تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

85 سنة على ولادة مارلون براندو و5 سنوات على رحيله

الممثل الأعظم في القرن العشرين؟

ريما المسمار

غاب مارلون براندو في الاول من تموز من العام 2004 من دون ان يخبو نجمه. خمس سنوات مرت على رحيله من دون ان تنقطع أخباره. فمرة سمعنا عن خلاف حول توزيع تركته وأخرى عن وفاة نجله وثالثة عن اكتشاف مخطوطة موقعة باسمه ورتبعة عن بيع مقتنياته في مزاد علني... هذا الى جانب اسمه الذي يتصدر الاستفتاءات حول اعظم ممثلي القرن العشرين وأفلامه التي تتصدر لوائح افضل الافلام في تاريخ السينما وحتى مقاطع من حواراته الخالدة في ذاكرة السينما. الرجل كان ببساطة لغزاً في حياته ومماته وامتلك من المعجبين والمحبين بقدر ما امتلك من المزدرين الحانقين على سلوكه وشخصيته الصعبة.

كثيرون حفظوا لبراندو في مخيلاتهم صورة شعرية عن "عراب" مسن ينهي حياته بين أشجار الليمون بينما يلاعب حفيده. كثيرون تخيلوا براندو في آخر ايامه، جالساً في باحة منزله، يراقب حفيداً صغيراً له يلهو بمسدس مائي، داعياً جده الى مشاركته اللعب. وإذ يضعف العظيم امام رغبة حفيده، ينهض بتثاقل راكضاً خلفه بين اشجار البرتقال، خاتماً حياته هناك عند كعب احدى الشجرات. ولكن الحق ان فرانسيس فورد كوبولا، لم يستسلم لرومنسية المشهد عند كتابته (من فيلم "العراب")، كأنه يقول ان ثمة وجه آخر للموت مهما اتاك هادئاً. والمشهد بدلالاته البصرية (ارض شاسعة قاحلة، وحدة دون كورليوني، جسده المنحني.. مقابل الحفيد رمز التجدد والاشجار رمز الحياة..) احتمل الوجهين: الرومنسي والواقعي الخشن. مهما يكن من امر، الموت نهاية وكل نهاية محزنة فكيف بنهاية رجل اختزل معنى العظمة؟

لم يمت براندو في حديقة منزله بل في مستشفى. ولم يسلم الروح بين أيدٍ أحبها او احبته، وان تكن يدي طفل. فالرجل عانى مع اولاده (محاكمة ابنه بتهمة قتل صديق اخته اي ابنة براندو واقدام الاخيرة على الانتحار) قبل ان نسمع بأحفاده. ولم تحبِه الحياة فرصة الذهاب بعيداً بمبدأ "دون كورليوني" الاول: "أمضيت حياتي كلها محاولاً الا اكون غير مبالٍ. يمكن النساء والاطفال ان يكونوا غير مبالين. ولكن ليس الرجال".

على الرغم من ان الموت يوازي الانسان بالعادية، الا انه في حالات نادرة، كما هي مع براندو، يعمّق اللغز ويضاعف الغموض. لا مكان للإجابات القاطعة في حياة الرجل او الاحكام الجاهزة. أفلم نقل بعد انه عصي على التحليلات واكبر من مجرد "فأر" في مصيدة التجارب والتكهنات؟

لقد امتلك مارلون براندو خلال مسيرة سينمائية امتدت لنصف قرن ما يجمع كثيرون على انه "العظمة". ولئن يتلكأ بعضهم في نعته "الممثل الاعظم" في تاريخ السينما مراعاةً للموضوعية النقدية امام تاريخ مازال يُكتب، الا انه في العمق يحتل تلك المكانة بدون منازع حتى لدى منتقديه من مناصري "الاحكام الاخلاقية". فالرجل اثر في كل من اتى بعده او عاصره وجسّد نموذج المراهق الاميركي المتمرد لجيل كامل، يُعتقَد انه كان احد العناصر المكونة لثقافته. هو من تلك الطينة الانسانية المتفردة التي تفوق وصفها بـ"الكاريزماتية" وتتعداه الى "الملهمة" او "الطاقة الشاحنة"، كحقل مغناطيسي واسع التأثير. ارسى براندو مقومات جديدة للممثل ولأدائه، تظهر آثارها اليوم في امثال روبرت دي نيرو وآل باتشينو وشون بن وجاك نيكلسن الذي ردد قائلاً: "لقد حرَّرَنا". بينما يكتسب هذا التأثير هيئة "الظاهرة البراندونية"، اذا جاز التعبير، مع الجيل الحالي من الممثلين الشباب من طراز راسل كرو وبراد بيت، حيث يتجسد براندو "حالة" شكلية وتعبيرية متكاملة. برغم ذلك، تقوم حياته على درجة عالية من التناقضات. فهو الممثل الاوحد ربما الذي يتجاوز افلامه وادواره اهمية بينما يسطع كل دور من ادواره القليلة نسبياً حياةً كاملة. إذ تكمن المفارقة في قيام إرثه السينمائي على حفنة قليلة من الادوار المتميزة والكثير الكثير من الافلام العادية ودون العادية التي قاومت السقوط في ذاكرة النسيان بفضل ظهوره فيها.

