لانتيموس المزيدَ من الحدود، ويقلب افتراضاتنا وتوقّعاتنا المعهودة عنه، باعتباره، منذ أعوام، مخرجاً مكرّساً لأفلامٍ مُظلمة للغاية، ومُمعنة في الغرابة، وسوداوية جداً. كذلك يُمكن وصف جديده بأنّه الأكثر تفاؤلاً وترفيهاً وبذخاً ووضوحاً في سيرته المهنية، أقلّه إلى الآن.

يتناول “أشياء فقيرة”، الفائز بـ”الأسد الذهبي” في الدورة الـ80 (30 أغسطس/آب ـ 9 سبتمبر/أيلول 2023) لـمهرجان فينيسيا السينمائي، قضايا عدّة، أهمها: السُّلْطة الأبوية والملكية والذكورية والتمرّد والبحث عن الذات والحرية الجنسية. في حوارات عرضية، يطرح تأمّلات فلسفية عميقة وساخرة عن الحياة والطبيعة البشرية وفكرة الخلق نفسها والسياسة والاجتماع، من دون تعقيد أو مُبالغة. الأهمّ أنّ هذا كلّه يأتي في حبكة مُقنعة، تتميّز بالجدّة والذكاء والأصالة في تقديم الشخصيات، وتناول المواضيع، في إطار تشويقي جذّاب، يبتعد كثيراً عن الافتعال والتكلّف.

يبدأأشياء فقيرة ـ المستلّ من رواية بالعنوان نفسه (1992) للاسكتلندي ألسْدِر غراي (1934 ـ 2019)، مصحوبة برسومات مُصوّرة ـ بافتتاحيةٍ غامضة قليلاً، يغلب عليها اللون الأزرق المخملي، وتُظهر امرأة تُرى من الخلف، ترتدي فستاناً أزرق مذهلاً، وتقفز من جسر. ثم انتقال إلى لندن الفيكتورية، الغريبة جداً، فالأحداث تحصل أواخر القرن الـ19، مع التحوّل إلى الأسود والأبيض، والإكثار من زوايا تصوير بعدسات مُقعّرة وتوظيفها، ولقطات مُقرّبة غريبة للغاية.

في هذا الجزء، تنحصر الأحداث بين كلية الطب والتشريح. فيها، نتعرّف إلى الجرّاح العبقري مُشوّه الوجه، نتيجة تجارب لاإنسانية أجراها والده عليه، غادوين باكستر (وليام دِفَو)، وتلميذه الوديع والمجتهد ماكس ماكاندْلِس (رامي يوسف). تمضي معظمها في منزل الطبيب، والمُختبر الملحق به، حيث تتجوّل بحريةٍ حيوانات مُركَّبة، غريبة للغاية: كلب برأس دجاجة، إوزّة برأس خنزير، مخلوق نصفه بطّة ونصفه الآخر ماعز، إلخ. من بينها، تظهر سجينة المنزل ـ المختبر، المغلق والمحصَّن، الطفلة/المرأة بيلا (إيما ستون)، التي لا تزال تتعامل مع كلّ شيء حولها بنزقٍ طفولي غريب، رغم نضجها الجسدي. يتجلّى هذا في تصرّفاتها الخرقاء، وطريقة مَشيها، ومحاولاتها المُتعثرة للنطق بكلامٍ مفهوم.

لرغبته في الاحتفاظ بسجل دقيق عن تقدّم حالة/تجربة بيلا، يطلب باكستر من تلميذه مُراقبة سلوكها اليومي. تدريجياً، يُلاحظ ماكس، بسعادة ودهشة بالِغَين، كيف تتحوّل خطوات الطفلة/المرأة، الغريبة الخرقاء إلى مشية أكثر ثقة وتوازناً؛ ويتتبّع اكتسابها المفردات أكثر، يوماً تلو آخر. يحاول السيطرة على دوافعها الجامحة، ونزقها وعنادها، وثورات غضبها العنيفة ونوبات التدمير، التي تنتابها بين حينٍ وآخر. هناك، أخيراً، محاولة الجميع التعامل مع صدمة اكتشاف بيلا المفاجئة للجنس، بعد ملامستها ما بين ساقيها، وتعرّفها إلى مُتعة العادة السرّية.

