كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

سينما مرزاق علواش تركض من دون لهاث وراء القضايا الشائكة

إبراهيم العريس

مهرجان الجونة السينمائي

الدورة الثانية

   
 
 
 
 

عام 1971، كانت السينما الجزائرية مرتاحة لأفلامها التي لا تتوقف عن تمجيد «ثورة المليون شهيد»، سامحة بين الحين والآخر لبعض «القناصة المشاكسين»، من أبناء العائلة (الوطن) بالطبع بأن ينتقدوا هذه السمة أو تلك من «الهنات» التي صاحبت الاستقلال أو حدثت خلال الثورة («نوة» لعبد العزيز الطلبي، أو «الفحام» لمحمد بوعماري على سبيل المثال). وكانت السينما الجزائرية وصلت قبل ذلك بعام إلى أعلى ذرى المجد السينمائي الذي يمكن أن تصل اإليه سينما من العالم الثالث الذي كانت الجزائر تتزعمه فنياً وفكرياً على الأقل، حين نال محمد الاخضر حامينا «السعفة الذهبية» في دورة عام 1975 لمهرجان «كان» السينمائي. تلك الجائزة التي يتطلع اليها كبار سينمائيي العالم، وبالتحديد عن فيلمه «وقائع سنوات الجمر». إذاً، وسط ذلك الاستقرار المجيد والممجّد، فرقع مخرج شاب بالكاد كان يعرفه أحد خارج الجزائر، وحتى داخلها، قنبلة كان اسمها صعباً على التلفظ في أي حال: «عمر قتلته الراجلة». طبعاً سرعان ما فهمنا أن العنوان يعني بلهجة الجزائر العاصمة، مسقط رأس المخرج مرزاق علواش، أن عمر بطل الفيلم قتلته رجولته وملاحقته الدائبة للنساء.

لكن الفيلم لم يكن تحديداً عن مطاردة النساء في شوارع العاصمة الموقّرة. كما أن عمر ليس، كما اعتاد أبطال الأفلام الاولى للمخرجين الشبان أن يكونوا، الأنا/ الآخر للمخرج الذي كتب السيناريو بنفسه. لو كان كذلك لما كان من شأن الفيلم أن يحدث تلك الثورة الهائلة التي أحدثها في السينما الجزائرية، ولما كان من شأنه أن يحقق النجاح المدهش الذي حققه على الصعيد النقدي والجماهيري. هو حقق ذلك كله، لأنه جرؤ على قول ما لم يكن ممكناً قوله: ليست أمور الشباب على أحسن ما يكون في بلد الثورة المظفرة. وإن هذا الجيل الطالع لم يعد راضياً بأن يُهمّش ويضحى به، لمصلحة الجيل السابق الذي يبدو أنه سيكون له دائماً كل شيء: جيل الثوار.

الرجل الذي قلب المعادلات

في تسعين دقيقة إذاً، قلب «عمر قتلته» (هكذا بات اسمه اختصاراً) كل المعادلات التي قامت عليها السينما الجزائرية، واختصر كل ما سوف يحدث لاحقاً في الجزائر. ليس بصيغة تنبؤية، بل بصيغة توقعية. أتى الفيلم ليقول ان كل شيء ظاهر للعيان، وليس على المهتمين أن يغوصوا عميقاً ليدركوا ماذا يحدث في هذا البلد. أتى ليقول إن دفن الرؤوس في الرمال لم يعد مجدياً... ونعرف بقية الحكاية، على الصعيدين السياسي والاجتماعي.

وحتى لو ان علواش سيواصل دق أجراس الانذار، جرساً وراء الآخر وفيلماً بعد الآخر، فإن من غير الانصاف أن نتعامل مع افلامه، منذ «عمر قتلته» وحتى نتاجاته الاخيرة على انها بيانات سياسية. فالحال أن مخرجين كبار من طينة الفرنسي بارتليمي آمنغوال، التقطوا منذ «عمر قتلته» نسغ سينما ذاك الذي كان بالكاد تجاوز يومها الثلاثين من عمره. فقال هذا المنظّر والناقد السينمائي الكبير: «ان علواش الذي كتب سيناريو وحوار فيلمه بنفسه، يمارس قوته البصرية وتفكيره حول الصورة، ومن هنا فإن عدداً لا بأس به من مشاهد فيلمه تنتمي إلى ما يكاد يكون وثائقياً، ليحدثنا عما يعتمل داخل المجتمع الجزائري من عيوب (فنشاهد بأم العين التعايش والإفراط في الإنجاب والملل وهزالة العيش)، كما أن الصوت عنده يشتغل بدوره مساهماً في صناعة المحتوى (الموسيقى الشعبية، الموسيقى الهندية، الاستعراض، السينما، المسرح، احتفالات الزواج)، كما أنه يشتغل على اللغة...».

مسيرة تواصلت بدأب

والحقيقة أن ما شخّصه أمنغوال هنا، لمناسبة حديثه عن «عمر قتلته»، ظل سائداً في أفلام علواش التالية، والتي نادراً ما خرجت، في أي حال، عن نسغ الاحتجاج الاجتماعي، والظهور كأنها تنتمي اإلى سينما راهنة، تتابع ما يحدث في الجزائر، وربما خارجها أيضاً، عبر نظرة مخرج يعتبر نفسه، من ناحية، معنياً بما يحدث في بلاده، عارفاً أن الصورة والصوت هما سلاحه للتعبير عن ذلك، ومن ناحية ثانية بوظيفة الفنان في أن يبدع ويجدد في الأشكال السينمائية بمقدار ما يمعن تحقيقاً في الأفلام.

ففي الأحوال كافة، سرعان ما تبين لعالم السينما أن مرزاق علواش لم يأت من عدم يتيه في بيئة صحراوية، بل هو ابن ذلك الجيل الذي كاد يكون مسحوقاً بين جيل الثورة وجيل مستقبل سنوات الرصاص. فهو كما أشرنا ولد وترعرع في الجزائر العاصمة وقطع دراساته الثانوية باكراً كي يتسجل في المعهد الوطني للسينما في العام 1964، ليحقق بعد ذلك فيلمين قصيرين من مقاس 16 ملم: «السارق» (فيلم التخرج) والفيلم الذاتي الصامت «فكرة حميمة». وهو توجه عام 1967 إلى باريس لإمضاء فترة تدرب نال بعدها دبلوم الاخراج من الايديك. وسيعود إلى باريس مرة أخرى عام 1968 ليتدرب عملياً على العمل التلفزيوني. وحين عاد من جديد إلى الجزائر عام 1971، التحق بمنصب في وزارة الاعلام والثقافة. وإذ كُلف حينها بنشر أفكار وممارسات نوادي السينما، قيّض له عام 1974 أن يعمل مساعداً لسليم رياض في فيلم «ريح الجنوب». وفي العام التالي نراه ينضم الى «الاونسيك» (جهاز السينما التابع للحكومة الجزائرية) بصفة مخرج. وضمن هذا الإطار حقق عام 1976، فيلمه الروائي الطويل الأول، الذي اختير ليعرض في أسبوع النقاد في مهرجان «كان» في العام ذاته.

ونعرف طبعاً أن علواش لم ينم على حرير بنجاح فيلمه الأول. ولا خاصة على التجديدات في الموضوع والأشكال السينمائية التي وسمت ذلك الفيلم. وهكذا شاهدنا له، عام 1978 «مغامرات بطل» الذي، على خطى «كانديد» فولتير، على سبيل المثال، بدا جريئاً في لجوئه إلى شكل سينمائي بيكاري، يعتمد السخرية والتغريب، كي يقول، ولكن هذه المرة بلغة سينمائية تكاد تنتمي إلى فن المقامات المعروف في الأدب العربي الكلاسيكي، كل المساوئ التي تعيشها المجتعات التي تعني مخرجه، ولكن خاصة لعبة اختراع الابطال الممارسة في العديد من المجتمعات المتخلفة وغير المتخلفة. مهما يكن فإن علواش قال معلقاً على هذا الفيلم، انه شرع في العمل عليه «دون ان أعرف منذ البداية كيف سيكون شكله. بالنسبة إلى «عمر قتلته» كنت قد انطلقت من بحث أتاح لي أن أصنع تركيب قصة الفيلم. أما «مغامرات بطل» فقد انطلق من قصة قصيرة حولتها بالتدريج إلى مسيرة متكاملة من المغامرات والصور. لكنني منذ البداية كنت أريد التحدث عن مسألة الرومانسية الثورية (...). وقررت بيني وبين نفسي إيجاد صيغة أدبية تشبه الف ليلة وليلة. وكان من الواضح بالنسبة إلي أنني – للحديث عن الرومانسية – يجب أن أتسلل إلى داخل الشخصية الرئيسية مختاراً أسلوب الغرائبية للتحدث عن خيالات البطل وهلوساته».

