تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

«أمريكا» لدعبس و«عيون مفتوحة على اتّساعها» لتَبَكمان

أزمتـان بلغتيـن

نديم جرجورة

في الدورة الثانية والستين لمهرجان «كان» السينمائي، التي أقيمت بين الثالث عشر والرابع والعشرين من أيار الفائت، عُرض فيلمان روائيان طويلان هما الأولان لمخرجيهما: «أمريكا» للفلسطينية شيرين دعبس المقيمة في الولايات المتحدّة الأميركية (برنامج «نصف شهر المخرجين»)، و«عيون مفتوحة على اتّساعها» للإسرائيلي حاييم تَبَكمان المقيم في إسرائيل (برنامج «نظرة ما»).

إن المقارنة النقدية بينهما متحرّرة من النيات السياسية والأحكام المسبقة، لأنها مهمومة بتبيان أسلوب العمل السينمائي وكيفية التعاطي مع المسائل العامّة من خلال النماذج الفردية. والأهمّ أنها لا تأبه بالجغرافيا والتاريخ والنضال إذا كانت هذه كلّها مشغولة على حساب الفن والإبداع، على الرغم من الأهمية القصوى للجغرافيا والتاريخ والنضال، لكن ليس على حساب الفن والإبداع بل بالتكامل معهما شكلاً ومضموناً، علماً بأن السينما الفلسطينية أنتجت أفلاماً مهمّة لقيت اعترافاً عالمياً، كأفلام إيليا سليمان وميشال خليفي وهاني أبو أسعد وآن ماري جاسر وغيرهم، يجمعها موضوع واحد، تقريباً، هو صراع الشعب الفلسطيني في سبيل هويته وثقافته وشخصيته. ومن المؤكّد أن المستوى الفني أساسيّ في الدفاع عن فلسطين القضية والشعب، وأن هبوطه ليس لصالح لا السينما ولا القضية.

هذه المقارنة هي بين أسلوبين في التعامل مع المجتمع ومعاناة ناسه، ولا تعني إطلاقاً أي مساواة في النظر بين المسألتين، فالانحياز بديهي وبلا شروط إلى الحقّ الفلسطيني. وليست المقارنة إلاّ لتعميق رؤية هذا الحقّ.

هذان الفيلمان هما الروائيان الطويلان الأولان لمخرجَيْهِما، وقراءتان مختلفتان للواقعين الفلسطيني والإسرائيلي، على الرغم من تناقضهما في مقاربة الموضوعين، إذ بدا الأول متزلّفاً، إلى درجة ما، للغرب؛ في حين بدا الثاني تشريحاً قاسياً للبيئة الإسرائيلية المتزمّتة، أو مرآة شفّافة عكست واقع الحال، على الأقلّ. إنهما متشابهان على مستوى الإنتاج المتواضع، مع أنهما مختلفان كلّياً على مستوى آلية المعالجة، إذ سقط الأول في فخّ الخطابية والتسرّع في تقديم المادّة والمعالجة الفنية والدرامية، بينما حافظ الثاني على سوية إبداعية متواضعة. والمقارنة بينهما «قد» تجعل البعض يقسو على مقالة تهدف إلى القول إن هناك مشكلة إبداعية خطرة في النتاج الفني العربي، وإن بعض أسباب هذه المشكلة مرتبطٌ بانغلاق متنوّع الأشكال والمستويات، يحول دون إعمال العقل وتحرير المخيلة، علماً بأن أفلاماً إسرائيلية مُنتجة في الأعوام القليلة الفائتة على الأقلّ بدت أجمل درامياً وأهمّ فنياً وأقسى سجالياً من أفلام عربية كثيرة. ثم إن اختيارهما معاً في هذه القراءة النقدية نابعٌ من رغبة شخصية في تبيان نموذج فني عربي في التعاطي مع المسائل العربية، منسحب أيضاً على نماذج كثيرة، تغرق في الخطابية والندب وتحميل الآخر مسؤولية الهزيمة الذاتية؛ في حين أن النموذج الإسرائيلي يقسو كثيراً، أحياناً، في نقد الذات والبحث في خللها، وفي مواجهة إحدى أقسى المؤسّسات اليهودية في إسرائيل: المؤسّسة الدينية المحافظة والرجعية؛ علماً بأن هذا النموذج يُقابل خطاباً سينمائياً إيديولوجياً إسرائيلياً مناقضاً له تماماً، لأنه يزوّر حقائق ووقائع عربية، تاريخية وجغرافية وإنسانية، ويتجاهل الواقع الإسرائيلي بتغطيته بنِفَاق خطابي تجميلي.

