تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

فرنسا .. ضحايا العولمة في فيلم وثائقي

معاذ محمود

يكشف الفيلم عن عواقب النظام العالمي

الأزمة المالية التي يشهدها العالم أجمع أثارت وما تزال تثير التساؤلات عن طبيعة النظام المالي وممارساته غير المسئولة التي أدت بنا إلى الوضع الراهن. هذه الأسئلة دفعت المخرج النمساوي إيروين فاجنهوفر إلى تصوير فيلمه الوثائقي  Let's make Money، الذي يعرض حاليا في سينمات أوروبا، لمحاولة تتبع مسار مدخراتنا التي نودعها في البنوك المحلية وما تلبث أن تصل بفعل العولمة إلى أسواق المالية العالمية، فالفيلم هو محاولة لتسليط الضوء على ركائز النظام الليبرالي والعواقب الإنسانية والديموغرافية والبيئية الوخيمة المترتبة عنه.

استثمار غير مسئول

ويركز المخرج على الدور المحوري الذي تلعبه شركات وصناديق الاستثمار في النظام المالي العالمي، حيث تتصيد تلك المؤسسات الفرص الاستثمارية حيثما وجدت مستفيدة من حرية وسهولة تنقل رأس المال في ظل العولمة الاقتصادية، أما هدفها الرئيسي فهو ليس خلق قيمة اقتصادية أو نمو حقيقي للاقتصادات الصاعدة عن طريق الاستثمار في مشاريع إنتاجية، ولكن بالأساس تعظيم مردود رأس المال لزيادة الأرباح التي يحصل عليها المساهمون آخر السنة. وهو ما يدفع تلك المؤسسات إلى التركيز على الربح السهل عن طريق الدخول في مضاربات ومغامرات مالية عالية المخاطر، في حين تحجم عن الاستثمار في المشاريع الإنتاجية طويلة المدى.

فهؤلاء المستثمرون هم المستفيد الأول من العولمة المالية وبالتالي هم أشد المدافعين عنها، فيعبر عن هذا الموقف رئيس مجموعة مالية عالمية تعمل من سنغافورة، حيث يرى أن العولمة ليست شرا مستطيرا كما هو شائع عنها الآن، بل هي واقع اقتصادي تستفيد منه البشرية كلها لأنها تخفض من تكلفة السلع وسعرها النهائي في الأسواق، فحتى إذا كانت الدول الغنية قد عانت في بداية التسعينيات من معدلات بطالة متزايدة بسبب انتقال الشركات إلى الاقتصادات الصاعدة للاستفادة من عناصر الإنتاج الرخيصة، لكن العولمة أتاحت لتلك الاقتصادات المتقدمة فرص استثمار جديدة؛ لأن الأرباح التي تتحقق في الدول النامية تنتقل إلى الغرب، فصناديق التقاعد في الولايات المتحدة مثلا تستثمر في تلك الاقتصادات، أما بالنسبة للدول الصاعدة، فقد أتاحت لها العولمة الاستفادة من تدفق رؤوس الأموال الغربية التي تتيح لها النمو اقتصاديا، فالكل رابح، وبالتالي فليس هناك من داع لانتقاد العولمة المالية.

ضحية العولمة..

غير أن مشاهد الفيلم التالية لا تلبث أن تكذب ذلك الادعاء المنبت الصلة تماما بالواقع، فالدول الفقيرة لم تسهم العولمة الاقتصادية في تحسن أحوالها كما يدعي المدافعون عنها، بل تسببت في كبت وتوتر اجتماعي كبيرين بسبب اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء.

وتنتقل عدسة المخرج إلى الهند ليري المشاهد الوجه المظلم للعولمة. فالاقتصاد الهندي الذي يضرب به المثل اليوم في الأوساط الاقتصادية الدولية باعتباره قصة نجاح هو بعيد كل البعد عن هذه الصورة الوردية. فمعدلات النمو الاقتصادي القياسية التي يحققها ذلك العملاق الآسيوي لم يرافقها تطور مماثل في مستوى معيشة الأفراد، بل بالعكس، فتحسن أداء الاقتصاد الكلي جاء على حساب الاقتصاد الجزئي، حيث تسبب النمو غير المتوازن في ارتفاع معدل التضخم وانخفاض القدرة الشرائية.

