ملفات خاصة

 
 

ما قبل الرحيل

عن رحيل الفنان الرائد

فيصل الياسري

 
 
 
 
 

بيت القصيد

المخرج العراقي فيصل الياسري

تقديم: زاهي وهبي إعداد: زاهي وهبي وغادة صالح 

إخراج: علي حيدر المنتج: غادة صالح

المحور الأول

زاهي وهبي: مساء الخير. رائِدٌ من الروّاد الأوائِل الذين عبّدوا الطريق أمام أجيالٍ متلاحقةٍ من العاملين في مجاليّ السينما والتلفزيون، تمتدّ تجربته على مدى عقودٍ طويلةٍ شهِدت تحوّلات عاصفة في (العراق) وفي الإقليم فأصابته شظاياها مع مَن أصابت إذ ظلّ حاضراً في المشهد العام على اختلاف العهود والسياسات. مسيرته الحافلة تتوزّع بين (بغداد) و(دمشق) وعواصم أُخرى، مَن ينسى مثلاً "حمّام الهنا" و"حسني البُرزان" و"أبي صيّاح" و"غوّار الطوشة" وسواهُم؟ أو مَن ينسى البرنامج التربويّ التعليمي "افتَح يا سِمسم"؟ شارف ضيفنا على التسعين ولم يسأم بعد، فما الذي يبقى من شغفِ تسعينيٍّ أمضى العُمرَ في الميدان؟ "بيتُ القصيد"، بيت المبدعين العرب يُسعَدُ باستقبال الفنان والكاتب العراقي القدير الأُستاذ "فيصل الياسري" أهلاً وسهلاً، نوّرت "بيت القصيد

فيصل الياسِري: حيّاك الله، أنا سعيد بوجودي في بيتك الآن 

زاهي وهبي: أهلاً وسهلاً، بيتك. نعتزّ بوجودك. كيف تنظُر إلى مشوارك الطويل؟ في أيّ عين؟ في عين الرضا، في عين النقد، ماذا؟ 

فيصل الياسِري: في عين السعادة والرضا لأنني بدأت عملياً، كنت من أوائِل الذين عملوا في التلفزيون العربي وكنتُ في سنة 1958 مُخرِجاً 

زاهي وهبي: نعم، أعرِف

فيصل الياسِري: في أول قناة تلفزيونية عربيّة أو محطّة، لم تكن توجد في البداية قنوات في هذا الشكل، وحققت أموراً كثيرة وتركت بصمات وعلّمت كثيرين، وهناك أناس يُقدِّرونني مثل حضرتك الآن. كلامك هذا يُسعِدني ويدفعني إلى أن أواصل وأن أُضيف، فأنا سعيد بمحبتك 

زاهي وهبي: الله يطيل في عُمرِك دائِماً. أية مرحلة تعتبرها المرحلة الذهبية في هذا المشوار الطويل؟ 

فيصل الياسِري: شوف أُستاذ "زاهي"، كل المراحل مهمّة لأنّها كلّها لآلئ أو أحجار فوق بعضها، من دون إحداها لا تقف الثانية، فكل المراحل مهمة. طبعاً هناك مراحل كانت أكثر تعباً لكن نحن الذين كنّا نعمل قبل خمسين وستّين سنة في هذا المجال التلفزيوني عانينا صعوبات أكثر وأبسط أيضاً. أعني كنّا نُمارِس العمل ليس فقط كعمل بل كهواية أيضاً، الآن الشباب مع وجود 

زاهي وهبي: التقنيات الكثيرة  

فيصل الياسِري: مع وجود وسائِل الاتصال والأجهِزة الحديثة ورخصِها وتعدُّد القنوات أصبحت الأمور سهلة. بالنسبة لنا لم تكن في هذه السهولة

زاهي وهبي: نعم، أكثر الأعمال التي تعتزّ بها؟ لا بدّ من عنوانين أو ثلاثة على سبيل المثال لا الحصر تشكل مصدر اعتزاز عندك في أنها حملت توقيعك

فيصل الياسِري: ما دمت أنا في (بيروت) الآن لا بدّ من أن أذكُرَ عملاً بيروتياً 

زاهي وهبي: وهو؟ 

فيصل الياسِري: فيلم "القنّاص

زاهي وهبي: نعم معروف

فيصل الياسِري: الذي أخرجته سنة 1979 هنا في (بيروت) من بطولة "روجيه عسّاف" و"آمال عفيش". وفي المناسبة في هذا العمل لأوّل مرّة يظهر "نزار قبّاني" في عملٍ درامي. مثّلَ "نزار" فيه وقرأنا الشِعر، فبالتالي أعتزّ بهذا العمل وأعتزّ أيضاً بأعمال كثيرة اشترك فيها لبنانيون وسوريون ومصريون وعراقيون أيضاً. طبعاً عندما نُقارِن هذه الأمور التي حقّقتها والتي هي متنوِّعة، كل عمل له ميّزاته. مثلاً "افتح يا سمسم" هو عمل آخر له مواصفاته، لا يُمكن أن أُقارنه بعملٍ تلفزيوني آخر أو بمسلسل أو فيلم روائي. "افتح يا سِمسم" اشتغلنا فيه عشر سنوات وكان من 390 حلقة للأطفال، ولحدّ الآن عندما يراني الناس يغنّون "افتح يا سمسم"، فهذا عمل مختلف. العمل مثلاً الذي ذكرته حضرتك "حمّام الهنا" لـ "دريد لحّام" و"نهاد قلعي" هو أيضاً عمل من نوعية أُخرى، بسيط، كوميدي، لكنّه لحدّ الآن يُعرَض 

زاهي وهبي: وحفَرَ في ذاكرة مشاهديه. أنا من جيل الذين شاهدوه عندما كنت طفلاً ولا يزال إلى اليوم في ذاكرتي، وكل أبناء جيلي نفس الموضوع 

فيصل الياسِري: أتعرِف أيّ سنة حققنا هذا العمل؟ سنة 1968 في أجهِزة، لم يكن عندنا المونتاج كما الآن وكنّا في نفس اليوم نُصوِّر الحلقة وتُعرَض في اليوم التالي

زاهي وهبي: كيف كان "حسني"، طبعاً ذكرنا الألقاب ولكن الله يرحمه "نُهاد قلعي" وأطال الله في عُمر "دريد لحّام" والمرحوم "رفيق السبيعي"، كيف كانوا كمُمثلين بين يديك كمُخرِج؟ 

فيصل الياسِري: أولاً كانوا كما قلت قبل قليل، كنّا بالإضافة إلى كوننا محترفين كانت عندنا حال نسمّيها 

زاهي وهبي: الشغف

فيصل الياسِري: الهواية. يعني كنّا نعشق هذا العمل ونتفاخر فيه، عندما ننتهي من عمل كنّا نلتقي مساءً ونتحدّث وننتقد بعضنا البعض. أنا أذكُر مثلاً أنّ "دريد لحّام"، الصديق العزيز، وأنا قمت له بأعمال كثيرة بالإضافة إلى "حمام الهنا"، كان يُحبّ عمله ويُحبّ أن ينجح الذين معنا ولم يملِك هذه الأنانيّة. كانوا يُحبّون العمل ويتحمّسون له وسُعداء به، وكنّا كل ليلة نحتفل بما نُنجِزه 

زاهي وهبي: الله يُطيل في عُمرك وعُمره وعُمر المُشاهدين جميعاً

فيصل الياسِري: تحيّاتي له من خلالك 

زاهي وهبي: دعنا نذهب قليلاً خارِج الاستديو برفقة زميلتنا "سحر حامد"، نذهب إليك إلى مكان إقامتك البيروتية بما أنّك ذكرت (بيروت)، نستمع إليك في "قطع وصل" ثمّ نعود إلى الاستديو 

قطع وصل - فيصل الياسِري:  

- علاقتي مع (بيروت) علاقة قديمة جداً. منذ أربعين أو خمسين سنة صوّرت هنا أفلاماً واشتغلت مسلسلات تلفزيونية وعندي كثير من الأصدقاء في (بيروت). زيارتي هذه المرّة إلى (بيروت) شاهدت فيها أنّ (بيروت) صارت مُكتظّة أكثر، العمارات الكبيرة والعالية كثيرة وحتى أنّ هنالك مناطق كثيرة من (بيروت) كنت أعرِفها أفضل، سكنت فيها سابقاً ولم أعرِفها هذه المرّة

- ذاكرتي الآن في شكلٍ طبيعي أو إنساني أو كتحرُّك في الذهن أنني أنسى الأسماء كثيراً وأُحاول أن أتذكّرها ولكنّي لا أنسى الأحداث، لا أنسى ما أقرأه، لا أنسى الأشياء القيِّمة من الأمور والمواقف الإيجابية عند الناس 

