ملفات خاصة

 
 
 

"فينيسيا" و"نتفليكس": أفلامٌ تُرضي الجمهور فيستقبلها المهرجان

فينيسيا/ محمد هاشم عبد السلام

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثمانون

   
 
 
 
 
 
 

مع كلّ إعلان سنوي عن برنامج "مهرجان فينيسيا السينمائي"، تبدأ التكهّنات عن مدى مُشاركة المنصّة الأميركية "نتفليكس" بجديدها فيه: كم عدد الأفلام، في المسابقة أو خارجها؟ ما العناوين المطروحة؟ من هم مخرجوها؟

منذ سنوات قليلة، بعد توسّع الإنتاج الضخم للمنصّة، لا يجد "مهرجان فينيسيا" غضاضة في عرض إنتاجاتها في برامجه المختلفة، وحتى كفيلم افتتاح. مهرجانات دولية كبرى اتّخذت النهج نفسه، كـ"مهرجان برلين"، باستثناء مهرجان "كانّ"، الذي لا يستطيع قبول أفلامها وبرمجتها، لأسباب قانونية خاصة بعرض الأفلام المشاركة في دوراته في الصالات الفرنسية، ما أخرجه من سباق الحصول على أفضل أفلام المنصّة، متيحاً بذلك لـ"مهرجان فينيسيا"، تحديداً، الفوز بأغلب الإنتاجات المُهمّة لـ"نتفليكس"، ولغيرها من منصّات البثّ عامة. علماً أنّ "نتفلكس" تتفوّق على منصّات أخرى، كـ"أمازون" و"أبل" و"إتش بي أو ماكس" و"سوني".

المُثير للانتباه، بشدّة، أنّه، عند مراجعة مشاركات المنصّة في "مهرجان فينيسيا"، تتّضح أمور عدّة، منها المشاركة السنوية بثلاثة أفلامٍ، على الأقل. ورغم أنّ إنتاج المنصة مختلف الأنواع السينمائية، يغلب على أفلام هذا المهرجان نوعٌ واحد: أفلام السيرة الخاصة بشخصيات عامة، أو بالمخرجين أنفسهم. هذه أمثلة"روما" (2019) للمكسيكي ألفونسو كُوارون، سيرةٌ لمُخرجه، أو لجزء مُهمّ ومُؤثر من حياته؛ "يد الله" (2021) للإيطالي باولو سورينتينو، عن بعض حياة مخرجه؛ "شقراء" (2022) للأسترالي النيوزيلندي أندرو دومينيك، عن بعض حياة مارلين مونرو؛ "باردو" للمكسيكي أليخاندرو غونزاليس إيناريتو، عن شخصية المخرج وحياته. حديثاً، هناك "مايسترو" (2023) للأميركي برادلي كوبر، عن الموسيقي الأميركي ليونارد برنستاين.

كذلك، تتواجد المنصة بشكل ملحوظ بفضل أفلام دراما الإثارة والتشويق: "أغنية باستر سْكرَغز" (2018) للأخوين الأميركيين جويل وإيثان كوين، و"المغسلة" (2019) للأميركي ستيفن سودربيرغ، و"قوّة الكلب" (2021) للنيوزيلندية جاين كامبيون، و"أثينا" (2022) للفرنسي رومان غافراس، و"ضوضاء بيضاء" (2022) للأميركي نواه باومباك. أخيراً، هناك "القاتل" (2023) للأميركي ديفيد فينشر: فيلمُ جريمة وإثارة بقوّة. كما يُمكن إضافة "الكونت" (2023) للتشيلي بابلو لارين.

من الأفلام التي تجمع الفني بالتجاري والترفيهي، المشارِكة في الدورة الـ80 (30 أغسطس/آب ـ 9 سبتمبر/أيلول 2023) لـ"مهرجان فينيسيا"، هناك "القصة الرائعة لهنري شوغر" (2023)، فيلم قصير (37 دقيقة) للأميركي وس أندرسن؛ وفيلم الختام "مُجتمع الثلج" (2023) للإسباني خوان أنتونيو غارثيا بايونا.

الأفلام المذكورة ليست كلّ المعروض في المهرجان، في الدورات الماضية، وإن تكفي لطرح تساؤلات عدّة عن فرض "نتفليكس" نفسها، وشروطها طبعاً، في السوق العالمية؛ وتأثير هذا على المهرجانات. فهل للمنصة خطّة مُحدّدة لإنتاج أفلام محدّدة، خاصة بالمهرجانات أولاً، قبل عرضها لاحقاً على شاشتها، فيشاهدها جمهورها المشترك بها؟ هل تكرار هذه الأنواع السينمائية المتواجدة في المهرجان، في سنوات متتالية، مجرّد صدفة، أو أنّ لتكرارها غاية معيّنة؟ طبعاً، يصعب الحديث عن وجود/عدم وجود اتفاق ما بين "مهرجان فينيسيا" والمنصة، لضمان وجود أفلامها، سنوياً، بين الأفلام المختارة، بصرف النظر عن مستواها.

التساؤلات تنسحب أيضاً على مدى الحرية (كاملة؟ منقوصة؟) التي يتمتع بها المخرجون، إزاء إغراء التمويل، وربما المشاركة في المهرجان. لا شكّ أنّ البعض يصنع ما يُريده فعلاً، كغونزاليس إيناريتو (باردو) وكُوارون (باردو). لكنّ هذا لا يمنع أنّ البعض الآخر، ولو بطريقة غير واعية، يضع في الحُسبان أنّ الفيلم مُنتَجٌ لجمهور يُفضّل نوعاً مُحدّداً من دون سواه، فـ"يُرضيه".

الأسئلة المُثارة مردّها ليس التواجد السنوي للمنصة في المهرجان ومسابقته الرئيسية، ولا لتكرار النوع، بل المستوى الفني في دورة هذا العام. أمر بدا واضحاً في "القاتل" لفينشر، الذي وصفه ألبيرتو باربيرا، المدير الفني، بأنّه عنيف جداً، ومُذهل من البداية إلى النهاية، مُثنياً على روعة أداء ممثله الأساسي مايكل فاسبندر. هذا يُثير علامة استفهام حول رأي مُدير فني، هو ناقد سينمائي أساساً، في فيلمٍ كهذا، لا جديد فيه أبداً. ربما هناك بعض التشويق، لا أكثر، لكنْ من دون غموض وعمق.