الملاك ـ الوحش

كان ظهوره الاول في العام 1947 على مسرح برودواي في مسرحية تينيسي ويليامز "عربة اسمها الرغبة". مع اقفال الستارة على العرض الاول في الثالث من كانون الاول/ديسمبر، وقف الجمهور تحيةً للعمل وممثليه طالت الى نصف ساعة. نالت جيسيكا تاندي دور "بلانش دو بوا" تقديراً عالمياً. اما براندو ابن الثالثة والعشرين فبدّل الى الابد مفاهيم التمثيل ومواصفات البطل. هناك ظهر في شخصية "ستانلي" بقميصه القطني الممزق، تفوح من جسده رائحة الرجولة والجنس، ومن نظراته الثقة والازدراء، ومن حديثه الجهل واللامبالاة ومن ملامحه جمالاً غير مألوف عند ممثلي تلك المرحلة، يضرب عرض الحائط بملامح الرجولة التقليدية المتجسدة في امثال غاري كوبر وهمفري بوغارت وكاري غرانت وآخرين. باختصار، كان "ستانلي" براندو تعبيراً عن صورة الرجل العادي بكل ما تشكله هذه الصورة من تهديد لكل مفاهيم التهذيب واللطف والتأنق التي تحاول السينما السائدة حتى يومنا هذا تصديرها عن مجتمعاتها. برغم ذلك، لم يكن براندو خيار المنتجين الاول. لقد فكرت المنتجة ايرين سيلزنيك وقتذاك بجون غارفيلد او بورت لانكاستر لدور "ستانلي"، على الرغم من تأثرها ببراندو لدى رؤيته. ولكن الشاب كان من خارج النظم المكرسة. غير ان اصرار المخرج ايليا كازان عليه معتبراً ان احداً غيره لن يتمكن من "حمل شخصية ستانلي الى ابعد من شرير" ومعلقاً لاحقاً بعد العرض على قدرته الفريدة على جمع "الوحش والملاك" في ادائه، استوجب تدخل رأي ثالث من الطبيعي ان يكون للكاتب ويليامز. عندما وصل الشاب الى موعده في بيت الاخير، كان هناك عطل في الكهرباء كما في مواسير المياه، قام بإصلاحه قبل ان يقرأ امام الكاتب مقاطع من المسرحية. لقد كان ذلك بمثابة عرض مسرحي حي لمواصفات الرجل العادي الآتي من الشارع والذي يشبه ستانلي الى حد بعيد. لاحقاً، كتب ويليامز: "لم يخطر في بالي من قبل اية قيمة عالية سيأتي بها اختيار ممثل شاب للدور. ان ذلك يؤنسن ستانلي إذ يجعل عنفه وقسوته متجذرين في صباه وليس في متاهة الرجولة... قيمة فورية خرجت من قراءة براندو للدور، بدا كأنه يخلق للتو شخصية متعددة الابعاد من النوع الذي افرزته الحرب بين الشباب". ابعد من ذلك، وبما يمكن وصفه بـ"السيناريو" الخفي للحكاية، جمع براندو في شكله وادائه ميول المخرج والكاتب معاً. بين مثلية تينيسي ويليامز الجنسية وجنسانية كازان للجنس المغاير، بدا براندو النموذج الصاهر. في مكان ما، ذكر كازان ثنائية الفتى ـ الرجل التي جسدها براندو وألمح الى "الجانب الانثوي الرقيق" فيه المتجسد بأوضح ما يكون ربما في صوته وبدرجة اقل بملامحه الجمالية. ويعتقد بعضهم ان هذا التناقض بين "انثويته" و"الحيوانية" التي جسدها في ادوار كثيرة هو احد العوامل الذي حال دون اسره في صورة الشرير ودون رفض الجمهور له بل قربه من الانسان الحقيقي. منذ تلك اللحظة، بدا العالم متأهباً لاستقبال موهبة بحجم اسطورة. لقد بدا واضحاً ان براندو يأتي من خارج عباءة المصنفين كبار الممثلين وقتذاك. فهو ليس الصورة الرومنسية للبطل "المتمرد" الذي يعيش بموجب نظامه الخاص انما من دون الخروج على النظم الاخلاقية السائدة. حتى تلك معادلة من نوع آخر. اما براندو فلم يعمل بموجب اية معادلة، حتى انه يصعب القول انه اوجد معادلته الخاصة. فهو متبدل باستمرار، يعمل وفقاً لغرائزه ولحالاته النفسية وانطلاقاً من عدم اكتفاء وشك ذاتيين. من هنا كان قول نيكلسن انه حرر الممثل رامزاً الى اسلوب تمثيلي من ملامحه تخطي التشخيص الى قراءة ذاتية وشخصية، تضفي على الدور طزاجة وعفوية وتردد بدلاً من الثبات والثقة والزكيد السائدة وقتذاك. بذلك اعتُبر براندو متمرداً وخطراً ومجازفاً، يحمل المشاهد الى تجربة حسية وعاطفية غير محسوبة النتائج. وفي شكل ما، اعتُبرت تلك المواصفات تسير في عكس المزاج العام الذي ساد بداية النصف الثاني من القرن العشرين قبيل الحرب العالمية الثانية، اي المزاج لكل ما هو آمن ومؤكد ولعله المزاج القائم الى يومنا هذا والمتمثل في انتاجات هوليوود السائدة. في ادواره السينمائية اللاحقة، عمق براندو الفجوة بينه وبين النظم السائدة مؤسساً لصورة بطل جديد، وصفها كازان بالقول ان براندو بأسلوب ادائه "يتحدى نظام التهذيب والطبيعة الانسانية الطيبة والاخلاق وكل ما هو سائد".

