تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

محمود عبد العزيز.. كوميدي يفيض حزنا

ابن حي الورديان يعود مجددا متكئا على قدراته التمثيلية

القاهرة: محمد فتحي يونس

يكمن محمود عبد العزيز طويلا، يستسلم للنقد اللاذع أحيانا، تتخيله أسدا جريحا، أو بقايا فنان فضّل الاختفاء خلف نظارته السوداء بعيدا عن الصخب، ثم يفاجئك بنفض غبار الكسل عن نفسه وينهض كـ«تسونامي».. عنيف في موهبته، يبتلع من حوله، وتبقى بصماته باقية لعقود أخرى، تشغل جمهوره ومحبيه، يتذكرون قفشاته، ويقلدون حركاته وطريقة الحكي عنده، يضحكون مع الشيخ حسني في «الكيت كات» وهو يفضح جيرانه، ويبكون معه وهو يتلقى عتاب عم مجاهد صديق والده لتبديده أمواله على الحشيش، أو يتذوقون معه «الكباب» ويقبلون «اللفة» على طريقته، في أثناء خروجه من السجن في «رأفت الهجان» ليقابل ضابط المخابرات «محسن ممتاز»، بعد أيام طويلة من الحرمان، يغنون «للقفا» مثلما فعل في «الكيف»، ويسترجعون هزل «رضا» سائق التاكسي في «الدنيا على جناح يمامة»، وهو يعاتب زوجته على إعدادها وجبة «المسقعة» ليلا بقوله: «الواحد ينام وهو واكل بدنجانة؟!».. ها هو يعود مجددا وبعنف في «إبراهيم الأبيض» في دور عبد الملك زرزور، الفتوة المتجبر، الذي يحكم منطقة سكنه العشوائية بلا قلب، ثم يخر صريعا أمام فتاة اشترطت عليه ألا يقترب من جسدها بعد الزواج، فيملأ الشاشة بتفاصيل إنسانية تجمع بين الضعف الإنساني والجبروت الملزم للبقاء. عاد عبد العزيز ليتبوأ مكانته مرة أخرى بعد هجوم قاسٍ تعرض له عقب ظهوره في التجربة الهزيلة «ليلة البيبي دول» العام الماضي، عاد متكئا على قدراته التمثيلية الطاغية التي تمكنه من أن يبقى سنوات أخرى مفردة مشتركة في جلسات السمر وحكاوي الحنين للسينما الجميلة.

محمود عبد العزيز المولود في 4 يونيو (حزيران) 1946، لأسرة متوسطة بحي الورديان بالإسكندرية، برزت موهبته لأول مرة في المدرسة كمقلد لأصدقائه ومدرسيه، ثم قدم مسرحيات على المسرح المدرسي قبل أن تقوده موهبته إلى فريق التمثيل بكلية الزراعة جامعة الإسكندرية، التي دخلها بعد رفض أبيه دراسته للفن. حصل على البكالوريوس في الزراعة ثم الماجستير في تربية النحل، قبل أن يتحدى رغبة والده ويترك منزل الأسرة بالإسكندرية ويقيم بحي المنيل بالقاهرة، عند أحد أقربائه بعد فترة من «الصعلكة» قضاها في الفنادق الرخيصة وعند الأصدقاء.

بدأ عبد العزيز طريقه الاحترافي بدور صغير منحه إياه نور الدمرداش في مسلسل «كلاب الحراسة»، وقتها تخوف من تأدية دور ضابط إسرائيلي حتى لا يكرهه الناس في بداية مسيرته الفنية، لكن الدمرداش نصحه بأن يضع في اعتباره أن يكون مختلفا، فإذا كان عدد الممثلين وقتها 5700 فلن يقبل الناس منه أن يكون مجرد الممثل رقم 5701 دون أن يضيف جديدا، وبالفعل أضاف عبد العزيز جديدا مكنه من تكرار التجربة مع الدمرداش في «الدوامة» بجانب نيللي ومحمود ياسين، ونجح نجاحا كبيرا.