- توجد أشياء كثيرة مع العُمر، مع التجارب، مع التنقُّل، مع الفشل والنجاح نستغني عنها لأنّنا عندما كنّا أقل عُمراً وكنا ما زلنا شباباً وخطواتنا في الحياة غير موثّقة كنّا نبحث عن كلّ التفاصيل، الآن نستطيع أن نفرِز بين ما هو مُهمّ وما هو غير مهمّ 

- وباء "كورونا" غيَّر الكثير من المواقف ومن الاعتقادات ووجدنا أنّنا كنّا نهتم بأشياء كثيرة في الحياة ونُحاول الحصول عليها. "كورونا" أعطانا الدليل عن أنّ ليس كل شيء اهتممنا به هو فعلاً مهم

- أعتزّ بوطني، بعروبتي، أعتزّ بأصدقائي وأعتزّ بإنجازاتي سواء في مجال الـ Audio visual أو في مجال الكُتُب التي كتبتها وأعتزّ أكيد بعائِلتي أيضاً 

- طبيعة مهنتي وشغلي منذ طفولتي تعتمد كثيراً على المُخيّلة لأنني في وقتٍ مُبكِّر جداً، في المُحيط الذي كنت أعيش فيه، في العائلة، بدأت أنظم الشِعر وأرسِم وأتعامل مع وسط فنّي وثقافي، فكانت المُخيِّلة مهمّة ومعها المنطق 

- أنا رجُل عقل ورجُل قلب ومُخيّلة ورجُل قِيَم أيضاً، فكلّ هذه الأشياء أجِدها ضرورية في الحياة حتى تتلاءم لأنّ شيئاً لوحده لا يُمكن أن يكون هو العكّازة في حياتنا، كل هذه الأشياء نحتاجها 

- الحبّ والغرام قضيّة إنسانية موجودة في الوجدان ودائِمة. والحبّ ليس فقط حب الرجُل للمرأة والمرأة للرجُل، ممكن حبّ الوطن، حبّ الأُمّ، حبّ الكتابة، حبّ القراءة، حبّ المُجتمع، حبّ أن أكون نافِعاً الآن. فالحب دائِم في الإنسان، عندما ينتهي أيّ نوع من الحُب ينتهي الانتماء وتنتهي أهميّة الوجود في الحياة 

زاهي وهبي: إن شاء الله يُرافقك الحبّ دائِماً في حِلّك وترحالَك كما يُقال

فيصل الياسِري: حيّاك الله 

زاهي وهبي: كثير من العناوين سأعود إليها ولكن حضرتك مثلما ذكرت بدأت كاتباً ونظمت الشِعر وكتبت القصة القصيرة وألّفت الرواية، ترجمت أيضاً بعض الأعمال. لماذا انصرفت عن الكتابة إلى عالَم الإخراج؟ 

فيصل الياسِري: أولاً أنا عشت في عائِلة صحيح قرويّة من (الفرات الأوسط) لكنها عائلة كانت تهتم كثيراً بالأدب والشِعر، أعني لا يوجد بيت من بيوت أهلي، والدي أو أعمامي، لا توجد في داخله مكتبة 

زاهي وهبي: وهذا ليس غريباً على العراقيين 

فيصل الياسِري: وأقول لك مثلاً أفراد عائلتي أسّسوا في الثلاثينات أوّل مدرسة مُختلطة في القُرى العراقيّة في (المشخاب)، منطقة (المشخاب)

زاهي وهبي: للصبيان والبنات 

فيصل الياسِري: للصبيان والبنات في ذاك الوقت. فاهتممت بالأدب وبالكتابة، وأوّل قصّة نشرتُها كانت في جريدة أو مجلّة لبنانية كان إسمها "العُرفان

زاهي وهبي: طبعاً 

فيصل الياسِري: أوّل قصّة نشرتها هناك 

زاهي وهبي: إن لم أكن مُخطِئاً الشيخ "أحمد عارِف الزين" مؤسّسها

فيصل الياسِري: بالضبط، وبعد ذلك صرت، وأنا طالب في الثانويّة، أختلِط في مقاهٍ بغداديّة، مثلاً "مقهى خليل"، "مقهى البرلمان"، "مقهى الرشيد

زاهي وهبي: بالمثقّفين والأُدباء 

فيصل الياسِري: يختلط فيهم الشعراء والأُدباء والرسّامون، وعندي الكثير من اللوحات التي رسمها لي رسّامون كانوا يتواجدون هناك فيُشغِلون أنفسهم في ذلك. عندما ذهبت إلى الدراسة في (فيينا)، ولا أُريد أن أُطيل في هذا المجال لأنني تحدّثت عنه كثيراً، ذهبت لأدرس الطبّ. ولكن في أول دروس الطبّ نفَرت من هذه العمليّة وعُدت إلى الدراسة. في الوقت الذي بدأ فيه، وكان وقتاً مُبكِّراً جداً، الإنتاج التلفزيوني والبثّ التلفزيوني في (أوروبا) كلّها، وهذا كان لا يزال جديداً سنة 1952 و1953، بدأوا يستدعون أناساً من مِهَن مُجاورة للتلفزيون ليتدرّبوا ويتحوّلوا إلى التلفزيون كمذيعين وأنا دخلت في ذلك 

زاهي وهبي: لحُسن حظنا 

فيصل الياسِري: الله يخلّيك، ولم يكن انتقالي إلى التلفزيون لكي أشتغِل بل بقيت في العمليّة الإبداعيّة، أعني أكتُب سيناريو وأُترجِم كُتُباً، وأنا عندي ستة عشر كتاباً مطبوعاً منها ما هو مُترجم ومنها ما هو تأليف. وبقيت هذه العملية الممتعة مُستمرة ولاحقاً، الشيء المهم أعتقد أنني لم أكُن في حاجة إلى تدبير أمور معيشتي 

زاهي وهبي: نعم، كان متاحاً هذا الأمر، متيسِّر

فيصل الياسِري: كان متاحاً والعائلة متمكِّنة نسبياً وأستطيع أن أعيش منها 

زاهي وهبي: ماذا يبقى في ذاكرتك من تلك الـ (بغداد)، (بغداد) البدايات؟

فيصل الياسِري: (بغداد) البدايات؟

زاهي وهبي: نعم، بداياتك أعني 

فيصل الياسِري: (شارِع الرشيد) مثلاً والأمور الكثيرة المُرتبِطة بـ (شارع الرشيد). تبقى في ذاكرتي تلك الأمسيات الرمضانية التي كانت تُعقَد والمُطاردات الشِعريّة، تبقى في ذاكرتي أيضاً الأعمال أو المواقف أو اللحظات السياسيّة التي حدثت. مثلاً أنا عشت في (بغداد) سنة 1948 عند تقسيم (فلسطين)، والتظاهرات التي صارت في (العراق) كثيرة. عشت أيضاً ثورة الانتفاضة ومقتل أخ "الجواهري"، وأنا حضرت "الجواهري" وهو يرِث أخاه "جعفر

زاهي وهبي: مَن هم شعراؤك؟ مَن الشعراء الأقرب والأحبّ إليك؟

فيصل الياسِري: "المُتنبّي" طبعاً، وكتبت كتاباً عن "المتنبّي

زاهي وهبي: أعرِف ذلك 

فيصل الياسِري: وهو اقتفاءٌ لأثَره فكتبت "اليوم الأخير" واقتفيت أثره في المنطقة التي اغتيلَ فيها، وأصدرتُ كتاباً أيضاً طُبِعَ في (القاهرة) إسمه "أغتيال المتنبي

زاهي وهبي: هل تعتقد، ولو خارِج سياق الحوار، هل ما قرأناه في المدارس عن سبب مقتل "المُتنبي"، ما بك ضحِكت؟ الجواب سبق الكلام 

فيصل الياسِري: لأنّ هذا السؤال أُستاذ "زاهي" طُرِحَ قبلاً وأجبتُ عليه في الفيلم وفي الكتاب 

زاهي وهبي: أعرِف

فيصل الياسِري: لأنّ هنالك مَن ادّعى بأنّ "المتنبّي" قُتِلَ وهو عائِدٌ إلى (بغداد). هو في الأساس كان عائِداً إلى (الكوفة) ومرّ في منطقة (النُعمانيّة)، وهنالك في (النُعمانيّة) تعرّضَ له "فاتِك الأسدي" لأنه يُقال، يُقال على أنّ "المتنبّي" أدمى إبن أُخت "فاتِك الأسدي". لكن الزعم الخاطئ وغير الصحيح أنّ "المتنبي

زاهي وهبي: حاول الهرب والفرار 

فيصل الياسِري: حاول أن يهرُب، لكنه لم يهرُب. حتى الأُستاذ الله يرحمه "عبد الغني الملاك" نَشرَ كتباً بعنوان "المتنبّي يسترجِع أباه"، وفي هذا الكتاب يقول ويزعم بأنّ "المتنبي" قد يكون إبن الإمام "المهدي

زاهي وهبي: الراحل الكبير "منصور الرحباني" قدّمَ مسرحيّة "المتنبّي" وألمح إلى هذا الرأي أيضاً، وطبعاً هناك في شِعر "المتنبّي" بعض الذين استشهدوا وقالوا أنّ هذا يدلّ على أنّه يعود إلى النسب الشريف 

فيصل الياسِري: "عبد الغني الملاح" وأنا وضعته وصوّرته أيضاً بأنه يزعم، ثمّ حتى حسابياً الكتابة التي تقول إنّ "المُتنبّي" هرب، لا يُمكن أن يكون هرب على أساس أن خادمه قال له "ألست أنت القائِل كذا وكذا"؟ فـ "الملاح" يقول إنّ هذا غير ممكن. أولاً مَن سمَع ذلك؟ ثمّ، إذا "المتنبي" كان هارباً على حصانه كيف أصبح هذا؟ ابتعَد عن..