لعدم وجود أفكار مُسبقة عن القواعد السلوكية والاجتماعية والمحرّمات، وعن قواعد اللياقة واللباقة؛ ولشدّة براءتها ونقص مُفرداتها وقدرتها على صوغ تعابير مُلائمة، “تقذف” بيلا ما يرد على ذهنها، بلا تردّد وخجل وتفكير. تجلّى هذا أكثر بعد ممارستها العادة السرية، بسهولة وأريحية وانفتاح، ورغبتها الجامحة في مشاركتها الجميع الإثارة، واللذة المجانية المُصاحبة لها: “دعونا نلمس الأعضاء التناسلية لبعضنا البعض”، تقول. ثم ينقلب الأمر، من جانبها، إلى تساؤلات مصحوبة بحيرة بالغة: “لماذا لا يُمارس الناس هذا طول الوقت؟”. تُدْهَش عندما يُقال لها إنّها لا تستطيع التحدّث عن أشياء كهذه في أماكن عامة، ولا مناقشتها، وطبعاً عدم فعلها عَلَناً.

بعد هذا، تشعر بيلا باضطراب وحيرة إزاء تظاهر البشر بعدم وجود هذه المُتعة، المُتوافرة بسهولة. وهذا أول تناقض يحرّض عقلها على التفكير والتأمل، ويُؤجّج رغبتها في التمرّد.

رغم ذهوله من التصرّفات غير المُتوقعة لهذه الطفلة/المرأة، التي تضرب البيانو بيديها وساقيها، وترمي فطورها عليه، وتُحطّم الأطباق، وتبصق في الطعام، وتُثرثر طول الوقت؛ يُغرم ماكس بها، ويطلب من غادوين الزواج منها، حتى بعد معرفته حقيقة إنقاذه لها، وإعادته إياها إلى الحياة، بعد زرع عقل جنينها في رأسها. يوافق غادوين فوراً، ويستدعي المحامي دَنْكِن وَدِربِرن (مارك رَفالو) لتسوية الأمر. لكن دَنْكِن، اللعوب القادم بامتياز من سينما الأسود والأبيض، يستغلّ براءة بيلا وشبقها، فيغويها بالهروب معه، والخروج من المنزل، واكتشاف العالم الرحب خارجه. رغبةٌ كهذه تاقت إليها بيلا دائماً، لكنّ غادوين كان يقمعها بقوّة وقسوة. ولأنّها لا ترى تعارضاً بين الموافقة على زواجها من ماكس والهروب مع دَنْكِن، تنطلق في مغامرتها بكلّ طاقتها، فيسافران في رحلة استكشافية مذهلة، ومتحرّرة من الزمان والمكان. رحلة تُعيد إلى الأذهان تجربة “أليس في بلاد العجائب”.

هنا، يتحوّل “أشياء فقيرة”، في نصف الثاني، إلى الألوان النابضة بالحياة، التي تبلغ جرأة صارخة في بعض المشاهد. تتبدّل البنى البصرية والإخراجية إلى حدّ بعيد، كما يختلف تصميم المناظر تماماً، إذْ تبدو غالبيتها مصنوعة بالكمبيوتر، ما يوحي بأجواء “ألعاب الفيديو”، وما يُشبهها. ولعلّ هذا كلّه محاولة لمحاكاة الرواية المُصوّرة، أو الاقتراب من أجوائها. فكرة ليست أصيلة، وربما أضرّت الفيلم، رغم جماليات خيالية وتنفيذية عدّة.

تبدأ الرحلة السريالية لبيلا دَنْكِن من ليشبونة المُشمسة، التي يمكثان فيها وقتاً قليلاً. تُعتبر مشاهد البرتغال أكثر اللحظات المُضحكة في الفيلم، خصوصاً عندما يُحاول دَنْكِن السيطرة على جموح بيلا، عند تناولهما العشاء مع وجهاء، وفي رقصتها العفوية، ومحاولته، غير المجدية، السيطرة/الحَدّ على/من تحرّكاتها المجنونة. لاحقاً، يستقلّان سفينة بخارية متوجّهة إلى الإسكندرية.

