تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

فيلم 'دكان شحاتة' لخالد يوسف:

عندما تكون النبوءة هي الواقع البائس نفسه!

احمد يوسف

تنتاب الناقد السينمائي بين الحين والآخر رغبة جارفة في الصمت، فليست تلك الأفلام التي نصنعها مؤخرا هي السينما، لذلك أصبح التعاقد الضمني السائد الآن بين صناع الأفلام والمشاهدين هو أن يتظاهر السينمائي بأنه يصنع فيلما جادا ومسليا بينما هو في الحقيقة ليس هذا ولا ذاك، ويتظاهر المتفرج من جانبه أنه استمتع بالفيلم وفهم رسالته، ثم يذهب الجميع الى حال سبيلهم، فلا السينما تقدمت ولا الواقع تأثر، كما تظهر بعض مقالات هنا وهناك لا تغير من واقع الحال شيئا، والأهم من ذلك كله هو الشعور المرير لدى الناقد بأن السياق الذي نعيش فيه، ويزداد ترديا كل يوم، أهم ألف مرة من السينما، وحال السينما ذاتها ليس إلا جزءا يسيرا منه، وإن أردت أن تغيرها حقا الى الأفضل فإن عليك أن تعمل على تغيير هذا السياق الذي تفشى فيه الفساد والتحلل الماديان والمعنويان، فهل الاهتمام بهذا الفيلم أو ذاك أهم من حالة 'اللغوصة' التي نعيشها في مجالات التعليم والعمل والإسكان والصحة وحتى لقمة العيش؟

أحيانا أخرى يقول الناقد لنفسه: وهل سوف يُصلح الصمت الأحوال؟ وأليس السكوت على التدليس في السينما إلا جزءا من الصمت أمام تدليس وغش ونفاق أكبر وأعظم في كل أمور حياتنا؟ هل تريد مثلا؟ لقد أصبح تعبير 'الفشخرة' بين ليلة وضحاها من أدبيات الحديث في الاقتصاد بمجرد أن ورد على لسان الرئيس مبارك في أحد ارتجالاته، وكأن هذه 'الفشخرة' هي السبب والنتيجة في ذلك الاقتصاد الهلامي الطفيلي الذي ترعاه لجنة السياسات إياها، التي فعلت كل ما يحلو لها في تفكيك الدولة وتحويلها الى نشاط تحكمه العائلات والشلل، وما الذي يمنعها من ذلك إذا لم تكن هناك حركة معارضة قوية، أو جبهة وطنية من المثقفين الوطنيين تعمل ليل نهار على وقف هذا التحلل والتدهور؟

على الجانب الآخر هناك نوع آخر من الخداع، حين نعلن النضال ضد الفساد بينما نمارس نوعا مراوغا منه، وهو نضال مصطنع في السياسة والفن، فليس يكفي على سبيل المثال أن أقول أنني ناصري بينما أعمل من خلال أموال تم جمعها من أشلاء المكتسبات التي تحققت خلال الفترة الناصرية، وليس يكفي أن أحذر أن هناك طوفانا قادما لكي أثبت أنني أفهم في السياسة، وهذا ما يحدث للأسف الشديد في حالة تضخم الذات عند المخرج خالد يوسف التي تتفاقم يوما بعد يوم، برغم أنني أعلم يقينا أن هناك نقادا 'ناصريين' سوف يعتبرون فيلمه الأخير 'دكان شحاتة' تحفة فنية، وإذا كان لهم الحق في ذلك فإن من حقي أيضا أن تكون لي قراءتي للفيلم في صحيفة ناصرية دليلا على ديمقراطية نحن أجدر الفصائل بممارستها، وفي الحقيقة أن 'دكان شحاتة' يمكن اعتباره تجسيدا للرؤية الفنية والسياسية لدى خالد يوسف في السينما التي يصنعها، ويحدد بها علاقة من نوع خاص مع 'جمهوره'.