نحو تراكم مدهش

بعد «مغامرات بطل» لم يتوقف مرزاق علواش عن تحقيق فيلم جديد مرة كل ثلاثة أو أربعة أعوام، بحيث تراكمت له حتى الآن، واحدة من أغنى الفيلموغرافيات في تاريخ السينما الجزائرية. ولكن، لئن كان نسغه قد ضعف، ومقابل نجاح جماهيري مؤكد في افلام تالية له مثل «الرجل الذي كان يشاهد النوافذ» (1982)، و «حب في باريس» (1986)، فإنه عاد عام 1994 وفي فيلمه «حومة باب الواد» ليفجر قنبلة جديدة، ولكن هذه المرة في وجه الأصوليين الذين، في سياق الأحداث العنيفة التي عرفتها الجزائر حينها، راحوا يغزون المجتمع الجزائري بالتوازي مع أعمالهم العسكرية الارهابية (سنوات الرصاص). ولقد كلفه هذا الفيلم، كما حال بطله، أن يذهب ليعيش في الخارج حيث حقق في باريس عام 1996 «سلاما يا ابن العم» الذي تمكن مشاهدته كما لو أنه متابعة لبطل «حومة باب الواد» بعد هربه من حيه الشعبي الجزائري إلى فرنسا. وهو إذ حقق تالياً، عملين للتلفزة أحدهما في بيروت «الجزائر – بيروت»، فإنه عاد إلى السينما عام 2001 ليحقق «العالم الآخر» ثم «شوشو» (في العام 2003) وهو هزلي اجتماعي من تمثيل جاد المالح لم يضف شيئاً الى سينما علواش، وكذلك كان حال «باب الدرب» عام 2005. وكان ذلك قبل أن يعود مجدداً إلى مواضيعه الراهنة، كما في «حراقة» عن تسلل الشبان الأفارقة سراً إلى أوروبا وغرقهم في البحر. وهو منذ حقق هذا الفيلم عام 2009، رفع سرعة وتيرة تحقيقه أفلامه ليحقق «تاتا بختا» (2010) و»نورمال!» (2011) قبل أن يعود إلى المواضيع الحارقة وتحديداً إلى سنوات الرصاص في عمل قوي جديد له هو «التائب» الذي عرض العام 2012، في أسبوعي النقاد في مهرجان «كان»، ليتلوه عام 2013 بفيلم «السطوح» الذي حقق نجاحات لا بأس بها في عدد من المهرجانات السينمائية العربية... وصولاً إلى «الأم كوراج» ومن ثم إلى عمله الأخير حتى الآن «ريح ربّاني».

* بتصرّف عن المدخل المكرّس للمخرج في كتاب «السينما والمجتمع في الوطن العربي: القاموس النقدي للمخرجين» الصادر عن «مركز دراسات الوحدة العربية» - 2018

####

فيلم «ريح ربّاني» ...

حب وجهاد في الصحراء الجزائرية

فيكي حبيب

يصوّب المخرج الجزائري المخضرم مرزاق علواش أضواء كاميرته ناحية الجانب المظلم في بلاده. يلتقط ذبذبات الشارع، ويغرف من الواقع ليقدم «مرافعته» في السياسة والمجتمع، ثم يسير إلى إمام بحثاً عن مشروع جديد، غير عابئ بما سيرافق فيلمه من انقسامات من حوله.

لا يعير علواش اهتماماً للانتقادات، ولا ينساق وراء حملات التشهير. لا يبالي بأصوات النشاز، ولا يكترث للخصوم. فالمهم بالنسبة إليه أن يكون حاضراً من خلال سينماه في معركة الثقافة ضد الفكر الظلامي. ولا وقت لديه لإضاعته في معارك واهية. لذا تراه غزيراً في إنتاجه، منجذباً الى القضايا الشائكة، منساقاً وراء سينما تمنح الأولوية للشباب، ما ينعكس عليه نشاطاً ومشاكسة ويمدّه بطاقة وحيوية، تبعدان عنه الشيخوخة على رغم تقدم السنين.

فهذا السينمائي الشاب في إنتاجه على رغم دنوه الحثيث من الخامسة والسبعين، لا يتوقف عند غياب تمويل أو عراقيل لوجستية، بل يعمل بما توافر، وإن أخذ عليه بعضهم تسرعاً ما في إنجاز أفلامه الأخيرة وتغليب البعد السياسي فيها على الجانب السينمائي. فهو لا يكاد ينتهي من فيلم حتى يعكف على فيلم جديد بمعدل سنة أو سنتين بين عمل وآخر... وهو صاحب قضية يؤمن بالسينما المنحازة لهموم الشباب، منذ أن لفت إليه الأنظار عام 1976 في فيلمه الروائي الطويل الأول «عمر قتلته الرجولة» مروراً بدزينة من الأفلام التي تناولت جراح العشرية السوداء في الجزائر وقوارب الموت والتشدد الديني والتعصب الفكري مع أفلام مثل «التائب» و «حراقة» و «باب الواد سيتي» و «العالم الآخر» و «السطوح»... أفلام دأبت على ملامسة أحلام الجيل الجديد وكوابيسه ومعاناته في ظل غياب الأفق في عالم عربي يغرق في مستنقعات التشدد، وجعلت علواش واحداً من أبرز الوجوه في السينما العربية. وليس أدل على هذا من أنه استطاع أن يعبر بعدد من أفلامه إلى المهرجانات السينمائية الكبيرة الأربع: كان وبرلين والبندقية وتورونتو - راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة -.

تطرف
ولا يحيد علواش عن هذا المسار في أحدث أفلامه «ريح رباني» الذي عرض أخيراً في مهرجان الجونة السينمائي بعدما شهد عرضه العالمي الأول في أيلول (سبتمبر) الماضي في مهرجان تورونتو بعد أسابيع قليلة من انتهاء تصويره. فهو في شريطه الروائي الطويل هذا، يعود من جديد بعد فيلمه الوثائقي «تحقيق في الجنة» (2016) إلى تيمة وَسَمت كثيراً من أفلامه ولا تزال إرهاصاتها حاضرة بقوة في مجتمعاتنا العربية لما تشكله من تهديد كبير على النشء الصاعد. وليس انجراف الشباب وراء التطرف الديني وغسيل الدماغ الذي تمارسه المنظمات المتشددة وإيقاع حديثي السن في شباكها واستقطابهم نحوها بدعوى الجهاد، تيمة منتهية الصلاحية، بل على العكس ما زالت هذه المشكلة ترخي بظلالها في بلادنا وتتصدر تداعياتها يومياتنا... لا في الجزائر وحسب، بل في المنطقة ككل، وإن شكلت الجزائر الحاضنة الأساسية لحبكة الفيلم التي أرادها علواش قصة حب وجهاد، طارحاً من خلال بطله سؤالاً يشغل باله عن تلك الجثث التي يُعثر عليها بعد العمليات الإرهابية من دون أن يكون لها اسم أو وجه، فيبقى سرّها مدفوناً معها إلى الأبد، ولا نكاد نعرف عنها شيئاً، وكأنها لم تطأ هذه الدنيا من الأساس.

غموض سينعكس بدوره على شخصيات الفيلم التي يحرّكها علواش من دون أن يقدم أي شيء عنها، باستثناء معلومات طفيفة تفسّر ما يدور أمام الكاميرا خلال الدقائق الـ96. فنحن هنا أمام مهمة تنفيذ عملية مسلحة ضد معمل تكرير في الصحراء الجزائرية، بطلاها «أمين» (محمد أوغليس) الشاب العشريني اليافع وقائدته «نور» (سارة لايساك) الثلاثينية. بطلان غريبان لا يجمعهما شيء سوى حب الجهاد، فيجتمعان معاً تحت سقف واحد في منزل قرب مدينة تيميمون في الصحراء الجزائرية، تديره «الحجة» (مسعودة بوخيرة) في انتظار وصول السلاح لتنفيذ مهمتهما. الأول ترتسم براءة الأطفال في عينيه وملامح وجهه، والثانية يفيض من عينيها حقد دفين ينسينا ملامح وجهها الجميلة ويحوّلها إلى مسخ حقيقي. بطلان، بتناقضاتهما، يدقان ناقوس الخطر حول أن الإرهابي ممكن أن يكون قريباً منا، أكثر بكثير مما نتصور. فـ «أمين» لا يشبه في شيء صورة الإرهابي المحفورة في مخيلتنا. وجهه الناعم وتسريحة شعره وحرصه على الرد على اتصالات والده المتكررة له على رغم كذبه عليه والزعم أنه في إسبانيا بحثاً عن عمل، لا تحيلنا على مشروع «إرهابي». في المقابل تبدو «نور» أكثر انسجاماً مع صورة الإرهابي/المسخ، فالشرّ الذي يخرج من عينيها وكلامها وتصرفاتها، تقودنا إلى ما نبحث عنه عند الانتحاري/أيّ انتحاري... وإن مرّ علواش بحياء على وجهها الآخر في مشهد يشعرنا أننا نسترق فيه النظر إليها وهي ترقص حيناً مع رفيق متخيل أو يُظهر فتنتها حيناً آخر وهي تستحم أو تتسلل إلى سرير «أمين» بقميص نوم مثيرة بعد أن تنزع عنها نقابها الأسود والقفازين اللذين يغطيان يديها.