زاهي وهبي: نعود إليك أُستاذ، طبعاً موضوع "المتنبّي" يحتمِل حلقات وحلقات. حضرتك قلت لي قبل التصوير أنّ (بيروت) لا يشعُر فيها الإنسان بالملل و(بغداد) لا يشعُر فيها ومن المستحيل أن يملّ منها الإنسان، لماذا؟ ما هو سرّ (بغداد)؟ رغم كل ما مرّ عليها من حروب، من أزمات، من ثورات، من تعاقُب حُكّام لا تزال الروح البغداديّة حاضِرة وحيّة 

فيصل الياسِري: المُدن العربية وخاصةً العواصم التي نشأت تاريخياً، فيها عمق تاريخي، فيها تنوُّع في العادات والتقاليد وفي العمارة، في العلاقات الأُسريّة والانتماء إلى الأرض، الانتماء إلى التاريخ، هذا التنوُّع مُغرٍ. أنا أريد أن أضيف إلى الشيء الذي قلته في الربورتاج عن (بيروت)، أنا الآن في (بيروت) بعد المرة الأخيرة منذ خمس عشرة سنة، ما آلمني هنا الآن في (بيروت) وضع الضيق الاقتصادي

زاهي وهبي: الوضع الاقتصادي                       

فيصل الياسِري: الناس هنا يعيشون في مِحنة، في ألَم، ألَم اقتصادي، مالي، سياسي ويريدون حكومة وكذا وإن شاء الله تتشكّل هذه الحكومة 

زاهي وهبي: وهذا ينطبق للأسف على كثير من العواصم العربية اليوم بما فيها (بغداد)، بما فيها (دمشق)، بما فيها (صنعاء) و(طرابلس) في (ليبيا). للأسف هذا واقع الحال 

فيصل الياسِري: أنا أعود لأسألك، ما هو تفسيرك؟ لماذا هذه الظاهرة عامّة في البلدان العربيّة؟ هذه الحال من الانهيار أو الألم والضيق؟ 

زاهي وهبي: أسباب متعدّدة، أنت أخبر أُستاذي وأعلَم 

فيصل الياسِري: أنت تعرِف في السياسة أكثر منّي 

زاهي وهبي: يقولون: "أكبر منك بشهر أعلم منك بدهر"، فما بال إذا كان فارِق العُمر سنوات؟ مَن هم أقرب الفنانين إلى نفسك؟ عمِلت حضرتك مع كبار في (لبنان)، في (سوريا)، في (العراق)، وفي أماكن أُخرى عربيّة وأجنبيّة 

فيصل الياسِري: في (ألمانيا)، في (فيينا) 

زاهي وهبي: نعم، مَن أقرب إليك اليوم عندما تستذكِر أسماء شخصيات مرّت في حياتك المِهنيّة؟ 

فيصل الياسِري: أنا عندما أُفكِّر بالذين عملت معهم أُفكِّر من ناحيتين، أولاً العمل الذي شارَك معي فيه، ثانياً ماذا أضاف لي، وبماذا تميّز؟        

زاهي وهبي: حلو 

فيصل الياسِري: فهذه العمليّة تبقى في ذاكرتي. مثلاً عندما أتذكّرك الآن، أتذكّر طريقتك في الكلام، أريحيّتك، ما تُضيفه، بماذا تتميّز عن الآخرين، هذه تبقى في الذاكرة وتُضيف لي، هي تراكُميّة، مسألة الخبرة والتجربة تراكمية. كثيرون من الفنانين

زاهي وهبي: على سبيل المثال لا الحصر كما دائِماً أقول 

فيصل الياسِري: لا أُريد أن أظلم أحداً. أستطيع أن أقول إنّ أكثر واحد أو واحدة استمتعت معها في العمل وكانت تُضيف لي هي زوجتي "هند كامل"، ليس فقط لأنها زوجتي بل لأنها فعلاً ممثلة واعية وتعرِف ماذا تفعل

زاهي وهبي: سنستمع إليها بعد قليل وإلى ما تقوله عن حضرة جنابك، ولكن غير زوجتك؟ ذكرت أنّ "روجيه عسّاف" و"نزار قبّاني" شاركاك في فيلم "القنّاص" وذَكَرنا "نهاد قَلعي" و"رفيق السباعي" و"دريد لحّام" في "حمّام الهنا" وفي غير "حمّام الهنا". من (العراق) غير "هند كامل"؟  

فيصل الياسِري: كان عندي "يوسف العاني" صديق كبير 

زاهي وهبي: الله يرحمه 

فيصل الياسِري: اشتغل لي الله يرحمه، و" قاسم محمد" المُخرِج 

زاهي وهبي: تذكُر أسماء كبيرة جداً ولامعة 

فيصل الياسِري: "سامي قفطان" كمُمثل اشتغل في مُعظم أفلامي التي اشتغلتها في (بغداد) وآخرون كثيرون. أنا لا أتذكّر شخصاً فقط لأنّه فلان بل في علاقتي به في عمله أتذكّره. أنا أتذكّر أفلامي التي اشتغلتها وأنّ مصريين اشتغلوا معي مثلاً في فيلم "بابل حبيبتي" مثل "يحيى الفخراني" و"سماح أنور" و"أحمد عبد العزيز" وكان معهم عراقيون مثل "هند" و"سامي قٌفطان

زاهي وهبي: قبل أن أتوقّف مع استراحة قلت لي إنّك تتذكّر الشخص وتتذكّر ماذا أضاف إليك. في هذا العُمر وقد شارفت على التسعين وإن شاء الله مئة وتسعين، كما تعلم الآن الطبّ يتطوّر وكذلك العِلم فعندنا أمل كلّنا أن يصير الإنسان يعيش بدل العقود ربما قرون. هل لا زلت تتعلّم؟ 

فيصل الياسِري: أجل

زاهي وهبي: ما زلت تتعلّم. أنا أُحب أن أسمع منك لكي يسمع الشباب اليوم 

فيصل الياسِري: أنا أتعلّم جداً، أنا أحياناً أُستاذ "زاهي" أقرأ كُتُباً عن مهنتي وأعرف عنها أكثر من الموجود في الكتاب الذي أقرأه 

زاهي وهبي: لكنّك تقرأه 

فيصل الياسِري: أقرأه لماذا؟ لأنّ هذا يُنظِّم لي أفكاري، يُنظِّم لي ما أعرِفه، يُضيف لي ويُذكِّرني بأشياء ربما نسيتها. فأقرأ كُتباً أعرِفها. وترجمت كتباً أنا أعرِفها لكنّي ترجمتها لكي أستفيد. مثلاً ترجمت كتاباً إسمه "جماليّات التصوير والإضاءة في السينما والتلفزيون" عن كاتب هنغاري، وهذه الترجمة طُبِعت ثلاث أو أربع مرّات باللغة العربيّة لأنّ طريقته في تقديم المادّة مُنظّمة في شكلٍ بحيث الذي يُريد أن يتعلّم يستطيع أن يتعلّم منهجاً قابلاً للتطبيق، فبالتالي أنا أستفيد لأنني اشتغلت في (ألمانيا) مع مُخرجين ألمان كبار وتعلّمت منهم مثل "لوثر بالاك" الحائِز عدّة جوائِز و "شيمان"، تعاملت معهم كمُخرِج مُنفِّذ ومُساعِد مُخرِج ومتدرِّب وإلى آخره 

زاهي وهبي: وكل هذا ساهمَ في صناعة تجربتك. إسمح لي. بعد أن نُشاهِد مقتطفات من أعمال ضيفنا القدير الأُستاذ الكبير "فيصل الياسِري" نتوقّف مع استراحة سريعة ثمّ نُتابع "بيت القصيد

المحور الثاني 

زاهي وهبي: مُشاهدينا، نتابع "بيت القصيد" مع القدير "فيصل الياسِري". أُستاذي، الشِعر العراقي وصلَنا باكرا، الأُغنية والموسيقى العراقيّة وصلت إلينا، المسرح العراقي وصل أيضاً، إلى حدٍّ ما السينما وصلتنا في المهرجانات. الدراما العراقيّة التلفزيونيّة، أقصُد المسلسلات وخلافها، لم تتجاوز الإطار العراقي المحلّي، لم تخرُج خارِج حدود (العراق). ما هو تفسيرك؟

