كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

شويكار.. بنت البحر أسطورة الغنج

بقلم: د. شريف صالح

عن رحيل البرنسيسة

شويكار

   
 
 
 
 
 
 

1. تجري في عروق شويكار دماء شركسية (الأم) وتركية (الأب) وهي تتشابه في أصولها تلك مع هند رستم، مثلما تتشابه معها في زمن الولادة ـ شهر نوفمبر ـ ومكانها: الإسكندرية مدينة العالم.

تمتلك هند وجها لا خلاف على جماله، وجسدًا منحوتًا، كما يجب أن يكون الجسد. وكان ذلك مفتاحًا كافيًا لدخول عالم النجومية.

أما شويكار فهي تملك جسدًا شهويًا أكثر منه جميلًا. يحمل رسالة إغواء أكثر من رسالة "جمال".

جسد متوسط القوام، ربما أميل إلى القصر، يشبه إلى حد ما، برلنتي عبد الحميد، لكنه أكثر امتلاء وارتجالًا. أقل انضباطًا مع المعايير.

كما تتميز بعينين غامضتين، ساحرتين في الكحل الأسود، وأحيانا تبدو سنجابيتين. كما غني رشدي "يا أم الخدود العنابي.. يا أم العيون السنجابي".

يضاعف الشعر الأسود الكثيف، وغرابة رسمة عينيها، من ذلك الشعور بأنها الجنية "بنت البحر المتوسط" وقد خرجت من أساطيره.

 

2. تزوجت في سن السادسة عشرة وأصبحت أمًا لطفلة، ثم أرملة في الثامنة عشرة. وبعدها شدت الرحال من مدينة البحر المتوسط إلى القاهرة. وتقريبًا كان أول فيلمين لها هما "حبي الوحيد" و"غرام الأسياد" كلاهما أمام عمر الشريف. كان حضورها خجلًا كفتاة تسببت في فراق الحبيبين ـ وإن لم تكن شريرة ـ وفي الآخر تعاطفت مع لبنى عبد العزيز التي تعرضت للتحرش والاغتصاب، وكان اسمها "لولو" سيدة الموضة.

 

3. انتمت إلى جيل من الفاتنات اشتعل حضورهن عقب ثورة يوليو، لكنها وجدت نفسها في الصف الثاني مع زهرة العلا، ورجاء الجداوي، وصولًا إلى ميمي جمال. بينما كان في الصف الأول: فاتن حمامة، شادية، نادية لطفي، هند رستم، مريم فخر الدين، ماجدة، ولبنى عبد العزيز.

تقريبًا لم تقدم أية بطولة مطلقة. فهي ليست صاحبة الجمال النموذجي الذي يفرضها نجمة، وأيضًا لا يمكن تجاهل ذلك الإغواء المكتوم في حضورها.

 

4. الفرصة تأتي في العمر مرة واحدة. بالطريقة التي ظهرت بها "شويكار" لم يكن لها أي مستقبل في تاريخ الفن. وغالبًا كانت ستحصل على زوج آخر وتعتزل مبكرًا جدًا. لكن الحظ الطيب جعل عبد المنعم مدبولي يقترحها على صديق عمره فؤاد المهندس لتقف أمامه على خشبة المسرح.

آنذاك كان إسماعيل يس نجم الكوميديا الآفل، يعتمد في كل فيلم على سنيدة حسناء، وغالبًا لا يكررها. أما المهندس فجعل شويكار "سنيدة" وبطلة أساسية معه طوال عصره الذهبي كله. سواء على شاشة السينما وأروع عمل لهم (بالنسبة لي) "مطاردة غرامية" وفي المسرح "سيدتي الجميلة".

عندما تعارف "الأستاذ" و"التلميذة" كان فارق السن حوالي عشر سنوات، كانت أرملة صغيرة السن تربي طفلة، وكان هو زوجًا وابًا لطفلين.. رأت فيه المثل الأعلى وقدرًا من حنان الأب وسحره ذلك الإغواء العصي على المقاومة.

اعترف المهندس أن زواجه منها قد يكون تسبب في مرض زوجته الأولى (أم ولديه) التي سرعان ما توفت. كما اعترف أن حبه لشويكار انهار بعد عشرين عامًا، بسبب نزوته مع أستاذة جامعية.

لم يكن العجيب ذلك الحب بين "الأستاذ" المفتقر للوسامة التقليدية و"التلميذة المغوية" والتندر على علاقتهما كما كتب محمود السعدني. بل كان العجيب هو استمرار الزواج أساسا لعشرين عامًا. في ظل منافسات فنية تستعمل فيها كل الأسلحة. حروب ونكات كثيرة قيلت عن الثنائي الأشهر. جعلت وصول الحب لطريق مسدود، منطقيًا.