هناك في فيلم 'دكان شحاتة' نواة يبدو أنها تنتمي للسيناريست ناصر عبد الرحمن، وإضافات تنتمي للمخرج يوسف شاهين، وبين النواة والقشور حالة من الانفصال التي تضيع معها أية بؤرة لرؤية فنية أو سياسية حقيقية. إن كنت تذكر فيلم 'المدينة' ليسري نصر الله، والذي كتبه ناصر عبد الرحمن، ففيلم 'دكان شحاتة' بدوره ليس في الحقيقة إلا إحدى حواديت تجار الفاكهة والخضار في سوق روض الفرج القديم، هؤلاء القادمين من الصعيد دون أن يملكوا من حطام الدنيا شيئا، ومع الأيام تكبر تجارتهم بالجهد والعرق، لكنها تأتي على حساب صراعات ربما تصل الى درجة التناطح، وتلك هي 'البذرة' الدرامية في الفيلم، التي أضاف لها خالد يوسف ما يتصور أنه سوف يعطي الحدوتة خلفية سياسية وتاريخية.

والخطوط الرئيسية للحبكة ليست إلا تنويعا على 'يوسف وإخوته'، إن الأب حجاج (محمود حميدة) له عدة أبناء من زوجات مختلفات، لكنه يُرزق أخيرا بابنه الأصغر شحاتة (عمرو سعد) الذي تموت أمه وهي تلده، ولسبب ما لا يقوله لنا الفيلم أبدا يصبح شحاتة هو الأقرب الى قلب أبيه، وهو يكبر مع الأيام (في التعبير السينمائي عن الانتقال من طفولته الى شبابه تذكرت أساليب حسن الإمام)، إنه لسبب آخر مجهول يتمتع بقدر هائل من الطيبة والتسامح بقدر ما يزداد إخوته شرا وحقدا، وعندما يموت الأب تنتهي مؤامرات الإخوة بشحاتة الى غياهب السجن، وتضيع منه حبيبة القلب بيسة (هيفاء وهبي) التي يتزوجها أحد الإخوة ويمارس الجنس معها اغتصابا لأنها ما تزال تحب شحاتة. يخرج شحاتة من السجن بعد أعوام طويلة ليجد أن إخوته سرقوا ميراثه كما سرقوا حبيبته، لكنه مع ذلك يود أن يتسامح معهم (هل يمكنك أن تصدق هذا التصرف من شخصية درامية أو حقيقية إلا إذا كان يتسم ببعض البلاهة والبلادة؟!)، وفي اليوم الذي يذهب فيه لاحتضانهم يتلقى رصاصات من أخيه زوج بيسة، لتنتهي حياته دون أن نعرف بالضبط أين 'الدراما' في تلك العلاقات كلها، فالدراما هي الصراع والتغير نتيجة هذا الصراع، لكن ها أنت ترى أن الشخصيات بدأت كما انتهت، الأشرار ظلوا أشرارا، والأخيار ظلوا أخيارا، وفي ظل غياب الدراما لا تتبقى إلا كمية 'هاااااااااائلة' من ميلودراما الصراخ والعويل والنواح.

فوق وحول هذه البذرة الدرامية أضاف خالد يوسف مستوى آخر، متصورا أنه يعطي سياقا تاريخيا وسياسيا للحدوتة، فشحاتة وُلد في الأيام الأخيرة لعصر الرئيس السادات، إذن فحياة هذا البطل 'تسجيل' لفترة حكم الرئيس مبارك، وبالفعل فإنك ترى في الخلفية بين الحين والآخر إشارات على أحداث، مثل انتخابات الرئاسة الأخيرة، واعتصام نادي القضاة، وحريق قصر ثقافة بني سويف.... لكنك لن تدري أبدا ماعلاقتها بتطور الأحداث والشخصيات في الفيلم (إن كان هناك أي تطور)، ويمكنك أن تحذفها دون أن تشعر أنك تفتقد شيئا (وتلك من الآفات المتكررة في السينما المصرية). لكن المستوى الآخر الذي أضافه خالد يوسف هو أن تدور الأحداث في فيلا لها 'أرض' (في علم الرموز الجبرية وليس الفنية: الأرض تساوي مصر)، ويقتطع صاحب الفيلا الطيب (عبد العزيز مخيون) جزءا من الأرض يعطيها لحجاج كي يبني فيها 'دكان شحاتة' لبيع الفاكهة، وفي زمن آخر سوف تباع الفيلا و'الأرض' (تذكر الرمز الجبري إياه) لسفارة أجنبية، ويترك أبناء حجاج تجارة الفاكهة للعمل في العقارات، بينما يظل شحاتة سجينا ثم يخرج من السجن صعلوكا يبحث عن إخوته، لا لكي ينتقم منهم، بل ليتصالح معهم!!