فيصل الياسِري: يُمكن أن أفسِّر هذا في تفسيرين يُمكنني أن أقدِّمهما وهناك تفاسير كثيرة

زاهي وهبي: نعم 

فيصل الياسِري: التفسير الأول أنّه لم يكن هنالك ترويج وتوزيع لهذه الأعمال العراقيّة ولم تكن في الصيغة التي يُمكن أن يقبلها المُستورِد الجديد أو المحطّات التلفزيونية الجديدة كما أنّ اللهجة العراقية لم تكن شائِعة ومقبولة. الشيء الآخَر أعتقد هو أنّ الإنتاج العراقي لفترة طويلة كان إنتاجاً رسمياً فقط، إنتاج حكومي، والإنتاج الحكومي له صفات مُعيّنة وطابع مُعيّن و(العراق) دائِماً عنده مشاكل سياسية. بالتالي، الأعمال التي أُنتِجت لم تتوفّر لها إمكانيّة النهوض في شكلٍ 

زاهي وهبي: لا يوجد مناخ حريّة بل ترويج لأعمال ربما لسبب سياسي 

فيصل الياسِري: الإنتاج يا أُستاذ "زاهي" بضاعة وصاحب البضاعة يريد أن يبيعها، تحتاج إلى أسواق 

زاهي وهبي: حضرتك عاصرت وعشت عهوداً مختلفة ومتناقضة، أيّ عصر كان فيه الإنتاج الإبداعي العراقي في عصره الذهبي؟ في صراحة وفي معزِل عن السياسة  

فيصل الياسِري: مهنياً وكصنعة، في فترة الستينات والسبعينات 

زاهي وهبي: فترة الستينات والسبعينات، نعم 

فيصل الياسِري: وحتى فترة الثمانينات أيضاً. أنتِجت أعمال عراقيّة بالنسبة للعراقيين مهمّة جداً ولها شعبيّة كبيرة في (العراق) وبعضها يُعرَض ومُساهمات من فنانين عراقيين ساهموا في الخارِج كثيراً مثل عمل اشتغلته في (قطر) و(أبو ظبي) وهو "المرايا"، كان فيه حوالى أربعين ممثلاً عربياً منهم حوالى خمسة عشر عراقياً، وهذا العمل انتشر. برنامج "افتح يا سِمسم" كان فيه مُساهمون أيضاً والأعمال العراقية كانت تحتوي على الكثير من المحليّة والقليل من التميُّز الفنّي. لكن الفنان العراقي الآن يتحسّر على تلك الأعمال التي كنّا مثلاً نُقدِّمها

زاهي وهبي: لماذا التراجُع الآن؟ نحن توقّعنا أنّه بعد انتهاء الحصار وبعد انتهاء الحرب ومع رحيل النظام السابق وتغيُّر الأوضاع في (العراق) يصبح الأمرُ أفضل، فإذ الأمر ليس بأفضل! من هذه الناحية أحكي 

فيصل الياسِري: هو لم يتوقّف؛ لا يوجد إنتاج. توقّفت الدراما العراقية في العشرين سنة الأخيرة أو الخمس عشرة سنة الأخيرة 

زاهي وهبي: هل هناك عدم إدراك من السلطات السياسية لأهميّة الدراما وأهميّة السينما وأهميّة المسرح وكل هذه الأمور؟ 

فيصل الياسِري: هناك عدم إدراك من أصحاب المال 

زاهي وهبي: رأس المال 

فيصل الياسِري: أصحاب المال العراقيين ورجال الأعمال. ولا تنسى أُستاذ "زاهي" سنوات الحصار التي كانت في فترة التسعينات بأكملها، يعني كانت منذ سنة 1991، منذ حرب الخليج

زاهي وهبي: نعم، إلى غزو (العراق) 

فيصل الياسِري: إلى غزو (العراق). في هذا الحصار كان الإنتاج العراقي مُحاصَراً ولا يُقبَل في بعض الدول العربيّة وكان المال غير موجود، لذلك لجأ الكثير من المبدعين العراقيين إلى إنتاج نوع من الأعمال التي سُمِيت أنذاك بالـ "سكرين"، يعني عبارة عن فيلم واحد يصوَّر بكاميرات تلفزيونية بسيطة 

زاهي وهبي: فيلم تلفزيوني يُمكننا تسميته 

فيصل الياسِري: فيلم تلفزيوني لكنّه يُعرَض في دور السينما وليس في التلفزيون 

زاهي وهبي: نعم. وأيضاً عُتِّمَ على الإبداع العراقي في مراحل كثيرة، عُتِّمَ على الإبداع العراقي. أيضاً، هل صحيح أنّه عَرَضَ عليك رئيس الوزراء السابق "نوري المالِكي" أن تتولّى شبكة الإعلام العراقية واعتذرت حضرتك؟ 

فيصل الياسِري: نعم

زاهي وهبي: لماذا؟ شبكة الإعلام العراقيّة فيها إمكانيّات

فيصل الياسِري: قبل سنة 2007 عُرِضَ عليّ منصب وزير ثقافة ونُشِرَ العرض في الإعلام وأيضاً لم أوافِق 

زاهي وهبي: لماذا؟ 

فيصل الياسِري: لأنّ التركيبة السياسية في (العراق) وتعدُّد الأحزاب والكُتل جعلتني أشُكّ في أنني أستطيع أن أُحقّق شيئاً وقد أتعرّض إلى الأذى من هذا الطرف أو ذاك. إن تحدّثت عن هذا الطرف يزعل ذاك وإن تحدّثت عن ذاك الطرف يزعل هذا، ولحدّ الآن وهذا ليس مُستغرباً الفساد يسود والمُحاصَصة تسود والذاتيّة في الكتلة تريد الأمور لها ولا تُفكِّر في (العراق) والإنسان العراقي، لذلك استدعاني "نوري المالِكي" وعاملني باحترام كبير وجلستُ معه ساعتين ورفضت العرض وقلت له "أنا في الكتلة لن أنفعكم ولا أستطيع أن أشتغِل في الطريقة التي تريدونها. لا أستطيع أن أنتمي لكتلة واحدة أو اتجاه واحد، أنا أنتمي لكل (العراق)

زاهي وهبي: أُستاذي أُعذُرني ولكن على سيرة هذا الأمر بعض خصومك يتّهمك ربما ظلماً بأنّ حضرتك انتقلت من عباءة "صدّام حسين" إلى عباءة "نوري المالكي

فيصل الياسِري: لكن المفروض أن يقولوا لي كيف انتقلت وما هي العباءة التي كنت فيها؟! أنا في زمن "صدّام حسين" كنت مدير التلفزيون، مهنة، صنعة، مسؤولية لإنقاذ مؤسّسة عراقية من التهديم والأذى الذي أصابها، اشتغلت في هذه المهنة لثلاث سنوات وتركت التلفزيون بإرادتي

زاهي وهبي: نعم. وحضرتك استقلت 

فيصل الياسِري: أنا استقلت وأسّست آنذاك محطّة جديدة هي "تلفزيون بغداد الثقافي" في صيغة ليس لها علاقة بالسياسة وإنّما حاولت أن أُقدِّم للمواطن العراقي والمواطن العربي الثقافة بمفهومها العام. أنا قدّمت "أُمّ كلثوم" على أساس ثقافة 

زاهي وهبي: نعم طبعاً، جزء من ثقافتنا كل الموسيقى والغناء والشِعر والرسم والمسرح إلى آخره 

فيصل الياسِري: "نوري المالكي" لم أكن تحت عباءته يوماً، حتى هو عرَض عليّ واستدعاني وطلب منّي وقلت له إنني لا أستطيع 

زاهي وهبي: وشرحت لماذا حضرتك، قبل قليل شرحت لماذا 

فيصل الياسِري: قلت له إنني لا أستطيع أن أشتغل تحت هذه التركيبة السياسية والطائِفية والمحاصصة 

زاهي وهبي: أسّست "تلفزيون بغداد الثقافي" بعد غزو (العراق)، الغزو الأميركي، وبعد الحرب أسّست قناة "الديار

فيصل الياسِري: قناة خاصّة 

زاهي وهبي: كأن عندك دائِماً رغبة في أن تكون لديك قناة خاصّة

فيصل الياسِري: أن تكون عندي مؤسّسة أستطيع من خلالها أن أُقدِّم وأُنتِج أعمالاً لي ولغيري، يعني أن أنتِج ولا أعرِف أين أعرِض؟ لا أستطيع. بعد عام 2003 أصبح في إمكان المواطن العراقي أو المُختصّ العراقي أن يؤسس قناة فضائية، فأسّست قناة "الديار" وكانت أوّل قناة عراقيّة خاصّة بعد الاحتلال الأميركي. ثمّ تعقّدت الأمور لعدم وجود التمويل 