واقع حيّ

أرادت شيرين دعبس أن تجعل «أمريكا» مرآة لواقع فلسطيني في البيئة المجتمعية الأميركية؛ وسعى حاييم تَبَكمان إلى تشريح البنية الداخلية للمجتمع اليهوديّ (وليس الإسرائيلي فقط) المحافِظ والمتزمّت. قدّمت الأولى صورة عن المواجهة الأميركية للفلسطيني المهاجر أو المنفي، خصوصاً بعد جريمة الحادي عشر من أيلول 2001؛ ورسم الثاني لوحة لثقافة منغلقة على ذاتها ورافضة الخروج من تقوقعها الديني والاجتماعي والثقافي والحياتي، من دون أن يغرق الفيلم في تحليل سوسيولوجي أو نفسي مسطّح؛ مستنداً، في الوقت نفسه، إلى أدوات سينمائية بسيطة، على غرار استناد دعبس إلى مثل هذه الأدوات نفسها، وإن بدت النتيجتان متناقضتين، إذ ظلّ «أمريكا» خطابياً ووطنياً، بالمفهوم الساذج للخطابية والوطنية معاً، بينما تحرّر الثاني من وطأة السجال النقدي المباشر، لأنه غاص في التشعّبات المختلفة لهذه البيئة، من خلال نماذج فردية معينة. حاولت المخرجة الفلسطينية أن تُشرِّح العلاقة الصدامية بين الطرفين (الفلسطينيين والأميركيين تحديداً، من دون أن تتغاضى عن العلاقة الصدامية والعنفية القائمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين)، لكنها لم تشيّد عمارة سينمائية جدّية، لأنها مالت إلى مقاربة عادية لا تخلو من سرد حكائي مبسّط لأحداث مهمّة، علماً بأن الفيلم واقعٌ في مشكلات عدّة، أبرزها ضعف السيناريو وغياب الإدارة الفنية للممثلين تحديداً؛ بينما اختار المخرج الإسرائيلي البساطة الفنية أساساً للتوغّل في العالم المتديّن والصارم لمجموعة من الأرثوذكسيين المتشدّدين، من خلال علاقة حبّ عاصف بين رجلين متديّنين.

لم تشذّ دعبس عن الجانب الفردي في فيلمها هذا، إذ تناولت أفراداً ينتمون إلى عائلة واحدة، يجتمعون في الولاية الأميركية إلينوي، لأسباب عدّة: الأم منى (نسرين فاور) أرادت إنقاذ ابنها الوحيد فادي (ميلكار معلّم) من الجحيم الإسرائيلي، فوافقت على السفر إلى شقيقتها رغدة (هيام عبّاس) المتزوّجة بطبيب يُدعى نبيل (يوسف أبو وردة)، علماً بأن الزوجين رغدة ونبيل جاءا الولاية نفسها قبل أعوام عدّة بهدف العمل وتحقيق الذات والبحث عن فرص حقيقية للعيش، قبل أن تكتشف رغدة أن الوطن أهمّ، على الرغم من كل شيء. غير أن التأقلم مع الواقع دونه صعوبات، في ظلّ تنامي الحقد الأميركي على العرب والمسلمين في مؤسّسات المجتمع المدني؛ والنزاع الذاتيّ بين البقاء والعودة مردّه العزلة التي تنامت حول العائلة الفلسطينية. انتبهت المخرجة إلى أن هناك أفراداً أميركيين غير ملتزمين سياسة هذه المؤسّسات، فجعلت أبرز شخصية أميركية إيجابية في تعاطيها مع هذه العائلة الوافدة حديثاً إلى «أرض الأحلام» رجلاً يهوديّاً من أصل بولنديّ، نجا من المحرقة النازية على نقيض أهله وأقاربه وأصدقائه (هذا موقف خاصّ بالمخرجة، لكنه واضح النيات الإنتاجية والتسويقية). انتبهت إلى أن النهاية السعيدة ناشئة من قدرة الجميع على استعادة تأقلم ما، وإن ظلّ التأقلم معلّقاً في فراغ الأسئلة الأخلاقية والإنسانية العامّة.