بطل اميركي

في السينما وفي عقد الخمسينات، قدم براندو تنويعات على شخصية واحدة هي المتمرد في: "الرجال" The Men(1950)، النسخة السينمائية من "عربة اسمها الرغبة" A Streetcar Named Desire (1951) مع كازان وفيفان لاي في دور "بلانش"، Viva Zapata(1952)، "يوليوس قيصر" Julius Caesar (1953)، "الشرس" The Wild One (1953) حيث نعثر على جملته الشهيرة ـ رداً على سؤال "على ماذا تتمرد؟" ـ "ماذا لديك؟"، On The Waterfront (1954) الذي جلب له الاوسكار الاول بعد اربعة ترشيحات متتالية الى افلام اخرى في تلك المرحلة لم تكن عالية الجودة. في تلك الافلام، برز براندو بطلاً من طراز خاص. انه البطل المنفي اجتماعياً لأنه يرفض زيف هذا المجتمع. بهذا المعنى، كان بطلاً للجيل الجديد من موقع رفضه لـ وليس تماثله مع النظم السائدة. وكم من مراهق وجد في افلامه قصته ولمس فيها وحدته إزاء المجتمع وضغط نظم الاخير على حريته. في دراسة نشرتها العام 1966 مجلة "اتلانتيك الشهرية"، كتبت بولين كايل محللة تأثير براندو: "...لم يهتم بمركز اجتماعي او بمهنة او باكتساب احترام الآخرين. ولأنه لم يهتم، كان رجلاً كبيراً. إذ ما الذي يجعل الرجل اقل جاذبية و تأثيراً سوى هواجسه المادية؟ قدم براندو، بهذا المعنى، صورة معاصرة للاميركي الحر". لقد كان براندو الشاب الغاضب المتحدث بلسان كثيرين من ابناء جيله والمدرك حقيقته كما يأتي على لسان تيري مالوي، الشخصية التي جسدها في On The Waterfront: "تشارلي، تشارلي انت لا تفهم. كان يمكنني الحصول على درجة اجتماعية. كان يمكن ان اكون مناضلاً. كان يمكن ان اكون انساناً آخر غير هذا السكير المعربد الذي هو انا الآن". منذ بداية الستينات، بدأ التحول في حياة براندو وبدأت التكهنات المستمرة الى يومنا هذا حول اسبابها. وغالب الظن ان احداً لن يتمكن من فك لغز حياته بعد مماته بعد ان فشل في حياته. معظمهم ما زال يعتبر مزاجه وسلوكه الاجتماعي النافر ـ هما في حقيقة الامر ما اعتُبرا في البداية مصدر تميزه ـ مسؤولين عن تدهور حياته المهنية. ويعلل اولئك حكمهم بمقابلات براندو القليلة وتعليقاته العلنية منذ بداية الستينات المثيرة للجدل من تعبيره في غير مناسبة عن احتقاره مهنة التمثيل واعتبارها عمل الذين لا عمل لهم الى الاعتراف بأنه يفضل مسح البلاط على التمثيل اذا وفر له المال نفسه. في المقابل، يسقط اولئك اقوالاً اخرى للممثل، ربما تقود الى زاوية تحليلية اخرى. فهو يكمل كلامه النقدي على التمثيل متسائلاً: "التصفيق والاطراء؟ من يهتم بهما؟ هل انا بحاجة اليهما لأشعر بالرضى عن نفسي؟" وفي مكانٍ آخر يصف هوليوود بالقول: "هذا المكان يحكمه الخوف وحب المال. ولكنه لا يستطيع ان يحكمني لأنني لست خائفاً من شيء ولا احب المال." هناك بالطبع من سيعلق على الفيلم الكلام الاخير بالتذكير بطلب براندو ثلاثة ملايين دولار مقابل ظهوره في "سوبرمان" لمدة عشر دقائق. ولكن ثمة امكانية لوضع هذه التناقضات في سياق يمكن استنتاجه من مصدرين اساسيين: دراسة كايل آنفة الذكر وكتاب ريتشارد شيكل "براندو: حياة في اوقاتنا". يوفر كل مصدر رؤية خاصة، الاول من زاوية تاريخ السينما الاميركية والثاني من منظار مخالفة براندو للتوقعات وحياده عن لعب الدور المرسوم له.