 

5. منحها المهندس "الأمان" كأرملة صغيرة، و"الصنعة" كفنان كبير (ولا يجب هنا إغفال دور عبد المنعم مدبولي) لذلك صقلت شويكار موهبتها ونضجت كفنانة، وك "أنثى". تخلصت من خجل بداياتها، وباتت أكثر غنجًا وشقاوة. ازداد صوتها إغواء، ودلعًا، وتكسيرًا محببًا لكل طرق النطق، وقواعد اللغة. علمًا بأن نصف الغنج في الصوت وليس في الجسد.

ومع السبعينيات باتت أكثر انفتاحًا لتجارب بعيدة عن الأستاذ رغم استمرار الشراكة. وإن عادت ـ في معظمها ـ لمقعدها المفضل "الدور الثاني" و"السنيدة" و"ضيفة الشرف".

فنيا، لم يحدث في تاريخ الثنائيات الزوجية مثل رشدي وسامية جمال، ونور الشريف وبوسي، وسمير غانم ودلال.. أن نجح زوجان قدر نجاح شويكار والمهندس. سواء على خشبة المسرح أو في السينما.

 

6. كانت ـ بالنسبة لنا نحن مراهقي السبعينيات والثمانينات ـ منافسة لجيل آخر أصغر منها سنًا يضم أسماء مثل ناهد شريف وميرفت أمين. وظهرت في أدوار مساعدة مثل "الجبان والحب" مع حسن يوسف و"دائرة الانتقام" مع نور الشريف، أو "السقا مات". وهي تبذل جهدًا كبيرًا لتثبت نفسها كنموذج ل "الست الملبن" على الطريقة المصرية، وليس "التركية". وهي هنا حققت نجاحا يفوق ما حققته هند رستم. أرادات التفوق في "الملاية اللف" و"المنديل أبو أوية" واجتهدت في إخفاء لكنة الطفولة التركية، وراء بحة ودلال مصريين خالصين.

كما نجحت في الاستمرار فنيًا مع الأستاذ رغم انكسارها العاطفي وانفصالهما مطلع الثمانينيات إلى درجة أنها شاركت في مسرحيته "سك على بناتك" بصوتها فقط. وتجنب الاثنان ـ عقب الطلاق ـ تبادل أية إساءة. وقرر "الأستاذ" و"التلميذة" الاحتفاظ بواحدة من أجمل قصص الحب والفن.

 

7. خلال نصف قرن، ظلت شويكار تجرب لنفسها وجوهًا كثيرة جدًا وتعمق "مصريتها" و"دلالها". وهذا يعيدنا إلى صفة "بنت البحر"، فالبحر لا يعرف السكون ولا الفصل الواحد.

يحمل مفهوم "الغُلمة" دلالة مزدوجة، فمثلما هو وصف لقوة الشهوة، هو وصف لاضطراب وهياج البحر. وهو مفهوم يشبه شويكار كنموذج للغلامية.

هنا تكمن الجملة الأساسية في تجربتها الطويلة، والتي تخص الجسد الذي قد لا يكون نموذجًا في الجمال لكنه يملك شحنة إغوائية عالية. ولذلك كان في كثير من خياراته نصيرًا للضعف الإنساني، متفهمًا للخطيئة، صديقًا للغريزة المكبوتة، ومثيرًا للشغف.

لعبت شويكار أدوارًا كثيرة كانت فيها "العاهر" والزوجة الخائنة، والمرأة اللعوب، والأرملة الطروب، ومديرة بيت الدعارة الشعبي أو الأنيق، والزوجة السرية المخفية.

في مشهد لها أمام عادل أدهم يواجهها بخيانتها، فبدلا من أن تنهار وتطلب العفو، تتحداه بأنها إنسانة وليست "عبدة" يسجنها في قصره. من حقها الحب والمتعة ، ولا علاقة لهذا، بأية قواعد أو تقاليد يمكن أن تُقال.

وكثيرًا ما ارتبطت هذه الأدوار، بالبهجة والمرح كما في فيلمها الشهير "درب الهوى" عندما لعبت دور مديرة بيت الدعارة.

ليس القصد هنا تبرير "الخيانة" وتزيين "الخطيئة"، بل هو دفاع عن حق الجسد في الشغف والبهجة، ضد ثقافة ذكورية تمارس كافة الأكاذيب ضد وعي المرأة بجسدها.

هذا الحضور الشهوي الطاغي والمبهج، جعلها أيقونة في المخيال الشعبي ـ حتى لو لم تكن بطلة مطلقة بالشكل التقليدي ـ كما كان هناك قدر كبير من التسامح معها، لأنها كثيرًا ما تعبر عن "الحقيقة المخفية" حتى وهي تمسك الكأس والسيجارة وتجلس في بيت دعارة.

فكثيرًا ما ينصت الناس إلى تفاصيل بيت الدعارة ليكتشفوا أن هذا البيت الموصوم بالخطيئة أكثر نبلًا من بيوت، ومؤسسات كثيرة تدعي الطهارة. وأن تلك العاهرة المانحة للحب والبهجة، أكثر إنسانية، من وحوش الأصدقاء والأزواج.

 

الـ FaceBook في

15.08.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004