أبيض وأسود

اختار علواش أن يكون فيلمه بالأبيض والأسود وأن يكتفي بالتصوير بين منزل مغلق والصحراء كي لا يلهينا شيء كمشاهدين عن الدنو من سيكولوجيات بطليه. لكنه للأسف لم يوفق في مسعاه بالمقدار الكافي، إذ بدت الشخصيات سطحية، تائهة أمام حبكة غير متينة. فقصة الحب التي ربطت «أمين» بـ «نور» بعد أن منحته جسدها، بدت مكتوبة على عجل، وافتضاح أمر «الحجة» التي آوت الإرهابيين الشابين وتجسست عليهما لمصلحة الجهات الرسمية، لم يبد مقنعاً... ليصل ضعف السيناريو إلى ذروته في ختام الفيلم مع تردد «أمين» في تنفيذ المهمة ثم مبادرته إلى تفجير نفسه بالحزام الناسف الذي يزنّر خصر «نور»، بعدما عجز عن ثنيها عن تنفيذ مهمتها على رغم أن ثواني قليلة فصلت بين هذا المشهد والمشهد الذي يشكو فيه بطلنا كالأطفال أنه لا يريد أن يموت، حين اكتشف أن سير العملية تحول من عملية قتالية إلى عملية انتحارية. فما الذي يبرر هذا التحول السريع في شخصيته؟ وكيف يمكن تفسير كبسه على صاعق المتفجرات بهذه السهولة؟ هل صحا ضميره فجأة وفعل هذا لإنقاذ معمل التكرير من تفجير كاد يودي بحياة عشرات المدنيين من العمال الأجانب الذين يعملون في المكان؛ أو أنه أراد أن يموت إلى جانب حبيبته على غرار النهايات الكبيرة في الروايات الرومانسية؟

«ريح رباني» فيلم متقشف في حواراته ومعالجته الدرامية وموازنته. وهو حكماً ليس أفضل أعمال مرزاق علواش السينمائية، ومع هذا، لا يمكن أن نمرّ عليه مرور الكرام، فهو يبقى، من دون أدنى شك، حلقة مهمة في معركة السينما ضد التطرف. فكيف بالأحرى إن كان يحمل توقيع سينمائي كبير سخّر كاميرته خلال ما يزيد عن أربعين عاماً في خدمة الفكر التنويري؟

####

«ماكوين» ... عبقرية استثنائيّة رحلت قبل الأوان

أمل الجمل

كلما تأملت أعمال لي ألكسندر ماكوين، مصمم الأزياء الاسكتلندي الشهير، بكل وحشيتها، وقسوتها، ولا معقوليتها أحياناً، بكل غرائبيتها وشذوذها وإثارتها الجدل والسخط من حوله - الى درجة جعلت الصحافة العالمية في بعض الأحيان تشنّ علىه هجوماً قاسياً لاذعاً - أتساءل هل كانت أزياؤه تعبيراً عن شخصيته أم هروباً منها؟! هل كانت أفكاره ولمساته المجنونة، بكل عبقريتها، تعبيراً عن وجدانه أم هروباً منه؟

أحيت في داخلي التساؤل مجدداً مشاهدتي الفيلم الوثائقي «ماكوين» ضمن مسابقة الفيلم الوثائقي في الدورة الثانية لمهرجان الجونة السينمائي. جاء الشريط بتوقيع كل من المخرج إيان بونهوت بالتعاون مع المخرج بيتر إيتيدجوي الذي كتب سيناريو الفيلم أيضاً بنفسه، وهو سيناريو يبدو - ظاهرياً - بسيطاً سهلاً، أقرب إلى الأفلام التلفزيونية التي تنهض على الحوارات، لكن الحقيقة خلاف ذلك تماماً، إذ يتبنى صُناعه أسلوباً سردياً صعباً في إنجازه، قوي التأثير فكرياً وعاطفياً، وذلك عبر استكشافه رحلة ذلك الفنان، ومسيرته بكل دروبها الوعرة والمرهقة نفسياً، المليئة بالإصرار، بالتحدي، منذ كان صبياً لا يملك أي أموال، فقط كانت كل ذخيرته الحلم والإرادة وموهبة إدارة المقص بين أصابعه بحرية كبيرة قادرة على تشكيل الأقمشة على هيئة ثياب لافتة.

العقبات وقود النجاح

لم تقف اللغة عائقاً أمام إصرار ماكوين على التعلم لدى أهم مصممي الأزياء في ميلانو، فبعد أن توقع له الأصدقاء أن يعود من إيطاليا إلى بلده بعد أسبوع واحد إذ لم يكن معه المال ولايمتلك لغة للتواصل، لكنه بعد أسبوعين اتصل ليخبرهما بالتحاقه بالعمل كمساعد هناك.

لم يتذرع ماكوين أبداً بأن نقص الإمكانات سيكون سبباً في عدم إنجاز طموحه، بل كان يتحدى دوماً بأنه قادر على تصميم فستان لافت مبهر من كيس بلاستيكي وجده في الشارع. عرف كيف يتعلم من الكبار والخبراء ويُطوّر شخصيته، أدرك من بعضهم أهمية التاريخ ليستلهم منه بعض خطوط أزيائه، ثم خلق هو إبداعاته الخاصة، استعاد تجاربه الشخصية وخبرات الطفولة بكل مآسيها، سواء عبر اعتداءات الآخرين عليه، أو اعتداء زوج الأخت على شقيقته بالضرب والإهانة، ليعكسها في خطوط أزيائه وتصميماته، معبّراً بأسلوبه المتفرد عن تضامنه مع النساء ضد انتهاكات الرجال، من دون أن يتخلى عن جماليات لافتة بل طاغية على تلك الأزياء، تكشف قدراته كفنان تشكيلي لا يتوقف عن الابتكار الخلاق.

عندما سُئل ماكوين ذات يوم هل يمكن أحداً أن يُكمل مسيرته، قال: «صعب، لأن هذا يعني أن يكون هذا الشخص قد عاش حياتي ومر بتجاربي وخبراتي نفسها». إنها جملة بسيطة صادقة جداً على رغم ما قد تحمله من غرور أو ثقة بالنفس، لكنها أيضاً تُفسر لماذا سعت «جيفنشي»، أشهر بيوت الأزياء الفرنسية، وراء ماكوين ليرتبط اسمه بها، ثم بناءه مؤسسته الخاصة التي تحمل اسمه. مثلما لا يغفل السيناريو تلك التفاصيل الصغيرة التي تتراكم على مدار الفيلم، والمؤكدة ذلك الشغف الذي صنع اسم ماكوين وميّزه كإنسان وفنان له بصمة شديدة الخصوصية والألق على رغم رحيله المبكر قبل إتمام عامه الحادي والأربعين بشهر واحد فقط.

تلك الشخصية

أبعاد عديدة تميز هذا الوثائقي المهم، أهمها بالطبع شخصية بطله لي ألكسندر ماكوين الذي فاجأ العالم صباح ١١ فبراير (شباط) من عام ٢٠١٠ بخبر انتحاره، عقب وفاة والدته بأيام قليلة. وتتجلى أهمية الشخصية، ليس فقط، في كونها مثيرة للجدل في عالم الأزياء والموضة، لكن أيضاً لأنها شخصية درامية بامتياز، إذ تكتنف جوانحه وحياته القصيرة نسبياً - مقارنة بالإنجاز والإرث الفني الذي تركه من ورائه - طاقة ووهج كبير يستمد قوته من الصراع المتفجر في أعماقه ومن حوله، إنه الصراع الذي تطورت معه الشخصية وصولاً إلى لحظات التنوير، وليس لحظة تنوير واحدة فقط.

لماذا نقول لحظات التنوير؟ لأن الفيلم في أسلوبه السردي ينهض على صيغة الثنائيات التي يتناولها تباعاً، كأن كلاً منها كان يشكّل صراعاً ما في حياة البطل التراجيدي هنا، ماكوين وعلاقته بوالدته وارتباطه الكبير بها وعجزه عن تقبّل مرضها وتدهور حالتها. ماكوين وصديقته مصممة الأزياء إيزابيلا بلو التي ساهمت بقوة في تقديمه للعالم وتعلقه بها قبل أن ترتبك علاقتهما ويحوطها التوتر في لحظة ما، ثم انفصاله عنها بقسوة بالغة وعقاب مؤلم، اختتمه صُناع الفيلم برد فعله إزاء خبر وفاتها.