السائد والتوقعات

مع تألق براندو في الخمسينات، كانت هوليوود قد انزلقت الى مفاهيمها الجديدة من الدخول في منافسة مع التلفزيون وادخال الالوان الى الافلام واحتضان قيمة جديدة في الافلام هي الاستعراض... في سبيل ذلك، كانت تبحث عن بطل شجاع، غير معقد ليملأ فراغ مساحاتها الكبرى، اي عن نقيض براندو الذي كان تناقضه الداخلي وشكه الدائم وعدم اكتفائه بالعادي يحوله باستمرار متمرداً حتى على نفسه، إذ ان الارتكان الى صيغة البطل المتمرد كانت ستتحول بدورها معادلة سائدة. بهذا المعنى، كان براندو يصبح عصياً اكثر فأكثر على نظام الاستديوات. وترى كايل في دراستها ان من العادات المتبعة في هذه الصناعة ان يعمل الاستديو على تدمير الموهبة التي صنعها اذا كبرت عن حاجتهم واستبدالها بأخرى، ممهدين لذلك بشائعات يطلقها موظفوهم في الصحف حول تراجع جماهيريتهم والاعراض عن نصائح متنفذي الاستديوات العالمين بأمور المهنة وشجونها. هكذا، تقول كايل، استُبدلت ليليان غيش بغريتا غاربو. وبالمعنى عينه، يشير بعضهم الى الرمزية في تزامن تراجع براندو مع ظهور جايمس دين على الساحة بالفيلم الذي كان يُفترض ببراندو تمثيله اي East of Eden. هكذا مع بداية الستينات، علت حدة الهجوم على براندو، تنتقده على ما اعتبرته في البداية اسباب تميزه وتتهمه بحب المال والاستلشاء بمهنته وموهبته بدليل ابتعاده من المسرح. تتساءل كايل: ألم يكن براندو محقاً في احساسه بأن السينما اقرب الى حياتنا من المسرح؟ ألم يكن باستطاعته بدلاً من نقد نفسه وعمله الانتقال من فيلم سخيف الى آخر أسخف لو انه كان محباً بالفعل للمال؟ ألم يكن يمكنه الادعاء واقناع كثيرين بأن ما يقوم به تمرد ونضال لو لم يكن ساخراً ومراجعاً نفسه باستمرار؟تعتبر كايل ان براندو، كغيره من الفنانين الكبار، عانى، انما بدرجة اعلى، من سياسة تفريغ المعنى من السينما في هوليوود. بمعنى آخر، يثبت تاريخ السينما الهوليوودية حقيقة واحدة هي ان اي فكرة او موهبة جديدة تنعش الوسط تُستَنسخ وتُتستَهلك سريعاً قبل ان تتمكن من ان تطور نفسها. براندو، حاول ببساطة الحؤول دون استهلاكه ولكنه لم ينجُ في نهاية المطاف من السقوط في الباروديا الذاتية، اي التحول صورة ساخرة او هزلية عن ذاته. نلمس ذلك التحول في الستينات بدايةً بفيلم Mutiny On The Bounty(1963) الذي يبدو فيه براندو في دور الارستقراطي اقرب الى نكتة ويبدو اداؤه محاكاة ساخرة لمدرسة التمثيل المنهجي. انه يصطنع التمثيل ويعيه تماماً بدلاً من ان يبدو تعبيراً عن استحضار دواخله وتجاربه الانسانية كما في افلامه الاولى. ولكن كايل تشير الى اختلاف جذري بين براندو