رحلةٌ كهذه تفتح عينَيْ بيلا على القسوة والمعاناة والفقر. وبفضل رفقةٍ في السفينة، تتعرّف إلى كتبٍ، وتقرأ بنَهَمٍ. ما تشهده من ألمٍ وموت وبؤس يفتح عينيها على حقائق مُفزعة، كانت تجهلها، ويدفعها إلى التفكير في جعل العالم أفضل، وإنْ تطلّب الأمر تضحيات.

أخيراً، يصلان إلى باريس، بعد إفلاسٍ بسبب تصرّفاتها. هناك، يظهر تدريجياً تطوّر استخدامها المنطق والعقل، وإنْ ظلّ أسلوبها في التعامل مزعجاً وخشناً ووحشياً أحياناً. كذلك يرتقي تحرّرها إلى مُستويات أخرى، مُغايرة وصادمة. مثلاً، إزاء الإفلاس، لا تجد بيلا غضاضة في “التعهّر”، فتصبح المُفضّلة لـ”زائري” بيت الدعارة. هناك، في أحد أطول أجزاء الفيلم، تُصادق زميلة اشتراكية، تُطلعها على جانب آخر من الحياة والفكر والجنس، ما يُساهم في اطّلاعها على المزيد. ثم تصلها رسالة من ماكس عن تدهور صحّة غادوين، فتعود إلى لندن. لكنّ عودتها هذه مُغايرة تماماً، خصوصاً بعد تشكيلها/خلقها لنفسها من لا شيء، وفقاً لقواعدها الخاصة، وبعد تحرّرها من كل سُلطة.

يُعتبر “أشياء فقيرة ” وليمة صاخبة من المشاهد والأفكار والشخصيات، الرئيسية والثانوية. لكنْ، مع كلّ تقدير للخبرة والعمر والأداء الرائع، يبقى تمثيل إيما ستون مُذهلاً ومتفرّداً، إلى حدّ يمكن القول معه إنّه “فيلم إيما ستون”، شخصيةً وأداءً. تكفي براعتها في تشكيل شخصية بيلا، ونموّها وتطوّرها من الطفولة والمراهقة إلى البلوغ، بكلامها وسلوكها ولغة جسدها. تطوّر مُعقّدٌ أدائياً، من مشهد إلى آخر. وأيضاً، تعاملها مع الكوميديا، وخصوصاً المشاهد المُتعلّقة بالجنس، لأنّ أي أداء أقلّ جرأة لم يكن سينجح ويُقنع.

أمورٌ كهذه لا تُحسب فقط إلى براعة السيناريو والحوار، ولا إلى استغلال لانتيموس، البارع، لموهبة ستون إلى أقصى حَدّ، بل أساساً إلى تفوّقها. وذلك في أحد أغرب أدوارها، وربما أفضلها وأكثرها اختلافاً، إلى الآن.

 

الـ cinarts24  في

02.10.2023

 
 
 
 
 

داااااالي”.. رؤية عبثية للفنان بنكهة بونويل

أمير العمري

لم يكن هذا فيلماً ككل الأفلام التي شاهدناها في الدورة الـ80 من مهرجان فينيسيا السينمائي (30 أغسطس- 9 سبتمبر) بل جاء في الحقيقة، مفاجأة لعشاق السينما، فالفيلم عرض خارج المسابقة، وكان يمكن جدا أن يكون في المسابقة بل وأن ينال أيضا إحدى الجوائز، بتفرده وتميزه وطرافته الشديدة، وسط غيره من الأفلام.

إنه نوع من الكوميديا الجادة- إن جاز التعبير- أي كوميديا تلعب على الخيال، والمتخيل، وتقوم على افتراضات ترتبط بالشخصية الشهيرة التي تتناولها، أي شخصية الفنان التشكيلي الكبير سلفادور دالي (1904- 1989). وأنت طيلة الوقت، تضحك لكنك تفكر، وتشحذ تفكيرك لكي تتذكر ما شاهدته من لوحات وأفلام، وتعثر على ما يربطها بالفيلم، ويربط الفيلم بها.