إضافة إلى ذلك، ثنائية ماكوين وصديقه الإيطالي المقرب جداً سباستيان الذي فجأة قرر أن يترك العمل معه لأنه صار عبئاً نفسياً عليه، هنا نُنصت إلى حديث الأخير عن علاقتهما وتحليله التكوين النفسي لشخصية ماكوين بشفافية لافتة، مؤلمة. ثم ثنائية ماكوين ومساعدته التي كانت دوماً إلى جواره والتي تولت إدارة أعماله عقب انتحاره والتي تُلقي ضوءاً على كثير من المراحل وتُوضح كثيراً من تصرفات ذلك العبقري، والتي كانت تبدو جارحة وفظة في رأي الآخرين، من دون أن ننسى ثنائية وحدته القاسية ومعاناته النفسية نتيجة ذلك في مقابل شهرته العالمية.

كذلك، تحتل جزءاً مهماً في الفيلم ثنائية ماكوين وعلاقته بأخته التي كان يُحبها وتأثر بالإهانات التي تعرضت لها في حياتها الزوجية، واستلهم منها كثيراً من تفاصيل أزيائه وخطوطها، وكيف كان يقول من خلال هذه الأزياء أنه يريد للنساء أن تكنّ قويات، وألا تخضعن للابتزاز ولا تستسلمن للإهانات. ثم ماكوين وابن أخته الذي منحه فرصة للعمل بجواره لثقته في موهبته، وطلبه ذات يوم أن ينحت له جمجمة تمثل ماكوين ذاته والتي يبدأ بها الفيلم وقطرات من الدماء تتساقط عليها أو تنزف من أعلاها في دلالة رمزية لتكوين شخصيته ومسار حياته.

الجوانب البصرية

البعد الثاني المميز للفيلم هو المستوى البصري، والذي ينقسم إلى شقين، أولهما مستمد أساساً من خمسة أفلام صُنعت عن ماكوين وعروضه أثناء حياته بطلب منه. ويبدو ماكوين حاضراً بقوة في الأفلام الخمسة، إذ يُوثق لأسلوب عمله وتصرفاته مع أصدقائه والمحيطين به والعاملين معه، بمن فيهم الموديلز. كان ماكوين هنا هو المخرج بنفسه، إذ نراه في إحدى اللقطات يُعطي أمراً للكاميرامان الذي انخفض بعدسة كاميرته ليتابع ساقي إحدى عارضات الأزياء وهي تخلع ملابسها فيطلب منه ماكوين بحسم أن يرفع الكاميرا الى أعلى.

أما الشق البصري الثاني، فيعتمد على مجموعة لقاءات ثابتة في لقطات متوسطة الحجم أو واسعة أو مقربة لشخصيات من عائلة ماكوين مثل أخته، وابنها، أو صديقه سباستيان، وآخرين، في سرد إنساني يبدو في أحد جوانبه مفعماً بالحب لتلك العبقرية، وفي الوقت نفسه يتميز السرد بالوعي العميق والإدراك لمكنون الشخصية والأشياء التي جرحتها وكانت سبباً في قسوتها أحياناً، والتي نجم عن بعضها انفصالها عن اثنين من أهم أصدقائها.

ويتجلى البعد الثالث المميز للفيلم في أن جمالياته الفنية تبدو متوارية، بذكاء شديد، ووعي كبير لمصلحة شخصية البطل التراجيدي الذي عاش حياة قصيرة، لكنها متوهجة، متأججة، مُلهمة، جعلت العالم من حوله، أو على الأقل المهتمين بعالم الموضة يبحثون عنه، ويكون مادة خصبة لأحاديثهم وانتقاداتهم، وإعجابهم، ومساومتهم للاستفادة من عبقريته.

خط الزمن

ظاهرياً، يبدو أن الفيلم ينمو بالتوازي مع نضج شخصية ماكوين وتقدم مسيرته الفنية غير العادية التي تقترب من حالة الشُهب، لكن المتأمل لنسيج البناء السردي، وتأسيس البناء الفيلمي، يُدرك أن هذا التوازي أمر خادع وغير صحيح. لماذا؟ لأن إحدى جماليات السرد بذلك الشريط الوثائقي أنه لا يسير في الزمن وفق خط كرونولوجي، إنما يُركز سرده على سنوات النضج ثم سرعان ما يعود أحياناً للطفولة ليكشف عن تأثيرها البالغ على مسيرته. وعندما يُشير الوثائقي إلى صداقاته وما أصابها من شروخ، كان بعض الأصدقاء يعرج مرة أخرى على طفولته ليكشف شيئاً جديداً، وهكذا في جوانب شتى من حياة ماكوين ومنها علاقته بأمه، وكذلك علاقته بأخته. ومن هنا، احتفظ الفيلم بإيقاع جذاب مُؤثر بعواطفه التي قام ببنائها في قلوبنا تدريجياً طوال العمل حتى جعلتنا مع هبوط التترات نشعر كأننا جزء من مأساة ذلك العبقري الذي حمل اسم لي ألكسندر ماكوين.

الحياة اللندنية في

19.10.2018

 
 

ضمن مهرجان "أيام فلسطين السينمائية"

«يوم الدين»: عن سلامة ”المشوّهين“ وإرث السينما المعاق

صالح ذباح

سؤدد كعدان: الإنسان هو المركز في «يوم فقدت ظلّي»«يوم الدين»: عن سلامة ”المشوّهين“ وإرث السينما المعاق"البرج"... مخيّم اللاجئين على طريقة الرسوم المتحرّكةمانيفيل... عندما ينعي الوطنَ رجلٌ آلي!

أتاحت رحلة بشاي وأوباما والحمار حربي للجمهور العربي والعالمي أن يري صعيد مصر من خلال بحث البطلين في سوهاج وقنا عن أصولهما، نرى مصر أخرى غير القاهرة التي تبدو حلمًا بعيدًا ومعقّمًا لبشاي كما جاء على لسانه في أحد المشاهد: ”أهل القاهرة ما بيجلهمش جُزام“، أو كما تُرجم شعور البعد الساحق عن مركز الدولة والحضارة المدنيّة عندما تساءل ”أوباما“ لدى مصادفته هرمًا صغيرا في طريقهما: ”مش همّا تلاتة؟ هما التانيين فين؟“.

يتحدّى صنّاع فيلم ”يوم الدين“ وعلى رأسهم كاتب ومخرج العمل أبو بكر شوقي في فيلمه الروائي الطويل الأول، المفاهيم المذوّتة والجامدة في مجتمعاتنا العربية حول معنى الاختلاف والبطولة، ويختبر السينما المصريّة، بصفتها أغزر مصنع للسرديات الفيلمية عربيّا وأكثرها انتشارًا وتأثيرًا، ويحرجها في كثير من المواضع  لتبنّي صنّاعها في أغلب الأفلام أبطالًا وقصصًا تنصاع لأشكال متعدّدة من المركزيّة: مركزيّة القاهرة فضاءً مدنيًّا تنضُب أمامه أي فضاءات أخرى في مساحات مصر الشاسعة، مركزيّة البطل ”السليم“ المنصاع لقوانين نجم الشبّاك في أفلام القوالب الجاهزة وفق خلطات ”سوق“، مركزيّة سيادة الحضارة الإسلاميّة في معظم الأفلام والتحسّس من عرض ما هو مخالف لسرديّة يوضع في مركزها البروتاجونسيت الذكر المسلم السنّي، إلّا في تجارب قليلة حاولت الخروج عن المألوف وزعزعت قليلًا التصوّرات التجارية المدغدغة لما يعتقد على أنّه يعجب الجماهير المتخيّلة في قاعات العرض.

يندرج الشريط المصري الذي شارك في المسابقة الرسميّة في الدورة الأخيرة من مهرجان كان هذا العام  في خانة أفلام الرحلة (trip films)، خطوط الحبكة الرئيسيّة غير معقّدة: بشاي رجل أربيعني مسيحي تعافى من مرض الجذام لكن لم يفلت من المظاهر القاسية لهذا المرض الجلدي على وجهه وأطرافه،  يسكن منذ سنّ الخامسة  تقريبا -بعد تخلّي عائلته عنه-  في ما يعرف بالمستعمرة، وهي منطقة نائية يوضع فيها مرضى الجذام وذوو الإعاقات الجسديّة والأيتام. يحاول بعد وفاة زوجته المريضة أن يبدأ رحلة بحثه عن أهله، علمًا أنّه  لم يغادر المتسعمرة من قبل، ويستند في رحلته على خريطة بدائية جدّا  وُصفت له كي يصل إلى قنا في الصعيد، مرتجلاً حماره ”حربي“. يفاجئه بانضمامه لرحلته ”أوباما“، طفل مسلم من أصول نوبيّة، أُودع في مدرسة أيتام ومن سكان المستعمرة المنبوذة.