سلاسة المعالجة

من جهته، أبدى تَبَكمان سلاسة بصرية متواضعة في مقاربته إحدى أخطر المسائل الأخلاقية بالنسبة إلى الدين والمتدينين: المثلية الجنسية. يزداد الأمر خطورة، إذا أُدخل سؤال المثلية الجنسية إلى قلب المؤسّسة الدينية المتزمّتة والمنغلقة على نفسها. بدا اختراق المخرج هذا العالم، المحاصَر بالتقاليد المجمَّدة في الكتب القديمة والعادات الصارمة، بسيطاً وهادئاً، كأنه حريصٌ على عدم إشعال فتيل الغضب منذ اللحظة الأولى. فهو روى فصولاً من سيرة بيئة وأناس، من خلال اللحّام آرون (زوهار شتراوس)، المحترَم في بيئته الأرثوذكسية المحافظة في قلب أورشليم القدس، والمتزوّج من ريفكا (تينكربال)، التي أنجب منها أربعة أولاد، قبل لقائه الشاب إيزري (ران دانكر)، الخارج من صدمة عاطفية حادة أوقعه فيها تخلّي عشيقه السابق عنه (وهما أرثوذكسيان متديّنان أيضاً)، فإذا بأحوال الجميع تتبدّل: العائلة والحيّ والبيئة، والحبيبين أيضاً. وهذا كلّه مُصَوَّر بشفافية أقرب إلى سرد شعريّ يلتقط نبض العشق والتفكّك الأسري والعائلي والبيئي في آن واحد، ويصنع من المواجهات اليومية بين أطراف متناقضة وقوداً للاشتعال المؤجَّل. لا ينسى تَبَكمان إظهار التناقضات في ذات آرون، كاختزال سينمائي لتناقضات مشابهة لها يعيشها متعصّبون آخرون: فآرون يمارس عنفاً كلامياً ضد شاب مغرم بابنة الجيران، لأن والدها لا يريده لها؛ في حين أنه يمارس الممنوع (بالنسبة إلى المؤسّسة المنتمي إليها) في الخفاء. أي إنه ينضوي في الجماعة عندما لا يتعلّق الأمر به، ويخرج على الجماعة في المسائل الشخصية. ازدواجية أم خداع أم تحايل؟ الأهمّ من هذا، أن التفكّك ينخر جسد البيئة الضيّقة والمتشدّدة هذه، لكنه لا يقوّض أسسها، ربما بسبب مناعتها، بل ينسحب على أفراد رافضين لها، كآرون نفسه، وكابنة الجيران التي ترضخ لمشيئة الجماعة.

إذا أخفقت شيرين دعبس في إدارة ممثليها (حافظت هيام عبّاس على أناقتها المعهودة في تقديم الشخصية وأداء الدور، من دون أن يعني هذا غياب التمثيل الاحترافي عند الآخرين، الذين لم يبلغوا مرتبة الإبهار، وإن التزموا تقنية عادية في التمثيل)، المنشغلة شخصياتهم السينمائية بالخطابية الوطنية على حساب الفن؛ فإن ممثلي حاييم تَبَكمان برعوا في جعل الشخصيات أقرب إلى الواقع الإنساني ومآزقه الأخلاقية والدينية والاجتماعية. وإذا أصيب سيناريو «أمريكا» وحواراته بشيء من الخلل والارتباك، فإن النصّ السينمائي لـ«عيون مفتوحة على اتّساعها» قدّم مادته ببساطة تملك عمقاً إبداعياً في مقاربة المسائل ومعالجتها درامياً وجمالياً.