طبعاً، الفيلم مصنوعٌ جيداً، والأداء لا بأس به. لكنّه، بروحه وإيقاعه وطول مدّته (118 دقيقة)، وجوانب أخرى مُختلفة، يُناسب تماماً أفلام "نتفلكس" أكثر من أي شيء آخر: قاتل مأجور (فاسبندر) يفشل في تنفيذ عملية قنص مُكلّف بها، ما يُعَرِّض زوجته لانتقام رؤسائه، لعدم استطاعتهم التخلّص منه، فيضطر للثأر لها من جميع الذين أذوها، ومنهم قاتلة، تؤدّيها تيلدا سوينتن، التي تمثّل في الفيلم دوراً صغيراً لا أهمية له أبداً، كان يُمكن لأي ممثلة أخرى أنْ تُؤدّيه.

أما التشيلي الموهوب بابلو لارين، فيبدو أنّه يُغازل جمهور "نتفليكس"، فيصنع فيلماً يتماهى والأفلام الرائجة والمُحبّبة للمُشتركين بالمنصة. صحيحٌ أنّ أفلام مصّاصي الدماء من النوع العريق في السينما، الذي له أهميته وجمالياته وثقله وجمهوره. لكنّ تركيبة لارين، في تقديمه فيلماً سياسياً ـ اجتماعياً، قوامه خلطة فلسفية خيالية فانتازية، لم تنجح، إذْ نرى شخصية الديكتاتور الفاشي أوغوستو بينوشيه، المعروفة تاريخياً، مصّاصَ دماء عابراً للأزمنة، يعيش أكثر من قرنين، ويُحلّق في سماء البلد ليختار ضحاياه ممن سيقتلهم ويمتصّ دماءهم ويلتهم قلوبهم، في مشاهد دموية متكرّرة، مثيرة أحياناً ومزعجة أحياناً كثيرة. ورغم جديد الفكرة والطرح، بعض الشيء، جاء الفيلم دون المستوى، حتّى مُقارنة بأفلام سابقة للمخرج نفسه، خاصة أنّ الفكرة استنزفت نفسها منذ الدقائق الأولى لـ"الكونت".

أفلام السيرة، التي تنتجها "نتفليكس"، تكون جيّدة غالباً. في هذه الدورة، يتفوّق "مايسترو" على كل ما أنتجته سابقاً. ربما بفضل موهبة برادلي كوبر، الإخراجية والتمثيلية، وربما لأنّ الأميركيَّين مارتن سكورسيزي وستيفن سبيلبيرغ مشاركان في إنتاجه، ما يعني الكثير جداً في المستويات المختلفة: حياة ليونارد برنستاين (1918 ـ 1990)، أحد أكبر المؤلّفين الموسيقيين المعاصرين وأهمّهم، وقائد الأوركسترا وعازف البيانو، وكيفية صعود نجمه وبروز موهبته الفذّة. أداء كوبر للشخصية يؤهّله بسهولة للمنافسة على جائزة أفضل ممثل، بفضل التنقّل البارع من شباب ليوناردو في أول حياته، إلى تعرّفه على حبيبته الممثلة المسرحية الموهوبة والمشهورة فيلتشيا (كاري موليغان)، وزواجهما الذي استمرّ ربع قرن، وإنجابهما ثلاثة أبناء، رغم الصعوبات والعقبات، والمثلية الجنسية لبرنستاين، الذي رغم هذا يُحبّ زوجته ويُخلص لها ولبيتهما وعائلتهما؛ وصولاً إلى أداء مغاير تماماً في مُنتصف العمر، وعند الانتقال إلى الألوان في نصف الفيلم، بدلاً من اللونين الأسود والأبيض، واستعراض الفترة الأخيرة من حياته، بعد وفاة زوجته.

 

العربي الجديد اللندنية في

11.09.2023

 
 
 
 
 

مهرجان البندقية وزّع جوائز دورته الثمانين: "الأسد" للانثيموس محرر المرأة بلا تنازلات!

هوفيك حبشيان

دورة أخرى، تحمل الرقم 80، من #مهرجان البندقية السينمائي (30 آب - 9 أيلول)، وهو الأبعد زمنياً بين كلّ التظاهرات السينمائية، انتهت مساء السبت الماضي، بفوز "كائنات مسكينة" لليوناني يورغوس لانثيموس، بجائزة "الأسد الذهب"، تسلّمها من لجنة تحكيم ترأسها المخرج الأميركي داميان شازيل. بعد 11 يوما من المشاهدة، و23 فيلماً مرشّحاً مستوى معظمها ما بين الجيد والممتاز والعظيم، توصّلت اللجنة إلى قائمة جوائز يتبين من خلالها الحرص على خلق توازن بين الفنّ الخالص والقضايا التي يرزح تحتها عالمنا، وفي مقدّمها البيئة واللجوء وتحرر المرأة.

بعد سلسلة جوائز جمعها بين كانّ والبندقية، المهرجانين اللذين صنعا "مجده"، نال لانثيموس، 50 عاماً، الجائزة الكبرى مع فيلمه هذا، في تكريس غير مسبوق لعمله واسلوبه وأفكاره وهواجسه. منذ عرضه الأول في أول أيام المهرجان، حصد الفيلم آراء صارخة في إيجابيتها، وأثار ردودا تنبأت بأنه سيكون له نصيب من الجوائز. نال تصفيقاً حاراً، وكان هذا التصفيق الأقوى على مدار المهرجان. ولم يتوقّف الحضور عن الضحك طوال مدة العرض التي تجاوزت الساعتين وعشرين دقيقة. هناك مَن شبّه هذا العمل العجيب بـ"فرنكنشاين"، النسخة النسائية.

أصبح يورغوس لانثيموس "قيمة" في مجال الفنّ الصوري الذي يفتح أبوابه على فكرة ان المستحيل ليس سينمائياً. بعد سلسلة أفلام تحرّض المُشاهد على نبذ المعتاد والمكرور، بدأ هذا اليوناني يبحر في محيط أوسع من ذلك الذي كان مجاله في بداياته، واللافت انه لم يخسر شيئاً من حسّه الابتكاري، خلافاً للعديد من أسلافه الذين خسروا شيئاً ما، عندما انتقلوا من الهامش إلى المتن. سُرق لانثيموس من بلده اليونان، لكن لم يُسرق من نفسه وهواجسه التي لا يزال يمارسها بحرية وبموازنات ضخمة وممثّلين كبار من الذين يمتلكون حسّ المغامرة. الموهبة خلف الأطلسي، تُعتبر منجم ذهب، لا عاقل يفرط فيه.