يختبر شوقي أبصارنا وبصيرتنا في يوم الدين، لا ندرك متى تحديدًا في الفيلم، يرتقي وعينا كمتلقّين إلى ما هو أبعد من الأطراف المقطوعة وآثار التسلّخات الجلدية على جسد بشاي  وأصدقائه في محيطه، وعلى من يقابلهم من مختلفين أو مشوّهين في رحلته. ينجح شوقي في مهمّة صعبة للغاية: أنسنة الإنسان أمامنا! يردّني هذا الموتيف إلى بدايات تعامل السينما العالمية مع  ذوي التشوّهات الخَلقية، من المستحيل تناسي فيلم طليعيّ  كفيلم the Freaks عام 1932، لتود براوننج، الذي قدّم أكبر عدد من أصحاب التشوّهات الخلقية في شريط واحد، وجعل منهم أبطالًا للفيلم الذي أنتج في فترة ما قبل قانون هايز للرقابة، وجعل من البطلة السليمة جسديًا في الفيلم، الأكثر تشوهًا من باقي الممثلّين المعوّقين فعليّا. يصنع شوقي أمرًا مماثلًا، يجعلنا نفكّر في معنى التشوّه والسلامة الجسديّة وربطها بالجوهر الإنساني، لننظرإلى بشاي القابع داخل كلّ منّا في حالات ضعفنا وحالات التمييز التي قد نتعرّض لها، ويجعلنا نتقزّز من تقزّز الناس منه في معاركه اليومية الصغيرة لدي مواجهة المجتمع الخارجي.

رسخت  عقليّة تمييز  في طريقة تناول الآخر المختلف في  معظم ما قدّمت السينما المصرية عبر تاريخها العريق، سواء كان هذا الآخر  نوبيًا، أو يهوديًا  أو مسيحيًا أو مثليًا أو مشوّهًا، لذا يشكّل  ”يوم الدين“  إضاءةً وإضافةً نوعيّة للسرديّات التي تتناول المختلف، في زمنٍ نحن في أمسّ الحاجة فيه عربيًا إلى تقبّل رأي آخر في مجتمعاتنا، وأهمّ ما في هذا التناول السينمائيّ الابتعاد عن إثارة الشفقة والابتذال الميلودراميّ في الحديث عن المشوّهين، كم بالحري عندما نعلم أنّ بطل الفيلم (راضي جمال)  كان مريضًا بالجذام وأنّ آثار المرض على وجهه حقيقية، وبالرغم من ذلك أنجز دورًا لا مثيل له في السينما العربية لخصوصية ظرفة، وكأنّه يحيّي مرضه بانتصار جريح، المرض الذي جعل منه بطلًا سينمائيًا يكسر كل المعاني المكرّسة للبطولة في السينما المصرية.

تتداخل دوائر تهميش بشاي: يحمل تشوّهات مرض الجذام، مسيحي الديانه، منبوذ من أهله، يحاول أن يستردّ آدميّته من خلال رحلته ليتمكّن من الوصول إلى ذويه، وكأنها مسيرة مخاض وولادة جديدة في عمر الأربعين للبطل، ولعلّ أكثر الموتيفات البصريّة العالقة في الذهن هي مشاهد ارتدائه لقبّعة نسجت عليها قطعة قماش تتدلّى على وجهه المندوب، ناوله إياها أوباما كي لا يثير نفور الناس الغرباء من حوله، في محاكاه وتكريم لفيلم سينمائي آخر وهو The Elephat Man عام 1982 للمخرج ديفيد لينش، صارخًا نفس الجملة بعد تجمهر الناس حوله ومحاولة إيذائه في القطار: أنا إنسان!

أتاحت رحلة بشاي وأوباما والحمار حربي للجمهور العربي والعالمي أن يري صعيد مصر من خلال بحث البطلين في سوهاج وقنا عن أصولهما، نرى مصر أخرى غير القاهرة التي تبدو حلمًا بعيدًا ومعقّمًا لبشاي كما جاء على لسانه في أحد المشاهد: ”أهل القاهرة ما بيجلهمش جُزام“، أو كما تُرجم شعور البعد الساحق عن مركز الدولة والحضارة المدنيّة عندما تساءل ”أوباما“ لدى مصادفته هرمًا صغيرا في طريقهما: ”مش همّا تلاتة؟ هما التانيين فين؟“.

يعود الفضل في الصورة الجميلة  على الشاشة إلى مدير التصوير الأرجنتيني فرديريكو تشيسكا،  زميل المخرج  في دراسة السينما في جامعة نيويورك، خالقًا مسافة قريبة من الشخصيات دون فذلكة واستعراض تقني هدفه الإبهار، لتكون الألوان الرملية الصفراء والترابية والنارية مسيطرة بجمال على قسم كبير من مشاهد الفيلم وإحكام التعامل مع الإضاءة في مشاهد اجتماع المجذومين حول النار في الليالي الحالكة السواد، ليولّد جماليّات بصرية وُلدت أساسًا ممّا اتُفق مجتمعيّا على أنّه قُبح، متّسقةً مع جماليّآت المضمون الذي خلقه كاتب ومخرج العمل  لما يعنيه شكل هذا التجمّع المشوّه أو المختلف وكأنّه اجتماع قمّة مصغّر يسخر من العالم، يحاكي مشهدًا آخر قدّمه المخرج خيري بشارة في ”آيس كريم في جليم“ بعد عرض ساخر غنـّي فيه عمرو دياب مع مجموعة من الفنانين ”المكرسحين“: يا معوّقين الدنيا اتحدّوا … الكون مشاع كان في البدايات!

على مستوى آخر من التناول للاختلاف وإمكانية احتوائه في أكثر الظروف غرابةً، ورغم ابتعاد المخرج عن تناول الواقع السياسي في مصر وعدم اهتماهه كثيرًا بتصدير هذا الجانب إلى الغرب كما صرح في حواراته، كان لافتًا مشهد اعتقال بشاي المسيحيّ الديانة وربطه بقيود واحدة مع سجين آخر من خلفية إسلاميّة سلفيّة أو إخوانيّة كما يُلمّح فيها، يهربان معًا رغم تخوّف كلّ منهما من الآخر لأسباب مختلفة، في مشهد مُضحك ومحرّك لديناميّة الفيلم، أو مشهد تقوقع بشاي واختبائه داخل نفسه، في زاوية ما في المسجد الذي يلجأ إليه مع أوباما منتظرًا لحظة اللقاء الصعبة. يدخل عليه شقيقه إثر معرفته أنّ أخاه المشوّه لا زال على قيد الحياة، لتتحقّق بعدها أمنية بشاي بالتعرّف على أسرته وأن تتقبّله، ليكون هو وأمثاله سواسيّة مع بقيّة الناس -ولو لساعات معدودة- ولا يضطرّ أن ينتظر يومًا غيبيّا ليتحقّق ذلك. في رحلته المضنية، استطاع بشاي أن يصل، ونحن معه،  إلى يوم الدين.

صحافي من فلسطين

رمان الفلسطينية في

19.10.2018

 
 

فيلم «Dogman»: وقائع انفجار رجل ساذج

أحمد عزت

حين ننظر إلى واقعنا الذي نعيشه نتلمس حجم خسائرنا في مسيرتنا الإنسانية. طالما أن عالم القمع والإذلال والاستغلال قائم ومستمر، فسينتهي بنا المطاف إلى أن نصبح مخلوقات من نوع آخر كان اسمه الإنسان، دون أن يعني ذلك تغيرًا في شكله الخارجي. إن التغير الأكثر خطورة هو ما يحدث في بنيته الداخلية، العقلية والنفسية.

كتاب «حيونة الإنسان» – «ممدوح عدوان»

يستوحي المخرج الإيطالي «ماتيو جاروني» فيلمه التاسع «Dogman» من حادثة حقيقية جرت وقائعها نهاية ثمانينيات القرن الماضي في إحدى ضواحي روما، وكانت حديث الصحف والميديا آنذاك، حين قرر رجل بسيط يعمل في صالون للعناية بالكلاب أن يضع حدًّا للاستغلال المستمر الذي يتعرض له من ملاكم سابق، فيقوم بحبسه داخل أحد الأقفاص المعدة للكلاب وتعذيبه لساعات قبل قتله.

تحمل تفاصيل الواقعة الحقيقية قدرًا هائلًا من العنف، كان الأمر أقرب لانفجار هذياني لرجل عادي يشبهنا جميعًا. كان «جاروني» مأخوذًا بحكاية مربي الكلاب، وظلت الحكاية تداعب مخيلته ما يقرب من عقدين من الزمن، حتى التقى مصادفة «مارشيلو فونتي» بملامحه الموسومة بالبراءة والغرابة معًا -فاز بجائزة أفضل ممثل عن أدائه للدور الرئيسي في فيلم «جاروني» من مهرجان كان 71- والذي يرى «جاروني» أنه لولا وجوده لما كان قادرًا على تحقيق فيلمه.

