تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

"أهل الوفا" تجربة أولى على طريق توثيق منجزات المقاومة

السينما في وصفها طقساً جماعياً يعكس حقيقة ساطعة

ريما المسمار

علا التّصفيق مراراً في الصّالة كما لو أنّ الصّور المتعاقبة على الشاشة جزء من عرض مسرحي حيّ قائم على التّفاعل مع الجمهور. في خلفية العمل مهندسون يفهمون تماماً طبيعة هذا الجمهور وحاجاته، فيتركون مساحات من الصمت تعقب اللحظات الحاسمة ليملأها الحضور بتأوهاته ونشوته واستنكاره، مكررين عند اللزوم ـ على طريقة الخطباء المحنّكين ـ بعض المقاطع (المشاهد) الذي يجيش الأحاسيس ويشعل الهمم. حتّى إذا أُسدِل السّتار على المشهد الأخير، هبّ الناس وقوفاً مهلّلين للنّهاية التي ما كانت لتخالف توقعاتهم في اي حال من الأحوال ولكنّها على نحو ما تفاجئهم بحقيقتها الساطعة مسبغةً الشرعية على قضية وجودهم. مفارقة مذهلة تلك العلاقة بين الصورة والواقع في عصر أضحت الصورة فيه الشك واليقين في آنٍ معاً، والوسيلة والهدف، والوسيط والرسالة. على هذا النحو، تداخلت الصّور بمستويات دلالاتها المختلفة في فيلم "اهل الوفا" الذي قُدِّم في عرض افتتاحي يوم الثلاثاء الفائت في قاعة "الرسالات" احتفالاً بالذكرى التاسعة لتحرير الجنوب اللبناني وفي طقس مشاهدة عكس بدوره الكثير من الصّور.

