تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

حين يغدر الفنان بالرقابات ويتحايل على الممنوع

عمر اميرالاي

في مقابلة مع موقع إلكترونيّ سوريّ صرح مدير المؤسّسة العامّة للسينما في سوريا مؤخّراً بما يلي:

«لن تتعامل المؤسّسة العامة للسينما مع عمر أميرالاي طالما أنا على رأسها. نحن خضنا مشروع تجربة معه حين قدم لنا سيناريو يتحدّث عن الآثار السورية، وعندما خرج الفيلم للعلن كان غير ذلك. فالتعامل ينبع من الثقة، ونحن نخوض تجارب، والتجربة قد تعزز الثقة، أو قد تفقدها على الإطلاق، أو قد تبقيها على حالها. لا أريد توصيف العلاقة مع عمر أميرالاي، ولكن أقول بصدق، نحن في المؤسسة العامة للسينما طالما أنا على رأسها لن أتعامل مع عمر أميرالاي. هو حرّ في مشاريعه، ونحن أحرار في مشاريعنا».

وفي معرض ردّه على مقال لـعمر أميرالاي نُشر في صحيفة «السفير» بعنوان «المؤسّسة العامّة للسينما في سوريا ملعب للفساد الماليّ والفنيّ» يقول المدير العام نفسه:

«...إنّ ما ينبغي الحديث عنه هنا هو الفساد الأخلاقي وتعريض الآخرين لأسوأ أنواع الخداع. لقد تقدّم عمر أميرالاي للمؤسسة بطلب الموافقة على تصوير فيلم عن الآثار السورية، ولكنّ هذا الفيلم خرج لاحقاً باسم (الطوفان في بلاد البعث). لقد أوهم الأشخاص الذين صورهم في فيلمه بأنّه يصنع شريطاً وثائقياً يمجّد الرئيس الراحل حافظ الأسد وعهده، فاستقبلوه بحفاوة، وأكرموا وفادته هو وفريقه، ولكنّهم عندما شاهدوا الفيلم بدأوا رحلة البحث عن مخرجه».

أمام هذا الإجراء «التأديبي» الصّارم من قبل المسؤول عن السينما في سوريا تجاهه، وقبل أن يصرعه رصاص إحدى شخصيّات فيلمه المدان دون أن يرى لمصرعه هذا مسوّغاً أو تفسيراً، راح مخرجنا «المطرود» من فردوس السينما السورية يتقصّى أسباب الحظر المضروب عليه لممارسة مهنته بحريّة وأمان في بلده ـ على الأقلّ في عهد الإصلاح الحالي الموعود لاعتياده على تلك المواقف المخزية في سبعينيّات القرن الماضي ـ ويتعجّب من دأب الأجهزة السّاهرة على إقصائه عمداً عن المشهد السينمائي الرّسمي بكلّ ما أوتيت هذه الأجهزة من وسائل ضغط محليّة، فقط لحسن الحظّ لمنع تكريمه مثلاً في مهرجان الأفلام التسجيلية الأوّل «دوكس بوكس» ضمن إطار احتفالية دمشق، أو لاستبعاده هو وفيلمه من مهرجان جبلة الصيف الحالي، أو حتى بزرع الخوف في قلوب القائمين على قناة المشرق «الخاصّة!؟» بحيث يجعلهم يمتنعون عن بثّ حلقة حوارية سينمائيّة معه سُجّلت لمحطّتهم، لكنّ مخرجنا، وبعد أن عجز عن استكناه أسباب كلّ هذا التضييق العجيب عليه، جاءه من حيث لا يدري الخبر اليقين عن مآخذ الجهات المانعة عليه، وما تعيّره به، صريحاً واضحاً لا لبس فيه: إنّه شخص غدّار!

هرع مخرجنا طبعاً على الفور إلى معجم اللغة ـ قبل أن تصرعه الدهشة هذه المرّة ـ للبحث عن معنى كلمة «غدر» العربية، فقرأ أنّ الغدر هو عكس الوفاء ونقضٌ للعهد وخيانة له. فجلس يراجع ذاكرته لعله أعلن يوماً وفاءه لنظام بلده السياسي وهو في غفلة من أمره، أو أنّه قطع عهداً بالولاء للحزب الحاكم وهو فاقد الوعي، منهار الأعصاب، فلم يجد لكلّ ذلك دليلاً. إلا أنّه تذكّر ـ والذكرى في هذه الحالة تنفع غير المؤمن طبعاً ـ أنّه ولد قبل أن يولد الحزب الحاكم، وتعلّم في عهد «الفتوّة» لا في زمن «طلائع البعث» ولا «شبيبة الثورة»، أنّ معيار الوطنية الأوّل كان في مقارعة نظام عبد الناصر الشموليّ يومها، لا في الانتشاء الخادع بانتصاراته القوميّة الواهية...