وتظهر بعض المشاهد هذا الانفصال من خلال تركيز العدسة على التناقض الصارخ بين اللوحات الإعلانية الضخمة التي تنتشر على المحاور المرورية الرئيسية في المدن الكبرى كمدينة مدراس ذات الـ 20 مليون نسمة، وبين وضع الفقراء في مدن الصفيح الملاصقة لتلك المحاور، والتي يعيش فيها أكثر من ثلث سكان المدينة، فمن ناحية نرى الأحياء البائسة التي تفتقر إلى الخدمات والبنية التحتية، فنرى المياه المبتذلة يتم تصريفها في قنوات مفتوحة تمر في وسط الشارع، والبيوت صغيرة مظلمة ذات أسقف ارتجالية من الصفيح وفروع الأشجار لا تقي من قيظ الصيف ولا من الأمطار الموسمية الغزيرة، والأطفال حفاة عراة هزيلي الأجساد يلعبون بجوار نهر حول التلوث الصناعي لون مياهه إلى الأسود.

وفي المقابل، ترينا اللوحات الإعلانية عالما آخر نظيفا ومترفا، فتروج تلك الإعلانات لمنتجات استهلاكية كمالية ليست في متناول سكان الأحياء الفقيرة المجاورة، ومن الترف مجرد التفكير فيها ناهيك عن اقتنائها.

هذا التناقض بين الصورة الحالمة التي نراها في الدعايات والواقع البائس يلخص معضلة الهند والاقتصادات الصاعدة عموما: معدل نمو قياسي وأرقام تبعث على التفاؤل على الورق.. غير أن هذا التحسن الاقتصادي لا تستفيد منه سوى أقلية مجهرية من المستثمرين والسياسيين، ولا ينسحب على وضع السواد الأعظم من المواطنين.

ففي ظل غياب الشفافية وآلية لتوزيع الثروات بشكل عادل، تستأثر أقلية ضئيلة بثمار تحسن الوضع الاقتصادي، الأمر الذي يؤدي إلى توسيع الفجوة بين الأغنياء والأكثر فقرا في المجتمع.

ويشير الفيلم على لسان مستثمر نمساوي في الهند إلى أن حرمان الفقراء من أي نصيب من كعكة النمو ليس صدفة أو نتيجة لسوء تخطيط اقتصادي بل هو سياسة مقصودة، فالحكومة الهندية سحبت يدها من التدخل في تنظيم النشاط الاقتصادي وتخلت عن دورها الاجتماعي لأن من مصلحتها ألا يتحسن وضع الفقراء، فالفقر هو الميزة التنافسية الرئيسية للهند لأنه يتيح للمستثمرين الاستفادة من تكاليف إنتاج منخفضة ويد عاملة رخيصة، وبالتالي فليس من مصلحة الحكومة تحسين وضع الفقراء وإلا فقد الاقتصاد ميزته التنافسية، ما من شأنه أن يدفع رءوس الأموال إلى تفضيل اقتصادات واعدة أخرى.. اقتصادات أقل اكتراثا بتحسين أوضاع فقرائها، فرأس المال بلا أخلاق أو قيم.

كما يظهر الفيلم أيضا الطابع اللامسئول الذي يتسم به الاستثمار المعولم في عالم اليوم، فالبنوك والمجموعات المالية لا تهدف إلى تحقيق نمو مستدام في الدول التي يستثمرون فيها، بل يهدفون إلى تعظيم أرباحهم حتى لو كان ذلك على حساب البيئة وعلى حساب ثروات الأجيال القادمة.

وقصة بوركينا فاسو هي المثال الذي يختاره المخرج لتوضيح هذه الفكرة، فالإنتاج الكثيف للقطن لتصديره إلى الأسواق الأوروبية أدى إلى إهلاك التربة وتبويرها دون أي استفادة حقيقية للاقتصاد البوركيني، فالقطن يصدر كمادة خام دون أي قيمة مضافة، وبالتالي يباع بسعر بخس رغم كونه من أفضل أنواع القطن في العالم.

كما أن الدول الغربية تمارس سياسة الكيل بمكيالين: فهم يضغطون على الدول النامية حتى تحرر اقتصادها، في الوقت الذي تمارس فيه تلك الدول الغنية الحمائية الاقتصادية على نطاق واسع عن طريق دعم مزارعيها بمليارات الدولارات سنويا، وفرض قيود على دخول السلع المصنعة في الدول النامية إلى أسواقها لحماية المنتج المحلي.