كيف حكى «ماتيو جاروني» حكايته؟

حين نشاهد لوحة «Sunflowers» للرسام الهولندي «فان جوخ» فإننا لا نتحدث طويلًا عن لماذا اختار هذا النوع من الزهور بالذات، بل نبقى مأخوذين بالطريقة التي رسمها بها، الحال نفسه في السينما، لا نتحدث طويلًا عن الحكاية، بل تأسرنا الطريقة التي صورت بها.

المخرج الإيطالي «ماتيو جاروني»

يفتتح «جاروني» فيلمه بلقطة مقربة لكلب شرس ينبح في وجه الكاميرا كاشفًا عن أنيابه، نلمح «مارشيلو/مارشيلو فونتي» عند طرف الكادر لوهلة قبل أن يختفي من الكادر ليحتله كاملًا جسد الحيوان المعلن عن عدوانيته، بينما صوت مارشيلو من خارج الكادر: «يا حلوتي». لقطات لكلاب هادئة داخل أقفاص، نرى مارشيلو ثانية أقصى طرف الكادر خائفًا: يا جميل هل تريد بسكويتًا. المشهد ينتهي بلقطة للكلب وادعًا ومطيعًا.

يقول السينمائي الفرنسي «روبير بروسون»: «ينبغي على كل لقطة/تكوين أن تقول شيئًا ما،حتى قبل أن تنطق الشخصيات التي تحتل اللقطة». كل لقطة من لقطات «جاروني» في ذاتها تحمل معنى ما، بل يمكننا القول إن تتابع اللقطات معًا في المشهد الأول يضيء روح الفيلم وروح بطله.

نحن هنا أمام الشخصية الرئيسية في الفيلم تواجه واقعًا شرسًا وعنيفًا، وتظن في سذاجة أن بإمكانها ترويضه -مثلما تروض كلبًا- بمزيد من الصبر واللطف أو على الأقل تفادي ضرباته. يمكننا أيضًا أن نرى علاقته المصيرية بـ «سيموني»، الذي يمكن اعتباره ككلب ضال وشرس يتعذر ترويضه، تجسيدًا لهذه الروح.

يستطيع أيضًا «جاروني» أن يؤسس ببراعة للمكان الذي تدور فيه حكايته عبر لقطات شبه تسجيلية في المشهد الثاني قبل أن يعود ثانية إلى «مارشيلو». فنرى أرضًا خالية من البشر مدموغة بإحساس ثقيل بالعزلة كمدينة منسية على حافة العالم، حيث تبدو من بعيد مجموعة مساكن متواضعة، لقطة بعيدة لطفلين على أرجوحة وامرأة وحيدة.

في مكان هامشي كهذه المدينة الصغيرة، حيث العنف عملتها الوحيدة، كيف ينجو رجل طيب القلب مثل مارشيلو؟

العالم السينمائي لماتيو جاروني

التيمات التي يحملها فيلم «Dogman» ليست غريبة عن عالم «ماتيو جاروني» السينمائي. دائمًا ما صورت أفلامه السابقة شخصيات بريئة عالقة في عالم قاسٍ وعنيف، راصدًا أثر ذلك العنف على شخصياته. يبرع «جاروني» في رسم تفاصيل عالم قاسٍ ومنتهك بأقصى واقعية ممكنة.

في فيلمه «Gomorrah»، الحائز على الجائزة الكبرى في مهرجان كان 2008، يرصد الحياة اليومية لمدينة تسيطر عليها عصابة المافيا الإيطالية المعروفة بالكومورا. تتحكم الكومورا في اقتصاديات المدينة وسكانها بشكل مخيف، لا أحد يفلت من العنف لا الأطفال ولا النساء، دائرة مفرغة من العنف العبثي، لا ينجو منه مراهق بريء مثل «توتو» الذي ينتهي به المطاف وهو يساعد في استدراج امرأة خارج منزلها ليقتلها رجال الكومورا.

هناك أيضًا شخصيتان ساذجتان هما «ماركو» و«سيرو»، يمارسان أنشطة إجرامية صغيرة، الأمر بالنسبة لهما أشبه بلعب طفولي، فالمرة الأولى التي نراهما معًا نجدهما يمرحان داخل فيلا مهجورة، يحاولان محاكاة صوت وحركات توني مونتانا -شخصية رجل عصابات أداها «آل باتشينو» في فيلم «الوجه ذو الندبة Scarface» من إخراج «برايان دي بالما»- غير أنهما نسيا أنه لا مكان في هذا الجحيم للعب ولا للطفولة.

عالم جاروني أيضًا هو عالم ذكوري تمامًا، وجود النساء فيه هامشي. في «Dogman» نجد حضور طفلته فقط، ووجود شبحي لمطلقته. يرى جاروني أحد الأسباب الرئيسية لهذا العنف المستشري هو أن الثقافة الإيطالية هي ثقافة ذكورية جدًّا، تمجد الذكورة المتطرفة والعدوانية (Macho)، وأن المافيا هي أحد أعراض هذه الثقافة المريضة أو تجليها الأقصى.

خطر الرغبة وفانتازيا القوة

عالم «ماتيو جاروني» هو عالم رغبات محتدمة وانجذابات خطرة. هناك فكرة رائعة نجدها في سينما «جاروني» تصلح كمدخل لفهم العلاقة بين مارشيلو وسيموني يمكن صياغتها كالتالي: هناك شيء وحشي في قلب كل رغبة مهما كانت بريئة.

في فيلمه «Tale Of Tales» نجد الملكة التي تقوم بدورها «سلمى حايك» تأكلها رغبة أن تكون أمًا، وهي الرغبة الأكثر بدائية وبراءة لدى كل النساء. حرمان الملكة من الإنجاب ورغبتها في أن تكون أمًا يدفعها للتضحية بزوجها من أجل الحصول على قلب وحش بحري أخبرها العراف أنها إذا أكلته فسوف تحمل في الحال.

ينام الزوج صريعًا على الشاطئ بجانبه قلب الوحش البحري، تخطف الزوجة قلب الوحش دون أن تلقي حتى نظرة وداع على جثمان زوجها. نشاهدها في المشهد التالي وهي تلتهم بنهم قلب الوحش بينما تصبغ الدماء فمها وجانبًا من وجهها.

نعود إلى «مارشيلو» والعلاقة بينه وبين «سيموني»، والتي تحمل قدرًا من الغموض من ناحية «مارشيلو»، فعلى الرغم من استغلاله من قبل «سيموني» فإنه منجذب له. المرة الأولى التي نراهما معًا نجد «مارشيلو» منبهرًا بما فعله «سيموني»، من ضربه لأشخاص من روما وهروبه من الشرطة. انجذاب «مارشيلو» له إذن هو انجذاب لما لا يملك، القوة في مجتمع مفتون بها.

منبع هذا الانجذاب هو رغبته في أن يكون مقدرًا داخل المجتمع الذي يعيش فيه، أن يكون مرئيًا. في المشهد الذي يجتمع في أصحاب المحلات لمناقشة أمر «سيموني» الذي صار خارجًا عن السيطرة، يجلس «مارشيلو» معهم، لكن لا أحد ينظر إليه أو يطلب رأيه كأنه غير موجود.

ربما هذا ما نجد صداه في المشهد الذي يلي انفجاره الأخير، حيث يقف في مواجهة ملعب الكرة يخاطب أشباحًا، يناديهم دون أن يلتفتوا إليه: «انظروا ماذا فعلت، انتظروا فسأجلبه لكم». كأن ما فعله كان من أجل فقط أن يروه أو يشعروا بوجوده.

الأسلوب السينمائي للمخرج «ماتيو جاروني»

يمكننا اعتبار أسلوبية «جاروني» امتدادًا حديثًا لإرث وجماليات مدرسة «الواقعية الجديدة» التي ظهرت في السينما الإيطالية بعد الحرب العالمية الثانية وتركت أثرها في العديد من المخرجين حول العالم.

الاحتفاء النقدي بفيلمه «Gomorrah» في 2008 كان يشمل في جزء منه الحديث عن إعادة إحياء تقاليد الواقعية الجديدة. وهو ما يستمر هنا في فيلمه الجديد «Dogman»، حيث التصوير في الأماكن الطبيعية، واستخدام كاميرا محمولة باليد، واستخدام إضاءة طبيعية، والمزج الرائع بين ممثلين محترفين وهواة.

يبرع «جاروني» في استخدام البيئة المحيطة والعناصر الطبيعية في التعبير عن الحالة النفسية لشخصيته الرئيسية، فالنص الأول من الفيلم تسوده إضاءة مشرقة وجو صحو مثلما يتخلله بعض الخفة واللحظات المرحة بين «مارشيلو وابنته»، أو بينه وبين كلبه. بينما يأتي النصف الثاني بإضاءة خافتة، جو رمادي، أفق مظلم وسماء ملبدة بالغيوم كنذير بما هو قادم. الخطة اللونية، والتي تجمع بين الأزرق البارد والرمادي هي الأقرب لطبيعة عالمه وشخصياته.