بعد لفت الأنظار إليه تليفزيونيا دخل الفن السابع كبطل من باب المنتج رمسيس نجيب، الذي وقع معه عقدا لفيلم «حتى آخر العمر»، الذي أدى فيه دور طيار يصاب في الحرب وتقف معه زوجته وتلفظ خيانة صديقه وتتمسك به رغم شلله الدائم. لكن قبل البطولة كان قد أدى دورين لافتين، أحدهما عام 1974 في «الحفيد»، مع المخرج عاطف سالم، و«يوم الأحد الدامي» مع نيازي مصطفى.

كانت إطلالة محمود عبد العزيز السينمائية في السبعينات كبطل تقليدية إلى حد كبير، فظل أسير ملامحه الوسيمة التي سجنته في أدوار الفتى الرومانسي الهادئ، في أكثر من 20 فيلما طوال السبعينات، دخل بموجبها حلبة النجوم الجدد في وقت كانت السينما المصرية تغير جلدها نسبيا، وتتبدل فيها كراسي النجومية بصعود محمود ياسين، ومن بعده نور الشريف، وبالطبع عادل إمام بعد فترة وجيزة، ومن أشهر تلك الأعمال «طائر الليل الحزين» مع المخرج يحيى العلمي، و«ضاع العمر يا ولدي» مع المخرج عاطف سالم، و«المتوحشة» مع سمير سيف. وبدوره أتقن عبد العزيز بحكم تشابه ملامح الأدوار أدواته طوال تلك الفترة، ولم يحاول التجريب خارج الإطار الرومانسي إلا في أعمال قليلة، أبرزها «شفيقة ومتولي» في دور ابن العمدة الفاسد، الذي يستقوي بسلطة أبيه لنهش الأعراض، ورغم نجوميته المتحققة وانتشاره فإنه أصبح كمن ربط أحلامه في قدم طائر كسيح، لا يقوى على الطيران إلا في ملعب الرومانسية والحب، وهو ما أصابه بالضيق في نهابة الأمر، وسعى إلى تشويه ملامحه في تجربة مثل «وكالة البلح».

في الثمانينات انطلقت موهبة محمود عبد العزيز خارج أسوار الرومانسية إلى آفاق رحبة، وفك «طائر الليل الحزين» رباط قدميه مقتحما أجواء الكوميديا السوداء، يفجر الضحكات من الأعماق، خالطا بين «الإفيه»، اللاذع، ومفردات حركية أعاد استرجاعها من فولكلوره الشعبي «الإسكندراني»، فحجز لنفسه مكانا مميزا في جمهورية الكوميديا رغم طغيان شعبية عادل إمام في هذا التوقيت.

كان فيلم «العار» للمخرج علي عبد الخالق الانطلاقة الحقيقية لعبد العزيز في «سينما الثمانينات»، ويكفي مشهد النهاية الذي اكتشف فيه مع إخوته حسين فهمي ونور الشريف أن المخدرات قد تلفت بفعل طريقة التخزين الخاطئة، وكيف اختلطت في أدائه الكوميديا مع الهستيريا، واجتمع الرقص مع الهذيان.

في تلك الفترة كاد يشعر جمهور السينما أن محمود عبد العزيز ممثل آخر غير الذي شاهدوه في السبعينات، أدوات تمثيلية جديدة، من طريقة الضحك إلى تحريك الجسد بشكل معين، مرورا بصوت متدرج. التعبير يستجيب بمرونة لمتطلبات الموقف الدرامي، فاستعصت مثلا مشاهده في «الشقة من حق الزوجة» على النسيان، خصوصا مشهد الغسيل الذي جمع بين رقصه على أغنية أحمد عدوية الشهيرة «زحمة يا دنيا زحمة»، وتحريكه ليديه وبطنه مع تدخين سيجارة ووضعها في يسار فمه، وربطه قميصه من أسفل، قبل أن يقذف حماته «نعيمة الصغير» بما في يده من ملابس، عقابا لها على سخريتها من منظره، فجرّ الضحك بشكل استثنائي، خصوصا أن أخبار كواليس الفيلم أكدت بعد ذلك كيف تسببت قطعة الملابس في الإطاحة بباروكة كانت ترتديها نعيمة الصغير فلم يتمالك كل الحضور أنفسهم من الضحك.