زاهي وهبي: هل تعتبر أنّ مشروع "الديار" كان مشروعاً ناجِحاً أم مشروعاً فاشلاً؟ 

فيصل الياسِري: "الديار" كان مشروعاً ناجحاً جداً. "الديار" كان يجِد فيه المُشاهِد العراقي القناة التي تُعبِّر عنه. ثمّ قناة "الديار" لم تكن طائِفيّة ولذلك الأميركيون قالوا لي بصراحة: "نحن لا نساعدك ولا ندفع لك لأنّك لست طائِفياً ولا تنفعنا"

زاهي وهبي: ينفعهم فقط الطائِفي والمذهبي الذي يُحرِّض

فيصل الياسِري: تنفعهم القناة التي يُمكن أن تخدِم أهدافهم 

زاهي وهبي: مشروعهم نعم. هل تُفكِّر في إنتاج دراما عراقيّة أو سينما عراقيّة اليوم؟ 

فيصل الياسِري: أنا اشتغلت قبل سنوات فيلمي الجديد "بغداد حلم وردي

زاهي وهبي: عُرِض؟ 

فيصل الياسِري: عُرِضَ أياماً معيّنة لأنّ وزارة الثقافة العراقيّة و"مؤسّسة السينما والمسرح العراقية" عاجزة عن عرض الأفلام التي أنتجتها منذ سنة 2013. هنالك عدد كبير من الأفلام لا تجد لها أماكن لتعرضِها، 43 فيلماً تمّ إنتاجها منذ سنة 2013، كلها لم تُعرَض سوى يوم أو يومين فقط في عروض شبه رسمية 

زاهي وهبي: منذ فترة كان ضيفي الأُستاذ "فارِس طعمه التميمي"، طبعاً حضرتك تعرِفه. كان عنده رأي سلبيّ جداً في راهن الدراما والسينما في (العراق). ما رأي حضرتك بما يُنتَج ويُعرَض من مُسلسلات ومن أفلام؟ 

فيصل الياسِري: صحيح، "فارِس طعمه" صديقنا وحبيبنا وهو كان مُدير السينما. إذا كان رأيه سلبياً ذلك لأنه لم يستطع أن يُحقق شيئاً كمدير سينما واضطرّ في السنة الماضية أو قبل الماضية أن يترُك إدارة السينما لأنّ كل طموحاته لا يمتلكها، ورأيه السلبي يسنده بأنّ أصحاب القرار لإنتاج هذه الأفلام ومتابعتها وتقييمها غير مؤهّلين لهذا الدور فترك هذه الأمور. لكن هذا لا يعني، أنا رأيي أنّ الفيلم يجب أن يُعرض للجمهور، والجمهور هو الذي يحكُم في ذلك. نحن نرى أفلاماً مصرية مثلاً أو غير مصرية تُعرَض على "روتانا" وغيرها، هي أفلام بسيطة ويسمّونها "جواهِر خالدة"، بمعنى أن الفيلم يُصبِح شيئاً من التاريخ ولا تستطيع أن تقول هذا غير صالِح وترميه، لا نستطيع أن نقول بعد كذا سنة أنّ فلانً الفُلاني أو العمل الفُلاني غير صالِح!

زاهي وهبي: هل أحد يلفت انتباهك من النجوم اليوم العراقيين من جيل الشباب أو جيل متوسّط العمر؟

فيصل الياسِري: طبعاً هنالك شباب مبدعون يلفتون النظر          

زاهي وهبي: مثل مَن؟

فيصل الياسِري: لم أحفظ الكثير من الأسماء، لكن هناك مثلاً ممثل كوميدي 

زاهي وهبي: نعم، "أيّاد راضي" أو "علي جابر"؟ 

فيصل الياسِري: "أيّاد راضي" وهو ممثل رائِع جداً وذكي، في المناسبة "أياد راضي" أول عمل ظهر فيه كان معي في فيلم "اغتيال المتنبي"، ظهرَ في مشهد قصير جداً 

زاهي وهبي: "آلاء حسين" هل شاهدت لها أعمالها؟ 

فيصل الياسِري: شاهدتها، بنت ذكية وموهوبة ومتنقِّلة بين الدراما والمنوّعات 

زاهي وهبي: نعم، و"علي جابر"؟ 

فيصل الياسِري: "على جابر" لم أتابع أعماله كثيراً 

زاهي وهبي: لم تشاهده 

فيصل الياسِري: أشاهده لكن لا أُتابع أعماله كثيراً 

زاهي وهبي: بين السينما والتلفزيون أين تجد المتعة كمُخرِج؟ المُتعة التي تعيشها في الإخراج التلفزيوني أم السينمائي؟

فيصل الياسِري: السينما فيها صقل أكثر والحبكة مشدودة أكثر وعندك مجال أكبر في أن تجوِّد فيها. التلفزيون يتطلّب من الشخص أحيانا أن يستعجل ويكون عمله بسرعة لأنّ الجمهور ينتظر العرض. ثمّ الأعمال التلفزيونية ليس لها خلود مثل العمل السينمائي، الفيلم السينمائي يبقى مطلوباً. الآن نحن عمِلنا في أعمال تلفزيونية كثيرة سواء كانت مصرية أو لبنانية أو كذا لكنها لا تُعاد. هل سمعت أنّ هنالك قنوات تنوي أن تسعى أو تعمل على إعادة عرض الأعمال التلفزيونية القديمة؟ الآن مثلاً في (الإمارات) وفي (مصر) أسّسوا قنوات تعرِض فقط أعمالاً تلفزيونية 

زاهي وهبي: لأن التلفزيون كان دائِماً مُتّهماً بأنه بلا ذاكرة بينما السينما هي ذاكرة 

فيصل الياسِري: ذاكرة دائِمة، وثيقة. السينما أكثر وثائقيّةً حتى من الدراما. يعني الآن نحن نشاهِد فيلماً مصرياً قبل ثلاثين أو أربعين سنة، نشاهِده ونستمتع به ونرى كيف كانت (القاهرة) في تلك الأيام. العمل التلفزيوني عمل استهلاكي سريع 

زاهي وهبي: صحيح. على كل حال، قبل قليل تحدّثنا عن زوجتك الفنانة القديرة السيّدة "هند كامل" ولاحظنا أنّها كانت ضيفتنا وجلست على كرسي "بيت القصيد". نستمع إليها ونسمع ماذا تقول عن المُخرِج والفنان والكاتب والزوج الأُستاذ "فيصل الياسري، أي حضرتك 

فيصل الياسِري: والله أنا متعطّش لأسمع ما تقوله عنّي 

زاهي وهبي: هيا 

رأي –  الممثلة هند كامل: أكيد كزوجة أعرِف عنه الكثير، لكن ربما أكثر ما هو واضح في هذه المسيرة الفنية الحياتية، ونحن صار لنا تقريباً 36 سنة معاً، أنه شخصية يبحث عن النكّد (تضحك)، يُحب النكد. النكد بالنسبة له يعطيه طاقة إيجابية عكسي تماماً. أنا أجنح كثيراً إلى تبسيط الأمور، إلى تسهيلها وهو لا، يجنح إلى التدقيق وإلى التوقف عند صغار التفاصيل غير الضرورية جداً، أو ممكن إذا توقفنا عندها أن تُحدِث إزعاجاً أكبر. ينقّ كثيراً (تضحك). عندما تقومين بشيء أو تقدّمين شيئاً في شكلٍ عام، أحكي عنه كزوج طبعاً ولا أحكي عنه كمُخرِج لاحقاً أتحدّث عنه كمُخرِج، يبحث عن أين العيب في هذا الشيء قبل أن يبحث عن الحسنات في هذا الشيء. هذه العمليّة طبعاً مُتعِبة لكن قلت لكِ، الزوج والزوجة يعتادان على عيوب بعضهما البعض ويعتادان على حسنات بعضهما البعض، فما عدت أتوقّف كثيراً عند هذه الأمور، حتى أنني بدأت أنا أبحث عنها. عندما تأتيني مُلاحظة فيها نَكد أو فيها سلبية أتفاجأ وأتساءل: "هناك خلل اليوم، هناك غلط عندك". وضوحه ونقاء سريرته يغفران له الكثير من النَكد والنقّ الطويل على طول الخطّ. في العمل كمُخرِج جداً الممثلون والممثلات يُحبّون العمل معه وفي إدارته وقيادته لكن بالنسبة لي الموضوع معكوس لأنّ العمليّة شائِكة. أنا لا أستطيع أن أتخلّى عن كوني زوجة معه في العمل وفي نفس الوقت يُطالبني بأضعاف ما يطالب به الآخرين، فتُصبح العمليّة بالنسبة لي مُتعبة لأنّه يريدني دائِماً في أعلى مستوى يحلم به هو وهذا يتطلّب مني مجهوداً مُضاعَفاً، وفي نفس الوقت أبقى أنا كزوجة على حرصي وخوفي واهتمامي به وهذا أيضاً يسرُق من اهتمامي وتفرُّغي فقط لشغلي كممثلة. لكن المبدع مثله يطلع له ويكون مسموح له أن يكون عنده عيوب لأنّ كل مبدع من اللازم أن يكون عنده طفرة وتميُّز يجعلانه مختلفاً عن الآخرين. لذلك ضمن هذا المفهوم مقبول للمبدع أن تكون له عيوب كبيرة أو حسنات كبيرة. هو أب ممتاز، أب عظيم لأولاده، كل أفعاله يُمكننا أن نقول أنّها تعريف للأبوّة الحقيقيّة. سؤالي لـ "فيصل الياسري"، ما هو تعريفك للعلاقة بين الأجيال الفنية المُبدِعة، الجيل الذي يمتلك الخبرة، والجيل الشاب الآن الذي يقود العمليّة الإبداعية؟ 