اللقطة الأولى التي تظهر على الشاشة وتستمر لنحو دقيقة وتنزل عليها عناوين هذا الفيلم الغريب الطريف المثير، محتوياتها عبارة عن: بيانو وسط صحراء قاحلة، في قلب البيانو ثقب كبير، أو دائرة كبيرة، يتدفق منها الماء الأزرق كما لو كان من مياه البحر الذي لا وجود له، وبدلا من صوت تدفق الماء نسمع صوت الموسيقى مع دقات البيانو السريعة.

إنها لقطة سيريالية تماما، تتسق مع عالم الفنان السريالي الشهير سلفادور دالي الذي يقدم الفيلم أكثر من “بورتريه” له، في جنونه وهوسه بالذات، وشخصيته الطاغية المهيمنة، وعلاقته بالعالم، فهو ليس عن رسوماته، بقدر ما هو عن دالي نفسه، أو دالي كما يراه الفنان والسينمائي الفرنسي الموهوب كونتين ديبيو Quentin Dupieux، في سياق كوميدي يمتلئ بالمبالغات المقصودة التي تنسجم مع أسلوب دالي نفسه، وتنبع الكوميديا من هذه المفارقات الكثيرة التي يتضمنها الفيلم، وأهمها اللعب على مشهد الحلم الشهير من فيلم “سحر البورجوازية الخفي” للمخرج السيريالي الاسباني الكبير لويس بونويل. والفيلم بأسره يعتبر بمثابة تحية إلى هذين العملاقين اللذين شكلا سيريالية القرن العشرين.

فيلم “داااااالي” Daaaaaaali “متعة للعين وللأذن، لعشاق السينما الخالصة، هذه المرة، في قالب ساخر، فيه جموح وجنون، المخرج والمؤلف ديبيو الذي عُرف بنظرته التهكمية للعالم. وهو هنا يتهكم، ويضحكنا، ويسخر ويذكرنا، ويرسم صورة متخيلة للفنان التشكيلي المرموق، قد تكون فيها ملامح كاريكاتورية كثيرة، إلا أنها تعبر أيضا عن حبه، وإعجابه بهذا الفنان الجامح.

الفيلم لا يروي قصة حياة دالي ولا يلخصها، ولا يزعم أصلا أنه سيقدم لنا “الحقيقة” عن دالي، بل إنه يفتتح فيلمه بعبارة مكتوبة على الشاشة تقول كلماتها إن ما سنشاهده هو عبارة عن “سيرة حقيقية مزيفة”، وهي عبارة ساخرة تتسق مع الأسلوب العام للفيلم، وأسلوب مخرجه، المعروف بأفلامه الكوميدية الساخرة التي تتميز أيضا بأسلوبها السيريالي. وديبيو فنان سينمائي شامل بمعنى الكلمة، فهو الذي كتب فيلمه، وصوره وقام بعمل المونتاج له، إلى جانب إخراجه بالطبع.

يسير السرد في الفيلم في سياق مراوغ، مثل دالي نفسه كما نراه، والموضوع هو كيف يمكن لصحفية شابة مبتدئة، أن تجري مقابلة مع ذلك العملاق الذي سيظهر لنا في صورة (متخيلة بالطبع) من خلال أداء عدد من الممثلين لنفس الشخصية، كما لو كان كائنا أسطوريا، عصيا على الفهم، لا يمكنها أن تحصل منه على تفسير لأي شيء، فهو يرفض كل ما يقيد حريته، ووكل ما يرى أنه لا يمنحه ما يستحقه قدر ما يستحقه من تبجيل وتعظيم. وبهذا الشكل يكون داااااالي شخصية متضخمة الذات، والمخرج يضعه هنا أيضا في مواجهة مع السينمائي الأكثر فهما لعالمه، أي لويس بونويل الذي تعاون مع دالي في فيلميه الشهيرين (الكلب الأندلسي، والعصر الذهبي)، وكان “البوستر” الشهير لفيلمه “سحر البورجوازية الخفي” عبارة عن لوحة من دالي الشهيرة أيضا، تصور مقعدا على شكل شفتي امرأة.