لا شك في أن طقس المشاهدة السينمائية ينطوي على مجموعة من المعطيات الثابتة والعوامل الخارجية التي تمهّد لحالة ذهنية ما لدى المشاهد. فحين تقصد صالة سينمائية داخل مجمع تجاري ضخم، تسبقك جهوزية ما، في اللاوعي ربما، لتقبّل نوع العرض وطبيعة الجمهور وطقوس المشاهدة التي تبدأ من الردهة الخارجية بشراء الفوشار وتوابعه، وتكمّل مع العروض التمهيدية على الشاشة الكبيرة في شكل إعلانات ترويجية للآتي من الافلام، مروراً بتقاليد المشاهدة المحلية التي تتخللها الأحاديث الثنائية والجماعية ورنين الهواتف الخليوية داخل الصالة وأثناء العرض. وتنتهي تلك الطقوس بتقبل ما تقذفه الشاشة من مبالغات وخيال تهريبي قد لا ينسجم مع أي منطق عام أو خاص. في المقابل، يسكن المشاهد الذاهب الى صالة فنية او عرض ضمن مهرجان متخصص جهوزية تستند الى توقعات من نوع آخر. في كلتا الحالتين، يحضر احتمال أن يحدث ما هو مخالف لتلك الجهوزية، المقيدة في أحيانٍ كثيرة، والمنطوية على شيءٍ من الأحكام المسبقة. على هذا النحو، قد يتملك المشاهد العادي ـ من خارج الجمهور "الطبيعي" لفيلم "أهل الوفا"ـ إحساس بالضياع ما يحرره من أية جهوزية مسبقة أو توقعات. فلا المكان، قاعة "الرسالات"، مألوف ولا طبيعة العمل، الذي يجمع تحت مظلته أسماء قد تحيل أو لا تحيل على معرفة سابقة بها، يندرج في إطار محدد. ولكنّ الأمر ليس على هذه الدرجة من البراءة بالطبع من جهة المتلقّي. فالنبذة التي وزعت عن الفيلم قبل أيام كفيلة بإدراجه في خانة الأفلام التي تُقرأ من عنوانها: "حكاية من ذاكرة المقاومة... مقتبس عن قصة واقعية... "وكذلك الجهة المنتجة "الجمعية اللبناني للفنون ـ رسالات" بأهدافها المعلنة والواضحة: "الفيلم يأتي ضمن مروحة أعمال فنية تتنوع بين الأفلام الوثائقية والمسرح والسينما والموسيقى بالتوجّه نفسه" على حد تعبير مدير الجمعية علي ضاهر. ولكن يبقى بعض غموض يلف التجربة برمتها محركاً الفضول لاكتشافها أوله ان هذا النوع من الأعمال، بحسب القراءة الاوّليّة، مكانه التلفزيون والشكل الأنسب له مبدئياً هو الريبورتاج او الوثائقي. بهذه العدّة من الافكار والأحكام، قصدت قاعة "الرسالات" لمشاهدة العرض الافتتاحي لفيلم "أهل الوفا" مذيلاً باسم المخرج السوري نجدة أنزور والكاتب فتح الله عمر الموصوف في مكان ما بـ "كاتب المقاومة وعاشقها". وكما ان لكل مشاهدة طقسها وتقاليدها، كذلك لتجربة "أهل الوفا" طقوسها وتقاليدها التي تبدأ من هبوط السلالم المنحدرة الى نحو طبقتين تحت الأرض حيث موقف للسيارات، يفضي في أحد جوانبه الى بهو المسرح حديث البناء والتاثيث. ويكمل الطّقس عند مدخل الصالة حيث يجري فرز الوافدين الى مجموعتين، رجال ونساء، ولكل مجموعة مدخلها الخاص. داخل الصالة، تتوجه النساء اللواتي على معرفة مسبقة بالتقاليد الى المقاعد الجانبية المخصصة لهن بينما يقوم مضيفو الحفل بمرافقة حديثات العهد بتقاليد الصالة الى الجناح المخصص للنساء. هكذا يبدأ الفيلم قبل أن يبدأ ولكن ليس بالنسبة الى الجمهور العريض الذي لا يرى في الحفل الا امتداداً للاحتفالات الحزبية والدينية حيث كل شيء قابل للتكيف مع تقاليد الجماعة والحزب والطائفة حتى السينما التي سبقها في هذه الحالة آيات قرآنية، افتتحت الأمسية قبل النشيد الوطني. انها "عظمة" الصورة بمعنى ما التي تراوح بين أقصى الإختزال والتجريد وأقصى التعبير المباشر عن الواقع الخارجة منه. كلٌّ يصنع صورتَه على صورته والصورة على الرغم من كل الجدل الذي يطاولها في هذا العصر تظل صورة موحية في خدمة غايات حتى بمستواها المباشر البدائي الأوّل. على هذا المفهوم انطوت كلمة الكاتب فتح الله عمر الذي يمكن اختزال كلمته التي ثبّتت باليقين وصف "كاتب المقاومة وعاشقها" بجملة واحدة: إعلان عجز الصورة عن تجسيد عظمة الواقع. وذلك حكم إذا أحلناه على الكتابة التي هي مهنته خرجنا بخلاصة مماثلة: عجز الخيال عن تجسيد الواقع. الصورة والخيال هنا في وصفهما أداتين وظيفيتين مرجعيتهما الواقع مجردان تماماً من مستوياتهما العليا كالقدرة على الاستشفاف والتحليل والنقد والرصد. تُرى، هل يكفي أن نلصق بالعمل وصف دعائي لتبرير كل هفواته؟ وتالياً نسأل: أين مكان هذا العمل ومن هو جمهوره؟ لقد شدد الكاتب في كلمته على ان الفيلم ليس موجهاً لجمهور المقاومة وناسها. فهؤلاء، باعتقاده، أقرب الى حقيقة الامور وليسوا في حاجة الى "الصورة" لتعبر عن "الحقيقة". بهذا المعنى، هل يمكن كسب جمهور، غير جمهور المقاومة، بفيلم على هذا القدر من التبسيط والمباشرة؟ وهل يمكن قراءة الفيلم بعيداً من الأهداف التعبوية؟

يعلّمنا إعلام التعبئة الذي لم يعد حكراً على طرف واحد في بلداننا أن نتعاطى مع الصورة كحقيقة ساطعة، تعكس حقيقة ساطعة أخرى. من هنا، لا مجال لقراءات متعددة للصورة ولا مجال حتماً للشك. الصورة والواقع متلازمان والجميع على طرف واحد من العمل: الكاتب والمخرج والجمهور. ما يتبقى اذاً ليس سوى طقس جماعي يقوم على قدسية الصورة المستمدة بدورها من قدسية الواقع الذي تنقله معطوفة على قدسية القضية المحورية، المقاومة. انه، على العكس من كلام الكاتب تماماً، فيلم مفصّل لهذا الجمهور تحديداً، يحاكي مشاعره ويعزف على أوتار معتقداته وايمانه المطلق بما يشاهده على الشاشة ليتحول طقس المشاهدة داخل الصالة احتفالاً يؤكد على الثوابت. هكذا يتجاوب الجمهور مع دعوة إحدى شخصيات الفيلم إلى "الصلاة على رسول الله" بصلاة جماعية أو يعلو تصفيقه على مشهد تفجير الموكب الاسرائيلي مع كل اعادة للقطة من زوايا مختلفة لتغدو علاقته بالفيلم علاقة شخصية خاصة منسجمة تماماً مع معتقداته.