زاهي وهبي: شكراً للسيّدة القديرة "هند كامل". لهذا الحدّ تُنكِّد عليها؟ 

فيصل الياسِري: أنا أقدر أن أجيبها على هذا أُستاذ "زاهي". انا لا أُنكِّد، أنا أبحث عن الإبداع وأبحث عن الخلل. هي في المناسبة كثيراً ما تُعاقِب 

زاهي وهبي: تردّ لك الصاع صاعين 

فيصل الياسِري: تعاقب على الأشياء التي لا تعجبها وتأخذ إجراء. هذا النكد الذي أقوم به، إن كان هناك شيء لا أرضى عنه، لا أرضى عنه  

زاهي وهبي: هل تظلمها كزوجة؟ بمعنى إذا كانت تُشارِك معك في عمل تشعُر أمام الآخرين ربما أنّه من اللازم ربما أن تطلب منها أكثر كيلا يُقال أنّ "فيصل الياسري" يتساهل مع زوجته "هند"

فيصل الياسِري: في هذا التفسير شيء من الحقيقة. أنا أطلب منها أن تكون نموذجاً للآخرين، وعندما أقسوا عليها وأطلُب منها أن تؤدّي شيئاً مهنياً في شكلٍ أفضل أُعطي نموذجاً عندما أصير عصبياً مع واحد أو واحدة فيقولون: "هذه أمّ "ديار" يفعل معها هكذا فالأحسن أن نستسلم". هذا من ناحية 

زاهي وهبي: من ساواك بنفسه ما ظلم، في هذا المعنى. قبل أن تُجيب على سؤالها أُستاذي، زواجكما مستمر منذ 36 سنة وعندكما أبناء وهناك فارِق في السنّ بينكما. هل يبقى الحب كل هذا الزمن؟ هل يستمرّ؟ 

فيصل الياسِري: يستمر ولكن يتغيَّر 

زاهي وهبي: يتغيّر نحو الأفضل أم نحو الأسوأ؟ 

فيصل الياسِري: نحو الأفضل لكن في نوعية أُخرى، في أسلوب آخر، في أهداف أُخرى. حب دائِم في الرومانسية التي تبدأ بين أي رجل وامرأة لا يستمر أكثر من ثلاث إلى خمس سنوات في تقديري

زاهي وهبي: نعم

فيصل الياسِري: بعد ذلك يتحوّل إلى إلفة، إلى صداقة، إلى مودّة، إلى اهتمام

زاهي وهبي: وفارِق العُمر؟ 

فيصل الياسِري: فارِق العُمر ليس سيّئاً دائماً 

زاهي وهبي: نعم، وفي حالتكما؟ 

فيصل الياسِري: لم تكن هناك من مُشكلة 

زاهي وهبي: أبداً؟ 

فيصل الياسِري: أبداً 

زاهي وهبي: كيف ترى السيّدة "هند" كممثلة؟ هل تستطيع أن تراها في عينٍ موضوعيّة؟ 

فيصل الياسِري: "هند" ممثلة ممتازة 

زاهي وهبي: طبعاً ولها جماهيرية واسعة 

فيصل الياسِري: جماهيرية واسعة وأول عمل قامت فيه "رائِحة القهوة" الذي نالت جائِزة كبيرة عليه. وأول ما تعرّفت عليها كممثلة، أنا أخذتها كممثلة في برنامج "مرايا" الذي اشتغلته في (الإمارات) و(قطر). هي أولاً لغتها العربيّة ممتازة، فَهْمها للأمور جيّد، إحساسها داخلي وعندها قُدرة على تحمُّل أو تبنّي الشخصية. أنا أظلمها في الشغل تقول لي! لا، بل أشوف في هذه دائماً تذكّرني فيها، في مرة مشهد بينها وبين شخص آخر هي كامرأة والشخص الآخر كرجُل وبينهما حادثة معيّنة والممثل لم يستطع أن يؤدّي دوره، لم يتمكّن من حفظ دوره، فحوّلت الدور إلى دور أُنثى وجعلتها هي تحكي عنه وحفِظَته في نفس الوقت، لحدّ الآن تُذكِّرني وتقول لي: أنت تظلمني

زاهي وهبي: تُساهِم في إنقاذك أحياناً 

فيصل الياسِري: وهي أيضاً حريصة على أن تشعُر بأنني مرتاح في الشغل لكي أُعطي أفضل. دائماً ما تأتي وتسألني، عندك شيء؟ تريد شيئاً؟  

زاهي وهبي: سؤالها باختصار لأن الوقت داهمنا أُستاذي. سألَتك كيف تنظُر إلى العلاقة بين الأجيال الفنية، بين الجيل المُخضرم صاحب الخبرة والجيل الشاب الصاعِد وربما المبتدئ إلى آخره؟ 

فيصل الياسِري: الجيل الشاب والجيل المُخضرم الآن أو من قبل؟ الجيل المُخضرم الآن هو تراكم الخبرة ونحن في حاجة له ولا يوجد بلد أو مجال استعاضوا فيه عن الناس ذوي الخبرة والـ Know How. الجيل الحديث جيل توسّلت له وسائِل إنتاج سهلة ورخيصة، وهم على عجلة ولا وقت عندهم للتعلُّم، وبسرعة. أنا صار لي أربعين أو خمسين سنة أُخرِج ولحدّ الآن لم أكتب على أيّ فيلم مثلاً "فيلم من فيصل الياسري"! الجماعة الشباب الجُدُد لا زالوا في بداية 

زاهي وهبي: فيلم لفلان، نعم، فوراً 

فيصل الياسِري: طوله ستّ دقائِق أو عشر دقائِق ويكتبون "فيلم من فلان". ثمّ أنا قبل فترة، هناك أساتذة في معهد مُعيّن سألتهم، أو شركة تريد موظفين فنيين فطلبت خرِّيجين وأتوها. المدير سأل أحدهم وقال له: "ماذا تريد أن تصير؟" أجابه "مُخرِج"، كلّه يريد أن يصير مُخرجاً. ففي هذه العمليات قبلاً كنّا نتعب أكثر

زاهي وهبي: نحتاج إلى صبر وتواضُع واحترام الآخر

فيصل الياسِري: أجل، والتعلُّم 

زاهي وهبي: أُستاذي الوقت داهمنا وعندي سؤالان فقط سريعاً. هل تُفكِّر في كتابة مُذكّراتك؟ 

فيصل الياسِري: أنا كتبت نوعاً من المُذكّرات. كتبتُ كتاباً إسمه "غِربال الذاكرة"، تحدّثت فيه عن خمس عشرة شخصية توفيت وكيف عاشرتها. هي ذكريات أكثر منها مُذكرات

زاهي وهبي: أقصد تروي فيها تجربتك 

فيصل الياسِري: طالبوني فيها كثيراً وبدأت في كتابة تجربة "افتح يا سمسم" فوجدتها واسعة وضرورية. لكن في مقالاتي ومحاضراتي التي ألقيها دائِماً أقول بأنها نوع من المذكّرات 

زاهي وهبي: نعم. ماذا يبقى من أحلامك على مشارِف التسعين؟

فيصل الياسِري: عندي كثير من الأحلام المؤجّلة 

زاهي وهبي: إن شاء الله تُحقّقها لكن أبرزها؟ 

فيصل الياسِري: أبرزها، كنت أتمنّى من زمان أن أشتغل فيلماً عن "غلغامش" وبدأت به 

زاهي وهبي: الملحمة السومريّة الخالدة 

فيصل الياسِري: وبدأت فيه في مسلسل كرتوني واشتغلت جزءاً منه في (أُستراليا) وبعد ذلك توقّفنا في الحلقة الثامنة لشحّة الأموال. سألوني منذ أيام، هل ستتوقف عن الكتابة؟ قلت سأذهب إلى القبر ومعي سيناريو لفيلم 

زاهي وهبي: إن شاء الله عُمرك طويل وحتى لقاءنا يتكرّر لأنه لا يُمكن اختصارك في عُجالة، في خمسين دقيقة نتحدّث عن أكثر من خمسين سنة من العمل ومن العطاء. هل تعود (بغداد) حلماً وردياً كما كانت في يوم من الأيام؟ 

فيصل الياسِري: تعود نعم، و(بيروت) تعود 

زاهي وهبي: على ما تُراهن؟ 

فيصل الياسِري: أُراهن على الناس 

زاهي وهبي: حلو. نحن نراهن على أن تُقدِّم لنا وتكون أحد المُساهمين في هذه العودة الوردية 

فيصل الياسِري: إن شاء الله 

زاهي وهبي: نوّرت وشرّفت "بيت القصيد" أُستاذ "فيصل الياسِري

فيصل الياسِري: شكراً جزيلاً 

زاهي وهبي: أهلاً وسهلاً. شُكراً لفريق العمل والشُكر الأكبر دائِماً لمُشاهدينا في كل أنحاء العالم. نلتقيكم الأُسبوع المقبل على خير بإذن الله

Play Video

https://www.youtube.com/watch?v=5956I2WUpYs

 

 

الميادين نت في

01.05.2021

 
 
 
 
 

"السينمائي" ترصد مسيرة المخرج فيصل الياسري

عبدالعليم البناء يؤكد فى افتتاحية العدد على أهمية تأصيل الثقافة السينمائية.