يبث "كائنات مسكينة" مشاعر الاضطراب والقلق والسقم التي عوّدنا عليها المخرج في أعماله السابقة. يمدّنا بإحساس انه ينبعث من جديد، خصوصاً في ضوء النسوية، التي ساعدته في نيل الجائزة المهيبة، لكن من دون ان يعطي الانطباع بأنه ينبطح أمامها ويقدّم تنازلات فنية سخيفة من أجلها. فهو ينتصر لسينما ترد الاعتبار إلى شخصية نسائية ملهمة، قد تصبح قدوة مع الزمن، لكن الشكل دائماً هاجسه الأول، متداخل في الموضوع ومشبّع به.

باكستر (ويلَم دافو في دور يبرع فيه) دكتور غريب يعاني تشوّهات في وجهه تحوّله مسخاً. تبدأ الحكاية مع انتشاله جثّة سيدة (إيما ستون في ذروة عطائها) ألقت بنفسها من أعلى الجسر هرباً من زوجها. تتمّة القصّة من أغرب ما يكون: سيبدل الدكتور مخ مَن سيسمّيها بيلا، بمخ جنينها، وفي النتيجة سيعيدها إلى الحياة. من متخلّفة عقلياً، بعد خضوعها للجراحة العجيبة، ستغدو بيلا تدريجاً (وهي خلاصة اختراع علمي مجنون)، إنسانة جديدة لها قرارها الخاص وحرة في اختياراتها الحياتية، ممّا سيجعلها تنتقل إلى باريس حيث ستسلّم نفسها لرغباتها الدفينة. جنس وعمليات جراحية، مَشاهد عنف وتوحّش وأشكال مخيفة، جلود ولحوم بشرية ودم… هذا بعض ممّا نراه في الفيلم.

اقتبس لانثيموس "كائنات مسكينة" من رواية للكاتب الاسكتلندي ألازدير غراي صدرت في العام 1992، فحوّلها إلى عمل فانتازي علمي-خيالي سوريالي مشغول بالسرد وبقول حكاية، بقدر اهتمامه بالتعليق والإضافة، وربط هذا كله بتاريخ سينما معينة، هي سينما الكائنات المشوهة والغامضة من ذوات القلب الكبير. يروي لانثيموس الحكاية بشكل خطي، واضح، محترماً عقل المُشاهد، فنغرق حتى الرأس في تفاصيلها الكثيرة والمثيرة، ولا فكاك من تأثيرها الضاغط علينا حتى بعد الخروج من الصالة.

***

المخرج الياباني روسوكيه هاماغوتشي أُسندت إليه جائزة لجنة التحكيم الكبرى عن "الشر غير موجود"، وهو فيلم يغرق تحت شعور الملل الذي يبثّه. تقع الأحداث في قرية محاصرة بالغابات، على مقربة من طوكيو. مشروع جديد قيد الدراسة، سيغير حياة سكّانها ويشعرهم بالخوف من الآتي: انشاء منتجع سياحي ذي تأثير سلبي على بيئة يعيش فيها الناس الذين سيتلقونه كضربة لعيشهم الهانئ مع الطبيعة. لكن هناك هواجس أخرى أيضاً، تتجاوز المشروع وامكان تحقيقه، ونرى انعكاساتها على رجل وابنته وواقعهما اليومي. ما يصوّره هاماغوتشي هو ما سيولّده هذا المشروع من ردود على الأصعدة كافة، لكن الفيلم لا يكتفي بهذا الحدّ، بل يدخل في "متاهات" أخرى، لا تكون دائماً لمصلحته. هذا ليس أضعف أفلام المسابقة التي خالفتنا لجنة التحكيم في الرأي، بل هناك أيضاً "الكونت" للتشيلياني بابلو لاراين الذي أُعطي جائزة أفضل سيناريو.

جائزة أفضل مخرج ذهبت إلى الإيطالي ماتيو غاروني الذي اعتاد حتى الآن عرض أعماله في كانّ. جديده "أنا القائد" يروي مأساة اللاجئين الأفارقة الذين ينتقلون من طريق البحر إلى إيطايا، باحثين عن واقع جديد وملجأ يحميهم ممّا يعانون منه في بلادهم المنكوبة. هذا العمل الذي يفتح ملف الهجرة غير الشرعية التي تعاني منها إيطاليا، خصوصاً في مناطقها القريبة من القارة الأفريقية، نال أيضاً جائزة ماستروياني لأفضل ممثّل صاعد (سايدو سار)، وهو يشبه إلى حدّ ما "حدود خضراء" (نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة)، فيلم البولدنية أغنيشكا هولاند التي صوّرت لاجئين سوريين وأفغانا في بولندا، والنحو الذي يتعامل فيه رجال الأمن معهم. أغضب الفيلم الحكومة البولندية التي اعتبرت ان ما تُريه المخرجة اليسارية ما هو الا معلومات مضللة لا تمت إلى الواقع بصلة.

العديد من أعمالنا المفضّلة، كـ"دوغمان" للوك بوسون و"وحش" لبرتران بونيللو و"ذاكرة" لميشال فرنكو، ظلت بعيدة من لائحة الجوائز، باستثناء الأخير الذي أُسندت اليه جائزة التمثيل الرجالي لبيتر سارسغارد. ووقعت إيما ستون التي قدّمت أداء مدهشاً في "كائنات مسكينة" ضحية قوانين المهرجان التي لا تسمح بإعطاء جائزة ثانية لفيلم نال "الأسد"، فذهبت جائزة التمثيل النسائي نتيجة هذا القرار إلى كايلي سباني عن دورها في "بريسيلا" لصوفيا كوبولا، حيث تلعب دور زوجة إلفيس بريسلي، علماً ان ليا سايدو كانت تستحق أيضاً هذه الجائزة، أكثر منها، عن دورها في "الوحش"، لكن حسابات وآراء لجان التحكيم نادراً ما تتوافق مع أذواق النقّاد وخياراتهم.