والآخرين يكمن في وعي الجمهور التام لحقيقة ان براندو هو اكبر من الادوار التافهة التي جسدها. من هنا، لم تنشأ علاقة التملق او الوهم بينه وبين الجمهور، بل كانت اقرب الى مزحة، كلاهما طرف فيها. كذلك يختلف براندو، بحسب كايل، عن غيره من المتمردين بمقاومته منظومة هوليوود حتى النهاية. ففي حين، تحاول الاخيرة "ترويض" الشخصيات وتحويلها نموذجاً معروفاً، تحوّل براندو عوض ذلك شخصية غريبة الاطوار: "حين يكون اكبر من الحياة، يصعب انزاله الى مستوى العادية ويصبح اسهل تحوله كاريكاتوراً او مجنوناً". كملت المرحلة بأدوار من نفس النمط في The Ugly American، Bedtime Story، A Countess from Hong Kong وسواها.اما شيكل، فيشير الى قيام هالة براندو وقت ظهوره على شيءٍ من مواصفات "المسيح المنتظر" لاسيما بالنسبة الى الثائرين ضد التمثيل المسرحي والمناصرين لمنهج ستانيسلافسكي. يقول الممثل ريدفيلد عن براندو: "آمنا به ليس كممثل فقط وانما كقائد فني وروحي اميركي". ولكن براندو كان بعيداً من هذا الدور لأنه كان ببساطة ضد التصنيف. وكما قال شيكل: "كان يملك ما يكفي من التناقضات والاسئلة الداخلية والشغف المناقضة لدور القائد او البطل الثقافي" الذي حدده له كثيرون. كما كان، كما وصفه احدهم، "مراقباً دقيقاً للحياة وللآخرين اكثر مما كان مستكشفاً لأعماقه". كان ذلك الدور "القيادي" بالنسبة الى براندو يعني تحول حياته الى دور واحد: إظهار عظمة التمثيل كأنه الممثل المطلق. كثيرون مازالوا يأخذون عليه عدم تجسيده للشخصيات التراجيدية الشهيرة مثل هاملت وتساؤلهم صادق لأنه بالنسبة اليهم، قدم مثالاً صغيراً على عظمة الممثل واكتفى به. بينما هو كان في حقيقة الامر يقامر في كل دور يجسده على حياته واحاسيسه. "التانغو الاخير في باريس" (1972) الذي يعتبره بعضهم احد افضل ادواره وافضل فيلم لمخرجه برتولوتشي على الاطلاق، شكل، الى "العراب" و"القيامة الآن"، عودته السينمائىة في السبعينات وجلب له اوسكاره الثاني (رفضه على لسان إمرأة ما حملت رسالته حول سوء معاملة الاميركيين للاميركيين الاصليين). بعده، يعترف براندو بأنه كان تجربة مدمرة عاطفياً. إذ ان الدور قام على ارتجالات حوارية لبراندو حول الجنس وعلاقته بالمرأة، مستحضراً طفولته بين ابوين سكيرين، ومظهراً عن الطبيعة الانسانية ما لم تلمح اليه السينما من قبل. ينسجم ذلك مع تحليل بعضهم لطريقة التمثيل المنهجيmethod) acting) كوسيلة لاخراج الشياطين الداخلية عند الممثل. في مكان ما، يُسجل قول براندو: "حين تكون طفلاً غير مرغوب او مرحب به، وتشعر بأن حقيقتك غير مقبولة، فإنك ستبحث عن هوية اخرى تلقى القبول".