لم أستطع لحظة واحدة أن أستوعب أن الأب حجاج ناصري لمجرد أن المخرج قرر أن يعلق صورة عبد الناصر على جدار غرفته (غرفة حجاج لا المخرج)، فلم يذكر الفيلم سببا واحدا لهذا الانتماء السياسي ولو حتى بالفطرة، ولم يترتب عليه أي قرار يجعل من حجاج صاحب وجهة نظر سياسية محددة، بل إني أكاد أسمعه ينطق بلسان المخرج وليس الشخصية حين يطلب من ابنه أن يضع صورة عبد الناصر فوق شرخ الجدار لعله يغطي جزءا منه (جدار الفيلا التي هي مصر إن كنت تذكر)، وهي فكرة سقيمة يستخدمها الحزب 'الوطني' وليس الناصري للاستعانة بصورة عبد الناصر لإخفاء عورات هذا النظام، وما يؤكد لك أن حجاج ـ الذي لم يتعلم القراءة والكتابة ويستخدم الختم ـ لا ينطق بلسان شخصية درامية حقيقية هي العبارة التي قالها لابنه قبل أن يموت: 'عايز أقعد مع (ذاتي) شوية'!! وبمناسبة الموت والرمز، فهل هناك أي رمز سياسي في موت الأب 'الناصري' الذي لفظ أنفاسه الأخيرة لإصراره على تناول 'كيلو سمين' برغم ما يعانيه من أمراض؟!

إن أردت أن أحدثك عن 'فن الإخراج' في الفيلم، فمن الواضح أن هناك عناية خاصة باختيار 'معظم' الممثلين، خاصة الأدوار الثانوية، لكن خالد يوسف يميل دائما الى حالة من اللهاث التي تعكس ضعفا في بناء المشاهد التي يأتي معظمها إخباريا وتقريريا في جملة واحدة، بينما يتوقف أمام مشاهد الصراخ وقتا طويلا، كما أنه يميل الى 'الصخب' التقني (يذكرني بالصهللة الثقافية إياها) التي تلهي المتفرج وتجعله يعتقد أنه أمام عمل خارق، تأمل على سبيل المثال استخدام المجاميع الهائلة التي تبدو مجرد أعداد ليست لها شخصية إنسانية حقيقية (سوف نتوقف لاحقا عند نموذج صارخ لذلك)، وتأمل أيضا حركات الكاميرا المعقدة: لقد تكرر مرتين دخول الكاميرا من الشارع لتمر داخل الدكان وتنتهي في حديقة الفيلا دون أن تكون لذلك أية دلالة أو 'إحساس' درامي، وفيما عدا ذلك فإن الإخراج ينحو الى كل الأساليب التقليدية (جدا جدا) في تنفيذ المشاهد، فعندما تظهر بيسة تنطلق الموسيقى الشعبية (مثلما كان يحدث مع نبيلة عبيد ونادية الجندي وفيفي عبده)، وفي مشاهد الحزن تصدح الموسيقى العاصفة، ولم يفكر خالد يوسف أبدا في الاكتفاء مرة واحدة بالمؤثرات الصوتية المرهفة التي تعني أنه يريد أن 'يتأمل' الشخصية ويريدنا أن نشاركه هذا التأمل، ففي الحقيقة أنه يهدف أن يجعل الشخصيات هدفا للفرجة وليس التعاطف أو التوحد.