 

النهار اللبنانية في

11.09.2023

 
 
 
 
 

«البندقية» يختتم دورته الثمانين: عذابات اللجوء على أبواب أوروبا

شفيق طبارة

أول من أمس، اختتم «مهرجان البندقية السينمائي الدولي» عروضه التي استمرت حوالي عشرة أيّام، ليثبت نجاحه بكل المقاييس رغم الغياب الأميركي الملحوظ هذه المرة. تميّزت هذه الدورة بسيطرة أفلام السير، والإنتاجات الإيطالية السيئة، والحضور الهوليوودي، فيما عكس توزيع الجوائز مزاج لجنة التحكيم الذي راوح بين المشاغل الأوروبية الراهنة... والمناخات القوطية الغريبة على طريقة يورغوس لانثيموس!

البندقية | بعد إسدال الستارة على الدورة الثمانين من «مهرجان البندقية السينمائي الدولي» أول من أمس، وتوزيع الجوائز على مستحقّيها مع بعض التحفظات، اتّضحت صورة المواضيع والأفكار والقضايا التي مالت إليها لجنة التحكيم برئاسة المخرج الأميركي داميان شازل، ووزّعت جوائزها على المشاركين وفقها.

الدورة الثمانون كانت ناجحة بكل المقاييس. وكما عودتنا الـ«موسترا»، فهي تتغلّب دوماً على العواقب والتحديات. وهذه السنة، تمثّل التحدي الأكبر في إضراب الممثلين والكتّاب الأميركيين. لم نشاهد عدداً كبيراً من نجوم هوليوود على السجادة الحمراء، لم يأت عدد كبير منهم، لكنّ المهرجان ظل ناجحاً حتى في غيابهم.

أما بالنسبة إلى الأفلام، فقط لاحظنا أن هذه السنة هي سنة أفلام السير، والمهاجرين على أبواب أوروبا، والأفلام الإيطالية السيئة، وطبعاً هوليوود الحاضرة دائماً. أما جائزة «الأسد الذهبي»، فقد ذهبت إلى المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس عن فيلمه «أشياء مسكينة». ستة أفلام سير شاركت في المسابقة الرسمية: فيلمان عن المهاجرين، وحصد منها اثنان جوائز في النهاية، بالإضافة إلى عدد من الأفلام الإيطالية التي كانت الأضعف في المسابقة، وأفلام أخرى من عدد من الدول مثل هنغاريا واليابان وألمانيا وفرنسا.

فيلم «أشياء مسكينة» الذي نال جائزة «الأسد الذهبي»، هو بلا شك الأهم والأجمل في المسابقة الرسمية. كانت النتيجة واضحة بعد عرض الفيلم في ثالث أيام المهرجان. «أشياء مسكينة»، مقتبس من رواية بالعنوان نفسه للروائي ألسدير غراي، صادرة عام 1992. في الفيلم، بنى يورغوس لانثيموس عالماً غريباً من صفحات الأدب القوطي الفيكتوري. غاص مع بطلته بيلا باكستر (إيما ستون) في معنى الحياة من خلال عقل طفلة تعيش في جسد امرأة بالغة وتكتشف الحياة والجنس من دون حواجز.

أيضاً، فاز الإيطالي ماتيو غاروني بجائزة أفضل مخرج عن فيلمه الدرامي «أنا الكابتن» الذي يضيء على مكابدات الهجرة واللجوء، بينما فاز الممثل الجديد سيدو سار بجائزة أفضل ممثل شاب عن أدائه في الفيلم، حيث لعب دور مراهق سينغالي يغادر وطنه صوب أوروبا. شريط غاروني هو من هذه الأفلام التي لا تقدم جديداً في موضوع الهجرة. هو يعرض فقط ما يتعرض له المهاجرون من مصاعب خلال رحلتهم إلى أوروبا. نشاهد في الفيلم كل العذاب الذي تعرّض له بطلنا حتى وصوله إلى إيطاليا. نشاهد سجنه وتعذيبه في ليبيا، وبعد ذلك شراءه كعبد ليعمل بالسخرة. فيلم غاروني مؤلم للنظر طبعاً، ولكنه، في الوقت نفسه، يقدم موضوع الهجرة من منظور الرجل الأوروبي، نافضاً عنه الإحساس بالذنب تجاه من يحاول الوصول إلى شواطئهم. فيلم آخر عن المهاجرين قدمته المخرجة البولندية أنييسكا هولاند، فحصدت جائزة لجنة التحكيم الخاصة. إنّه «الحدود الخضراء»، دراما تدور حول اللاجئين العالقين على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا. فيلم هولاند أفضل بكثير من فيلم غاروني، قدمت فيه بطريقة صادقة من دون استغلال قصص اللاجئين من الشرق الأوسط وأفريقيا ممن يحاولون الوصول إلى الاتحاد الأوروبي، فيجدون أنفسهم محاصرين في أزمة جيوسياسية دبّرها الرئيس البيلاروسي، في محاولة لاستفزاز أوروبا. فيلم هولاند يتحدث معنا مباشرةً، مع قلبنا، ويتحدانا لاتخاذ الخيارات الأخلاقية. يذكر هنا أنّ أعضاء في الحكومة البولندية اليمينية المتطرفة، بما في ذلك وزير العدل البولندي، هاجموا هولاند بسبب الفيلم وقارنوه بـ«الدعاية النازية». وقالت المخرجة في المهرجان إنها سترفع دعوى تشهير إذا لم يعتذر الوزير رسمياً ويتراجع عن تعليقاته.

جائزة أفضل ممثل ذهبت بجدارة للأميركي بيتر سارسغارد عن دوره في «ذاكرة» للمكسيكي ميشال فرانكو

جائزة لجنة التحكيم الكبرى ذهبت للمخرج الياباني ريوسوكي هاموغوتشي. في جديده «الشر غير موجود»، يأخذنا هاموغوتشي إلى قرية ميزوبيكي بالقرب من طوكيو، حيث يعيش تاكومي وابنته هانا مثل الأجيال التي سبقتهما، حياة متواضعة وفقاً لدورات الطبيعة ونظامها. في أحد الأيام، أصبح سكان القرية على علم بخطة لبناء موقع تخييم بالقرب من منزل تاكومي يوفّر لسكان المدينة «ملاذاً» مريحاً في الطبيعة. عندما يصل ممثلان عن الشركة من طوكيو إلى القرية لعقد اجتماع، يصبح واضحاً أنّ المشروع سيكون له تأثير سلبي على إمدادات المياه المحلية، ما يسبّب الاضطرابات. «الشر غير موجود» يحوي كل الشر الذي يمكن أن نتخيله ويمكن أن يفعله الإنسان بنفسه وبالآخرين، فيلم مؤلم وحزين وثقيل، رحلة شاعرية عن معنى التوازن مع الطبيعة، والذكريات والإحساس المتعبة الرابضة على القلب، مع نهاية مفاجأة مروعة لم تكن متوقعة أبداً. جائزة أفضل سيناريو كانت من نصيب فيلم «الكونت» لبابلو لارين. هنا، يقدم المخرج التشيلي قصة الجنرال الديكتاتور أوغستو بينوشيه حيث ظله لا يزال يخيم على تشيلي. اختار لارين أن يقدم الجنرال باعتباره مصاص دماء حتى بعد سقوط نظامه السياسي. «الكونت» فيلم كوميديا سوداء ورعب يتخيل فيه لارين عالماً موازياً مستوحى من التاريخ الحديث لتشيلي. النصف الأول من الفيلم هو مهزلة قوية ذات قصة رمزية سياسية، وفي نهايتها حلم مزعج. لجأ لارين إلى الكوميديا ليروي ألم بلد وجيل ونجح في ذلك.