بداية ونهاية

في السنوات الخمس عشرة الاخيرة، ظهر براندو في مجموعة افلام ابرزها اثنان: The Freshman(1990) وDon Juan De Marco(1995) الذي بدا فيه يجسد دوره الحقيقي قبالة جوني ديب الذي يدعي انه "دون جوان" كأنه يحاكي شخصية براندو في شبابها. كذلك اصدر العام 1994 مذكراته بعنوان "براندو"، يقدم فيها نظرة طازجة وغامضة الى طفولته حيث وُلد في "نيبراسكا" عام 1924 وعلاقته بمعلمته ستيللا آدلر التي اكتشفت موهبته الاستثنائية مبكراً وتنبأت بعلاقته بالتمثيل حين وصفتها بالقول "إلمس وإمضِ" (touch and go) كأنها فعل سريع إنما ساحر. ولو ان الحياة امهلته قليلاً، كان سيظهر في مشروع سينمائي للمخرج التونسي رضا الباهي في عنوان "براندو براندو"، حيث كان سيلعب دوره الحقيقي للمرة للمرة الاولى على الشاشة او ربما للمرة المئة.

المستقبل اللبنانية في

24/04/2009

 

 "اعلم أنك أنت"

بالنسبة الى كثيرين، ليس التحول الجذري في شخصية "مايكل كورليوني" في ثلاثية "العراب" The Godfather من شاب أخلاقي الى رجل مافيا هي اللحظة التي يقوم فيها بقتل من حاولوا اغتيال ابيه على الرغم من أهمية تلك اللحظة في سياق تحولاته. بل ان اللحظة التي تعلن موت كل ما كان يمثله "مايكل" ويؤمن به هي لحظة إصدار الأمر بقتل اخيه "فريدو" الحلقة الأضعف في عائلة كورليوني والذي يمهد له بجملته الشهيرة موجهة الى اخيه: "اعلم انك انت من فعل ذلك.. لقد فطرت قلبي". يوازي قول "مايكل" في ذلك المشهد بل في كل المشاهد التي تجمعه بأخيه وجه "فريدو" الهش وسلوكه غير الواثق وتوتره وضعفه... ولكن لماذا لا نكف عن مناداته بـ"فريدو"؟ من هو ذلك الممثل الذي جسد تلك الهشاشة الانسانية بذلك التفوق والإحساس؟

انه نفس السؤال الذي حرك ريتشارد شيبيرد ودفعه الى انجاز فيلم وثائقي من أربعين دقيقة يحمل جملة آل باتشينو "أعلم انك انت" عنواناً. ولكن الفيلم ليس عن باتشينو بل عن "فريدو" أو الاحرى الممثل جون كازالي الذي ارتبط وجهه وملامحه ارتباطاً وثيقاً بشخصية "فريدو" الى حد لم ينتبه أحد في السنوات التالية ما الذي حل به كأنه رحل برحيل الشخصية. والواقع ان كازالي غاب بالفعل انما ليس بغياب شخصية "فريدو" بل نتيجة لاصابته بمرض السرطان في سن الثانية والاربعين مما ادى الى وفاته في العام 1978 مخلفاً خمسة ادوار سينمائية في خمسة أفلام حازت جميعها الاعجاب والجوائز.

كانت البداية بحسب فيلم شيبيرد مع "العراب" في جزءيه الاول والثاني ثم تابع مسلكه في إطار مشابه مع الشخصيات الهشة في افلام Dog Day Afternoon وThe Conversation وThe Deer Hunter. يشير شيبيرد الى انه من المعجبين بأداء كازالي وقد آلمه شح المعلومات المتوفرة عنه مما دفعه الى انجاز هذا الفيلم عن مسيرته ليفاجأ بعدد كبير من المهتمين به من أمثال الممثلين فيليب سيمور هوفمن وستيف بوشيمي وسام روكويل الذين يظهرون في الفيلم مانحين شهاداتهم بالممثل. كذلك يشارك في الفيلم كل من ميريل ستريب وآل باتشينو وروبرت دينيرو وجين هاكمن وريتشارد درايفوس وفرانسيس فورد كوبولا وسيدني لوميت الذين مثلوا قبالته أو اداروه كمخرجين مجمعين على موهبته وتحرره من عبء الشكل وطبيعة الادوار.

المستقبل اللبنانية في

17/04/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)