وتذكّر أنّه ومنذ هزيمة حزيران ٦٧ التي كشفت له ولأبناء جيله أنّ لعدوّ بلادهم الخارجيّ البغيض صنواً داخليّاً أبغض وأشرس ممثلاً بقوى التخلّف والعصبيّة والأنظمة المستبدّة، وكيف أنّه آل على نفسه منذ تلك الهزيمة النكراء أن لا يهادن أو يساوم بعدها أيّة سلطات أو مؤسّسات لا تتمتّع بشرعية الدستور والقضاء النزيه ورقابات المؤسّسات التشريعية المنتخبة ديموقراطيّاً.

كما تذكّر أنّه لم يقطع عهداً في حياته لا بالولاء ولا بالوفاء ولا بالإخلاص لقضيّة أخرى سوى قضيّة الإنسان وحقوقه في البلد الذي كتب عليه العيش فيه، ملتزماً دوماً موقف الرّاصد والشّاهد على ما يرتكب من إساءات بحقّ بلده الذي ما نابه منذ الوحدة مع مصر وما تلاها من أنظمة حكم سوى الغبن والضّيم والمذلّة، بلدٌ كان بوسعه لولا حماقة انتمائه القوميّ الأعمى على حساب الوطنيّ أن يغدو مثالاً للمجتمع الحيّ المحبّ للعمل والاجتهاد، التوّاق للانفتاح على العلم والمعرفة والتقدّم.

فعن أيّ ثقة يتحدّث موظّفنا المسؤول هذا عن السينما في سوريا؟ عن ثقة المواطن المعدومة بمؤسّسات الدّولة الذائعة الصّيت بتخلّف أنظمتها واهتراء آلياتها أمّ بفساد ومحسوبيّة وانتهازيّة معظم إداراتها؟

إنّ ما ظنّه هذا الموظف المسؤول في تصريحاته عن الثقة والخداع والفساد الأخلاقي عند أميرالاي على أنّها إدانات دامغة له وفضح لسيرته المهنية، ما هي إلا شهادة حسن سلوك يتقبّلها المخرج المدان ببالغ الشكر والامتنان، ولو أنّ له عليها ملاحظتان:

أكثر من خداع

الأولى، أنّ في كلام الموظّف المسؤول هذا ابتساراً للحقيقة وغبناً للمخرج، لأنّه لم ينوّه بسوابقه المشرّفة في خداع الرقابات الرسميّة العربية الأخرى غير السورية، كمصر والكويت واليمن، ولا إلى أفلامه التي نجح في تحقيقها في تلك البلدان، وأنّ أفلامه السوريّة رغم كلّ محاولات الحظر التي لجأ إليها هذا المسؤول وأسلافه من قبله ـ إلى حدّ إتلاف الأصول السّالبة لهذه الأفلام ـ فإنّ هذه الأفلام لم يتوقّف التداول بها يوماً لا في المهرجانات الدولية ولا في التظاهرات الاستعادية ولا في الجامعات الغربية منذ مطلع سبعينيّات القرن الماضي وحتّى الأمس القريب حين كُرّم مخرجها مع عرض لثلاثة من أعماله في افتتاح انطلاق فعاليات احتفالية القدس عاصمة للثقافة العربية في فلسطين المحتلة الشهر الفائت.

كان على هذا الموظّف المسؤول حالياً، الناقد السينمائي غابراً، أن يعلم قبل غيره أنّ أفلام هذا المخرج الستة المحظورة في بلده، ومنها فيلم «الحياة اليومية» و«الدجاج» وتحديداً فيلم «الطوفان» الذي يكرهه هذا المسؤول كره العمى، سيشاهده أحفاد أحفاده في المستقبل عندما ستكون عظامه وعظام مخرج الفيلم قد صارتا مكاحل كما يقولون، وأنّ هؤلاء الأحفاد سيضحكون أو يبكون، لا نعلم، على هذه الوثيقة الفاضحة لتعاسة الحقبة التي عاش فيها جدهم، وسيستغربون حتماً بلاء جدّهم المستميت لمنع هذه الوثيقة من أن ترى النور، ولسوف يدرك هذا الموظّف العابر، آجلاً أم عاجلاً، أنّ المناصب والمقامات والرقابات والحكومات زائلة هي وأصحابها لا محال، ولن يبقى إلا وجه الحقيقة ذو الجّلال والإكرام.