جائزة أفضل ممثلة حصدتها الممثلة كايلي سبيني عن تأديتها دور بريسيلا بريسلي في فيلم «بريسيلا» للمخرجة الأميركية صوفيا كوبولا. جائزة مستحقة لهذه الشابة التي نجحت في تقديم الشخصية بكل صدق. في بعض لحظات الفيلم، كانت عيون ووجه كايلي هي التي تتحدث، رأينا ألم وحيرة وحب بريسيلا، وهي مسجونة في قصرها الذهبي. أخذتنا كايلي سبيني في رحلة مليئة بالمشاعر، رأينا من خلالها براءة مراهقة تتحول مع السنين القصيرة إلى امرأة اتخذت قرار مصيرها بيدها.

جائزة أفضل ممثل بجدارة أيضاً ذهبت للأميركي بيتر سارسغارد. سارسغارد لعب دور رجل يعاني من التدهور العقلي أو الخرف في فيلم «ذاكرة» للمخرج المكسيكي ميشال فرانكو. برع سارسغارد في أداء الشخصية وقدم مع فرانكو فيلماً مؤلماً وحزيناً، مزعجاً، ومدمّراً، وجميلاً للغاية. فرانكو كما دائماً، مهتمّ بالأشخاص المدمّرين، بالأسر المفككة، وفي فيلمه الجديد ازداد كرهه للأمومة!

 

الأخبار اللبنانية في

11.09.2023

 
 
 
 
 

الدورة 80 لمهرجان فينسيا .. عن قضايا اللاجئين والمتحولين والعالم الذى يرفض بشرًا جددًا

«الحدود الخضراء» يشتبك مع قضية الهجرة غير الشرعية.. ويحصد جائزة لجنة التحكيم

كتب: رامى عبدالرازق

كأن من المفترض بحساب الأرقام أن يقترب مهرجان فينسيا السينمائى الدولى (الموسترا) من عامه الـ100 خلال بدايات العقد القادم، حيث تأسس المهرجان الأقدم عام 1932، مما يعنى أن الدورة الحالية كان من المفترض أن تحمل رقم 91، لولا الحروب والأوبئة والمشكلات السياسية التي أفقدته 9 سنوات كاملة من عمره المديد، لكن يظل موسترا هو أول مهرجان في العالم يحمل هذا الرقم الثقيل (80) وواحد من أكبر 3 مهرجانات في أروقة صناعة الخيال بجانب مهرجانى كان وبرلين.

نظرية كل شىء.. يبدو الموسترا مهرجانا حميميا في تدفق عروضه حسب مستويات مختلفة من الأذواق وثقافات التلقى والحدود المتباينة لمفاهيم السينما، وذلك لدى الشرائح التي تسعى لحضور أيامه العشرة المدججة بالأفلام، في حين لا يمتلك سوقا إنتاجية ضخمة مثل مهرجان كان صاحب الإيقاع الأشرس والأكثر صخبا بين مهرجانات العالم.

احتوت مسابقة فينسيا هذا العام على 23 فيلما من بينها 6 أفلام إيطالية! وهى نسبة كبيرة لأى بلد مضيف في العالم، والبعض غير القليل من هذه الأفلام لا يرق لأن يكون مشاركا في آخر المسابقات التنافسية الكبيرة في العام، كما يهيئ الموسترا بعض شاشاته لصالح العروض الأولى لأفلام سوف تتداولها المنصات الأشهر خلال أسابيع – فيلم عدد أو إحصاء للمخرج بابلو لارين المشارك بالمسابقة سوف ينضم إلى قائمة عروض نتفلكس يوم 15 الشهر الجارى- ولا يمانع المهرجان في أن يقدم لجمهوره أسماء مثل «القاتل» لديفيد فنشر أو «القاتل المأجور» لريتشارد لانكلاتر داخل المسابقة وخارجها، وهى تنويعات هوليوودية بحتة يمكن أن نشاهدها على mbc2 خلال عام على الأكثر.

كل هذا بجانب تجارب متقشفة في تجاريتها – كالفيلمين البولنديين «الحدود الخضراء» و«امرأة من» أو الدنماركى «الأرض الموعودة»- والتى لا تحتوى خلاياها على الجينات «الأمريكية»، وتحتاج إلى متلقين ذوى خبرات حساسة ورفيعة المقام في المشاهدة وقراءة الأفلام.

■ وداعات الكبار

عقب عرض فيلمه الأخير «ضربة حظ» هرع الصحفيون للقاء وودى آلان الذي حضر بكل هدوء إلى جمهور الموسترا الذي صفق له كثيرا، هذا الفيلم الذي أنجزه في فرنسا على مقاسه المزاجى، رومانتيكى قائم على المثلث التقليدى «الزوج والزوجة والعشيق»، وكعادته ينتقم آلان ممن يعكرون صفو العشاق في أفلامه، فالحب هو الشريعة التي يؤمن بها، حتى لو كان لدى الزوج استحقاقا اجتماعيا أوحتى قانونيا، بل إن قمة العبث أن ضربة الحظ المقصود بها عنوان الفيلم ليست هي لقاء العاشقين اللذين كانا طفلين في مدرسة واحدة وكبرا وكل منهما يحمل رائحة الآخر في ذاكرته، ولكنها الضربة التي أصابت الزوج في مقتل وبشكل قدرى وعشوائى في نفس الوقت، حين أراد أن يقتل أم زوجته لأنها اكتشفت أنه وراء مقتل العشيق الشاب، حيث يصاب بنفس الطريقة التي كان يريد أن يصفى بها المرأة التي لا ذنب لها سوى أنها بقليل من الذكاء أدركت أنه يحمل سمة القاتل.