وبالتالي فدور مؤسسات بريتن وودز ينحصر في الضغط على الدول الفقيرة حتى تزيد من إنتاج المواد الأولية وتضع العراقيل في وجه ظهور أي نشاط تصنيعي حقيقي، وهو الدور الذي كان يلعبه المستعمر قديما، وكأن تلك المؤسسات هي النسخة المعاصرة من الاستعمار.

فالزراعة الكثيفة للقطن في تلك الدولة الصاعدة كانت على حساب البيئة في الأساس، ولم تساهم في تحقيق تنمية بشرية حقيقية في تلك البلد: فما زال 40% من الأطفال خارج النظام التعليمي، كما أن نسبة الطلبة الذين يكملون دراستهم الجامعية لا تجاوز 2%  من الأطفال الذي يلتحقون بالمدرسة.

الدول الغنية أيضا

إذن، فالفيلم الوثائقي استطاع أن يبرهن أن العولمة الاقتصادية كانت وبالا على الدول النامية. لكن هل يعني ذلك أن الدول المتقدمة كانت هي المستفيدة من هذا النظام؟ قطعا لا.. فدولة غربية مثل إسبانيا مثلا تعاني بسبب الاستثمار غير المسئول للبنوك العالمية، حيث يبنى في جنوبها 800 ألف وحدة سكنية فاخرة كل عام ليس بغرض السكن ولا بغرض تأجيرها للسياح، بل للمضاربات فقط، فالمؤسسات المالية تستطيع أن ترفع سعر الوحدة 35% خلال عام واحد عن طريق سلسلة من المضاربات.

طبعا تسبب ذلك النوع من الاستثمار في أضرار فادحة للبيئة وللاقتصاد المحلي، فالمياه المستخدمة لري ملعب واحد للجولف تعادل الاستهلاك السنوي من المياه لمدينة من 20 ألف نسمة، كما أن تلك الوحدات الفاخرة أدت إلى إشعال أسعار العقارات بشكل جنوني، وهو ما يؤدي إلى مفارقة غير منطقية: وحدات سكنية فارغة باهظة الثمن، وشباب لا يجد مسكنا إيجاره في متناول اليد، والأدهى من ذلك أنه حينما ينجح أنصار البيئة في الضغط على البلدية لإيقاف إحدى تلك المشروعات، تضطر الحكومة الإسبانية إلى تعويض المستثمرين بمبالغ باهظة من أموال دافعي الضرائب.

فالمواطن الغربي يتضرر اقتصاديا من الاستثمارات المعولمة، وحين يستطيع كبح جماحها، تدفع الدولة تعويضات للمستثمرين من أموال الضرائب، وحينما يكاد النظام المالي العالمي يتداعى بسبب المغامرات النزقة للمؤسسات المالية، تضطر الحكومات الغربية لاعتماد خطط إنقاذ باهظة يتحمل تكلفتها دافع الضرائب أيضا، أي أن العولمة الاقتصادية كانت وبالا أيضا على الدول الغنية.

ويبقى السؤال: من المستفيد من هذا النظام الاقتصادي العالمي؟ يجيب الفيلم بأن المستفيد هم قلة ضئيلة من أصحاب رءوس الأموال والعاملين في المؤسسات المالية؛ حفنة لا تتجاوز 3% من سكان العالم تحتكر أكثر من نصف ثروات العالم وكل همهما هو تحقيق مزيد من الأرباح بشتى الطرق.

ويسلط الفيلم في النهاية الضوء على إحدى أهم الوسائل التي تلجأ إليها تلك "النخبة" ألا وهي الجنات الضريبية، فتلك الجنات تتيح لأغنياء العالم التمتع بسرية تامة لحساباتهم تجنبهم السؤال المحرج "من أين لك هذا؟" ويقدر حجم الأموال المودعة في تلك الجنات بـأكثر من 11 تريليون دولار لا يدفع عنها أي نوع من الضرائب.

ويختتم المخرج بالقول إنه لو دفعت ضريبة معتدلة عن هذه الأموال المخفية، لتمكن العالم من القضاء على الفقر ولتمكنت الأمم المتحدة من تحقيق أهداف الألفية.

ناقد مقيم في فرنسا

إسلام أنلاين في

21/05/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)