أهل الوفا

إزاء هذا الكم من الثوابت، لا يسع الصورة الا أن تكون مصادقة على او صك اعتراف بما هو أكبر منها ومن قدرتها على الاحاطة به. يترجم مخرج العمل نجدة أنزور ذلك بالحرف متخذاً الطريق الاقصر الى تحقيق أهداف الفيلم: إنجاز صورة من دون أي اجتهاد شخصي، جمالي او موضوعي، تستمد شرعيتها وحقيقتها من الواقع الذي تنقله. كأنه بذلك يقول ان لا جمالية حِرَفية تضاهي جماليات الواقع ولا حبكة موضوعية تنافس بابتكارها ابتكارات رجالات الفيلم. ليست هذه محاولة لقراءة الفيلم خارج حدوده الطبيعية او لتحميله أكثر مما يحمل، ولكن "أهل الوفا"، حتى بشروطه الخاصة، يفتقر الى الإتقان في الكتابة والصورة. فهي بارتكازها على حدث واقعي، يتمثل بعملية "الشهيد الحي" التي نفذها حزب الله في العام 1994 على طريق الخردلي ـ دير ميماس في الجنوب اللبناني إبان الاحتلال الإسرائيلي لبعض قراه. تنطلق الحكاية من رصد "الحاج مصطفى" (عمار شلق) للقافلة الاسرائيلية التي تعبر الطريق بشكل أسبوعي. وبعد اشهر من الرصد، يتحدد موعد العملية ويُعين نحو ثمانية مقاومين بقيادة "مصطفى" لتنفيذها. لا يكشف الفيلم عن كيفية التخطيط ولا يناقش المقاومون ولا القيادة احتمالات فشل العملية وكيفية التعاطي مع ذلك. وبالطبع ليس هناك من لحظات شك او خوف تخالجهم بما يترك انطباعاً بأن الفيلم ليس سوى توثيق لحدث معروف النتائج سلفاً. فلو ان كاميرا المقاومين التي سجلت العملية جرياً على العادة التفتت الى المقاتلين، لاستطاعت أن تسبر أغوارهم أكثر مما فعلت كاميرا فيلم روائي آثر البقاء على هامش الشخصيات الانسانية كأنها دمى في خدمة حدث جليل. حتى في الشق الروائي الموازي، تتعاطى الكتابة مع الشخصيات بكثير من المثالية والخشوع. فحكاية الشابة (كورين حداد) التي تعاني من مرض والدتها العضال ومن تدهور أحوال زوجها المادية بسبب فقدانه لإحدى يديه، لا تتجاوز كونها تبريراً للتوقف عند موضوع عملاء جيش لحد في قرية دير ـ ميماس. بين الحكايتين، تنقسم شخصيات الفيلم بين داعمين للمقاومة وبين عملاء جواسيس، يسهل التفريق بينهم على قاعدة أبيض وأسود أو الخير والشر. يحاول أنزور أن يخلق بعداً آخر للصورة الأحادية من خلال لقطات بتقنية "سيبيا" أو زوايا كاميرا تعكس وجهة نظر أو تبدو وكأنها مأخوذة من فيديو خاص ولكنها تبقى محاولات برانية غير مبررة درامياً وعاجزة عن إشاعة خصوصية ما للصورة التي تحافظ على عموميتها بامتياز. في الشق الأخير من الفيلم، أي مشاهد تنفيذ العملية التي يعول عليها كثيراً صناع الفيلم، يجري توظيف المؤثرات البصرية التي يتردد انها بتنفيذ فريق أجنبي عمل على آخر أفلام "جايمس بوند". ولكن الإنطباع الذي يخلفه ذلك لا يختلف عن الانطباع الذي نخرج به من فيلم هوليوودي (مع فارق التقنية والحرفة بالطبع) يستسلم لإغواء البطولة الفردية في وجه ماكينة الشر والحرب. على هذا النحو، يخرج عمار شلق من دخان المعركة "شهيداً حياً" بعد ان قضى على حفنة من الأعداء برصاص بندقيته. ولا يفوت كاتب السيناريو تصميم مشهد أخير يختزل "العبرة" من الحكاية: من يساعد المقاومة يجني الكثير ومن يساعد العدو ينتهي قتلاً.

انها السينما وقد تقلّصت الى دورها الأولي، أبجدية بسيطة لقول البديهيات.

المستقبل اللبنانية في

22/05/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)