وضمن نفس البرنامج الرسمى خارج المسابقة، حضر فيلم «القصر» آخر إنتاجات رومان بولانسكى دون أن يحضر هو بالطبع – نتيجة الأحكام القضائية التي تطارده منذ سنوات- حيث وجد جمهور الموسترا نفسه أمام تجربة هي خليط من سينما «ويس اندرسون» –تحديدا فيلمه الشهير «اوتيل بودابست»- وقليل من وودى آلان وبعض من نفحات الإيطالى روبرتو بينيو.

هذا فيلم من الصعب تصنيفه ضمن مشروعات بولانسكى المتعددة سواء على مستوى البديات (روزامارى بيبى والجار) أو المرحلة الأيروتيكية التي ختمها بأفلمة المسرحية الشهيرة فينوس ترتدى الفراء أو حتى المرحلة الأخيرة التي احتوت على خلاصه تجربته في عوالم الإثارة والأسئلة المعلقة.

كباريه سياسى بامتياز، يحتوى على شخصيات تبدو مرجعيتها «سحر البرجوازية» للإسبانى بونويل، حيث أوتيل فخم على الحدود السويسرية ليلة ميلاد الألفية الجديدة، ينتعش بالحضور الزخم لرجال أعمال ومليارديرات وأصحاب فخامة وسمو، 24 ساعة أخيرة في عمر قرن مضطرب وألفية دموية، وقرن جديد يبدأ بجثة ثرى يموت وهو يضاجع زوجته فيتخشب بداخلها وتظل علامات الدهشة والمتعة المفعة بالموت المفاجئ تعلو وجهه كرمز لموت طبقة بأكملها أو استحقاق لجزاء لم تنله خارج الشاشة، ولكنها تناله في الواقع الفيلمى. طبيب تجميل يفحص براز كلب لمجرد أن الكونتيسة صاحبته تعرض عليه أي مبلغ يطلبه، ورجل أعمال أمريكى يتواطأ مع موظف بنك سويسرى لارتكاب سرقة القرن ساعة أن يتوه النظام المصرفى لحظة انتصاف ليلة نهاية العالم، لكنه يفاجأ بحضور ابن له من فلاحة ضاجعها وقت دراسته في أوروبا الشرقية وقت الستار الحديدى السوفيتى.

يبدو «القصر»- وهو اسم الأوتيل في الفيلم- أقرب لفيلم الوداع الذي ربما لن ينجز بولانسكى تجربة أخرى بعده، إنها شهادته السينمائية على شاشة واحد من أكبر المهرجانات في العالم ونظرته لما كان وما هو كائن وربما ما سيكون في أوروبا، هذا فيلم ينتهى بكلب يضاجع بطريقًا، فأى عبث أكثر من هذا وأى نظرة سوداوية متشائمة – رغم زخم الكوميديا السوداء وسوء الفهم والتلفيقات والإفيهات الجسدية- يحملها صاحب الـ93 عاما الذي قدم نفسه للسينما بفيلم يحمل هواجس عن طفل شيطانى يولد في رحم امرأة تحيط بها جماعة سرية من عبدة الشر.

■ من سرق اللون من العالم؟

ينقسم جدول الموسترا إلى العديد من البرامج، والتى تتصدرها بالطبع المسابقة الدولية، وتليها الاختيارات الرسمية خارج المسابقة، ثم مسابقتا آفاق -المعنية بالتجارب الأولى والسرديات المغايرة- وأسبوع النقاد الذي ينضح برائحة الشباب والمغامرات الجديدة.

من بين عشرات الأفلام المشاركة بالبرامج العديدة يمكن أن نتحصل على عينة لقراءة بعض ما يشغل بال صناع السينما ضمن متاهات جغرافيا القلق والشك والدم التي تعيد رسم خريطة العالم في العقد الأخير.

ربما يمكن أن نطلق على هذه العينة عنوانًا في هيئة سؤال وجودى: «من سرق اللون من العالم؟».

في أفلام «مسكن» التركى – و«الحلبة» الإيرانى- الإسرائيلى و«الحدود الخضراء» البولندى ثمة تأكيد على أن اللون، كل اللون، ينسحب من العالم، وأن حيوات الشخصيات- التي هي انعكاسات لحيوات مجموعات عديدة من البشر- تتحرك بين قوسى الأبيض والأسود الذي يصبغ الواقع برمادية مجحفة، لا تساوى بين البشر بقدر ما ترثى لحالهم الذي فقد زهوته.

في الفيلم التركى «مسكن»- المعروض ضمن مسابقة آفاق- يعيش الطالب المراهق أحمد داخل أسوار مدينة طلبة إسلامية من تلك التي كانت منتشرة بشكل مفرط وقت حكم حزب الرفاة الإسلامى لتركيا قبل سنوات، هو لا يريد سوى أن يكون طالبا عاديا مميزا بتفوقه، لكن أباه يرفض إلا أن يكون تميزه كونه فردا في جماعة الحق من وجهة نظره، حيث الحياة المتقشفة والآحادية الشعورية والفكرية التي تعوق هرمونات مراهقته أن تمارس عملها في أن تجعله يكتشف العالم الحقيقى والجميل.

يمثل الأبيض والأسود لون الواقع كما يراه أحمد، أو كما لا يرى منه سوى اللونين الباردين، وبينما يحاول يهرب تارة أو يحاول أن يكشف حقيقة السكن الطلابى أمام السلطات التي تأتى للتفتيش بحثا عن أدلة لكون المكان غير مطابق لشروط العلمانية المفترضة للدولة.

ويحاول الفيلم أن يطرح سؤال اللون بصورة أكثر عمقا من مجرد نظرة الفتى؛ ما هو تصوره وأقرانه عن الحياة وهم يرون كل شىء عبر سياقات بلا لون ولا طعم ولا رائحة سوى رائحة الأحذية التي يخلعونها وهم يدخلون المسكن على اعتبار أنه مكان لا يقل قدسية عن المسجد!.