حجاج سلامة

·        ملفات ومواد متنوعة تدور جميعها حول المشهد السينمائي العراقي والعربي والعالمي

·        هند صبري تعبرت عن سعادتها بتطور السينما العراقية، واستعدادها للعمل مع مخرجي وفناني العراق

صدر في العاصمة العراقية بغداد، العدد الخامس من مجلة السينمائي، واحتوى العدد الجديد من المجلة على ملفات ومواد متنوعة، تدور جميعها حول المشهد السينمائي العراقي والعربي والعالمي، بينها ملف خاص حول مسيرة المخرج العراقي، فيصل الياسري، كتبه مهدي عباس، والدكتور صالح الصحن، وعلاء المفرجي، والدكتور سالم شدهان، وملف آخر حول الدورة الرابعة من مهرجان الجونة السينمائي، وتقرير حول الأفلام العراقية منذ العام 1946 وحتى العام الجاري 2020 كتبته علياء المالكي، وتقرير آخر حول الدورة الـ77 لمهرجان فينسيا السينمائي، وحوار لخالد فرج مع النجمة هند صبري، عبرت فيه عن سعادتها بتطور السينما العراقية، واستعدادها للعمل مع مخرجي وفناني العراق.

وفي تفاصيل العدد نقرأ عن الواقع والحلم في فيلم "نفس مقطوع " للفرنسي جان لوك غودار، بقلم محمد رضا، و" مخرجون سينمائيون جدد .. محاولات وتجارب مميزة في صناعة السينما العراقية الجديدة" بقلم سعد نعمة، و"أفلام الكوارث والأوبئة تنتعش من جديد فى ظل جائحة كورونا" بقلم أحمد ثامر جهاد، و"الأحلام المؤجلة في فيلم "نورا تحلم" بقلم كاظم مرشد السلوم، و"الرؤية العميقة للذات والآخر .. بين الحرية والسلطة " بقلم الدكتور فراس الشاروط، و" نور الشريف طاقة ابداعية هائلة ومعين سينمائى لا ينضب" بقلم سامح فتحي، و"الأبوة كمحرك للجريمة" بقلم محمود الغيطانى، و"جدلية التذوق بين المخرج والمتلقي" بقلم الدكتور عقيل مهدى، و"السينما المصرية وصعود التيار الديني في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين" بقلم محمود قاسم، وقراءة في كتاب "مغامرات مهرجاناتيّة.. المهرجانات السينمائية والسمعية والبصرية في فرنسا" لمؤلفته الفرنسية كريستل تاييّبير، بقلم صلاح سرمينى، وفي ختام العدد كتب نقيب الفنانين العراقيين، الدكتور جبار جودي عن الصحافة السينمائية، وتجربة مجلة السينمائي في التعبير عن السينما العراقية والعربية

وفى افتتاحية العدد كتب رئيس تحرير المجلة عبدالعليم البناء عن "تأصيل الثقافة السينمائية الهادفة". 
وجاء في تفاصيل المقال: "الثقافة السينمائية أساسها وروحها وأفقها الحرية، وإذا كان فن السينما المبهر المدهش يصيغ مخيلاتنا وأفكارنا وعواطفنا وأشجاننا وأحزاننا وتاريخنا، فإن (السينمائي) واصلت مهمتها في تأصيل الثقافة السينمائية دون أن  تتأخر في مناصرة كل ما له علاقة بالفن والجمال والإبداع، وبناء جسر يمتد نحو أفق مفتوح على مبدعي السينما وصناعها عراقياً وعربياً وعالمياً، أؤلئك الذين شكلوا ركائز التجربة السينمائية، في عملية ربط متين بين الصناعة الإبداعية السينمائية وجميع جوانب الإبداع الإنساني الأخرى، كضمان لازدهار السينما العراقية والعربية على أسس سليمة
".

واشار البناء إلى أنه "بصدور العدد الخامس تتبلور تجربة (السينمائي) بالإستفادة من ملاحظات وانطباعات وآراء المعنيين بالشأن السينمائي داخل العراق وخارجه، دون أن تمنعها التحديات المتمثلة بجائحة كورونا، وانحسار النتاجات السينمائية، وتوقف دور العرض والمهرجانات السينمائية إلا ما ندر، من مواصلة المشوار وتأدية رسالتها على أكمل وجه، والسعي الجاد والحقيقي  من أجل تطويرها شكلاً ومضموناً.

 

ميدل إيست أونلاين في

18.10.2020

 
 
 
 
 

فيصل الياسري بإشعاعه الثقافي عراقٌ على صورة إنسان

الياسري فنان متعدد لم يعطه الوطن فرصة على مقاسه

عبدالله مكسور

بكثيرٍ من التندّر يروي فيصل الياسري الرحلة الأولى التي خرج فيها من العراق في العام 1952 بعد ثمانية عشر عاما من ميلاده، حيث انطلق من بيروت إلى نابولي الإيطالية في باخرةٍ قطعت به البحر الأبيض المتوسط بين ضفّتيه، مؤكدا أنه لم يلتفت إلى الخلف بل كان يفكّر في ما ينتظره هناك على الطرف الآخر للبحر.

الياسري يحاكي الآخر

ابن شيخ العشيرة الذي وُلِدَ في قرية أم عردة بالقرب من الحيرة العراقية حين داهمَهُ وقت الطعام على الباخرة جلس على الطاولة فوجد شوكات وسكاكين، فاحتار ماذا يفعل وكيف يبدأ الطعام وهو الذي اعتاد الأكل بيديه العاريتين، انتظر الشاب الريفيُّ بعض الوقت حتى أتى آخر فجلسَ أمامه وبدأ بحركات راقبها الياسري بنهمٍ وبدأ بتقليده.

محاكاة الآخر تلك، سيطرت على الياسري في بداياته ومن هنا ربَّما أتى اهتمامه بالتاريخ الكبير الذي عاشَ في المنطقة التي انتمى إليها فترةً طويلةً من الزمن، وربما كانت رغبته في المحاكاة هي التي دفعته إلى النمسا التي سافر إليها أصدقاؤه من الأعظمية في بغداد العاصمة. في فيينا كان قد خطّط لدراسة الطب البشري، وكانت أولى الحصص التي حاول حضورها التشريح البشري، وما إن خطا أولى خطواته هناك حتى أُغميَ عليه أمام جثَّةٍ لمجهول، فكانت الصدمة الأولى للثنائية التي يعيشها الإنسان بين الحياة والموت، ومن هنا أتى اهتمامه بكل ما تدبُّ فيه الحياة من نباتٍ وحيوانٍ وإنسانٍ يسعى بمشروعه التنويري الذي يطرحه من خلال أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعرف أنّه سيموت. لم يدم الحال طويلا حتى رحل عن الطب البشري ليدرس علم النفس ويبحر في النفس البشرية وكينوناتها الخفيّة، ولعلّ هذا ما يُبرِّر كتاباته الكثيفة عن الأنا الذاتية وسعيِه الدائم إلى صقل الروح العراقية أو إعادة بنائها بعد احتلال الكويت والخروج منها.

التلفزيون العراقي واستعادة الهوية

ولِدَ فيصل الياسري في العراق في العام 1933 وعاد إليه في العام 1991 بعد أن تنقل في العديد من البلدان، فهو ابن الريف العراقي والمدينة الأوروبية، حيث سكن في النمسا والريف الألماني، وحيث عمل في الصحافة الألمانية و تفوّق على أقرانه في تعلّم اللغة الجرمانية ويبرّر ذلك بقوّة اطّلاعه على اللغة العربية وسعته، الأمر الذي ساعده على البحث والتقصّي في اللغة الألمانية لتبقى العربية لغة روحه وقلبه.