 

كلاكيت

سينما نظيفة

نديم جرجورة

لعلّ أسوأ ما واجهته السينما المصرية في تاريخها القريب، كامنٌ في إسقاط تعبير مصطنع عليها شوّه المعنى السامي للفن السابع: «السينما النظيفة». ففي ظلّ تنامي الأصوليات المتفرّقة في المجتمع المصري، والتدهور الخطر الذي أصاب بُنَاه الاجتماعية والثقافية والنقابية والإعلامية؛ استعادت أفكار متزمّتة حضورها، وراحت تمدّ شبكتها العنكبوتية في مفاصل هذا المجتمع. لم تنجُ السينما من هذا المرض الخبيث، الذي ضربها في الصميم بأشكال جمّة، ومنها مقولة «السينما النظيفة»، المتمسّكة بقشور الأخلاق، ظنّاً من مطلقيها أن إنجاز أفلام خالية من القُبَل والعلاقات الحميمة والبحث في شؤون الجسد والعشق والجنس مثلاً، يحول دون سقوط المشاهدين في الفساد والمجون والانهيارات، ويحصّن أخلاقهم الرفيعة من الوقوع في شرك الشيطان الرجيم، متناسين الفساد والمجون المبثوثَين في السياسة والإعلام والاجتماع.

و«السينما النظيفة» هذه تعني، بالنسبة إلى منظّريها الأخلاقيين، أن هناك سينما أخرى «ملوّثة»، أي تلك المنشغلة بأمور يُعانيها الناس في حياتهم اليومية، والتي تُحارَب بسبب مناقشها هذه الأمور أو تسليط الضوء عليها أو التوغّل فيها؛ وتعني أيضاً أن هناك أفلاماً «وسخة»، أي تلك التي نزل صانعوها إلى عمق الحياة ومنعطفاتها وسلوك الناس فيها، تنقيباً في الأسباب المؤدّية إلى الفراغ والموت والعنف والكبت، ومعاينةً إبداعيةً للقمع وإمعان النظام البوليسي في هتك الأعراض، معنوياً ومادياً. ولأن «السينما النظيفة» سيطرت على شبكة واسعة من الإنتاج، ارتعد فنانون وفنانات عديدون أمام منظّريها الأخلاقيين هؤلاء، فانفضّوا عن مواجهتها والتصدّي لمشروعها التفتيتي الذاهب بالناس جميعهم إلى الانحطاط والظلامية والتخلّف، وعملوا فيها خوفاً من قوة غيبية، أو عجزاً عن إدراك الخطر المحدق بالمجتمع والناس والإبداع الناتج (أي الخطر) من خطاب التزمّت والرجعية، أو قبولاً بأي شيء لقاء الاستمرار بالعمل.

[[[

هناك تعبيرٌ آخر، «السينما الراقية»، استعاد تلك المرحلة السوداء من تاريخ السينما المصرية، المستمرّة في تفكيك بقايا البنى التحرّرية والإبداعية. فالسوء الطالع من مقولة «السينما النظيفة» وجد صداه في تعبير «السينما الراقية»؛ والانهيار الذي أصاب الإبداع البصري جرّاء تحكّم المقولة الأولى أعواماً طويلة في حركة الإنتاج السينمائي المصري، ازداد قوّة بـ«فضل» التعبير الثاني الذي عكس رغبة سياسية وثقافية واجتماعية ودينية في أن تخدم السينما إيديولوجيا إيمانية وخطاباً غيبياً، على النقيض التام للمعنى الأجمل للفن السابع، وللفنون كلّها: التحرّر الأقصى من أي قيد اجتماعي أو ثقافي أو ديني أو حياتي في صناعة الإبداع، بالمحافظة على القواعد الإبداعية في صناعة هذه الفنون؛ وليس التقوقع في عزلة الجهالة، بتحويل الفنون إلى بيانات حزبية وترويجية وإيديولوجية، تخدم مفهوماً ما للأخلاق الحميدة.

إذا وُلدت الفنون من رحم التمرّد وتحطيم القيود والبحث عن المختلف في مقاربة أشكال الحياة وما بعدها، فإن السينما تُعتَبر أم الفنون الحاضنة أرقى مفرداتها التحرّرية وأنظف أنماط تعابيرها، بعيداً عن التفسير الإيديولوجي الغيبيّ الأعمى للرقي والنظافة.

السفير اللبنانية في

16/07/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)