أما في الفيلم الإيرانى- الإسرائيلى «حَلبة» والمقصود بها حلبة الجودو- المعروض أيضا ضمن مسابقة آفاق- فإن انسحاب اللون يأتى نتيجة الموقف المر الذي تجد بطلة الجودو الإيرانية نفسها فيه وقت منافسات بطولة العالم في أمريكا، حيث تأتى مكالمة لمدربتها- التي كانت بطلة سابقة واضطرت للانسحاب قبل سنوات- من مدير الاتحاد يطلب منها أن تنسحب خوفا من أن تواجه في مراحل التصفيات بطلة إسرائيل في الجودو – أو تهزم على يديها وهو الخوف الأكبر- مما قد يتسبب في حرج لواحدة من أكثر الجمهوريات (الإسلامية) ظلامية في العالم.

يبدو الأبيض والأسود جزءا من هذه الظلامية التي تتبع كل من يغادر دولة الملالى المحتقنة بالاستعلاء وكراهية الآخر والغضب من أي صوت معارض أو مخالف أو حتى يحتكم للعقل وليس للأحكام الصادرة من أولى الأمر- في الحقيقة لا يوجد فرق كبير بين إيران وإسرائيل في هذه المسألة فكلاهما أنظمة أسست انطلاقا من أكثر الكهوف الأيديولوجيا الدينية رجعية وعنصرية- الفيلم من إخراج الإيرانية المعارضة زار إبراهيمى والإسرائيلى صاحب فيلم جولدا جاى نيتف.

يلعب الأبيض والأسود بالإضافة إلى حجم الكادر الضيق نسبيا على خنق عين المتفرج لكى ينتقل له الشعور بالحصار الشديد الذي تعيشه ليلى الحسينى بطلة الجودو، وكيف تتابع عملية فرار زوجها وابنها لأنهما أول من سوف يتم التنكيل بهما عقابا لها أو إمعانا في إذلال كرامتها من أجل أن تنسحب نهائيا.

لا لون في هذا الفيلم من البداية إلى النهاية، حتى عندما يحدث التحول الأهم بانضمام مريم مدربتها لها واعترافها بأن سبب انسحابها قبل سنوات كان أمرا ظلاميا مباشرا كهذا الذي تواجه ليلى، إلا أن المخرجين يحافظون على رمادية الواقع رغم طلب كلا المرأتين للجوء وحصولهما عليه في النهاية فالمأساة ليست أشخاصا ولكن شعبا، والواقعة ليست فردية ولكنها طائر رخ ضخم يحجب شمس الحرية عن الملايين.

تجدر الإشارة إلى أن الفيلم رغم إيقاعه شديد الرشاقة والسيناريو المطعم بتفاصيل مكثفة ذات ثقل شعورى وانفعالى شديد الوطأة – مثل مشاهد مطاردات مريم لليلى لإجبارها على الانسحاب أو مشاهد المباريات المصورة بشكل يجعل مجازها يطابق دلالات ما تتعرض له ليلى من ضغوط في صراع غير متكافئ أحيانا- رغم كل هذا تصاب نهاية الفيلم بداء المباشرة الذي يفتك في مثل هذه الحالات بكل ما تم تشييده من أروقة انفعالية عميقة في نفسية المتلقى وبدلا من أن ينتهى مثلا بينما تهرب مريم من رجال المخابرات الإيرانيين الذين حضروا للقبض عليها بعد فرار ليلى يستمر في صورة بيان سياسى هزيل تطلقه كلا المرأتين في وجه الكاميرا بشكل تليفزيونى حول كونهما هاربتين ولاجئتين وأن نظامهما السياسى الديكتاتورى لا يدعم حتى حرية أن تتنافسا بقدر اجتهادهما وطاقتهما ودون حسابات لا شأن لهما بها – نشير أيضا إلى أن اللاعبة الإسرائيلية التي تم التحذير من مواجهتها تخسر المباراة قبل النهائية عقب خسارة ليلى نتيجة الضغط العصبى الرهيب الذي مورس عليها وبالتالى كان من الممكن ألا تواجهها ليلى من الأساس وهى أكثر رسائل الفيلم قوة وذكاء فالأنظمة القمعية تظن أن نظرتها الأمنية ثاقبة لا يأتيها الباطل من بين يديها في حين أن الأمر الصادر بالانسحاب جعل اسم البلد يخسر البطولة العالمية.

أما في الفيلم البولندى «الحدود الخضراء» المعروض ضمن المسابقة الدولية فإن اللون ينسحب أمام أعيننا منذ المشهد الأول للفيلم، يتطاير الأخضر من فوق قمم الأشجار التي تمثل الحدود ما بين بولندا وبيلاروسيا، حيث تصل مجموعة من اللاجئين من جنسيات مختلفة – سوريين وأفغان وأفارقة- هاربين من أكثر من جحيم في بلادهم ليلاقوا حالة من انعدام لون الضمير الإنسانى تماما، ويجدون أنفسهم مسحوقين نفسيا وجسديا وروحيا فوق الأسلاك الشائكة بين بلدين كلاهما يلقى بهم في الجهة الأخرى من الآخر، حيث يطردهم الجنود البيلاروس إلى الحدود البولندية فيعيدهم البولنديون إلى بيلاروسيا وهكذا دواليك، فيفقد بعضهم الزوجة والآخر الأب والابن وتفقد المرأة جنينها وتفقد الأخت أخاها، حتى لا يعود أحدهم قادرًا على مواجهة مزيد من قهر الفقد لولا تدخل بعض النشطاء السياسيين بصورة غير رسمية وانقلاب حال بعض الشخصيات من أقصى يمين التطرف العسكرى في مواجهة أزمة إنسانية إلى يسار القضية، حين يتغاضى جندى حرس الحدود عن اختباء العائلة السورية التي فقدت ابنها في مؤخرة شاحنة تهريب بعد أن كان قد سبق له وأن القى امرأة حامل كأنها كيس نفايات من فوق السلم الشائك طردا من حدود بلاده.

بالطبع يبدو التناقض واضحا ما بين عنوان الفيلم «الحدود الخضراء» وصورته الرمادية المضخمة بالقهر والذل غير المبرر. وهو تناقض يقبض على المعنى ليؤكده بصريا، فالحدود لم تعد خضراء لا لأن الأشجار فقدت لونها! أو لأن الشاشة حيدت اللون الدافئ الرقيق! بل لأن البشر فقدوا اخضرار ضمائرهم، سواء كانوا ساسة في بلاد فقيرة ومقموعة ومفلسة أو جنود ينفذون التعليمات كأنهم زناد معدنى ضمن سلاح حديدى بارد.