المشهد الأول من الفيلم يصور فتاة مرتبكة بعض الشئ هي “جوديث”، تواجه الكاميرا وتخاطبنا مباشرة قائلة إنه يومها الأول كصحفية، أرادت الحصول على سبق صحفي مع شخصية مشهورة مثل الفنان دالي، وهي الآن تنتظره خارج غرفة في فندق متواضع، ثم يظهر هو بشحمه ولحمه وشاربه المميز الشهير، يدق الأرض بعصاه، يلف جسده برداء تبرز من تحته بذلته، مع قبعة من الفراء على رأسه، كأنه طاووس يتهادى في نهاية ردهة الفندق الطويلة، يسير وهو يهتز يمينا ويسارا، تصاحبه موسيقى صاخبة تعلن عن ظهوره. تتطلع إليه “جوديث” مبهورة.. كلها أمل. ولكن كلما أوشك على أن يصل إلى حيث تقف في مقدمة الردهة، نعود مرة أخرى عبر القطع (في المونتاج) من دون أي اعتبار لما يعرف بالـ jumb cut إلى بداية اللقطة، ليقطع الفنان المسافة مرة أخرى، وهو يشكو من هذه الفنادق الرخيصة الرديئة، التي لم يسبق له أن وجد نفسه في أحدها من قبل. وبعد تكرار اللقطة 4 مرات، يصل المشهد إلى ذروته السيريالية، ليطلب دالي من جوديث ضرورة توفير ماء معدني كاف للشرب، قائلا “كلما أسير كثيرا.. أعطش كثيرا”.

يجلس دالي لكي يدلي بالمقابلة التي يفترض ألا تزيد عن 15 دقيقة، ولكنه وبعد كل هذا الجهد والترقب، يقطع حضوره وينهض غاضبا مصرا على الانصراف لأنه لا يجري حوارات صحفية لحساب الصحافة المطبوعة، وأنه بقامته، لا يمكن أن يتحدث سوى أمام كاميرا “سينماتوجرافية” فهي فقط ما يليق به وبتاريخه وفنه.. التسجيل السينمائي.

بعد شعور بالإحباط، تعثر جوديث على منتج سينمائي يتحمس لتسجيل المقابلة تمهيدا لعمل فيلم تسجيلي عن الفنان الشهير، ويوفر كاميرا لتسجيل المقابلة، وبعد إلحاح من جانب جوديث، يوافق دالي ويذهب إلى مكان المقابلة لكنه في خضم إعجابه بذاته ومغالاته في التمنع، يصطدم بالكاميرا فيقلبها لتنكسر، وتفشل المقابلة للمرة الثانية، لكن المحاولة تستمر بعد أن يطلب المنتج من جوديث أن تغريه بتوفير كاميرتين من الكاميرات الكبيرة الاحترافية التي يستخدمها كبار المخرجين في السينما، مع معدات إضاءة وماكياج وما إلى ذلك.

يوافق دالي على أن تجري المقابلة معه على شاطئ البحر بالقرب من مكان إقامته في كوستا برافا، على أن يذهب إلى مكان المقابلة (التي ستصور) بسيارته الرولز رويس. لكنه سرعان ما يجد ذريعة أخرى تجعله يتراجع ويغادر مكان التصوير وهو حانق، فهو يريد أن يخرج المقابلة بنفسه، يحدد زاوية الكاميرا والإضاءة وحجم اللقطة، وغير ذلك. وهو ما لا يصبح مقبولا من جاب طاقم التصوير.

الفيلم يصور دالي كشخص يهتم بذاته وصورته التي تظهر على الناس، أكثر مما يهتم بفنه والحديث عن فنه. ويقوم بدور دالي خمسة ممثلين في مراحل عمره المختلفة، ولكنهم يحافظون جميعا على تلك النظرة الشهيرة التي توحي بجنون العظمة في عينيه، كما أنه يتحدث دائما بلكنة فرنسية مدرسية خشنة مبالغ فيها، ويضغط على الكلمات كثيرا، وعندما يشير إلى نفسه، لا يقول أنا، بل يقول “دالي”، أي “دالي يرى أنه يجب أن يكون هناك كذا وكذا”، و”دالي لا يقبل مثل هذا الهراء..”. إنه شخصية كاريكاتورية عبثية تماما، حتى عندما يتعلق الأمر بفنه، سيأتي من يعرض عليه لوحة يقول إنه دفع فيها مبلغا كبيرا من المال، وأنه يريد فقط أن يوقعها له باعتبارها من أعماله، فيقبل ولكنه يضع توقيعه بحيث يخفي جانبا كبيرا من اللوحة نفسها، لكنه سيعود لإدانتها ووصفها بالمزورة.