إن ذلك الفقدان لتأمل الشخصيات يقودنا الى جوهر أسلوب خالد يوسف شديد التقليدية، على العكس تماما من الرسالة السياسية التي يقول أنه يرفعها. هل تذكر شخصية ناهد (سمية الخشاب) في 'حين ميسرة'؟ إنها هنا بيسة أو هيفاء وهبي، وكلتاهما مثال على علاقة صانع الفيلم بالشخصية من جانب، وبالمتفرج من جانب آخر. في أحد المشاهد نرى البلطجي كرم (عمرو عبد الجليل) يدخن الحشيش على السطح، وأمامه تجلس شقيقته بيسة وخطيبها شحاتة، إن كرم يشك في أن شحاتة يملك من القوة ما يتيح له الدفاع عن بيسة، فماذا يفعل؟ إنه يدعو بيسة للرقص، ثم يمسك فجأة بشومة ويريد أن يبارز شحاتة بالتحطيب. يمكنك أن تغفر لكرم هذا الهذيان الذي يمارسه لأنه 'مسطول'، لكن ما الذي يغفر للمخرج خالد يوسف أن يجعل الكاميرا تمسح بتلصص غريب جسد بيسة (بالأحرى هيفاء وهبي التي ترتدي ملابس وتضع ماكياجا لا يمكن أن يتناسب الشخصية)؟ من أي وجهة نظر تلك اللقطات شديدة الإثارة التي تذكرك بأسلوب حسن الإمام في أفلام العوالم؟ وماذا يسعي المخرج بها والمفترض أنه موقف مؤلم على بيسة وشحاتة معا؟ ولماذا لم يتذكر على سبيل المثال كيف قام المخرج علي بدرخان بتنفيذ مشهد مماثل لسعاد حسني في 'شفيقة ومتولي'؟ لكن الفرق هو أن بدرخان يحس ويتعاطف مع الشخصية بينما يحب خالد يوسف أن يتفرج عليها وأن نشاركه هذه الفرجة. خذ عندك مثلا آخر: إن بيسة ما تزال تغرق في أحلام يقظة جنسية مع الحبيب القديم شحاتة، فهل يكون التعبير السينمائي لها عند مخرج له رسالة سياسية أن نرى مشهدا مغرقا في الحسية، أم أن هذا الموقف له دلالة شديدة الإيلام والعجز والإحباط؟

نأتي في النهاية الى مشهد 'النبوءة' التي يرددها المخرج محذرا من حالة من الفوضى الدموية، وبرغم أنها ليست نبوءة بل واقعا نعيشه في كل لحظة، حيث 'العنف' هو وسيلة الحوار بين السلطة والشعب، وبين أفراد الشعب وبعضه بعضاً، فإن هذه الفوضى المتوقعة جاءت في الفيلم على نحو ملفق وربما مضحك أيضا (نسيت أن أقول لك أن الجمهور في قاعة العرض انفجر بالضحك عندما القت بيسة بنفسها من فوق السطح في الدور السابع في مشهد ركيك التنفيذ، وبالمناسبة تعافت بعد ذلك ولم يترك ذلك الحادث المروع أي خدش عليها!!). إن شحاتة يخرج من السجن باحثا عن إخوته، ويلتقي ببلطجي صعلوك يدعي 'البرص' (من عائلة 'ليمبي' السينمائية العريقة)، ويدافع شحاتة عن البرص في معركة دموية فينقذ حياته بينما يصرع أربعة من البلطجية الآخرين، وليس هناك أي سبب درامي يجعل شحاتة يدافع عن البرص، وليس هناك سبب 'سياسي' عند خالد يوسف ألا يتوقف عند مصرع البلطجية الآخرين فربما كانوا على حق أكثر من هذا البرص، لكنهم في النهاية عنده مجرد كومبارس أدوا الخناقة السينمائية كما كان ينفذها نيازي مصطفى منذ نصف قرن. المهم: ماذا فعل البرص ليرد جميل شحاتة؟ إنه يذهب في الظلام ليطعن شحاتة حتى يثبت أنه الأقوى!! ناهيك عن إفيه ساقع يقوله بلا مبرر ولن أكرره لك. لكن عندما يموت شحاتة برصاص أحد إخوته يأتي هذا البرص 'زعيما' لعشرات البلطجية حاملي السنج والسيوف ليقوم وأعوانه بالتمرد العظيم والفوضى الشاملة. إذا كانت هذه الفوضى سوف تحدث لمصرع شحاتة وعلى يد البرص فإني لا أرى في ذلك أي سبب سياسي مزعوم، والحقيقة أن كل هذا الخليط تكرار لنفس التوليفة التي تشبه التمثيليات الإذاعية الساذجة التي كانت تحمل اسم 'من الحياة'، بل إن جزءا كبيرا من الفيلم يمكن سماعه فقط لأن الصورة لا تقول شيئا فنيا حقيقيا. مثل هذه الأفلام تسعى للفرجة على شخصيات في متحف، واستدراج الجماهير لدفع ثمن التذكرة، واستدراج بعض السياسيين والمثقفين لتصور أن هذه هي السينما السياسية، وإن كان في هذه الأفلام سياسة حقا فلكونها جزءا من حالة الفوضى والخداع التي نعيشها في كل أمور حياتنا، لأننا ما زلنا في حاجة لأن نعيد تسمية كل الأشياء بأسمائها الحقيقية.

ناقد سينمائي من مصر

القدس العربي في

04/06/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)