■ المزيد من اللاجئين

تعد قضايا اللاجئين ومجتمع المتحولين جنسيا وأزمات المثلية والعنف الاجتماعى هي أكثر الأزمات حضورا على أجندة المسابقات المختلفة للموسترا 80، صحيح أن هناك تفاوتا كبيرا في مستويات التجارب ما بين من يسير خلف القضية بلا هدف حقيقى أو من يعيد استخدامها بصورة جمالية بما يسمح بالتعاطى معها مهما كانت الاختلافات الثقافية والحضارية بينها وبين المتلقى. فجماليات الكتابة والتعبير البصرى الناضج وفخامة السرد وزخارف المشاعر والانفعالات هي أكثر العناصر التي يمكن أن تصنع جسرا ما بين الجالس في الصالة والمعروض على الشاشة في القاعة المظلمة.

هنا يمكن التوقف أمام تجربة الإيطالى ماثيو جارونى – صاحب الفيلم الرائع الرجل الكلب قبل 4 سنوات- وفيلمه المنافس على الأسد الذهبى «الكابتن» والذى يتتبع فيه رحلة فتى سنغالى منذ أن يقرر أن ينفض غبار بلدته الصغيرة عن جلده الأسمر الغض في رحلة هجرة غير شرعية إلى إيطاليا، دون أن يدرى أن ما ينتظره من أهوال يفوق أي تلال من المعاناة يمكن أن يكون قد عايشها في قريته الفقيرة.

بالطبع ثمة فارق يحسب لفيلم «الحدود الخضراء» الذي يشتبك أيضا مع قضية اللاجئين والهجرة غير الشرعية، لأن جارونى ببساطة يعتمد أن أهوال رحلة بطله كفيلة بضمان التعاطف والتفاعل والدهشة، مما أوقعه في فخ النمطية فيما يخص النوع، فطوال العقد الماضى انهالت علينا أفلام من كل صوب عن رحلات اللاجئين والمهاجرين بشكل يجعل كل فيلم جديد عن نفس القضية هو مخاطرة أكثر منه مغامرة.

نحن نتابع فتانا وهو يفقد موسى ابن عمه نتيجة اكتشاف المال المخبأ في مؤخرته حين فتشه الجنود الليبيون على الحدود ما بين النيجر وليبيا، ثم نراه وهو يباع كعبدمن أجل بناء قصر لأحد رجال الأعمال بعد أن تم تعليقه كالذبيحة لأيام لأنه رفض أن يدلى برقم أمه من أجل أن تدفع له فدية تحريره، وأخيرا حين يعثر على موسى وعلى مهرب يمكن أن يضعهم على ظهر مركب تتجه إلى صقلية يُطلب منه أن يقود هو القارب- ومن هنا يأتى اسم الفيلم الكابتن أي قائد المركب.

لا شك أنه فيلم مصنوع بشكل جيد ولكن الصنعة ليست هي الجمال، والعبرة بخواتيم الرحلة أو ذورتها والتى جاءت في حالة باهتة وضحلة بشكل غير متوقع، فالفتى الذي لا يدرى سوى تعليمات قليلة عن قيادة المركب ينجح في اجتياز الأميال البحرية بين طرابلس وصقلية، يمر بجانب حفار غاز عملاق فينظر له منبرها ويمضى، وتكاد امرأة تلد على ظهر القارب فيطلب النجدة من حرس الحدود الدولى لكن أحدا لا يستجيب له، ويختنق بعض الرجال في غرفة المحرك فيساعد في إخراجهم للهواء الطلق، وأخيرا يصل إلى شاطئ الدولة التي لا تنص قوانينها على ترحيل اللاجئين فيصرخ سعيدا بذاته كقائد للمركب! فهل هذه سياقات مكتسبة لأى عمق أو تستحق أن تصبح ذروة لرحلة دموية ملعونة كتلك التي خاضها عبر الصحراء الإفريقية المشتعلة بالرمل والشمس وتجار الرقيق والجنود الفاسدين!

لا معضلات حقيقية ولا أزمات واقعية أو حتى مجازية ولا اختبار إلهى أو إنسانى لصلابته أو تماسك حلمه أو متانة إرادته، فقط بعض الموسيقى الموترة واللمحات البعيدة لما يمكن أن يكون عاصفة أو مركب شرطى وبعض الصراخ من المرأة التي على وشك أن تضع مولودها وشجار حول الماء بصورة غير مقنعة!

هكذا لم ينجح المخرج الكبير في بناء جسر متماسك عبر الجماليات بين المتلقى والقضية وبالتالى فقد ميزة تنافسية كبيرة كان من الممكن أن تضعه ضمن قائمة الأفلام المتنافسة في شراسة على الأسد المجنح هذا العام.

■ وأخيرا

تجدر الإشارة إلى أن مسابقة الموسترا (آفاق) وهى الأكثر زخما على مستوى الكم والكيف تبدو وكأنها تشكلت هذا العام انطلاقا من هم جمعى ينتمى لنوعية أفلام النضج والبلوغ أو اكتشاف المراهقين للعالم، ليس من منطلق اتساع العين الشابة على الجديد مما هو مجهول أو غيبى أو غائم بل من منطلق أن غالبية أبطال الأفلام من المراهقين لديهم هم واحد أساسى وهو أن يربحوا انفسهم حتى لو خسروا العالم كله، العالم الذي يبدو أنه لن يحتملهم أو يشعرهم وهم لا يزالون يدبون بأقادمهم الجديدة على أرضه الزلقة البائسة أنه لم يقعد لهم موطئ قدم سواء حقيقى أو مجازى وأنه ربما عليهم أن يبحثوا عن عالم آخر كى يكتسبوا صفات النضج والتحضر والإنسانية التي فقدت ألوانها التعريفية ولم تعد تتمايز عن الشر وغياب الضمير وقبح الصفات.

يمكن أن يبدو كل ما سبق تلخيص لما ورد في أفلام مثل الإيطالى «يوم أحد أبدى» أو السويدى «الجنة تحترق» أو فرنسى «ليل آخر سوف يأتى» أو البريطانى «أفقى» فكل هذه العناوين تؤصل جماليتها إلى أن الحياة لم تعد ترحب بالقادمين الجدد وأن الخيارات المتاحة رغم عدم منطقيتها إلا أنها أكثر رفقا بهم من الحياة ذاتها.

 

المصري اليوم في

11.09.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004