خلال استغراقه في نجاحاته الكوميدية في الثمانينات تجرأ على التجريب، فقدم دورا جديدا لضابط في السجن الحربي قاسي القلب يتفنن في تعذيب السجناء، في «البريء»، حقق به نجاحا كبيرا، ونوّع أداءه أيضا بتأديته دورا إنسانيا جديدا في «العذراء والشعر الأبيض» مثّل فيه دور الأب، كما تجرأ كذلك على تأدية مشاهد يتجنبها في العادة كبار النجوم في مصر، ومنها مشهد في «الدنيا على جناح يمامة» والطعام يسقط من فمه في أثناء حديثه.

مثلت الثمانينات عصرا ذهبيا لعبد العزيز، فمع كثافة أفلامه خلال تلك الفترة (50 فيلما)، اقترب كثيرا من البعد الفانتازي، خصوصا مع رأفت الميهي في «السادة الرجال» ثم «سمك لبن تمر هندي»، قبل أن يقدم «سيداتي آنساتي عام 1990»، وكذلك مع علي عبد الخالق في «جري الوحوش».

وحقق دوره في المسلسل المخابراتي «رأفت الهجان»، الذي قدمه في عدة أجزاء، نجاحا أسطوريا، ضاعف من رصيد نجوميته وانتشاره، وفاق نجاحه مسلسل «دموع في عيون وقحة» الذي قدمه عادل إمام قبلها بسنوات.

عقب فترة زخم نجاح «رأفت الهجان» دخل عبد العزيز في مرحلة كمون طويلة نسبيا طوال التسعينات، تخللتها تجارب لم يكتب لها النجاح كـ«القبطان» و«الجنتل»، وكعادته لم يتبرم من تلقيه صفعات النقد قبل أن يعود من جديد غولا تمثيليا في رائعته «الكيت كات»، ليتحول الشيخ حسني إلى أيقونة تمثيلية وإنسانية، ويصل أداؤه التمثيلي في العمل إلى حد الإبهار، مع اهتمامه (ولا ننكر أن داوود عبد السيد كان له دور في ذلك) بتفاصيل صغيرة كحركة أذنيه (بديلا عن نظره المفقود)، ورفع حاجبيه، وكذلك رعشة اليد، والسير حذر الخطى في الشارع بعكس خفة الحركة في المنزل، أو أدائه المتفجر لمشهد اقتحام السوق بالدراجة البخارية وهو كفيف، وطريقة مشيته رافعا طرف جلبابه في فمه ورأسه لأعلى، أو مشهد فضحه لأسرار الحارة في جلسة العزاء.

جزء من نجاح محمود عبد العزيز في أدائه حرصه على بذل الجهد في التحضير للشخصية، فقبل أدائه لدور الشيخ حسني مثلا لفت نظره شيخ كفيف كان يقرأ القرآن في مأتم والد ناقد فني شهير، خزنه في ذاكرته ثم عاد بعد فترة للناقد وطالب منه إيصاله إلى هذا الشيخ، وفي أثناء لقائه به كان يناوشه بأسئلة عن النساء على سبيل الدعابة ليعرف طريقته في الهزل والنطق وإلقاء النكت، كما جلس بجانب أحد المنجدين لمدة أسبوع يتعلم أسرار الصنعة قبل أدائه لدوره في «جري الوحوش».

الجهد والتجريب إضافة إلى الموهبة الفطرية، والصمت إزاء الانتقادات، والرد عليها بمزيد من العمل، كلها أدوات ساهمت في العودة السريعة لمحمود عبد العزيز عقب كل بيات فني طويل، فكما عاد في «الكيت كات»، قدم بعدها «الساحر» في بداية الألفية الثانية، ثم دخل مرحلة الكمون المعتادة، وقدم تجربة هزيلة قبل أن يظهر كورقة «الشايب» تطيح بكل أوراق التمثيل المنافسة خارج الطاولة.

الشرق الأوسط في

12/06/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)