أمّا الملاحظة الثانية فتتعلّق بهذا الحقّ الذي يُسوّل لموظّف عابر على رأس مؤسّسة رسميّة عامّة اتخاذ قرار بحظر التعامل مع مواطن انطلاقاً من مشروع تقدم به هذا الأخير لتلك المؤسّسة ورَفَضَه هذا المسؤول لأسباب يدّعيها زوراً، لأنّ هذا الرفض أوّلاً لم يحدث بتاتاً، بل ما جرى هو العكس تماماً، إذ تمّت الموافقة حسب الأصول على النصّ المقدّم بتوقيع اللجنة الفكرية للمؤسّسة ومديرها العام الذي أوعز بالمباشرة في التنفيذ، وثانياً لأنّ المخرج انسحب من تلقاء ذاته من متابعة طلبه بالموافقة على مشروعه من المؤسّسة العامّة للسينما لحصوله على هذه الموافقة من جهة رسميّة أخرى. فتصوروا بالله عليكم لو حدث مثل هذا التصرف الأخرق في مؤسّسة حكومية تتبع دولة تحترم نفسها كيف سيكون ردّ فعل النقابات والصحافة والقضاء على ذلك. لكن، وبما أنّنا نعيش في بلد مشاع، الدجّال والانتهازيّ والفاسد والمرائي والمزاود متى استولى فيه على فدّان سلطة، أو نصّبه والي أمن مرابعاً عليه، صار يعتقد أنّه ملك الأرض وما عليها، وأنّ ناسها صاروا أقناناً في إقطاعه، يقطع رقاب من يشاء، وأرزاق من يريد. لكنّه واهم هو ذاك الذي يظنّ أنّ بسلطته الخنفشاريّة هذه يستطيع أن يعتقل موهبة، أو يأسر مخيّلة، أو يحاصر إلهاماً.

إنّ حقد الأنظمة الشمولية على الوثيقة مشهود له تاريخيّاً، وأسطوريّ، لا بل هيستيريّ إلى حدّ هوس هذه الأنظمة من أن يفلت من قبضة استبدادها ولو وثيقة نقديّة واحدة، لإدراكها العميق ـ كما هي الحال في علم الآثار ـ أنّ ربّ وثيقة واحدة أحياناً، أيّاً كان شأنها، كفيلة بأن تفكّ لغز عصر بأكمله.

إنّ ما أتمّناه اليوم لنفسي وللسينمائيين من أمثالي ـ ولو استغرب بعضهم ذلك واستهجنه ـ هو أن تدوم علينا هذه النعمة الرقابيّة السوداء في ربوع بلادنا إلى أجل غير مسمّى. لأنّ إليها يعود الفضل الأوّل في تحريض مخيّلة خيرة ما أنتجته السينما السوريّة من أعمال منذ أن وجد شيء اسمه المؤسّسة العامّة للسينما. إذ ليس ثمّة ما يدعو إلى استغراب هذا التمنّي «المازوخيّ»، لأنّ للرقابة، لمن لا يعلم، حسناتها أيضاً مع الأسف، وإن كانت كلّ أشكال الرقابة مدانة حتماً أينما وجدت، وأيّاً كان نوعها ومبرّرها. ويكفي أن نستحضر من الذاكرة بعضاً من روائع الإبداع الثقافي والفنّي العالميين اللذين كان محرّضهما المباشر وغير المباشر وجود الرقابات السياسية أو الاجتماعية أو الدينيّة في تلك المجتمعات التي عاش فيها مبدعو هذه الأعمال، لا بل إنّ ثمّة شواهد أقرب إلينا زمنيّاً حتّى، وأقصد بذلك حالة الإبداع الفنّيّ والثقافيّ المتراجع بشكل ملحوظ جدّاً اليوم داخل مجتمعات المعسكر الاشتراكي سابقاً، المتحرّرة قبل عقدين تقريباً من أنظمتها الشموليّة ورقاباتها.

إذن، ما العمل؟ هل يعني ذلك أن نشكر في هذه الحالة الرقابة على دورها الخلاق، ونذهب إلى حدّ المطالبة ببقائها كي لا يفقد الإبداع الثقافيّ والفنّي البشريّ أحد مصادر إلهامه الأساسيّة؟ إنّ الجواب على ذلك محيّر بالفعل، وهو يطرح علينا تلك الإشكالية الأبدية حول أيّ القيمتين أسمى في المنطق الإنسانيّ: الحياة أم الفنّ.

لكن وبانتظار أن تحسم البشريّة موقفها من هذه الإشكالية المربكة على أكثر من صعيد ستبقى للرقابة حسناتها مع ذلك، وهي:

١ ـ إنّها تذكّر باستمرار بالنظام السياسي أو الاجتماعي أو الإثنين معاً اللذين يشرّعان هذه الرقابة ويطبّقانها.

٢ ـ إنّها تجعل من كلّ ممنوع مرغوب، ما يجعل الأسباب التي تقف وراء أيّ فعل منع ـ وهي غالباً حقائق محظور على الناس معرفتها ـ حاضرة دائماً في حياة المجتمعات اليومية، ومتداولة بالتالي بين أفراده ونخبه.

٣ ـ إنّها تدفع بالمثقفين والفنانين لإعمال مخيّلتهم وتحثّهم على الاجتهاد لابتكار كلّ الطرق والوسائل الفنيّة الكفيلة بالتحايل على كافة أشكال الرقابات واختراقها.

)مخرج سوري(

السفير اللبنانية في

24/07/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)