يبدو الفيلم في النهاية مثل حكاية أطفال قاتمة، كتلك الحكايات الخيالية التي قدمها بمنتهى الواقعية في فيلمه «Tale Of Tales»، والتي نرى في قلبها توحش العالم وهزيمة الإنسان، حكاية عن رجل ساذج وطيب القلب استطاع أن يروض كل كلاب الحي النابحة قبل أن يتحول هو في النهاية بما يشبه اللعنة إلى كلب كبير يلهث فوق جثة الكلب الوحيد الذي عجز عن ترويضه.

موقع "إضاءات" في

19.10.2018

 
 

«ريح ربّاني»..  حلقة مهمة في معركة السينما ضد التطرف

فيكي حبيب

يصوّب المخرج الجزائري المخضرم مرزاق علواش أضواء كاميرته ناحية الجانب المظلم في بلاده. يلتقط ذبذبات الشارع، ويغرف من الواقع ليقدم «مرافعته» في السياسة والمجتمع، ثم يسير إلى إمام بحثاً عن مشروع جديد، غير عابئ بما سيرافق فيلمه من انقسامات من حوله.

لا يعير علواش اهتماماً للانتقادات، ولا ينساق وراء حملات التشهير. لا يبالي بأصوات النشاز، ولا يكترث للخصوم. فالمهم بالنسبة إليه أن يكون حاضراً من خلال سينماه في معركة الثقافة ضد الفكر الظلامي. ولا وقت لديه لإضاعته في معارك واهية. لذا تراه غزيراً في إنتاجه، منجذباً الى القضايا الشائكة، منساقاً وراء سينما تمنح الأولوية للشباب، ما ينعكس عليه نشاطاً ومشاكسة ويمدّه بطاقة وحيوية، تبعدان عنه الشيخوخة على رغم تقدم السنين.

فهذا السينمائي الشاب في إنتاجه على رغم دنوه الحثيث من الخامسة والسبعين، لا يتوقف عند غياب تمويل أو عراقيل لوجستية، بل يعمل بما توافر، وإن أخذ عليه بعضهم تسرعاً ما في إنجاز أفلامه الأخيرة وتغليب البعد السياسي فيها على الجانب السينمائي. فهو لا يكاد ينتهي من فيلم حتى يعكف على فيلم جديد بمعدل سنة أو سنتين بين عمل وآخر… وهو صاحب قضية يؤمن بالسينما المنحازة لهموم الشباب، منذ أن لفت إليه الأنظار عام 1976 في فيلمه الروائي الطويل الأول «عمر قتلته الرجولة» مروراً بدزينة من الأفلام التي تناولت جراح العشرية السوداء في الجزائر وقوارب الموت والتشدد الديني والتعصب الفكري مع أفلام مثل «التائب» و «حراقة» و «باب الواد سيتي» و «العالم الآخر» و «السطوح»… أفلام دأبت على ملامسة أحلام الجيل الجديد وكوابيسه ومعاناته في ظل غياب الأفق في عالم عربي يغرق في مستنقعات التشدد، وجعلت علواش واحداً من أبرز الوجوه في السينما العربية. وليس أدل على هذا من أنه استطاع أن يعبر بعدد من أفلامه إلى المهرجانات السينمائية الكبيرة الأربع: كان وبرلين والبندقية وتورونتو.

ولا يحيد علواش عن هذا المسار في أحدث أفلامه «ريح رباني» الذي عرض أخيراً في مهرجان الجونة السينمائي بعدما شهد عرضه العالمي الأول في أيلول (سبتمبر) الماضي في مهرجان تورونتو بعد أسابيع قليلة من انتهاء تصويره، كما سيعرض في الدورة المقبلة لأيام قرطاج السينمائية (3 إلى 10 نوفمبر 2018).

فهو في شريطه الروائي الطويل هذا، يعود من جديد بعد فيلمه الوثائقي «تحقيق في الجنة» (2016) إلى تيمة وَسَمت كثيراً من أفلامه ولا تزال إرهاصاتها حاضرة بقوة في مجتمعاتنا العربية لما تشكله من تهديد كبير على النشء الصاعد. وليس انجراف الشباب وراء التطرف الديني وغسيل الدماغ الذي تمارسه المنظمات المتشددة وإيقاع حديثي السن في شباكها واستقطابهم نحوها بدعوى الجهاد، تيمة منتهية الصلاحية، بل على العكس ما زالت هذه المشكلة ترخي بظلالها في بلادنا وتتصدر تداعياتها يومياتنا… لا في الجزائر وحسب، بل في المنطقة ككل، وإن شكلت الجزائر الحاضنة الأساسية لحبكة الفيلم التي أرادها علواش قصة حب وجهاد، طارحاً من خلال بطله سؤالاً يشغل باله عن تلك الجثث التي يُعثر عليها بعد العمليات الإرهابية من دون أن يكون لها اسم أو وجه، فيبقى سرّها مدفوناً معها إلى الأبد، ولا نكاد نعرف عنها شيئاً، وكأنها لم تطأ هذه الدنيا من الأساس.

غموض سينعكس بدوره على شخصيات الفيلم التي يحرّكها علواش من دون أن يقدم أي شيء عنها، باستثناء معلومات طفيفة تفسّر ما يدور أمام الكاميرا خلال الدقائق الـ96. فنحن هنا أمام مهمة تنفيذ عملية مسلحة ضد معمل تكرير في الصحراء الجزائرية، بطلاها «أمين» (محمد أوغليس) الشاب العشريني اليافع وقائدته «نور» (سارة لايساك) الثلاثينية. بطلان غريبان لا يجمعهما شيء سوى حب الجهاد، فيجتمعان معاً تحت سقف واحد في منزل قرب مدينة تيميمون في الصحراء الجزائرية، تديره «الحجة» (مسعودة بوخيرة) في انتظار وصول السلاح لتنفيذ مهمتهما. الأول ترتسم براءة الأطفال في عينيه وملامح وجهه، والثانية يفيض من عينيها حقد دفين ينسينا ملامح وجهها الجميلة ويحوّلها إلى مسخ حقيقي. بطلان، بتناقضاتهما، يدقان ناقوس الخطر حول أن الإرهابي ممكن أن يكون قريباً منا، أكثر بكثير مما نتصور. فـ «أمين» لا يشبه في شيء صورة الإرهابي المحفورة في مخيلتنا. وجهه الناعم وتسريحة شعره وحرصه على الرد على اتصالات والده المتكررة له على رغم كذبه عليه والزعم أنه في إسبانيا بحثاً عن عمل، لا تحيلنا على مشروع «إرهابي». في المقابل تبدو «نور» أكثر انسجاماً مع صورة الإرهابي/المسخ، فالشرّ الذي يخرج من عينيها وكلامها وتصرفاتها، تقودنا إلى ما نبحث عنه عند الانتحاري/أيّ انتحاري… وإن مرّ علواش بحياء على وجهها الآخر في مشهد يشعرنا أننا نسترق فيه النظر إليها وهي ترقص حيناً مع رفيق متخيل أو يُظهر فتنتها حيناً آخر وهي تستحم أو تتسلل إلى سرير «أمين» بقميص نوم مثيرة بعد أن تنزع عنها نقابها الأسود والقفازين اللذين يغطيان يديها.

اختار علواش أن يكون فيلمه بالأبيض والأسود وأن يكتفي بالتصوير بين منزل مغلق والصحراء كي لا يلهينا شيء كمشاهدين عن الدنو من سيكولوجيات بطليه. لكنه للأسف لم يوفق في مسعاه بالمقدار الكافي، إذ بدت الشخصيات سطحية، تائهة أمام حبكة غير متينة. فقصة الحب التي ربطت «أمين» بـ «نور» بعد أن منحته جسدها، بدت مكتوبة على عجل، وافتضاح أمر «الحجة» التي آوت الإرهابيين الشابين وتجسست عليهما لمصلحة الجهات الرسمية، لم يبد مقنعاً… ليصل ضعف السيناريو إلى ذروته في ختام الفيلم مع تردد «أمين» في تنفيذ المهمة ثم مبادرته إلى تفجير نفسه بالحزام الناسف الذي يزنّر خصر «نور»، بعدما عجز عن ثنيها عن تنفيذ مهمتها على رغم أن ثواني قليلة فصلت بين هذا المشهد والمشهد الذي يشكو فيه بطلنا كالأطفال أنه لا يريد أن يموت، حين اكتشف أن سير العملية تحول من عملية قتالية إلى عملية انتحارية. فما الذي يبرر هذا التحول السريع في شخصيته؟ وكيف يمكن تفسير كبسه على صاعق المتفجرات بهذه السهولة؟ هل صحا ضميره فجأة وفعل هذا لإنقاذ معمل التكرير من تفجير كاد يودي بحياة عشرات المدنيين من العمال الأجانب الذين يعملون في المكان؛ أو أنه أراد أن يموت إلى جانب حبيبته على غرار النهايات الكبيرة في الروايات الرومانسية؟

«ريح رباني» فيلم متقشف في حواراته ومعالجته الدرامية وموازنته. وهو حكماً ليس أفضل أعمال مرزاق علواش السينمائية، ومع هذا، لا يمكن أن نمرّ عليه مرور الكرام، فهو يبقى، من دون أدنى شك، حلقة مهمة في معركة السينما ضد التطرف. فكيف بالأحرى إن كان يحمل توقيع سينمائي كبير سخّر كاميرته خلال ما يزيد عن أربعين عاماً في خدمة الفكر التنويري؟

سينماتوغراف في

21.10.2018

 
 

"يوم آخر من الحياة": كاد الشاهد يكون شهيدا

سعد القرش

سرد لواقع الحرب الأهلية بالرسوم المتحركة، والفيلم يدين استعمارا تقليديا يرفض الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها.