التلفزيون العربي وفي مرحلة حساسة احتاج إلى رجل مغامر مثقف مثل الياسري، ليقدم أعمالا لا ينساها المشاهدون العرب من "حمام الهنا" الذي أطلق نجوم سوريا مثل غوار الطوشة وياسين بقوش وحسني البورظان، إلى "افتح يا سمسم"

في بداية التسعينات تم استدعاؤه على عجل، حيث كان يقيم في حي الجامعة بالعاصمة بغداد ليمضي إلى وزارة الإعلام ويلتقي مع حامد يوسف حمّادي الذي كان وزيراً للإعلام في ذلك الوقت، حيث بلّغه الأخير قرار القيادة العراقية بتكليفه بإدارة التلفزيون العراقي ليستثير النخوة في داخله حين أخبره أنَّ الوطن يحتاج إليه.

أعاد الياسري هيكلة التليفزيون العراقي كاملا وطرح برنامجه الشهير تحت اسم “الملف” الذي يقول عنه إنه بيان لما لحق بالانسان العراقي المدني جرّاء التدخل في الكويت، حيثُ يُتَّهَم الياسري بأنه وقف إلى جانب الاحتلال العراقي للكويت، بينما ينفي هو تلك التهمة جُملة وتفصيلا من خلال حلقاته التي قدّمها في “الملف” وبيّن فيها الحالة المدنية للمجتمع العراقي وتضرّرها جرّاء القصف الأميركي الذي طال كل مناحي الحياة التي بدأت بالانهيار منذ تلك اللحظة.

في برنامج “الملف” كان يعتمد على السرد اليومي للحرب العراقية. كما قام باستضافة وزراء عديدين، حيث ربطته علاقة صداقة مع طارق عزيز وكان الشارع العراقي ينتظر أن يكون الرئيس العراقي الراحل صدام حسين هو ضيف الحلقة الأخيرة من البرنامج ذائع الصيت، وهنا يروي الياسري كيف فوجئ بصدّام حسين يدخل إلى مبنى التليفزيون العراقي حيث أحدث جلبةً كبيرة، وهو ما استدعى خروج الياسري من مكتبه ليصطدم بصدام حسين في بهو المبنى وليطلب منه أن يكون ضيف الحلقة الأخيرة، فيما أبدى الأخير عدم رغبته في الظهور، ويرى كثيرون فيصل الياسري شيوعي النشأة بعثي الهوى، حيث يتّهمه نُقَّاده بأنَّه كان من كوادر حزب البعث العربي الاشتراكي، فيما ينفي هو ذلك قولا واحدا من خلال تاريخه الطويل والأعمال التي قدّمها مُتحدّيا.

فنان يؤمن بالثقافة التراكمية

فيصل الياسري الذي درس في النمسا وعاش في ألمانيا وقضى سنوات من عمره في مصر ودول الخليج العربي وأمضى في سوريا أحد عشر عاما، مستغلا كل تلك المعارف ليصهرها في ثقافته الخاصة، فهو نتيجة كل هذه الثقافات العميقة التي أعاد إنتاجها بلونه المميز، المعرفة لديه هي عملية تراكمية تحتاج وقتها الطبيعي لتنعكس على النفسية البشرية وهنا لابدّ من إيراد الموقف الذي تحدّث عنه المخرج العراقي ثائر عبد عن فيصل الياسري حين أتاهُ حاملا فيلما جديدا كمُخرجٍ شاب يحاول أن يخطو خطواته الأولى في عالم العمل الإعلامي الواسع، وقد صادف ذلك اليوم ذكرى ميلاد الياسري، حيث تجمّع الأصدقاءُ للاحتفال به، فما كان من الأخير إلا أن ترك كلَّ شيء وجلس يشاهد باهتمام وعناية الفيلم الذي يمتد إلى ما يقارب الساعة من الزمان، إلى آخر ثانيةٍ فيه، ليخبره بعدها ثائر عبد أنَّه اليوم وضع نفسه على الخط الصحيح، هذه الحادثة البسيطة ما هي إلا دليل على ذلك الفكر العالي والثقافة الاستثنائية اللذين يحملهما الياسري.

الياسري ابن شيخ العشيرة الشاب يخرج من العراق على متن سفينة تمخر عباب المتوسط، دون أن يتلفت إلى الوراء ماضيا في رحلة لم يكن يعرف عنها شيئا من تناول الطعام بالشوكة والسكين إلى جلسات التشريح والفنون

لم يأتِ الياسري إلى عالم الإعلام مُصادفةً بل ولجهُ عن سبق إصرار وترصّد، فهو الكاتب والمؤلّف والناقد والمترجم ومقدّم البرامج والإداري الناجح والمخرج فوق كل هذا، ولأنَّه وُلِدَ في جغرافيةٍ ضاربةٍ في التاريخ، فقد دعاه هذا إلى الغوص في الأعمال التاريخية كثيمةٍ قدّمها برؤيةٍ معاصرة عبر العديد من المسلسلات الدرامية التي قام بإخراجها، وهذا ما رسّخهُ كعلامةٍ فارقةٍ في عالم الإخراج العربي.

الياسري يطلق افتح يا سمسم

فيصل الياسري الذي حمل اسم أوَّل ملكٍ تُوِّجَ على عرش العراق سعى إلى أن يكون أميرا في صنعته من خلال ما قدّمه عبر تاريخه الطويل ومن خلال حِدَّتِه مع كل ما يتنافى مع قِيَمِهِ وذوقه العربي أولاً وأخيراً، يعيش حياته بفن الممكن، فهو الذي يقول إنه لا يتصرف كما يريد بل كما يستطيع وهذا ما ضمن له أن يعيش في عقول ملايين العرب من خلال عمله الشهير “افتح يا سمسم” الذي أرسى، بنسخته العربية، اللبنة الأولى التي ساهمت في تهذيب الذوق العام للطفل العربي مع مطلع ثمانينات القرن الماضي، وهذا ما انعكس في معظم أعماله الأخرى التليفزيونية وهنا نتحدّث عن فيلم “القنّاص” الذي تحدّث فيه عن الحرب الأهلية اللبنانية ومؤخّرا عمله السينمائي “بغداد حلم وردي” الذي استخدم فيه تقنية الديجتال، ليسبِقه قبل ذلك فيلم “الرأس” الذي تناول فيه بحرفيّةٍ عالية سرقة الآثار العراقية، وهذا يعكس اهتمامه بقضايا المجتمع الذي يعيش فيه ووطنه العراق.

العراقي يطلق نجوم سوريا

تركَ فيصل الياسري أثرا طيِّبا في كل الأماكن التي عاش فيها أو عمل فيها ولا ننسى أنّه عاش في ذاكرة العرب والسوريين من خلال عمله الشهير “حمام الهنا” الذي قدّم من خلاله نهاد قلعي ودريد لحّام في دراما رسخت في وعي العرب طويلا من خلال تعريتها الواقع الاجتماعي والأمني الهش الذي كان في قالب كوميدي، فالياسري يعرف كيف يُجمِّل الجراح ويعيد إنتاجها لتليق بالواقع وليقول ما يودُّ قوله عبر مشاهد مصفوفة ترسخ طويلا في ذاكرة المتلقي.

الياسري الذي حمل اسم أوَّل ملكٍ تُوِّجَ على عرش العراق سعى إلى أن يكون أميرا في صنعته من خلال ما قدّمه عبر تاريخه الطويل ومن خلال حِدَّتِه مع كل ما يتنافى مع قِيَمِهِ وذوقه العربي

الياسري الذي بدأ حياته العملية صحفيا مع نكبة فلسطين في العام 1948 ما يزال على قيد العطاء حتى اليوم من خلال إدارته قناة الديار الفضائية التي يملكها وتحمل اسم ابنه، الديار المشروع الذي توّجهُ الياسري بعد خبرته العمليّة والمهنيّة الطويلة، حيث عاصر المراحل التي مرّت بها الدول العربية في تطوّرها البطيء في العالم الإعلامي.

تجربة الياسري الطويلة بحاجة إلى التوقّف والبحث والتحليل لما فيها من محطّات يُمكِن الاستفادة منها عبر دروس واعية لأجيال عراقية وعربية، في كيفية العطاء واستمرار الإنتاج والمزيد من الطاقات الخلّاقة التي لا تتوقّف عن التدفق لرفد الوسط الثقافي والإعلامي بالعديد من الأفكار الجديدة سواءً تليفزيونيا أو سينمائيا أو وثائقيا أو نشرا عبر إصدرات تتنوّع في عالم الأدب بين الشعر والقصة والنقد، وحين نسمع من الياسري اعترافا يقول فيه إن الوطن لم يُعطهِ الفرصة التي على مقاسهِ أو تلكَ التي يستحق، نقف أمام مُفارَقَة عجيبة، فماذا لو تم منحهُ ما يمكِّنهُ من إنجاز كل ما يريد.

كاتب سوري

 

العرب اللندنية في

24.01.2015

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004