علاقة دالي بالفن، وبلوحاته، لا يخصص لها الفيلم مساحة كبيرة، بل يكتفي بالإشارة الساخرة إلى أنه يستوحي من مناظر معينة يقوم هو بتركيبها أمامه، من وحي مخيلته بالطبع، فهو على سبيل المثال، يجعل رجلا ذي وجه طويل مسحوب كأنه “زلومة” فيل، يقف يلتصق به رجل آخر يضع منديلا في فمه، والخلفية أرض جرداء قاحلة، يتململ الرجلان لأنهما في حاجة إلى فسحة للراحة، بينما يجلس دالي، غير مبالٍ، يحاول إكمال اللوحة، يقطع اندماجه التليفون الذي يأتيه به الخادم ليجد على الخط “جوديث” تطلب المقابلة للمرة الثالثة.

ولكن من الذي يأتيه باللوحة المزورة؟ إنه قس يريد أولا أن يعرض اللوحة للبيع ويحصل على مبلغ كبير للكنيسة. ثم يدعو دالي وزوجته “جالا” إلى العشاء في منزله، مع رجل آخر وزوجته. ومن هنا سيدخلنا الفيلم في فيلم آخر، أو بالأحرى، في حلم من داخل حلم، وفيلم من داخل فيلم، مستوحيا عالم لويس بونويل في “سحر البورجوازية الخفي”. ونحن نتذكر أن ذلك الفيلم، كان يعتمد على الكشف عن فظائع المؤسسة المهيمنة، من خلال الكشف عما يختزنه العقل الباطن وتكشف عنه الأحلام، وهنا يروي القس حلماً وراء حلم، ينتهي في كل مرة النهاية نفسها، فيتم قتل القس بإطلاق النار عليه من طرف أحد رعاة البقر!

يغادر دالي ورفيقته حفل العشاء، لكنهما يعودان باستمرار، في سرد غير متسق، وغير مترابط، وغير خطي، بل سيريالي في بنائه ومكوناته، ومنها لقطات لتناول الطعام التي صورت ويتم عرضها بطريقة معكوسة، فدالي مثلا يلفظ الحساء بينما هو يلتقطه. ويكتشف دالي من خلال هذه الصور الخيالية التي تتعاقب في مخيلته، تعاقب الزمن، ويرى نفسه عجوزا طاعنا في السن، مقعدا على كرسي متحرك، وأنه لم يعد لديه وقت طويل يضيعه، وأن الحياة قصيرة. ويحاول الهرب من هذه الفكرة المرهقة، والتعالي عليها ورفضها.

الفيلم بأسره، بما فيه محاولة جوديث، التي سنعلم أنها كانت في الأصل صيدلانية، ثم أرادت أن تصبح صحفية، إجراء المقابلة المستحيلة مع دالي، قد يكون مجرد حلم طويل، وربما أن دالي الذي نراه هنا، مضخما (داااااالي) ليس سوى صورة متخيلة عن دالي الفنان صاحب الإنجازات الكبيرة في عالم الفن.

إننا أمام رؤية ساخرة، لكنها صادقة، مليئة بالعبث والتهكم والصور الصادمة، لكنها تلخص في النهاية، الشخصية الغريبة العبقرية، وتقول لنا إنه من المستحيل الإحاطة بها وفهمها فهماً منطقيا في ضوء ما نعرفه عنها، سواء في ضوء الدراما أو التاريخ. وما المحاكاة هنا سوى تأكيد على قدرة “السينماتوجراف” على الخداع والتلاعب بالوسيط، وبالجمهور أيضا. وهو جزء من عظمة السينما!

 

موقع "عين على السينما" في

13.10.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004