كما تورط صحافي بولندي عاطفيا وانخرط في ثورة تحرير أنغولا، وقعتُ في غرام "كارلوتّا"، الفتاة العشرينية الأنغولية الوسيمة الشهيدة، رمز هذه الثورة، شبيهة كل بنات الدنيا وكل فتيات المقاومة في أغلب الثورات، ولكن ابتسامتها في اللقطات التسجيلية طفولية ساحرة وآسرة بما لا يقاس ولا يقارن.

 وعلى الرغم من كثرة الأفلام في المهرجانات وغيرها، واختلاط الأسماء وتدافع الوجوه، فلا تحتفظ الذاكرة إلا بمن حفر فيها ملامحه، واتخذ لنفسه مقاما فلا يغادر، بل يحرّض على إعادة مشاهدة الفيلم من جديد.

 وكان هذا حظ "كارلوتّا" في قلوب مشاهدي الفيلم الوثائقي "يوم آخر من الحياة" الذي نال جائزة "سينما من أجل الإنسانية"، مناصفة مع الفيلم الروائي المصري "يوم الدين"، في ختام الدورة الثانية لمهرجان الجونة السينمائي، الجمعة 28 سبتمبر 2018.

فيلم "يوم آخر من الحياة" إنتاج بولندي إسباني بلجيكي ويبلغ طوله 86 دقيقة، وكان يستحق جائزة أكبر، ولكنها ذائقة لجنة التحكيم التي ربما واجهتها صعوبة التفضيل، في مسابقة قوية ضمت 12 فيلما لا تتنافس على الجوائز، بقدر ما تتبارى في الجودة بشرطيها الإنساني والفني، وهما من أسباب تميز هذا الفيلم الذي شارك في إخراجه كل من الإسباني راؤول دي لا فوينتي والبولندي داميان نينو.

يطرح فيلم "يوم آخر من الحياة" قضايا إنسانية ومهنية أبعد من حكاية يسهل تلخيصها بأنها حرب استقلال جاذبة لشهية قوى دولية وإقليمية، إمبريالية أو مناصرة للثورات.

ومن القواعد الخاصة بالعمل الصّحفي تحرّي الموضوعية؛ لتفادي الانحياز إلى طرف في أي صراع تتم تغطيته، ولكن المراسل الحربي البولندي ريتشارد كابوتشينسكي (1932 ـ 2007) لم يقاوم نداء آدميته، فلم يكتفِ بالتعاطف مع الحركة الشعبية لتحرير أنغولا عام 1975، وإنما شارك في الثورة بإيمان المحب، وأصبح شاهدا، وكاد يكون شهيدا مثل رفاقه من مواطني البلد الأفريقي الطامح إلى الاستقلال.

يطرح فيلم "يوم آخر من الحياة" قضايا إنسانية ومهنية أبعد من حكاية يسهل تلخيصها بأنها حرب استقلال جاذبة لشهية قوى دولية وإقليمية، إمبريالية أو مناصرة للثورات

ولا تزال ذاكرة المتابعين حول العالم لثورة 25 يناير 2011 في مصر تستعيد مثل هذا الخليط، من التعاطف والحب، لدى أغلب أو كل المراسلين في تغطيتهم لوقائع الثورة التي أنجزت خلع حسني مبارك بعد 18 يوما من الاحتجاجات السلمية الحاشدة في عموم مصر. وفي التحركات الشعبية العادلة، من أجل التحرير أو الحرية، يكون الحياد قاسيا إن لم يكن تجاوزا أخلاقيا.

والقضية الأخرى التي أثارها الفيلم، ولم ينشغل بالتنظير لها ومناقشتها، هي انشقاق قائد عسكري عن جيش بلاده، وانضمامه إلى من يفترض أن يقاتلهم، فما الحدود الفاصلة بين الخيانة "الوطنية" والإنصات إلى الوازع الإنساني انتصارا للضمير؟

 بين عامي 1975 و1976 كانت أنغولا ساحة لصراع قوى كبرى من داخل أفريقيا وخارجها. فحصولها على الاستقلال، وتصدّر الحركة الشعبية لتحرير أنغولا للمشهد، لم يكونا كافيَيْن لاعتراف الولايات المتحدة، ولعبت وكالة المخابرات المركزية (CIA) أدوارا في اضطرابات وفوضى وحرب أهلية، بالتواطؤ مع جنوب أفريقيا التي زحفت قواتها إلى الشمال، فاستعانت الحركة الشعبية لتحرير أنغولا بكوبا، وأمدتها بقوات عسكرية.

ومن ثلاث زوايا تمثل مثلث الثورة، ينطلق كل من الصحافي البولندي ريتشارد كابوتشينسكي، والمناضلة الشابة كارلوتّا، والقائد البرتغالي المنشق "فارّوسكو" الذي يناصر الحركة الشعبية لتحرير أنغولا، ويخوض حرب عصابات، ويفقد الكثير من جنوده، ولكنه يراهن على الأمل في النصر.

الفيلم الذي استغرق إنجازه عشر سنوات، كما قال مخرجه راؤول دي لا فوينتي، استند إلى كتاب كابوتشينسكي "يوم آخر من الحياة"، ويمزج الرسوم المتحركة بصور فوتوغرافية قديمة، ومقاطع فيديو أرشيفية، وشهادات حية يستعيد فيها شهود الأحداث وقائع ما جرى.

ويتتبع الفيلم خطى كابوتشينسكي ومغامرته بين متقاتلين فرقاء، وقد تعرض للموت وأنقذته كارلوتّا، الشجاعة خفيفة الظل ذات اللسان السليط، ثم اكتشف فيها وجها محبا للحياة، وفاجأه مصرعها في إحدى العمليات، ووجد عزاء في لقائه ببطل المقاومة فارّوسكو. كان كابوتشينسكي وفارّوسكو رجلين لا ينتميان إلى البلد الأفريقي، ولكنهما آمنا بعدالة قضية واحدة جمعتهما.

مشاهدة الفيلم متعة خاصة، غوص في التاريخ وتوتّر مع لحظات مستعادة كأنها تحدث الآن وأنت جزء منها. ولا يخلو الفيلم من إشارات تدين الاستعمار القديم، وتذكّر بتراث الاسترقاق، إذ كانت في كوبا أَمَة من أصل أفريقي، اسمها كارلوتّا، تعمل في مصنع للسكر، وقادت ضد تجار العبيد الإسبان تمردا عام 1843، وعاقبتها سلطات الاستعمار الإسباني باغتيال وحشي. وتم تكريمها في حرب استقلال أنغولا بإطلاق اسمها على عملية عسكرية حاسمة، بمشاركة كتائب الحرية الكوبية.

يدين الفيلم استعمارا تقليديا لا يستسلم بسهولة، ويرفض الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها، كما يتهم قوى ما بعد الكولونيالية بمحاولات السيطرة العابرة للقارات، إلا أنه في الوقت نفسه شهادة على وجود استثناءات لضمائر حية، لديها وفاء بالتزامها الأخلاقي، أيا كان ثقل التضحيات وكارثية المصائر، ويمثل هذه الاستثناءات كل من البرتغالي فارّوسكو والبولندي كابوتشينسكي الذي جاء مراسلا صحافيا مغامرا، وأنضجته التجربة القاسية فخرج منها كاتبا مرموقا، ورغم تعدد شهاداته على حروب أهلية أخرى، فقد ظل كتاب "يوم آخر من الحياة" أفضل أعماله. لقد ولدا معا، الكاتب الحر وأنغولا الحرة.

روائي مصري

العرب اللندنية في

21.10.2018

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)